سيكون الكلام عن أسباب نزول بعض آي القرآن مما أورده الإمام الجلال السيوطي رحمه الله في كتابه: (لباب النقول في أسباب النزول).
ونبدأ بأطول سور القرآن وأغزرها أحكاماً، وهي (سورة البقرة) هذه السورة المباركة أيها الإخوان! أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها والعناية بها فقال: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، أي: السحرة، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم: (أن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام، ومن قرأها ليلاً لم يدخل الشيطان ثلاث ليال).
وأخبرنا بأن الشياطين تنفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، هذه السورة المباركة في أولها خمس آيات في شأن المؤمنين، وآيتان في شأن الكافرين، وثلاث عشرة آية في شأن المنافقين، فالصنف الأول: مؤمنون ظاهراً وباطناً، والصنف الثاني: كافرون ظاهراً وباطناً، والصنف الثالث: مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية السادسة والسابعة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا[البقرة:6]، وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنهما نزلتا في يهود المدينة ].
هذه الآية أيها الإخوان! ظاهرها أن الكافر لا يؤمن، سواء حصل الإنذار أو لم يحصل، وسواء تليت عليه الآيات أو لم تتلَ، لكن كما قال أهل التفسير: هي من العام المخصوص، أي: قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا ))، عموم أريد به أناس مخصوصون من الكفار.
فقول ابن عباس : (نزلنا في يهود المدينة) وذلك لأن عندهم من الأدلة والبراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما ليس عند غيرهم من الكفار، لكن كفروا حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية الرابعة عشرة قوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا[البقرة:14]، أخرج الواحدي و الثعلبي من طريق محمد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بـالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق ، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيراً، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت هذه الآية ].
عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين من أكفر خلق الله، كافر، ولما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة كان قومه يعقدون له الخرز من أجل أن يصنعوا له تاجاً يتوجوه ملكاً على الأوس والخزرج، فلما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة صار الملك لله، فـابن سلول امتلأ صدره غيظاً وحنقاً وحقداً، وبدأ يمارس حرباً قذرةً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة يتكلم في عرضه، وتارة يتكلم في ذمته المالية، وتارة يطعن في كونه نبياً، ولما حصلت هزيمة أحد قال: لو كان نبياً ما غلب، ولكنه ملك كسائر الناس، تارة يَغلب وتارة يُغلب.
هكذا قال ابن سلول ، وكان المسلمون كالجبل الأشم لا يتزلزلون.
هنا في هذه الحالة يريد من ناحية أن يظهر خلاف ما يبطن؛ لأنه في باطنه يعتقد أن هؤلاء المؤمنين كـأبي بكر و عمر و علي سفهاء، ومن ناحية أخرى يريد أن يوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء؛ لأنه جرت عادة الناس أن الأقران إذا أثني على أحدهم فإن الآخر يغضب ويتحسس، فهذا الخبيث يأخذ بيد أبي بكر ويقول: مرحباً بسيد بني تيم، مرحباً بثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لله ورسوله، ثم يأخذ بيد عمر ويقول: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب مرحباً بـالفاروق ، الباذل نفسه لرسول الله، ثم يأخذ بيد علي ويقول: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية التاسعة عشرة قوله تعالى: (( أَوْ كَصَيِّبٍ )) ] يعني: عندنا في السورة مثلان، اصطلح أهل التفسير على تسميتهما: بالمثل الناري، والمثل المائي.
والأمثال في القرآن علم، قال عز وجل: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وكان بعض الصالحين يقول: إني إذا قرأت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي.
وأمثلة القرآن على نوعين أمثلة ظاهرة، وأمثلة كاملة، فمن الأمثلة الظاهرة قول الله عز وجل: مَثَلُهُمْ[البقرة:17] أي: مثل المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ[البقرة:17]، يعني: إذا قال المنافق: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهل هو صادق أم كاذب؟
هو كاذب، قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ[المنافقون:1]؟
فالمنافق كذاب، لكن لما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالمسلمون عاملوه بالظاهر، فأجروا عليه أحكام لا إله إلا الله، فعصموا دمه وماله، وزوجوه وتزوجوا منه، فهو انتفع بلا إله إلا الله في الدنيا، لكن إذا نزل به الموت لا تنفعه لا إله إلا الله.
قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ[البقرة:17] هذا هو المثل الناري، إنسان أوقد ناراً ثم انتفع بضوئها في أحلك اللحظات، وفي أحوج ما يكون إليها أطفأها الله، فكذلك المنافق قال: لا إله إلا الله كاذباً؛ فانتفع بها في الدنيا، لكن عند الموت لو جئنا بمكبر صوت أقوى من هذا ووضعناه في أذنه وقلنا: يا فلان قل: لا إله إلا الله، فبعض الناس قال: أنا كافر بلا إله إلا الله، وبعض الناس قال: هي أشد علي من الجبال الراسيات، لو وضعتم علي جبلاً لكان أهون من أن تقولوا لي: قل: لا إله إلا الله، فالله عز وجل ضرب هذا المثل، وضرب مثلاً آخر فقال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ[البقرة:19]، الصيب هو المطر أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ[البقرة:19].
ضرب الله هذا المثل، لعدم انتفاع المنافقين بأنوار الوحي، فالقرآن بالنسبة للمؤمنين تطمئن به القلوب وتخشع، وتدمع به العيون، ولكن القرآن بالنسبة للمنافق ظلمات، ولذلك كانوا يستمعون للقرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، لكن إذا خرجوا قال بعضهم لبعض: مَاذَا قَالَ آنِفًا[محمد:16].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخرج ابن جرير من طريق السدي الكبير عن أبي مالك و أبي صالح عن ابن عباس وعن مُرَّةَ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق وبرق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يضعان أصابعهما في آذانهما من الفَرق -ي: من الخوف-أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يد الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة.
قال ابن عباس : وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينزل فيهم شيء ] يعني: كما قال الله عن قوم نوح: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا[نوح:7].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية (26)، (27) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا[البقرة:26] ] أي: مثل بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، أي: فما دونها، والعرب تستعمل كلمة الفوق بمعنى الدون، كما تستعمل كلمة وراء بمعنى أمام كما في قوله سبحانه: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ))[الكهف:79]، يعني: قدامهم، أقول لك: فلان فقير؟ تقول لي: أو فوق ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخرج ابن جرير عن السدي بأسانيده: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقِين أو للمنافقَين، الذي هو المثل الناري والمثل المائي، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا[البقرة:26] إلى قوله: هُمُ الْخَاسِرُونَ[البقرة:27].
عن ابن عباس : إن الله ذكر آلهة المشركين فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا[الحج:73] ] يعني: هذه الأصنام التي تعبدونها أيها الكفار من دون الله لا تستطيع أن تخلق أحقر المخلوقات وهي الذباب.
ولو أن الذباب خطف منهم شيئاً من الذي كانوا يضعونه عند الأصنام من المأكولات، كما في قول الله عز وجل: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا[الأنعام:136]!
فإن هذه الأصنام لا تستطيع أن تسترد ما أخذه الذباب، قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73]، فالأصنام طالب، والذباب مطلوب، أو على العكس: ضَعُفَ الطَّالِبُ ))، الطالب المشركون، والمطلوب أصنامهم، وفي الآية الأخرى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ[العنكبوت:41]، مرة الذباب، ومرة العنكبوت، فقال الكفار: ما شأن هذا الذي ينزل على محمد؟! أيذكر الله الذباب والعنكبوت؟! الله أعلى وأجل، هذا الكلام لا يشبه كلام رب العالمين، ربنا عظيم فلا يتكلم عن الذباب والعنكبوت، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[البقرة:26].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية (44) قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[البقرة:44] ] هذه الآية خوطب بها بنو إسرائيل، فكان الواحد منهم يكون له صاحب من الأنصار، يقول له: يا فلان! الزم هذا الرجل فإنه رسول الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة. كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه ].
العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فهذه الآية نزلت في بني إسرائيل ولكننا نحن أيضاً مخاطبون بها، ولذلك قال الحكيم:
يا أيها الرجل المعلم غيـره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كي ما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فيدور في النار كما يدور الحمار في الرحى، وتندلق أقتابه -أي: أمعاؤه- فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! أما كنت تأمرنا وتنهانا -أنت كنت تخطب الجمعة، وتعمل لنا دروساً، وكنت تمر بنا ونحن نشرب الخمر، أو نلعب الميسر، أو نفحش فكنت تأمرنا وتنهانا- فيقول: نعم. كنت آمركم ولا أفعل، وأنهاكم وأفعل)، كان يمر بهم وهم يشربون الخمر، فيقول لهم: الخمر حرام، اتقوا الله! وهو داخل البيت عنده قارورة، يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، نعوذ بالله من تلك الحال. وما زال شيوخنا يذكرون لنا قصة الرجل الذي خطب يوم الجمعة وأمر الناس بالصدقة، وأتاهم بالآيات والنصوص والأشعار حتى أبكاهم، وبعد الصلاة انتظر في المسجد يسلم على الناس، فلما رجع إلى البيت، وجد ولده قد أخرج القمح والسكر والبلح والبصل وبدأ يوزع، والمساكين قد اجتمعوا عليه، فقال له: يا أحمق ماذا تصنع؟ قال له: أنا سمعت منك وبدأت أطبق، قال له: يا مسكين! نحن نتكلم وهم يعملون.
قال سيد قطب رحمه الله في الظلال: وهذه آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة تتفاعل معها القلوب، يقول: يكفي رجال دين، رجال المال، ورجال الأعمال، ورجال السياسة، فهناك طبقةٌ اسمها رجال دين، وهؤلاء الذين زوروا الدين على امتداد الزمن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أسباب نزول الآية (62) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة:62]، أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان : (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ))[البقرة:62]) ]. سلمان رضي الله عنه بدأ رحلة طويلة، كان أصلاً في أصبهان في إيران، ثم انتقل من أصبهان إلى راهب في عمورية في أرض الروم، ثم إلى بلاد الشام، ثم إلى وادي القرى إلى أن وصل إلى المدينة، وكان آخر راهب قال له: لا أعلم أحداً على الدين الحق، لكن قد أظل زمان نبي يخرج، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة.
فـسلمان ، كان في المدينة يعمل عند يهودي، فقال له يهودي آخر: قاتل الله بني قيلة يعني: الأوس والخزرج اجتمعوا على رجل في قباء جاء من مكة يزعم أنه نبي، يعني أن اليهودي يسخر منه، فاليهود عندهم عقدة التفوق، قال الله عنهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ[المائدة:18]، فهم لا يتصورون نبوة في غير بني إسرائيل، فاليهودي عندما قال هذا الكلام، يقول سلمان : فأخذتني عروراء، يعني: رجفة، قلت له: ماذا قلت؟ قال: فرفع سيدي اليهودي يده فلطمني لطمة منكرة، قال: ما شأنك تدخل في كلام الكبار، فقلت: لا شيء، وإنما سمعت فأحببت أن أستثبته عما قال، قال: ورجعت إلى عملي، فلما أمسى أخذ رضي الله عنه صحناً من تمر حتى ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانه، وأصحابه من حوله، فقال له: (
فجاء في اليوم الثاني بطبق ثانٍ، وقال له: هذه هدية فسمى الله وقال لأصحابه: كلوا وأكل معهم، قال سلمان : وهذه والله ثانية، بقيت الثالثة، فبدأ يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا في جنازة في بقيع الغرقد، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس وهم يحفرون، وبدأ سلمان يدور من حوله وهو صلى الله عليه وسلم أذكى الناس، وأصفاهم قريحة، وأجودهم عقلاً عرف بأن سلمان يفتش عن شيء، فألقى رداءه صلى الله عليه وسلم، فوجد سلمان بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة حمامة عليها شعرات، فأكب يقبل ظهر رسول صلى الله عليه وسلم ويبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تحول، ما شأنك؟ فحكى له ما كان، وأسلم، وشهد شهادة الحق) فصار من ذلك اليوم سلمان ابن الإسلام رضوان الله عليه، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة.
هذا الرجل المبارك يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن أولئك القوم الطيبين الذين كانوا يعبدون الله على دين المسيح ما شأنهم؟ فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ[البقرة:62]، يعني: الآية تتكلم عن ناس كانوا على دين الحق قبل مجيء الإسلام، ليس كما يظن الجهال والمخرفون الآن، فيستدلون بهذه الآية على أن اليهود والنصارى الموجودين الآن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل كفروا بموسى وعيسى؛ على أنهم يمكن أن يكون لهم في الجنة نصيب، وهذا من التدليس والتلبيس والتزوير الذي لا يليق بعباد الله المؤمنين.
السؤال: قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ))[الأنفال:72]، فهل يجوز أن تتخلى بعض الدول والجماعات عن نصرة إخوانهم بذريعة أن هناك مواثيق وقوانين ومعاهدات وما إلى ذلك أم لها الحق أن تنقض المواثيق والمعاهدات كلها بالتعدي على أي مسلم؟
الجواب: إذا تعدى من بيننا وبينهم ميثاق على مسلم واحد، فقد انتقض الميثاق بيننا وبينهم، ولذلك قريش لما أعانت بكراً على خزاعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا نقضاً للعهد الذي أبرم في صلح الحديبية.
أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابيين: (أوفيا بعهدكما ونستعين بالله عليهم) فهذا العهد كان في شأن حذيفة وأبيه رضي الله عنهما، كان المشركون قد أمسكوا بهما وهما في عمرة، وأخذوا عليهما عهداً ألا يعينوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن عندنا قاعدة: بأن الحق السابق لا يرفع بالحق اللاحق، فهؤلاء أخذوا العهد، فحقهم سابق، بعد ذلك مجيء حذيفة وأبيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حق لاحق.
السؤال: تردد في هذه الأيام رسائل في الجوال بين الشباب على شاكلة الأحاديث النبوية مثل: عن أبي نوكيا كثر الله رصيده اتصل علينا، فإن لم تستطع فبرسالة، فإن لم تستطع فبرنة، فما حكم هذا؟
الجواب: هذا من الاستهزاء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالسنة، والواجب الضرب على أيدي هؤلاء، ولا يفعلها سليم القلب أبداً، فالإنسان الذي يجعل من الأحاديث النبوية مادة للسخرية والتندر وإدخال الكلمات الأعجمية، هذا إنسان قد بلغ من الحقارة شأواً بعيداً، فأنا أريد أن أنصح الإخوان نصيحة عامة فأقول: رسائل الجوال يا إخواننا مزعجة، وبعض الناس يرسل إليك رسالة فيها دعاء: اللهم أعط فلاناً كذا وكذا، وما إلى ذلك، بينما ينبغي أن يكون دعاء المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، وهناك دعوات لا تجوز، فرجل أرسل لي رسالة فيها: أسأل الله أن يعطيك عمر نوح، وجمال يوسف، وصبر أيوب، وحكمة لقمان ، إلى أن ختمها بالرسول صلى الله عليه وسلم، سبحان الله! الأشياء التي جعلها الله عز وجل في القمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثلاً: عمر نوح ألف سنة، فهل يعيش الرجل ألف سنة في هذا الزمن؟! والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، ففيه اعتداء.
قال أهل العلم في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[الأعراف:55]: من الاعتداء في الدعاء أن تسأل الله المستحيل، كأن تقول: اللهم لا تمتني أبداً، أي: خلدني في الأرض، هذا مستحيل، اللهم أنزلني في الجنة منزلة فوق منزلة النبيين، هذا مستحيل! كذلك قولهم: جعلك الله ملازماً للحق، نقيباً، رائداً، وأمسك بالرتب حتى وصل للمشير، وهذا أيضاً من الاعتداء في الدعاء لا ينبغي.
السؤال: إذا حضر الشخص إلى المسجد وهم يصلون صلاة التراويح وهو يعلم ذلك، هل يصلي معهم بنية صلاة العشاء؟
الجواب: نعم؛ لأنه يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل.
السؤال: أنام كثيراً عن صلاة الوتر ولا أصليها في المسجد بنية أن أقوم، ولكنني لا أستطيع فما الحكم؟
الجواب: يا أخي أوتر ثم نم، فإن قمت فالحمد لله، صل مثنى مثنى، ولا توتر ثانية، فإذا لم تقم، حينئذٍ تكون عملت الذي عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نام العبد وهو ينوي أن يقوم من الليل فغلبته عيناه فنام، كتب الله له ثواب ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه).
السؤال: ما المقصود بقوله تعالى في الآية الكريمة: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[البقرة:184]؟
الجواب: ذكرنا أن هذه الآية إما أن تكون منسوخة لقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185]؛ لأن الصيام كان في الأول على التخيير الذي يريد الصيام صام والذي يريد الفطر أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر إلى أن نزل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185] فصار الصوم واجباً على المستطيع الذي عنده مال، والذي ما عنده مال.
وعلى الرأي الثاني أن هذه الآية محكمة، وأنها في شأن الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الزمن.
السؤال: ثلاث رمضانات متتالية مرَّت وأنا حامل مرةً ومرضع مرةً فما الحكم في ذلك؟
الجواب: عليك القضاء.
السؤال: تقول امرأة: تركت الصلاة لسنوات كثيرة كسلاً وعدم تعود، وعدت إلى الله وواظبت على صلاتي، ماذا أفعل فيما فاتني، مع العلم أنني أم لخمسة أطفال، وأجد صعوبة في القضاء؟
الجواب: يا أمة الله! أسأل الله أن يتوب علينا أجمعين، الصلاة دين، ومن شروط صحة التوبة أداء الحقوق، سواء كانت حقوقاً لله أو حقوقاً للعباد، والصلاة حق الله، فمن تاب وجب عليه القضاء على حسب الطاقة، فلا تشتغلي بنافلة، ولا بتطوع وإنما اشتغلي بالقضاء، مع كل فرض صلي فرضاً أو فرضين، إلى أن يغلب على الظن أنه قد تم الأمر.
السؤال: ما هو الشفع؟ وهل هو ركعتان قبل الوتر؟
الجواب: الشفع: هو الزوج، والوتر: هو الفرد، فالثلاثة كلها وتر، لكن لئلا نشبهها بصلاة المغرب نصلي ركعتين ونسلم، ومن ثم نصلي ركعة، ويمكن نصلي الثلاث متصلة بتشهد واحد.
السؤال: ما معنى قول العلماء: الطلاق الشرعي هو أن تطلق المرأة في طهر لا تمسها فيه؟ وهل من جامع امرأته بالليل، ثم طلقها في الصباح لا يقع طلاقه؟
الجواب: من جامع امرأته في الليل ثم طلقها في الصباح وقع طلاقه وهو آثم؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يطلق امرأته وهي حائض، ولا يجوز أن يطلق امرأته وهي نفساء، ولا يجوز أن يطلقها في طهر قد مسها فيه، بل تنتظر إلى أن تطهر، وبعد ذلك إن شئت طلق وإن شئت أمسك.
والغرض من هذا أمرين:
الأمر الأول: تأخير الطلاق وتأجيله، بحيث أن الإنسان يتروى ويفكر.
الأمر الثاني: هو عدم إطالة مدة العدة، يعني: لو طلقت امرأة وهي حائض فهذه مشكلة؛ لأن الحيض لا يعتد به، وإنما العدة بالأقراء التي هي الأطهار، قال عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر