الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحبه وترضاه، أما بعد:
ففي الآيات التي مضى شرحها بين ربنا جل جلاله أدلة ربوبيته وألوهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، فهو سبحانه يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب أحد سواه؛ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، علمه مطلق جل جلاله، هو عليم بكل معلوم، سواء كان في البر أو في البحر, في السهل أو في الجبل, في الدنيا أو في الآخرة, في الليل أو في النهار.
وبين ربنا جل جلاله من أدلة ربوبيته أنه يتوفى الناس بالليل ثم يبعثهم في النهار، وهو سبحانه عالم بما يجترحون، وبما يكتسبون؛ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60].
ومن أدلة ربوبيته جل جلاله أنه وكل بنا ملائكة يحفظوننا ويكلئوننا، حتى إذا جاءت الساعة التي عينها ربنا جل جلاله فإنه يبعث إلينا ملائكة آخرين يقبضون أرواحنا؛ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، ثم بعد ذلك الجزاء والحساب عند الله عز وجل؛ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
ومن أدلته ربوبيته جل جلاله أنه ينجينا من الكربات والشدائد؛ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63-64].
ومن أدلة ربوبيته سبحانه وتعالى أنه يعذب من شاء بما شاء؛ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ[الأنعام:65]، بحجارة يرسلها عليكم أو صاعقة يبعثها من فوقكم أو ريحاً يسلطها عليكم، عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، بالخسف أو بالغرق، كما فعل الله عز وجل بأقوام كذبوا رسلهم؛ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
وفسرت الآية بأن العذاب الفوقي حكام السوء، والعذاب التحتي خدم السوء.
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65], يجعلكم أحزاباً وطوائف, جماعات وفرقاً، مختلفين متناحرين.
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام:65-66], كذبوا بهذا القرآن، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:66-67].
ثم نهى ربنا جل جلاله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجالس المشركين المستهزئين، الذين يخوضون في آيات الله بغير علم, قال ربنا سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68], وهذه الآية نظير قول ربنا في النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:68-69], المؤمنون المتقون الله عز وجل لا يحاسبهم بما فعل الكافرون الظالمون، وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:69].
تستمر الآيات في هذه الأحكام، فيقول ربنا الرحمن: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70].
يأمر الله جل جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء المشركين وألا يهتم بأمرهم، وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ , وذر بمعنى: اترك وأعرض، وهذا في القرآن نظير قول ربنا سبحانه: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6], وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم:29-30].
الله عز وجل يقول: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا , كلمة الدين هاهنا فسرت على معنيين:
المعنى الأول: وذر الذين اتخذوا دينهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه، مراداً بذلك ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, كان المشركون يستهزئون بالقرآن ويستهزئون بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقولون عن القرآن بأنه شعر, بأنه كهانة, بأنه سحر, بأنه أساطير الأولين, ويقولون عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب أو ابن أبي كبشة، ونحو ذلك من ألفاظ التحقير, فالله عز وجل قال: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا أي: استهزاء وسخرية.
المعنى الثاني: الدين هاهنا بمعنى العيد, لكل قوم عيد وكان للمشركين في جاهليتهم أعياد يحتفلون فيها بآلهتهم الباطلة، مثلما أن لليهود أعياداً وللنصارى أعياداً, هؤلاء جميعاً كما قال ابن الكلبي رحمه الله: ما من أمة إلا اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا أعيادهم صلاة وذكراً وصدقة وبراً.
وعندنا معشر المسلمين أعياد ثلاثة: عيد الجمعة في كل أسبوع وهو مرتبط بالعبادة؛ إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9], وعيد الفطر بعد عبادة الصيام، يخرج الناس مكبرين مهللين، وعيد الأضحى كذلك بعد عبادة الحج أو بعد عبادة العشر من ذي الحجة التي ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل منها، يختمونها أيضا بالتكبير والتهليل والصلاة والذكر، وفي يوم الفطر يتصدقون بزكاة فطرهم، وفي يوم الأضحى يتصدقون بذبح ضحاياهم.
لكن المشركين على اختلاف ألوانهم سواء كانوا وثنيين أو يهوداً أو نصارى قد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً.
والله عز وجل يأمر نبيه بالإعراض عنهم وترك الاهتمام بهم؛ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا َ , ظنوا أن التوسعة في الدنيا دليل على قربهم من الله عز وجل ومكانتهم عنده، كما قال ربنا جل جلاله في سورة مريم: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73], وكانوا يقولون لفقراء المسلمين: لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11].
قال سبحانه: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [الأنعام:70]، (وذكر به)، أي: ذكر بالقرآن، كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وكما قال سبحانه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ , الإبسال الإسلام إلى الهلكة, أبسل فلان فلاناً إذا أسلمه إلى مصيره المحتوم، وَذَكِّرْ بِهِ ، بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ، لئلا تسلم نفس بسبب كسبها من السيئات والموبقات والخطايا، أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70]، هذه النفس التي أبسلت، التي أسلمت ليس لها في ذلك اليوم المحتوم إذا نزل بها الموت وعاينت مصيرها.. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ [الأنعام:70]، أي: ناصر ومعين.
قال تعالى: وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70] والشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بشرطين وهما:
الشرط الأول: الإذن, كما قال الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38], أذن للشافع.
والشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع فيه, قال الله عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].
قال الله عز وجل: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام:70], العدل بمعنى الفداء, وهذا كما قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:47-48], لا يؤخذ منها فدية، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا ، هذا العدل بين ربنا جل جلاله قيمته، ليست هذه الفدية ديناراً ولا دولاراً ولا ملايين؛ بل قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [المائدة:36], يعني: ليست القضية عرضة للمساومة لأنهم بذلوا فداء قليلاً، فإنهم لو بذلوا عشرات المليارات لن يقبل منهم، ولو كان ملء الأرض ومثله معه، مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36], يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].
ثم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا [الأنعام:70], أسلموا إلى العذاب والهلاك، وهم أبسلوا بسبب كسبهم الذي اكتسبوه من الشرك والكفر والمعاصي والجرأة على الله وتكذيب رسل الله.
ثم قال الله عز وجل مبيناً مصيرهم: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70].
لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ [الأنعام:70] الحميم -نعوذ بالله من عذاب الله- هو الماء الذي تناهى حره, قال الله عز وجل: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19-20]، وقال سبحانه: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:43-44], هم بين جهنم والحميم، وهكذا يعذبون.
قال: وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70], العذاب الأليم في طعامهم؛ لأن طعامهم الزقوم, قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46], عذابهم الأليم في ثيابهم: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19], عذابهم الأليم في كلامهم: وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25], يكفر بعضهم ببعض, يلوم بعضهم بعضاً، لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]، هكذا يقول بعضهم لبعض, يقولون لآلهتهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98], وهذا من العذاب الأليم.
ومن العذاب الأليم والعياذ بالله أنهم بين طبقات الجحيم؛ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16], لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41]، أي: فراش، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أي: أغطية، تغشاهم وتغطيهم، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70].
قال الله عز وجل: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ [الأنعام:71].
هذه الآية نزلت جواباً على اقتراح المشركين الذين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أن يشاركوهم عبادتهم الباطلة لآلهتهم الباطلة، فلقن الله نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب: (قل) يا محمد! لهؤلاء المشركين: أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا لو دعوناه، وَلا يَضُرُّنَا لو تركناه, هذه الأصنام لا تنفع من دعاها ولا تضر من هجرها، كما قال الله عز وجل: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] لا تنفع ولا تضر، وكما قال إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42], أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا , الأعقاب جمع عقب، وعقب الشيء آخره، وهذا التعبير تستعمله العرب للإنسان الذي قصد شيئاً ثم رجع بغير شيء, تقول: رد فلان على عقبيه، وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ [الأنعام:71]، بعدما رأينا الهدى، وبعد أن ذقنا حلاوة الإيمان، وبعدما خالطت بشاشته قلوبنا، وبعدما عرفنا ربنا، وبعدما هدانا سبل السلام.
قال تعالى: وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام:71], قيل: المراد بالمشبه به في هذه الآية: عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عن الجميع, و عبد الرحمن كان أسن وأكبر أولاد أبي بكر ، وكان شقيق عائشة رضي الله عن الجميع, أمهما أم رومان ابنة عامر الكلبية رضي الله عنها, هذا الرجل شهد بدراً وأحداً كافراً، وبعدما هداه الله للإسلام كان يقول لأبيه: يا أبت لقد رأيتك يوم بدر ولو شئت لقتلتك، أي: كنت قريباً مني، فقال له أبوه: لكني والله لو رأيتك لقتلتك, و أبو بكر وأمثاله نزل فيهم قول ربنا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22], لا يحملون حباً لمن حاد الله ورسوله ولو كان قريباً.
هذا الرجل كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فكان يأبى، وفيه نزل قول ربنا جل جلاله بعدما قال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15-16], قال الله عز وجل: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الأحقاف:17], قيل: هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، ثم تداركه الله بالإسلام فأسلم, قال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي رحمه الله: لم يشهد الإسلام رجالاً أسلموا أربعة ولاء -أي متوالين- إلا آل بيت أبي بكر ، فإن أبا بكر أسلم، وأسلم أبوه، الذي هو أبو قحافة وأسلم ولده الذي هو عبد الرحمن ثم أسلم ولد عبد الرحمن أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن ، وكلهم صحب رسول الله, ولا شك أن خيرهم وأفضلهم وأعظمهم سابقة السيد الجليل والشيخ الوقور, نسأل الله عز وجل أن يحشرنا معه في جنات النعيم، الذي هو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق الذي كان أحب الناس إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ , (حيران) من الحيرة والضلال, ومنعت من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون، ولأن مؤنثها حيرى، كسكران مؤنثها سكرى ونشوان مؤنثها نشوى, فكل ما كان على وزن فعلان وهو صفة ومؤنثه على وزن فعلى فإنه يمنع من الصرف.
كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا , الأصحاب هنا أبو بكر و أم رومان لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام:71], الله عز وجل يهدي من يشاء, هذه الآية كقول ربنا جل جلاله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178], مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56], قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71], قيل المعنى: وأمرنا أن نسلم، فاللام هنا بمعنى أن، والإسلام بمعنى الإخلاص، وأمرنا لنخلص لرب العالمين، وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
قال عز وجل: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام:72].
معلوم أن سورة الأنعام سورة مكية، الله عز وجل يأمر فيها بالصلاة، وفي هذا جواب على غلط يعتقده كثير من الناس: أن الصلاة ما وجبت إلا ليلة المعراج, فنقول: لا؛ بل كانت الصلاة واجبة قبلها، لكنها كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي, أما التي وجبت ليلة المعراج فهي الصلوات الخمس؛ ولذلك الله عز وجل يأمر في هذه السورة، فيقول سبحانه: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ , وإقام الصلاة قد مضى عليه الكلام في أول سورة البقرة، وأن المراد في قول جمهور المفسرين: أداؤها في أوقاتها بشروطها وأركانها وسننها وآدابها، هذا هو المقيم للصلاة، فمن صلى في غير الوقت لا يسمى مقيماً، ومن أدى الصلاة بغير شروطها مع قدرته على الإتيان بالشروط لا يسمى مقيماً، وكذلك من أداها وقد نقص من أركانها فلا يسمى مقيماً، وكذلك من أخل بسننها وآدابها لا يصدق عليه أنه مقيم للصلاة.
قال: وَاتَّقُوهُ , اتقوه بفعل المأمور واجتناب المحظور والصبر على المقدور، وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ , حشركم في المرجع والمصير إلى الله عز وجل.
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ [الأنعام:73].
(بالحق)، أي: بكلمة الحق، وهي كلمة: كن أو بالحق، أي: ما كان ضد الباطل، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27], وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16], وقال: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18]، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39], فالله عز وجل خلق السموات والأرض بالحق، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام:73]، جل جلاله، أقواله كلها حق، سواء كانت أقوالاً قدرية أو أقوالاً شرعية.
قال: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73].
والله عز وجل له الملك يوم ينفخ في الصور وله الملك في كل وقت وحين؛ وخص ربنا جل جلاله يوم ينفخ في الصور بالذكر؛ لأنه يظهر تمام ملكه، ولأنه في الدنيا قد وجد من نازع الله ملكه, ووجد في الدنيا من قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، ووجد في الدنيا من قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ووجد في الدنيا من قال: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29]، ووجد في الدنيا من قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، لكن يوم القيامة ينادي ربنا: أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! أين الملوك وأبناء الملوك؟! لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا يجيب أحد؛ لأن الناس كلهم صرعى، فيجيب ربنا نفسه لنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
قال: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]، والصور هاهنا فيه قراءة شاذة ليس سبعية ولا عشرية: (وله الملك يوم ينفخ في الصُّوَر), والصُّوَر جمع صورة ولكنها قراءة شاذة، أما القراءة المتواترة فهي: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]، فكما أننا نؤمن بالصراط والميزان وكما نؤمن بالحشر والنشر وكما نؤمن بالجنة والنار نؤمن بالصور، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصور قرن أو بوق، وأن النافخ فيه إسرافيل بإجماع العلماء كما نقل ذلك الحليمي وغيره, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كيف أنعم -يعني: كيف أطمئن؟- وقد التقم صاحب القرن قرنه وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر ).
والنفخ في الصور قد ذكره ربنا جل جلاله في القرآن وبين أن النفخ نفختان؛ فقال سبحانه: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87], أي: ذليلين صاغرين، وقال سبحانه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68], فيوم القيامة فيه نفختان: نفخة الصعق ثم نفخة البعث.
قال الله عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73], الغيب كل ما غاب عنك فلا تدركه بحواسك، لا تراه، لا تسمعه، لا تلمسه، لا تشمه، لا تذوقه.. ويدخل في ذلك عوالم لا يحصيها إلا الله، فعالم الملائكة غيب وعالم الجنة غيب وعذاب القبر ونعيمه غيب، والجنة والنار غيب، وعالم الجن غيب، واللوح المحفوظ غيب، هذه كلها غيوب، وأعظم الغيوب رب العالمين جل جلاله، فهو غيب لا نراه, قال الله عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73], الشهادة ما كان ضد الغيب، وهو ما يدرك بالحواس.
قال: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:73]، أقواله وأفعاله تصدر عن حكمة بالغة وخبرة تامة، لا تصدر أفعاله عن عبث.
يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74].
قد يقول قائل: ما مناسبة ذكر إبراهيم في هذا الموضع من السورة؟
المناسبة ظاهرة وهي: أن المشركين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أن يعبدوا معهم آلهتهم الباطلة، فنهى ربنا جل جلاله نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بالإعراض عنهم ولقنه الجواب: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا [الأنعام:71].
ذكر ربنا جل جلاله بعد ذلك مثالاً برجل كان أستاذاً في التوحيد ومعلماً للبشرية وهو شيخ الأنبياء, كيف واجه قومه؟ وكيف ناظرهم؟ وكيف أفحمهم؟ ولذلك ختم ربنا جل جلاله هذه الآيات بقوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83], هذا النبي الكريم قد ذكر ربنا جل جلاله قصته في القرآن مراراً، وأثنى عليه بأنه كان قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، ما أشرك بالله يوماً، وهاهنا يحصر ربنا جل جلاله قصته مع أبيه وقومه في ناحية معينة، ثم بعدما يذكرها يذكر سبعة عشر نبياً كلهم كانوا على التوحيد، إذ بعد أن ذكر قصة إبراهيم قال سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86], كلهم كانوا على التوحيد الخالص.
يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [الأنعام:74] (وإذ) متعلقة بفعل محذوف تقديره: واذكر، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74], إبراهيم عليه السلام قال لأبيه آزر ، هذا هو ظاهر القرآن وقال بعض المفسرين: بل كان اسمه تارح ، أما آزر فهو اسم الصنم الذي كان يعبده فنسب إليه, كما قيل لواحد من الناس عبد الله بن قيس الرقيات ، هو اسمه عبد الله بن قيس , والرقيات جمع رقية، وسمي بذلك لأنه عشق نساء عدة كلهن اسمها رقية، رقية ورقية ورقية ورقية.. فقيل له: عبد الله بن قيس الرقيات , فقد يكون آزر هو اسمه، وقد يكون اسم الصنم، لكن ظاهر القرآن أنه اسم أبيه فـآزر بدل من أبيه، بدل اشتمال، أو أنها عطف بيان.
وغلط من قال: بأن الأب هاهنا مراد به العم، يعني: بعض المفسرين في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74], قالوا: أبوه هنا عمه، وهذا غلط؛ لأن كلمة الأب إذا أطلقت في كلام العرب وفي كتاب ربنا فإنما تصرف إلى الأب الصلبي، وقد دل القرآن في مواضع كثيرة على أن إبراهيم وجه هذا الكلام لأبيه، كما في قول ربنا جل جلاله في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:41-42], يا أبت! يا أبت! يا أبت.. كررها، وكذلك في سورة الشعراء: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:69-70], وفي سورة الممتحنة: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4], إلى أن قال سبحانه: إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4]، وفي التوبة: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [التوبة:114]، فهو أبوه وليس عمه.
قال: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74], قال هذا على سبيل إنكار المنكر! هذه الأصنام، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، التي تنحتون بأيديكم كيف تتخذونها آلهة, وفي آية أخرى قال لأبيه وقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52], وفي آية ثالثة قال لهم: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73]، هذا كله من إقامة الحجة. إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74], قرأ نافع و ابن كثير و الكسائي : (إنيَ أراك وقومك في ضلال مبين) بفتح الياء, وقرأ الباقون: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ [الأنعام:74]، ممن يعبدون معك الأصنام، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، في بعد عن الحق ظاهر واضح.
قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ [الأنعام:75], نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75], قال بعض المفسرين: شق الله له السماء حتى رأى الملكوت إلى العرش، وشق الله له الأرض حتى رأى الأرض السفلية؛ ولكن ليس على هذا دليل، بل المراد: بأن الله عز وجل وهب نبيه إبراهيم نظراً ثاقباً وعقلاً راجحاً، حتى تأمل في ملكوت السماوات والأرض، ونظر فيهما وما أبدع الله في هذا الملك العظيم، والملكوت مبالغة من الملك، كالرهبوت والرغبوت والرحموت فإنها مبالغة من الرغبة والرهبة والرحمة، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75], رأى ما بث الله عز وجل في هذا الكون من نجوم وأفلاك وأجرام ومصابيح وشمس وقمر.. ورأى ما بت في هذه الأرض من نبات وإنسان وبديع خلقة وحسن تركيب، فعلم أن هذا كله من خلق الله الذي أحسن كل شيء خلقه، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [فاطر:27-28], أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63], فإبراهيم رأى هذا كله، وهذا الذي أرشدنا إليه ربنا، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:101], أليس كذلك؟ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:6-7].
يكفينا النظر إلى السموات, لو أن إنساناً بنى بيتاً فإنه يصنع طعاماً ويدعو الناس إليه، ويسره وينشرح صدره حين يأتي الناس فيعجبون من البناء ويقولون له: منزل مبارك، ما أجمله! ما أحسنه! ما أحكمه! ما أقواه.. من المهندس الذي رسم الخارطة؟! من المقاول الذي أشرف على التنفيذ؟! من أين اشتريت الطلاء؟! وهو كلما سألوه انتفخ وانتفخ وانتفخ وانتفخ.. فإذا أتى على هذا البناء عشر سنين خاصة بعد الخريف ثم الخريف ثم الخريف ثم الخريف! فإنه يحتاج إلى ترميم وإصلاح، أو على الأقل يحتاج إلى تجميل، وإعادة طلاء, هذه السموات منذ أن خلقها ربنا وإلى يوم الناس هذا هل ترى فيها من فطور؟ مع أنها قائمة على غير عمد؛ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، لكن كما قال ربنا سبحانه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً [الملك:3-4]، أي: ذليلاً، وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]، هذه قدرة ربنا.
يقول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ [الأنعام:75]، أي: ليصل إلى درجة اليقين في أن الله عز وجل واحد وهو المستحق للعبادة وحده.
يقول سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76].
ذهب بعض المفسرين وعلى رأسهم الإمام الجليل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله إلى أن إبراهيم عليه السلام كان ناظراً متحيراً متردداً، لا يعرف ربه المعبود جل جلاله، ونسب هذا القول إلى الحبر البحر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ولا شك بأن هذا غلط، وإن قال به الطبري رحمه الله، والذي عليه جمهور المفسرين: أن إبراهيم عليه السلام كان مناظراً لا ناظراً, كان يقول هذا الكلام على سبيل إفحام قومه وإلزامهم بالحجة؛ ودليل ذلك القرآن والسنة، فإن القرآن قد نفى فيه ربنا الرحمن الشرك عن خليله إبراهيم، فقال سبحانه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67], وقال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ [النحل:120], هذا النفي مستغرق لجميع الزمان، أي أنه ما كان مشركاً ولا كان شاكاً في وجود الله عز وجل طرفة عين.
وأما من السنة فالحديث في الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله, الأولى: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، والثانية: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63]، والثالثة: قوله عن سارة : هي أختي )، هذه الثلاث في ظاهرها كذبات وما هي بكذبات، وإنما هي تورية، والتورية أن يتكلم الإنسان بكلام يقصد به معنى في نفسه والسامع يفهم شيئاً آخر, أما قوله عليه السلام: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، فذلك لما دعاه قومه أن يشاركهم عيدهم، واحتفالهم بآلهتهم الباطلة، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، ولو قال قائل: هذه العبارة لفهم السامع أنه مريض، يشكو مرضاً عضوياً، لكنه يعني إني سقيم من أفعالكم, كما يتداول في كلام الناس قول: والله فلان هذا أمرضنا! ليس المراد المرض العضوي، لكن المراد بأنه أتعبنا وآذانا وعنانا، فإبراهيم عليه السلام قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89], سقيم لأن القوم لما دعوه جاءوا بطعام فاخر ووضعوه عند هذه الأصنام تقرباً إليها ثم خرجوا إلى عيدهم؛ ولذلك بعدما خرجوا سخر إبراهيم منهم فقال لتلك الأصنام: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، كلوا مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:92], إذا لم تأكلوا فقولوا: لا نريد. مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:92]، صاروا لا أكل، ولا كلام؛ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]، كسرهم، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً [الأنبياء:58]، وفي قراءة: (جِذاذاً)، أي: قطعاً صغيرة، إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ [الأنبياء:58]، قيل: بأنه كان مرصعاً بالجواهر وقد جعلوا على رأسه ياقوتتين، علق الفأس في عنقه ليقيم عليهم الحجة، فلما جاءوا قالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59], وبدءوا يستعرضون الاحتمالات: ربما فلان، ربما فلان، ربما فلان.. قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، إلى أن بدءوا التحقيق: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62]، فجاءت الكذبة الثانية: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]وأشار بأصبعه، وكبير الأصابع الإبهام؛ ففهم القوم أنه يعني الصنم السليم، فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، اسألوه لأنه كان حاضراً، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64], أي: والله فعلاً، عبادتنا للأصنام خطأ محض، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65], أنت تعرف أن هؤلاء لا يتكلمون, قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66-67]، فلجأ القوم إلى استعمال القوة: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:68-69], الشاهد هي هذه الكذبة الثانية.
والكذبة الثالثة: لما دخل مصر كان فيها فرعون لئيم، وكانت سارة من أجمل خلق الله، فلما سأله الفرعون عن هذه المرأة قال: هي أختي؛ لأنه علم بأن هذا الظالم يريدها لنفسه فلو قال: هي زوجتي، فإنه سيقتله، فلجأ إلى الحيلة، فقال: هي أختي، ثم خلا بـسارة ، فقال: إن هذا الملك قد سألني فقلت: إنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فليس على الأرض مسلم سوى أنا وأنت، يعني أخته في الإسلام، فدخلت على ذلك الجبار، فلما مد يده إليها أخذ، أي: شل، فقال: ادع الله لي ولا يصيبك سوء، فدعت فانطلق، فمد يده فأخذ أخذاً أشد من الأول، فقال: أخرجوها فقد أتيتموني بشيطانة، وأخدمها هاجر ، يعني: زيادة في التخلص قال لها خذي معك هاجر ، فأهدت سارة هاجر إلى إبراهيم فتسرى بها وأولدها إسماعيل أبا العرب على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ووجه الشاهد من هذا الحديث أن إبراهيم ما كان مشركاً يوماً من الأيام, والدليل من القرآن, الآيات التي ذكرناها، والدليل من السنة هذا الحديث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لم يكذب إبراهيم سوى ثلاث كذبات كلهن في ذات الله )، فلو قال إبراهيم عن الكوكب: هذا ربي معتقداً أو شاكاً؛ لكان هذا أعظم الكذب؛ لأن أعظم الكذب هو الشرك بالله عز وجل، والله عز وجل وصف المشركين بالكذب فقال: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً [الكهف:4-5]، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام:93]، فلو كان إبراهيم قال هذا الكلام معتقداً أو شاكاً لأضاف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكذبة إلى كذباته.
بعض الناس قد يقول: فما تأويل قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]؟ للمفسرين فيها تأويلان:
التأويل الأول: أنه قال ذلك على سبيل المناظرة؛ لأن إبراهيم لو بدأ الكلام، فقال لقومه: هذه الأصنام لا تصلح آلهة؛ لما قبلوا كلامه، لكنه يتنزل معهم من أجل أن يلزمهم، كما قال الله عز وجل للمشركين يوم القيامة: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62], فليس لله شريك، ومع ذلك قال سبحانه: (شركائي)، لكن من باب الإلزام والإفحام، ومثله قول ربنا: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]؛ فلا يمكن أن يكون للرحمن ولد، بل هو مستحيل.
التأويل الثاني: أن في الآية همزة استفهام محذوفة، وتقدير الكلام: فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال: أهذا ربي؟! كما في قول القائل:
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمانِ
بسبع أي: أبسبع رميت الجمر أم بثمانِ.
فهمزة الاستفهام هاهنا محذوفة، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر