بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فتقدم معنا الكلام في الدرس السابق أن آيات القرآن الكريم على قسمين: قسم قد تنزل من غير سبب خاص، وهو أكثر القرآن الكريم، وقسم تنزل جواباً على سؤال أو عقيب حادثة معينة، وهذا الذي اصطلح أهل التفسير على تسميته بسبب النزول.
وعرفنا أن سبب النزول يعرف عن طريق الرواية الموثوقة عن الصحابي حين يقول: نزلت آية كذا في شأن كذا، أو نزلت سورة كذا في شأن كذا، أو عن طريق التابعي الذي عرف عنه الاشتغال بالتفسير كـسعيد بن جبير و مجاهد بن جبر و عكرمة مولى ابن عباس ومن كان مثلهم رحمة الله عليهم أجمعين.
وتوقف بنا الكلام عند فوائد معرفة سبب النزول، فما هي الفائدة في أن نعرف أن سورة كذا، نزلت في شأن كذا أو أن آية كذا نزلت في شأن كذا؟
الفائدة الأولى: أن معرفة سبب النزول تعني على فهم الآية، وتزيل الإشكال الذي قد يعلق بالذهن في فهمها؛ لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، وذكر في ذلك أمثلة منها:
أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما لم يفهم معنى قول الله عز وجل : فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا[البقرة:158] إلا بعدما عرف سبب النزول، وكذلك قدامة بن مظعون لم يعرف معنى قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا[المائدة:93] إلا بعدما عرف سبب النزول، وكذلك قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ[البقرة:115] لا نفهم معنى هذه الآية إلا بعد معرفة سبب النزول.
الفائدة الثانية: أنَّ معرفة سبب النزول يعين على فهم الحكمة التي يشتمل عليها التشريع، وهذا مفيد بالنسبة للمؤمن ولغير المؤمن، أما المؤمن فإنه يزداد إيماناً، وأما غير المؤمن فإنه يعلم أن التشريع إنما جاء لجلب المصلحة ودفع المفسدة.
مثلاً: شرب الخمر حرام، وهو من كبائر الذنوب، والدليل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:90-91].
سبب نزول هذه الآية ما قاله عبد الرحمن بن عوف : (صنع لنا رجل من الأنصار طعاماً، فأكلنا لحم جزور -أي لحم جمل- ثم سقانا خمراً فتفاخرنا، فقال أحدهم: الأنصار خير من المهاجرين، فقلت: بل المهاجرون خير من الأنصار، فقام أنصاري بلحي جمل، -لحي الجمل: العظم- فضربني على أنفي حتى كسره، فسال الدم، فقلت: والله لا أمسح الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عبد الرحمن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمه يسيل، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة:91]).
معرفة سبب النزول هنا يزيد المؤمن إيماناً بضرر الخمر، ويدعو غير المؤمن إلى أن يفكر أن الله عز وجل ما حرم شيئاً إلا لأنه خبيث ولأنه ضار.
الفائدة الثالثة: رفع توهم الحصر، الإنسان أحياناً لو قرأ آية فإنه يظن أن هذه الآية جاءت للحصر، مثلاً: قال الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ[الأنعام:145].
يعني: المحرمات فقط هذه الأربع، والدليل: النفي مع الاستثناء: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً)) يعني: إلا أن يكون واحداً من هذه الأربع، هل المحرمات هي هذه الأربع فقط؟ لا، فهذه الأربع لم يذكر فيها الخمر، ولم يذكر فيها الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وغير ذلك، فإذا عرفنا سبب النزول سيرتفع هذا الوهم، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم، كأن الآية تقول: لا حرام إلا ما حللتموه، ولا حلال إلا ما حرمتموه، يعني: الكفار كانوا يأكلون الميتة، والخنزيز، والدم المسفوح، وما أهل لغير الله به، فكأن الآية جاءت مناقضة لقصدهم تقول لهم: الحرام هو الذي تأكلونه، وبالمقابل الكفار كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالآية تقول لهم: ولا حلال إلا ما حرمتموه. هذا كلام الشافعي رحمة الله عليه.
الفائدة الرابعة: معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وقد قال ابن مسعود : والله الذي لا إله غيره ما أنزل الله في القرآن سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت، وأنا أعلم فيمن نزلت.
فسبب النزول يعيننا على معرفة أن هذه الآية نزلت في فلان، فمثلاً: مروان بن الحكم بن أبي العاص كان يقول: إن قوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ[الأحقاف:17] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: والله ما نزلت في عبد الرحمن ، ولو شئت أن أسميه لسميته.
فالسيدة عائشة تريد أن تستر اسم الرجل الذي نزلت فيه؛ لأنه أسلم وصار من الطيبين، لكن في الوقت نفسه تنفي عن أخيها عبد الرحمن أن تكون هذه الآية قد نزلت فيه.
كذلك قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[البقرة:207].
فقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ )) أي: يبيع نفسه، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ )) هذه الآية نزلت في سيدنا صهيب بن سنان الرومي ، (وذلك أن صهيباً أراد أن يهاجر لكن الكفار منعوه، وقد أقاموا عليه حراساً، فتصنع رضي الله عنه أنه مصاب بمرض، وبدأ يستأذن أن يمشي إلى الخلاء، فمشى إلى الخلاء ثم رجع وبعد قليل استأذن ليذهب إلى الخلاء وهم يراقبونه، فمشي إلى الخلاء ثم رجع، ثم استأذن أن يمشي إلى الخلاء فقال الكفار بعضهم لبعض: قد شغله الله ببطنه فدعوه، لا يستطيع الهرب؛ لأنه مريض، فمشى هذه المرة وما رجع، فما انتبهوا له إلا بعد مسافة، فأدركوه رضي الله عنه وهو في طريقه إلى المدينة فلحقوه، فالتفت إليهم وقال: تعلمون -معشر قريش- أني أرماكم - يعني أنا أحسنكم رماية - والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ولو شئتم دللتكم على مالي فأخذتموه -أول الأمر رهبهم ثم رغبهم- قالوا: دلنا، قال لهم: هو في مكان كذا تحت أسكفة الباب، يعني: تحت عتبة الباب، قالوا له: الآن لا حاجة لنا فيك، فرجعوا وحفروا وأخذوا المال، وهو رضي الله عنه فر بجلده، فلما وصل إلى المدينة استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى) هذه صفقة رابحة، وهو لم يكن قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[البقرة:207].
فهذه الآية نزلت في صهيب بن سنان رضي الله عنه.
كذلك قول الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ[الأحزاب:37] نزلت في زيد بن حارثة لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنهما، وكان يريد أن يطلقها، وهي بنت عمة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب ، وكان زيد يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! إني أريد طلاقهاً ائذن لي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: هل رابك منها شيء فكان يقول: لا، لكنها تؤذيني بلسانها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله) يعني: دع زوجتك معك واتق الله.
الفائدة الخامسة: أن سبب النزول غير خارج من حكم الآية فيما إذا كان لفظ الآية عاماً وورد مخصص لها، فبمعرفة سبب النزول يعلم أن ما عداه يشمله هذا التخصيص، أما سبب النزول فهو داخل في العموم، وهذا بإجماع العلماء أن صورة السبب داخلة في الحكم، مثلاً: قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ[الأحزاب:53]، (إناه) أي: نضجه؛ ولذلك قال الله عز وجل عن أهل جهنم والعياذ بالله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ[الغاشية:2-5] يعني: تناهى حرها.
فيكون معنى الآية السابقة: أيها المؤمنون! لا تدخلوا بيت الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد استئذان، وإذا دعاكم إلى طعام فأتوه وقت الطعام، ولا تجلسوا فترة طويلة تنتظرون نضج الطعام.
وسبب النزول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم وليمة، وجاء بعض الصحابة فأكلوا وانصرفوا إلا رجلين بقيا يتكلمان، ويستأنسان،والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده إلا غرفة واحدة، قال الحسن البصري : دخلت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا فتى -يعني: شاب- فكنت إذا رفعت يدي نلت سقفها، وإذا مددت رجلي نلت جدارها، وهذان الرجلان قعدا يستأنسان، وبقيت زينب رضي الله عنها ووجهها إلى الحائط تنتظر خروجهما، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حيياً، فبقي صلى الله عليه وسلم يدخل ثم يخرج ويدخل ثم يخرج لعلهم يشعرون بذلك ويخرجون، ولكنهم لم ينصرفوا، فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ[الأحزاب:53].
فالحكم هنا عام، فبيتي وبيتك مثل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن.
فإذا قال قائل: إن هذا الحكم خاص بالنبي فنقول: تدخل بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً؛ لأن الآية نازلة في شأنه عليه الصلاة والسلام.
وهذا دليل على أن سبب النزول يستفاد منه أن الخاص يدخل تحت حكم العام، فإذا وجد التخصيص كان هذا التخصيص شاملاً لما عداه.
الفائدة السادسة: تثبيت الوحي، وتيسير الحفظ والفهم، وتأكيد الحكم في ذهن من يسمع الآية.
مثال ذلك: قصة الإفك،هذه القصة نزلت فيها عشر آيات، منها: قول الله عز وجل: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[النور:12].
فلو عرفت سبب نزول هذه الآية لن تنسى هذه الآية أبداً، إن سبب نزولها: أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه دخل على زوجته أم أيوب والناس يتناقلون الكلام في المدينة كما قال الله عز وجل: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ )) مع أنه في العادة أن الإنسان يتلقى الكلام بالأذن, ولكن من سرعة النقل قال الله عز وجل: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ[النور:15] أي: أ، الرجل لا يسمع بأذنيه وإنما بلسانه فيروج لذلك، لكن أكثر الصحابة لم تكن هذه صفتهم، فـأبو أيوب دخل على زوجته وقال لها بمنتهى الصراحة والوضوح : يا أم أيوب ! أسمعت ما يقول الناس في شأن عائشة و صفوان ؟ قالت: نعم، هو والله الكذب، فقال لها رضي الله عنه: أكنت فاعلته يـا أم أيوب قالت: لا والله معاذ الله، قال لها: فـعائشة خير منك و صفوان خير مني.
إذاً ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بأخيه، ومن حسن ظن المؤمن أن يعتقد أن أخاه خير منه.
مثال آخر: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ[الحجرات:2] هذه الآية سبب نزولها: (ما كان من بعض الأعراب الذين جاءوا في وقت القيلولة والراحة، وقالوا: يا محمد! أخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين -يعني: أخرج علينا بسرعة وإلا سنقول فيك شعراً-؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية يؤنب فيها هؤلاء الذين لم يتأدبوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية جلس أحد الصحابة وهو ثابت بن قيس بن شماس في بيته يبكي، فعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءه وقال له: مالك؟ فقال ثابت : يا رسول الله! أنا رجل جهوري الصوت، وكنت أرفع صوتي عليك، وأخشى أن يكون قد حبط عملي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة إن شاء الله) فالإنسان إذا عرف سبب نزل هذه الآية لا ينساها أبداً؛ لأنه فهم معناها تماماًَ؛ ولذلك فإن معرفة سبب النزول يربط الأسباب بالمسببات، والأحداث بالأشخاص، والمبنى بالمعنى، والأزمنة بالأمثلة، وكل هذا يدعو إلى تقرر الأشياء وتأكيدها في الذهن.
قد تتعدد الأسباب في نزول الآية الواحدة، فمثلاً: سورة الضحى المشتملة على إحدى عشرة آية، ورد في سبب نزولها: (أن الوحي انقطع عن الرسول صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن، قيل: مدة أربعين يوماً، وقيل: ستة أشهر؛ فجاءت أم جميل زوجة عمه أبي لهب فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد ودعك -يعني: تركك الشيطان الذي كان يأتيك بالكلام- فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الكلام، فأنزل الله عز وجل قوله:وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[الضحى:1-3]).
هذه الرواية في الصحيحين، وفي رواية أخرى رواها الإمام الطبراني عن حفص بن سعيد القرشي عن أمه وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (إن جرواً دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه الوحي فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابية خولة بنت حكيم ما الذي حدث في بيته صلى الله عليه وسلم؟- جبريل انقطع عني، قالت: فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، قالت: فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترتعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته رعدة عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله عليه: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[الضحى:1-3]).
وليس بين السببين تعارض، حيث كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم جرو قد مات، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، وصادف أن تلك المرأة العوراء قالت له هذا الكلام: (ما أرى شيطانك إلا ودعك، فأنزل الله عز وجل السورة على السببين جميعاً).
والرواية الأولى في الصحيحين، أما الرواية الثانية فهي عند الطبراني وفيها راو لم يسم، ففي سندها كلام.
السؤال: أنا مصاب بمرض السكري، وحسب قرار الطبيب فقد منعني من الصوم، وأنا أقوم بدفع ألف جنيه كل يوم للمسكين، فهل هذه تعتبر فدية؟
الجواب: لا تعتبر فدية، الفدية لا بد أن تكون طعاماً، وأنت مخير بين أمرين: إما أن تصنع أكلاً يكفي عشرة مساكين ،وفي يوم آخر تصنع أكلاً يكفي عشرة، وفي يوم آخر تصنع أكلاً يكفي عشرة؛ فتبرأ ذمتك، أو خمسة خمسة خمسة إلى أن تبرأ ذمتك، أو أن تأخذ كيساً من الدقيق وتسلمه لأخوة أو إلى أمام مسجد من المساجد من أجل إطعام الفقراء والمساكين.
السؤال: ما الحكم في تاجر يرفع الأسعار في شهر رمضان؛ لأنه يقول: هذا موسم جيد للبيع غير الأيام العادية؟
الجواب: أولاً: نحن عندنا الأصل قول الله عز وجل: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[النساء:29].
ثانياً: الشريعة لم تحدد للربح سقفاً، ولا يوجد ربح محدد، يعني: الشريعة لم تقل: إن الربح يكون عشرة في المائة أو عشرين في المائة أو مائة في المائة، لكن المسألة راجعة إلى التراضي.
ثالثاً: السوق مفتوح وليس هناك تسعيرة، ويمكن لك أن تبحث عن تاجر آخر، ومعلوم أن البقالات أو محلات البيع ليست سواء، فهناك محلات في أماكن سياحية، وهناك محلات في أماكن شعبية، وهناك خيام، وهناك أسواق: سوق الجمعة، وسوق الإثنين، وسوق السبت، وغير ذلك، ولك أن تجتهد في ذلك، ثم هناك فرق بين الأقوات وبين السلع التحسينية، فمثلاً: على التاجر أن يتقي الله عز وجل في التمور والدقيق والأشياء الضرورية، وأما غيرها من السلع غير الضرورية فلو جعل السلعة بعشرة آلاف فليس بالضروري أن تشتروها فهناك فرق بين سلعة ضرورية، وسلعة تحسينية.
السؤال: رجل يذكر الله كثيراً عند قيامه وقعوده وعلى جنبه وفي السوق وفي الشارع وفي حله وترحاله، لكن يظن الناس أنه مصاب بمس أو به جنة وهو بكامل قواه العقلية، هل حالته هذه طيبة؟
الجواب: والله ليس هناك أطيب من ذلك، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[الأحزاب:41].
والناس يظنون به الجنون؛ لأنهم ليسوا متعودين على ذلك، ولو كان هذا الرجل يغني دائماً لما ظنوا به الجنون! بل يقولون: ما شاء الله دائماً هو فرحان وسعيد؛ لأنه دائماً مغن؛ نسأل الله السلامة والعافية، أما هذا الذي يذكر الله ذكراً كثيراً فهم يستغربون منه، وهذا ليس جديداً، وأذكر لكم مثلاً: وقع في المدينة المنورة قبل سنوات أنه لما قيل: رئي هلال ذي الحجة أخذ أحد الناس يمشي في الشارع وهو يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يقولها بصوت مرتفع، فأخذ الناس ينظرون إليه من أعلى إلى أسفل مع أن هذا الرجل قد أتى بالسنة، قال الله عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ[الحج:28].
فمن السنة التكبير لعشر ذي الحجة حتى نصلي العيد، وبعد صلاة العيد كذلك، ففي دبر الصلوات نكبر، في أيام عيد الأضحى نكبر، لكن السنة صارت على الناس غريبة؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يمشي في السوق ومعه أحد أصحابه، وكان كلما مر بالناس قال: السلام عليكم، ويكررها كلما مر عليهم، فقال له تلميذه: في كل يوم أراك تدخل السوق ولا تشتري شيئاً، وكان هذا الرجل كبير البطن، فقال له ابن عمر : يا أبا بطن: ألا تراني أسلم على المسلمين؟!
فـابن عمر يمر يلقط حسنات ويرجع، ومن قال: السلام عليكم فله عشر حسنات، وقد يمر على مائة دكان، ويرجع بألف حسنة في دقائق معدودة، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون كيف يتاجرون مع الله عز وجل، فهذا الرجل ليس به مس بل الذي به مس من اتهمه بأنه موسوس.
وما أصدق ما قيل في ذلك: رمتني بدائها وانسلت، الذي لا يذكر الله قال تعالى عنه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[الزخرف:36]، ولذلك تجده دائماً يغني.
السؤال: هل هناك دليل صحيح وصريح يمنع دخول الحائض المسجد؟
الجواب: يا صاحب السؤال! إن كنت طالب علم فاعلم أن أكثر الأدلة إما أن تكون ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، وكونك تريد دليلاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهذا قليل جداً، فلا تسألني عن دليل صحيح وصريح، لكن عود نفسك احترام أقوال أهل العلم؛ لأنهم أعرف بالدليل منا، وعود عدم على الخروج من الخلاف ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وعود نفسك أن تتهم رأيك في مقابل رأي الأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، قال الإمام مالك : ألف عن ألف أحب إلى من واحد عن واحد.
وأما بالنسبة لدخول الحائض للمسجد فأولاً: عندنا قول الله عز وجل: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا[النساء:43] فقد قاس أهل العلم الحائض على الجنب بجامع إيجاب الغسل في كل منهما، وكما أن الجنابة توجب الغسل فكذلك الحيض يوجب الغسل.
ثانياً: هناك حديث رواه الإمام أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب)، وهذا الحديث اختلف العلماء رحمهم الله في صحته، لكن الذي عليه الجماهير بأن الحائض لا تدخل المسجد.
السؤال: شركة إنتاجية تمنح العاملين حاصل إنتاج سنوي، وتقوم بخصم نسبة من مرتب العاملين الذين تكون تقاريرهم ضعيفة، ومن هذه المبالغ المخصومة تقوم بشراء مواد تموينية توزع على جميع العاملين في شهر رمضان كهدية من الشركة؟
الجواب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم)، فإذا كانت هذه الشركة اشترطت عليك أنه لو كان تقريرك ضعيفاً قطعنا من مرتبك، وأنت رضيت بهذا الشرط، فاحرص على ألا يكون تقريرك ضعيفاً، وما قطعته الشركة فهي في ذلك مخيرة في أن تقوم بتوزيعه على بقية العاملين تطييباً لقلوب الناس، أو عدم توزيعه، فهذا الفعل ليس من أجل أكل حقوقهم، وإنما من أجل زيادة الإنتاج.
السؤال: أرجو أن تفيدنا بالفرق بين زكاة الفطر، والفدية لغير الصائم؟
الجواب: هناك فرق بينهما، أما الفدية فقد نص ربنا جل جلاله عليها بقوله: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[البقرة:184]، أما بالنسبة لزكاة الفطر فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) والإغناء كما يتحقق بالإطعام يتحقق بالنقد، بل النقد في زماننا أنفع وأيسر؛ لأننا جميعاً لو أننا أعطينا الفقراء طعاماً سيضطر الفقراء إلى بيعه من أجل أن يواجهوا ما يطلب منهم من فاتورة الكهرباء وفاتورة الماء وغير ذلك، هذا الفرق الأول.
الفرق الثاني: أن فدية كفارة الإنسان الذي أفطر تكون موزعة، أما زكاة الفطر فكلها تأتي في وقت متقارب، فأغلب الناس يخرجون زكاتهم في صبيحة يوم العيد، وبعضهم يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ ولذلك بعض العلماء وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة يبيح إخراج القيمة في زكاة الفطر وفي الكفارات جميعاً، وهناك بعض العلماء يمنع القيمة مطلقاً سواء كانت في زكاة الفطر أو في الكفارات، وبعض أهل العلم فرق بين هذه وهذه.
السؤال: العتبات المقدسة، والصحن الحيدري، ومرقد الإمام علي ، والنجف الأشرف، والمرجع الديني كلمات ظلت تردد عبر وسائل الإعلام لفترة طويلة، ما موقفنا نحن أهل السنة منها؟ وما هو الرأي في التحالف القائم في أرض العراق بين السنة والشيعة في مواجهة الاحتلال الأمريكي؟
الجواب: لا يوجد تحالف، الشيعة إلى يومنا هذا ليس لديهم فتوى في مواجهة ومقاومة وجهاد الأمريكان، والمرجع الديني الكبير التابع لهم إلى الآن يدعو إلى الصبر الجميل، ولذلك تسمعون اليوم في الأخبار بأن الأمريكان طلبوا من البريطانيين أن يأتوا بكتيبة قوامها ستمائة جندي من جنوب العراق؛ لأن أمريكا مضطرة لسحب كتيبة تأتي إلى الفلوجة، والفلوجة، والرمادي، وسامراء، هذه كلها يسمونها المثلث السني، فليس في العراق جهاد إلا من أهل السنة، أما الشيعة فإنهم يمنعون الجهاد بفتاوى صريحة، أو يشكلون بعض الحركات كما حصل مما يسمى بجيش المهدي ، والآن سلموا أسلحتهم كاملة غير منقوصة، ورفعوا الراية البيضاء!
فليس هناك تحالف يا أخي الكريم! وهذا هو تاريخ الشيعة الطويل، فأنتم تعرفون منذ أن قامت الثورة في إيران، وهم في كل جمعة يهتفون الموت لأمريكا، فلما جاء الموت لأمريكا في الحادي عشر من سبتمبر في يوم الثلاثاء، قاموا في الجمعة التالية للحادث واستنكروا وشجبوا هذا الحادث، وقالوا: إننا بريئون منه ولا نرضاه، وقد كانوا من قبل يقولون: الموت لأمريكا، فها هو ذا الموت قد جاء من حيث لم يحتسبوا.
أما بالنسبة لهذه المصطلحات فهي مصطلحات ليست شرعية، بل فيها من التزوير الشيء الكثير، لاسيما مرقد الإمام علي ، فالإمام علي لا يعرف له قبر؛ لأنه رضي الله عنه لما قتل وكان الناس قد فتنوا به في حياته عرف أولاده أنهم لو دفنوه في مكان معروف فإنه سيتخذ القبر وثناً يعبد من دون الله؛ ولذلك حفروا أحد عشر قبراً في أماكن مختلفة، وفي الليل لما نام الناس أدخلوه في أحدها وطمسوها كلها، فلا يعرف لـعلي قبر، ومن الغريب ومن خرافات الشيعة أن علياً كان من وصيته لأولاده بعد أن يموت أن يجعل على حمار ويترك، فهل يعقل أن علياً يوصي بهذا، وهو يقرأ قول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا[المرسلات:25-26]؟
و علي رضي الله عنه يعرف أن السنة الدفن، وخير البشر صلى الله عليه وسلم دفن في التراب.
وكذلك حكاية النجف الأشرف، نحن لا نعرف مكاناً شرفه الله عز وجل وهو مقدس عندنا ومعظم وتشد إليه الرحال إلا ثلاثة مساجد: مكة المكرمة حيث المسجد الحرام، والمدينة المنورة حيث المسجد النبوي، وبيت المقدس حيث المسجد الأقصى، هذا الذي نعرفه، أما حكاية النجف أو غيره فالقاديانية في لاهور في باكستان يقدسون قبر الميرزا غلام أحمد الذي ادعى النبوة، وعندهم أنه مكان شريف، فكلهم أصحاب بدعة.
وكذلك حكاية المرجع الديني، نحن عندنا المرجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[النساء:59]، لكن هذه الاصطلاحات ترجع إلى معنى استقر عند الشيعة، وهو عصمة الأئمة، أما نحن فليس عندنا أحد معصوم بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأي إمام أو عالم فإنه يخطئ ويصيب؛ فلذلك أخشى لو أننا تسامحنا في أن تجري هذه العبارات على ألسنتنا مثلما جرت عبارة: علي كرم الله وجهه، وعبارة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ونحن نقول: علي كرم الله وجهه و علي أمير المؤمنين، لكن ليس لوحده؛ لأن الشيعة يقولون: قال الأمير عليه السلام؛ لأنهم لا يعترفون بمن قبله، لا يعترفون بـأبي بكر ولا عمر ولا عثمان ، أما نحن أهل السنة فنعتقد أن الأربعة إمامتهم صحيحة، وأن الأربعة من المبشرين بالجنة، وأن الأربعة ممن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار.
اللهم أعنا على أن نصوم رمضان إيماناً واحتساباً، وعلى أن نقوم رمضان إيماناً واحتساباً.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر