بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا؛ إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
ففي الآيات التي سبق تفسيرها بين ربنا جل جلاله أنه يستجيب لدعوته وينتفع بكلامه من رزقه الله عز وجل سمعاً واعياً وقلباً حافظاً، أما الكفار فإنهم بالموتى أشبه، لا ينتفعون بسمعهم ولا أبصارهم ولا قلوبهم، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36]، وبين ربنا جل جلاله أن الكفار المعاندين المستكبرين كانوا يقترحون الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبون منه معجزات بعينها: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام:37]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]، لا يعلمون أن هذه الآيات لو نزلت، وهذه المعجزات لو تحققت، ثم استمروا على كفرهم وعنادهم فلا بد أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37].
قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ [الأنعام:37]، أي: في الأرض ولا في السماء، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، هذه المثلية إما أن تكون مثلية الخلق والرزق، فيكون المعنى يا بني آدم كما أنكم مخلوقون مرزوقون، والخالق والرازق هو الله الواحد، فكذلك ما على الأرض من الدواب والطيور إنما هي مخلوقة لله، مرزوقة من الله، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6].
وإما أن تكون المثلية مثلية معرفة الله عز وجل وتسبيحه، كما أنكم يا بني آدم تعرفون الله وتسبحونه، فكذلك هذه الدواب والأنعام والطيور تعرف الله وتسبحه، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، ويشهد لهذا قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، ويشهد لهذا قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18].
وإما أن تكون المثلية مثلية صفات، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من الناس من يعدو عدو الذئب ويفترس افتراس الأسد ويمكر مكر الثعلب.
قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، قد يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي أحصى الله فيه كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج:70].
وقد يكون المراد بالكتاب القرآن، ويشهد لهذا قول ربنا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ، هذه الدواب، هذه الأنعام هذه الطيور، وكذلك بنو آدم كلهم إلى ربهم يرجعون، كلهم عند ربهم محشورون.
يقول الله عز وجل عطفاً على ما مضى من كلام: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]، هؤلاء الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وصموا آذانهم عن سماع الحق الذي جاء به، وغضوا أعينهم عن رؤية دلائل الوحدانية ودلائل أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث من عند الله، هؤلاء يصفهم الله عز وجل بصفتين من صفات النقص؛ بأنهم صم وبكم، صم جمع أصم وهو الذي لا يسمع، والبكم جمع أبكم وهو الذي لا يعقل، وكل ما جاء على وزن أفعل وكان صفة مشبهة ومؤنثه فعلاء فإنه يجمع على فعل، كصم، وبكم، وعمي، وخضر، وحمر، هذه كلها مفردها على وزن أفعل، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ، وتقدم معنا الكلام أن القرآن قد أثبت لهؤلاء الكفار أنهم يسمعون وأنهم يتكلمون، قال الله عز وجل: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، وقال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، وقال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، لكن لما كان استماعهم في غير نفع، وكلامهم في غير نفع عدهم الله عز وجل بمزلة الصم البكم، وهذا معروف في كلام العرب حيث أنها تعد الشيء الذي لا نفع فيه كلا شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل عن المنجمين قال: ليسوا بشيء )، ومنه قول القائل:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
قوله تعالى: فِي الظُّلُمَاتِ .
(الظلمات) جمع ظلمة، هل المراد بذلك أنهم صم وبكم في الدنيا وأنهم في الظلمات في الدنيا، أم المراد بذلك الآخرة؟ أكثر العلماء على المعنى الأول، أن المراد بذلك صممهم وبكمهم وظلماتهم في الدنيا، ويشهد لهذا قول الله عز وجل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
وقال بعض المفسرين: بل المراد بذلك أنهم صم بكم يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، والظلمات كذلك ظلمات يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13].
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ بعض الناس قد يستشكل هذه الآية، فيقول: إذا كان ربنا جل جلاله قد حكم عليهم بأنهم صم وبكم، وإذا كان ربنا قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فَلِمَ يحاسبهم؟!
والجواب: أن الله جل جلاله قد جعل على أبصارهم غشاوة، وجعل على قلوبهم أكنة؛ جزاء على كفرهم، كما قال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقال سبحانه: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]، وقال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وقال سبحانه: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم:75].
هناك طائفة تسمى الجبرية وهم أصحاب مذهب الجبر، الذين يعتقدون بأن الإنسان مسير كريش في مهب الريح، وأن الحساب ظلم، وهذا يعتقده الآن بعض سفهاء المسلمين، وتجد الواحد منهم لا يصلي الخمس، ولا يصوم الشهر، ويلبس الحرير، ويتحلى بالذهب، ويخادن النساء في الحرام؛ بل ربما -والعياذ بالله- يخادن الولدان، ثم بعد ذلك إذا قيل: اتق الله، قال: هذا أمر قد كتبه الله علي، هذا أمر مقدر مكتوب، أنت ما تؤمن بقدر الله وأن هذا مكتوب؟! قل: نعم، نؤمن بقدر الله أنه مكتوب، لكن يا مسكين! أنت لست مجدداً، ولم تأت بشيء جديد، هذه حجة أبي جهل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء، وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، هذه حجتهم، قال الله عز وجل: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، أنت! يا من تواقع الفواحش وتقصر في الأوامر، قبل أن تفعل ما فعلت ما أدراك أن الله كتبها؟ لم لا تفعل الخيرات وتسارع إلى الطاعات وتحافظ على الصلوات، وتجتنب الشبهات وتقول: هذا أمر قد كتبه الله علي، كان يمكن أن يكون العكس! اجتهد في الطاعات، وسارع إلى القربات، وقل: هذا أمر قد يسره الله لي ووفقني إليه، لكن هؤلاء لا يحتجون بذلك.
وفي مقابل هؤلاء طائفة أخبث، وهم القدرية، مجوس هذه الأمة الذين قالوا: بأن الله عز وجل لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، يعني ربنا سبحانه لا يعلم بسرقة من سرق ولا فحش من فحش إلا بعدما يفعل، وهؤلاء شر من أولئك، وكلاهما واقع في الكفر، فإن الله عز وجل علم ما كان وما يكون، ولذلك كان عمرو بن عبيد رأس هؤلاء المنحرفين -نسأل الله العافية- وكان في عبادة، فجاءه أحد الأعراب يوماً، قال له: إن دابتي قد سرقت، فادع الله أن يردها علي، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن هذا الأعرابي قد سرقت دابته وأنت لم ترد سرقتها؛ لأنك سبحانك منزه عن أن تريد هذه الفعلة الخبيثة، فقال له الأعرابي: يا هذا! كف عني دعاءك الخبيث، فإنه إن لم يرد سرقتها فسرقت لعلها يريد ردها فلا ترد، إذا كانت أصلاً سرقت رغم أنفه وجبراً عليه جل جلاله فلعله يريد ردها، فاللص يعاند الله ولا يردها، هذا مذهب من التفاهة بمكان.
وكان عبد الجبار المعتزلي يعتنق هذا المذهب، وفي مرة من المرات جلس في المسجد يقول: سبحان من تنزه عن الفحشاء! فقال أبو إسحاق الإسفراييني رحمه الله: كلمة حق أريد بها باطل، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، يعني: قال كلمة هذا الرجل: سبحان من تنزه عن الفحشاء، هذه كلمة حق، لكن أريد بها باطل، وهو أن الفحشاء تقع بغير قدر من الله، فرد عليه بقوله: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال له عبد الجبار : أتراه يشاؤها ثم يحاسبني؟ فقال له أبو إسحاق : أتراك تفعلها جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، فقال له: أتراه إن منع عني الهدى ويسر لي الردى، ثم حاسبني، أأحسن إلي أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق : هذا الذي تسأله إياه أفضل منه أم فرض عليه؟ فبهت الرجل ولم يستطع جواباً، وقال الجلوس: والله ما لهذا جواب.
مشيئة الله نوعان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة شرعية دينية.
مشيئة كونية قدرية قد تعلق بها ما يقع في الكون ما يحبه الله وما لا يحبه الله، أما المشيئة الدينية الشرعية فيتعلق بها ما يحبه الله سواء وقع في الكون أم لم يقع؛ ولذلك قال الله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، هذه جملة شرطية، مَنْ يَشَإِ اللهُ ، من أداة الشرط، وفعل الشرط يشأ، وجوابه: يُضْللهُ .
مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ ، هذه الآية رد على القدرية مجوس هذه الأمة القائلين: بأن العبد هو خالق أفعال نفسه؛ وهذا خطأ؛ بل الهداية من الله، والضلال من الله، الكل موجود بخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة في القرآن، كقول ربنا الرحمن: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، وقوله: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، وقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:186].
وكلمة الضلال تطلق في القرآن مراداً بها ثلاثة معاني:
المعنى الأول: إطلاق الضلال وهو المشهور، بمعنى الذهاب عن طريق الجنة إلى طريق النار، وعن طريق الهدى إلى طريق الضلال، وعن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور إلى ما جاء به شياطين الإنس والجن من طرق الضلال، وهذا المعنى في القرآن كثير، كما في هذه الآية، وكما في قول ربنا: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، ومنه الآية التي نقرأها في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].
المعنى الثاني من إطلاقات الضلال: الغيبوبة والاضمحلال، ومنه قول الله عز وجل على لسان الكفار: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10]، أَئِذَا ضَلَلْنَا ))، أي: غبنا، ومنه تقول العرب إذا دفن الناس ميتهم: ذهب القوم فأضلوا ميتهم، بمعنى: غيبوه تحت الثرى، ومنه قول الله عز وجل: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، أي: غاب عنهم ما كانوا يفترون، ومنه قول القائل:
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
أي الحي الذاهب الغائب، هذا هو الإطلاق الثاني.
والمعنى الثالث من إطلاقات الضلال: الذهاب عن معرفة الشيء، بمعنى النسيان والحيرة، ومنه قول الله عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: حائراً، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، أن تضل بمعنى: تذهل.. تنسى.. تذهب عن معرفة الشيء على وجهه، وليس في هذا انتقاص من المرأة كما يروج لذلك الملاحدة والمنافقون؛ لأن الله عز وجل ما تكلم هاهنا عن دين المرأة، ولا عن عدالة المرأة، وإنما تكلم عن طبيعة المرأة وضبطها؛ لأن لمرأة في الغالب لا تضبط قضايا العقود والأموال، وما يتعلق بالحساب وما أشبه ذلك؛ ولذلك الله عز وجل تخفيفاً عليها ورفعاً للحرج عنها جعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين؛ ولذلك لا يفرق القاضي بينهما، فالقاضي لو أراد أن يسمع شهادة رجل فلا يسمع شهادته والشاهد الآخر موجود؛ لئلا يكون هناك تلقين.
أما بالنسبة للمرأة، فالله عز وجل جعل شهادتها مع أختها معاً؛ من أجل أنه إذا نسيت واحدة فالأخرى تذكرها؛ لأن المرأة في الغالب لا تضبط مثل هذه الأمور، وعلى هذا المعنى أيضاً قول نبي الله موسى عليه السلام لما قال له اللئيم فرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، قال: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، جل جلاله، هذه الإطلاقات الثلاثة في القرآن.
وبعض أهل العلم أضاف إليها إطلاقاً رابعاً، وهو أن الضلال قد يطلق بمعنى المحبة، ومنه قول القائل:
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم
وفسروا بهذا المعنى قول ربنا: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: وجدك محباً للهداية فهداك، فهؤلاء فسروا الضلال بمعنى المحبة، ومنه قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:94-95]، يعني: محبتك القديمة هكذا قالوا.
إذاً أكثر المفسرين على أن الضلال في القرآن يراد به ثلاثة معانٍ، أو ثلاثة إطلاقات:
الإطلاق الأول: الضلال بمعنى ترك طريق الجنة إلى طريق النار، تعمد ترك الهدى إلى الضلال والحق إلى الباطل والصواب إلى الخطأ، وهذا هو أشهر الإطلاقات.
الإطلاق الثاني: الضلال بمعنى الغياب والذهاب والاضمحلال.
والإطلاق الثالث: الضلال بمعنى الذهاب عن معرفة الشيء ذهولاً أو نسياناً.
والإطلاق الرابع عند بعضهم: أن الضلال يطلق مراداً به المحبة.
يقول الله عز وجل: مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، الهدى والضلال كله بيد الله ذي الجلال والإكرام؛ ولذلك عبد الله المؤمن لا يستغني طرفة عين عن طلب الهداية من الله عز وجل، كان من دعاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اهدني فيمن هديت )، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، وكان من دعائه إذا أمسى: ( يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )، وكان من دعائه إذا خرج من بيته: ( اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي )، يستعيذ بالله من الضلال، ويستعيذ بالله من الزلة والخطأ.
قال تعالى: وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، الصراط في كلام العرب هو: الطريق الواضح المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وأصل كلمة مستقيم: مستقوم؛ لأنها من الأصل الفعلي واو، لكن لما كسرت الواو وكان ما قبلها ساكن استثقلت تلك الواو فقلبت ياء، مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39].
( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً متعرجة، وقال عليه الصلاة والسلام: هذا سبيل الله، وهذه السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، فمن أجابه قذفه في النار )، قال الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
ثم قال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40].
قل يا محمد! لهؤلاء المشركين المعاندين: أَرَأَيْتَكُمْ ، بمعنى أخبروني، أرأيت هذه تأتي مفتوحة التاء دائماً، ثم بعد ذلك الضمير بحسب المخاطب: أرأيتك، أرأيتكم، أرأيتكن، هكذا بحسب المخاطب والمعنى أخبروني يا معشر المشركين! إن أتاكم عذاب الله من قحط أو غرق أو حرق أو مصيبة أو طامة، أو أتتكم الساعة -وهي القيامة- وسميت ساعة؛ لأنها تأتي بغتة في ساعة، أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40].
إذا وقعتم في مثل هذه الورطة، في شدة من عظائم الشدد، هل تدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟ هل تدعون هبل وذا الخلصة؟ هل تفعلون ذلك؟
لقد تولى الله عز وجل الجواب بنفسه، فقال: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الأنعام:41]، تدعونه وحده لا شريك له جل جلاله، فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الأنعام:41]، ما لجأتم إليه في كشفه، وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41]، تنسون شركاءكم وأصنامكم التي جعلتموها لله نداً حال رخائكم ويساركم.
هاتان الآيتان المباركتان تبينان ما عليه أهل الشرك من دعاء غير الله عز جل في عامة دهرهم، حتى إذا نزلت بهم شدة وأحاط بهم بلاء أيقنوا بفطرتهم أنه لا كاشف له إلا الله، حينها ينبذون شركهم ويتركون ضلالهم ويلجئون إلى الله وحده.
أما المؤمنون الطيبون فإنهم يلجئون إلى الله وحده في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي الصحة والسقم، وعلى رأس هؤلاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، المستغيث هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في ليلة بدر كما يقول الصحابة وكانت ليلة إضحيان، ليلة قمراء، ما تشاء أن ترى نائماً إلا رأيته ولا قائماً إلا رأيته، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نام قط، ما نام طرفة عين بل بقي عامة الليل صلوات الله وسلامه عليه رافعاً يديه إلى السماء، مناشداً ربه، مستغيثاً به: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلها وخيلائها تحادك وتكذب نبيك، اللهم نصرك الذي وعدتني، وما زال صلى الله عليه وسلم يرفع يديه ويستغيث حتى سقط رداؤه، فقال له أبو بكر : يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك، يعني هون عليك، فإن الله منجز لك ما وعد )، وما خيب الله ظن أبي بكر ، ( فأخذت الرسول صلى الله عليه وسلم سنة، ثم فتح عينيه فقال: أبشروا معشر المسلمين! قد أريت مصارع القوم، هنا يقتل أبو جهل ، وهنا يقتل عتبة بن ربيعة وهنا يقتل الوليد بن عتبة ، وهنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان.. يقول الصحابة: والله ما جاوز أحدهم الموضع الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم )؛ ولذلك دخل عليه الصلاة والسلام في المعركة يثب في درعه كالشاب الحدث، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك يقرب من خمس وخمسين سنة، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46].
هذا حال المؤمن الطيب الموحد لله عز وجل لا يدعو إلا الله على كل الأحوال؛ لأنه وحده جل جلاله المستحق؛ ولذلك في سورة النمل خاطبنا الله عز وجل بهذه الآيات، والله كأنها تخاطب كل واحد منا! قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:59-61]، ثم قال سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ [النمل:62]، من يجيب المضطر إذا دعاه؟ الله جل جلاله؛ ولذلك الإنسان المؤمن الموحد الذي يدعو ربه وحده، الله عز وجل لا يخيب رجاءه، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ولذلك الحسن البصري رحمه الله ورضي عنه لما كان عبداً لله قانتاً حنيفاً مؤمناً موحداً لما استدعاه الحجاج بن يوسف الطاغية الغشوم، وقد أضمر في نفسه قتله، وقد اشتد عليه غضبه، فدخل عليه الحسن فتمتم بكلمات دعا ربه جل جلاله بما دعا به عباده الصالحون: اللهم اكفنيه بما شئت، فقلب الله قلب ذلك الطاغية، فقام إليه وسلم عليه وقال له: تفضل أبا سعيد ! وأجلسه على سريره، ثم ما زال يطيب لحيته ويتلطف معه في الكلام، ثم قال له: انصرف راشداً، والناس يستغربون مما كان، ولما سألوا الحسن رحمه الله، قال: دعوت بما دعا به عباد الله الصالحون: اللهم اكفنيه بما شئت.
وحكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم من رواية صهيب - خبر ذلك الغلام الذي كان عند الراهب، وكان الساحر يريد أن يضله، ثم بعد ذلك هذا الغلام آمن بالله رب العالمين، ثم آمن به جليس للملك كان قد عمي، والحديث طويل، وفي نهاية الأمر ( دفع الملك بهذا الغلام إلى جماعة من الزبانية، وأعطاهم قرقوراً -قارباً صغيراً- قال: فإذا بلغتم لجة البحر فاطرحوه، ولما بلغوا لجة البحر قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلب بهم ذلك القرقور وهلكوا جميعاً، ورجع الغلام يمشي حتى دخل على الملك، قال له: ما جاء بك؟ قال: نجاني ربي! فقال له الملك: أين أصحابك؟! قال: كفانيهم الله )، وكان المفروض من ذلك الأحمق أن ينتبه، لكنه ما انتبه، ( فأتى بجماعة آخرين وأمرهم بأن يصعدوا مع ذلك الغلام جبلاً حتى إذا بلغوا قمة طرحوه، فلما صعدوا قمة الجبل قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فهلكوا جميعاً، ورجع الغلام يمشي حتى دخل على الملك، فقال له: ما جاء بك؟! قال: نجاني ربي! فقال الملك: أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فتحير الملك! فقال له الغلام: أتريد قتلي؟ قال: نعم، قال: فافعل ما آمرك به، اجمع الناس في صعيد واحد وخذ من كنانتي سهماً وقل بصوت عال: بسم الله رب الغلام، وارم بالسهم فإنك قاتلي )، والملك الأحمق ما انتبه لمقصود الغلام فأعلن في المملكة كلها إجازة رسمية، وأمر الناس بأن يأتوا إلى الاستاد الدولي! ثم بعد ذلك وضع ما يبلغ الناس الصوت، ( ثم قال: بسم الله رب الغلام، وفك السهم فأصابه في صدغه، قال الناس: عجباً! ما استطعت قتل هذا الغلام إلا بعد أن ذكرت اسم الله ربه، آمنا جميعاً بالله رب الغلام! ) وهم الذين قص الله خبرهم: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:4-7].
لكن سمة المشركين بأنهم يدعون غير الله إذا كانوا في الأحوال المعتادة، فإذا نزل بهم البلاء وأحاط بهم الكرب علموا أنه لا ينجي إلا الله، ولا يعصم إلا الله، حينها يلجئون إلى الله، قال الله عز وجل: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ [الإسراء:67-69]، في البحر، تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:69]، وقال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:22-23]، وقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
هذه هي حالة هؤلاء الكفار، وقال عز وجل: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان:32]؛ ولذلك الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، كان أبوه عدواً لله ورسوله، وكان عكرمة كذلك معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، ( فلما كانت غزوة الفتح هرب عكرمة وذهب إلى جدة، ومن هناك ركب البحر ليهرب إلى الحبشة، فاضطربت بهم السفينة وبدأ أولئك المشركون يدعون الله، فاستيقظت الفطرة في قلب عكرمة ، قال: إن كان لا ينفع في البحر إلا الله فلا ينفع في البر إلا الله، لله علي إن نجاني أن آتي محمداً ولأضعن يدي في يده ولأجدنه رءوفاً رحيماً، فنجاه الله وجاء رضي الله عنه واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم خير استقبال وأكرم وفادته )، وحسن إسلام الرجل حتى أكرمه الله فقتل يوم اليرموك شهيداً، هذه خاتمة عكرمة رضي الله عنه، فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يوجه هذا السؤال لأولئك المشركين، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله ، بأن هاج عليكم البحر ورأيتم الموت عياناً، أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ، ببلائها ودواهيها، أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ ، في ذلك الوقت، هل تدعون أصنامكم؟ هل تنادون أوثانكم؟ هل تهتفون بآلهتكم الباطلة؟ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قال الله عز وجل: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ، قال أهل التفسير: عدي الفعل بـ(إلى) لأنه مضمن معنى اللجوء، تلجئون إلى الله، فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41]. قال الله عز وجل: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [الأنعام:41]، مقيد بالمشيئة، وهناك في آية البقرة قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان [البقرة:186]، فهناك الآية مطلقة وهاهنا مقيدة بالمشيئة، فقال بعض أهل التفسير: المطلق يحمل على المقيد، وقال بعضهم: لا، بل المسلم دعاؤه مجاب بإطلاق، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وأما المشرك فإجابة دعائه مقيدة بالمشيئة.
قال الله عز وجل: وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ، كلمة النسيان تطلق في القرآن مراد بها معنيان:
المعنى الأول: النسيان بمعنى ترك الشيء عمداً، ومنه قول الله عز وجل: نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، أي: تركوا الله عمداً فتركهم، ومنه ما يقوله الناس حين تقول له: فلان كذا كذا، يقول: انساه، والمقصود أن تتركه.
وأما الإطلاق الثاني للنسيان: بمعنى الذهول عن الشيء، وهذا كثير في القرآن كقول ربنا الرحمن: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا، وارفعنا ولا تضعنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا عنك وارض عنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم نور على أهل القبور قبورهم واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم اغفر لأخينا محمد الحبيب ، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه، وجازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، وارحمنا الله برحمتك إذا صرنا إلى ما صار إليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر