إسلام ويب

سورة آل عمران - الآية [130]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حذر الله المؤمنين من الربا وبين لهم خطره، ونهاهم عن طاعة الكافرين حتى لا يبطلوا عليهم دينهم، ونهاهم عن التشبه بهم حتى لا يصيبهم ما أصاب الكافرين من الحسرة والندامة.

    1.   

    ذم الربا وتحريم التعامل به أو أكله

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

    أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    النداء الخامس عشر: قول ربنا تبارك وتعالى في الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:130]، هذه هي المرحلة الثانية من مراحل تحريم الربا، وكان في المرحلة الأولى قول الله عز وجل: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ[الروم:39]، وفي هذه الآية حرم الله عز وجل تضعيف الربا إلى أن جاءت آيات سورة البقرة وهي آخر ما نزل من الأحكام فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[البقرة:278-279].

    وهذه الآية جاءت في ثنايا الحديث عن غزوة أحد، فقبلها قول الله عز وجل: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا[آل عمران:121-122]، ثم بعدها أيضاً حديث عن غزوة أحد في آيات طويلة، ولذلك تحير المفسرون رحمهم الله في علة ذكر الربا في أثناء الحديث عن غزوة أحد، حتى قال الفخر الرازي رحمه الله: لا أحفظ في ذلك سبباً مروياً، هذا كلام ابن عطية الغرناطي .

    وبعض المفسرين أراد أن يجد علة فقال: لما أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا عقبه ببيان أن الوعيد لا يخصهم، بل يتناول العصاة، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر ربنا في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، وهذا كلام مقبول، فإنه نهى عن أكل الربا، وفي الآية التي بعدها ذكر الحث على التقوى، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران:133]، ثم ذكر من هم المتقون فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[آل عمران:134-135]، فذكر أهم خصال المتقين التي يجب أن يتحلوا بها.

    والآية تنهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، وهذه عادة أهل الجاهلية، فقد كان إذا حل الدين على المعسر ولم يحصل منه شيء قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة وتزيد ما في ذمتك بمعنى: أمهلني أزدك، فيترتب على ذلك أن المدين يستبشع غريمه اضطراراً ويلتزم في ذمته مالاً زائداً اغتناماً لراحته الحاضرة، فإما أن يقضي أو يرتب في ذمته هذا الدين أضعافاً مضاعفة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك قال سبحانه: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا ))، فقدم الأكل دلالة في أن الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما في قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:57].

    وقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ))، ضعف الشيء مثله، فتصير أربعة، وليس معنى هذا أن الربا لا يكون حراماً إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان دون ذلك فيجوز، فالأربعة في المائة والخمسة والسبعة والتسعة ليست أضعافاً مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم، لا، فالأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطاً يتعلق به الحكم، مثاله قول الله عز وجل: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا[النور:33] يعني: حرام عليك أن تكره فتاتك على الزنا إن أرادت التحصن، فنقول: إن لم ترد التحصن أيصح لك إكراهها أو أن تسمح لها بالزنا؟

    الجواب: لا يصح، لكن الله عز وجل يصف واقعاً معيناً، وذلك أن رجلاً من المنافقين هو ابن سلول كان عنده فتيات يكرههن ويدير بهن بيوتاً للبغاء.

    مثال آخر: قول الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ- إلى أن قال- وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ[النساء:23]، لو كانت بنت زوجتك ليست في حجرك وإنما تربت عند جدتها أو في بلدة أخرى، أيحل لك نكاحها؟

    الجواب: لا يحل، فقول الله عز وجل فِي حُجُورِكُمْ )) وصف لواقع، كما يقول أهل الأصول: وصف كاشف وليس قيداً للاحتراز، وهنا أيضاً وصف لواقع أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا )) أياً كان.

    وعيد من تعامل بالربا

    وردت الأحاديث الكثيرة في ذم الربا والتي تواترت تواتراً معنوياً، منها حديث أبي هريرة في الصحيحين: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر من بينهن (أكل الربا).

    وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي آكل الربا يوم القيامة مخبلاً -أي: مجنوناً- يجر شقيه، ثم قرأ: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة:275]).

    وفي حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).

    وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية) رواه أحمد و الطبراني ، وقال المنذري : ورجال أحمد رجال الصحيح.

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي رحمه الله.

    وفي حديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم وإذا في النهر سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً، قلت: ما هذان قالا: إنه آكل الربا)، يعني: آكل الربا والعياذ بالله يسبح في نهر أحمر كالدم كلما أراد أن يخرج ألقمه رجل حجراً يجعله يرجع من حيث أتى.

    وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) فكلهم ملعونون، الآكل والموكل والكاتب والشاهد.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل).

    تعريف الربا وصوره

    الربا: هو عقد في الشرع فاسد وإن لم تكن فيه زيادة، وهذا تعريف المالكية، قالوا: لأن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة يعد رباً وإن لم تكن فيه زيادة، والآن دراهم بدنانير لا تكاد توجد، لكن يوجد نظيرها من العملات التي يتعامل بها الناس كالدولار والريال واليورو والاسترليني وما أشبه ذلك، ولابد فيها من التقابض؛ لأنها تقوم مقام الذهب والفضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي سواء).

    بمعنى: أن الإنسان إذا أراد أن يستبدل مالاً بمالٍ من جنسه كدولار بدولار، أو ريال بريال، أو دينار بدينار، فلا بد من أمرين اثنين: تقابض وتماثل، أما إذا اختلف الصنفان كدينار بدولار فلا بأس من التفاضل بأن يكون الدولار بألفين وستمائة دينار مثلاً، لكن بشرط أن يكون هناك تقابض في الحال، فمثلاً هناك رجل يعمل في التجارة فيأخذ دولارات من رجل مقابل دنانير سودانية، فيأخذ الدولارات ثم هذا يؤخر المال أياماً إلى أن يسلم أهله الدنانير السودانية، فهاهنا نقول: لا بد من التقابض، فلا بد أن يكون عنده هنا إنسان يتعامل معه ويتصل به للتو فيقول: سلم آل فلان كذا من المال، من أجل أن يتحقق شرط التقابض.

    كذلك ما يصنعه النساء حين تذهب إحداهن إلى صاحب الذهب فتعطيه ذهباً قديماً فيزنه فيبلغ مثلاً خمسين جرام أو مائة جراماً ثم بعد ذلك تريد ذهباً جديداً، فيزن لها ذهباً جديداً مما تختاره، فمثلاً إذا كان ذهبها مائة جرام يكون هذا ثمانين جراماً فيعطيها ذلك، فهذا هو الربا؛ لأن الذهب بالذهب ربا، دون اعتبار لاختلاف العيار أو الصنعة أو النقشة كما يقولون، والحل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـبلال ، فقد أتى للنبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ فقال: لا يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا بصاعين من ذاك) يعني: الصاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه! عين الربا عين الربا) يعني: هذا الذي وقعت فيه هو الربا، فكونك تستبدل تمراً بتمر متفاضلاً، هذا هو عين الربا، ثم قال له: (بع ما عندك ثم ابتع جنيباً) يعني: بع التمر الرديء وخذ الدراهم وابتع بالدراهم جنيباً.

    كذلك نفس الشيء بالنسبة للتي تملك ذهباً، فتذهب إلى الصائغ فتبيع ما عندها من ذهب ثم تأخذ المال، فإن شاءت تشتري من عنده عقداً جديداً أو تشتري من غيره، وتكون المعاملة بذلك صححه إن شاء الله.

    ومن صور الربا: بيع العينة، وبيع الدين بالدين، وبعض صور السلم التي يمارسها الناس، وكثير من المرابحة التي تقع في البنوك في هذه الأيام، وفي تجارة العملة صور كثيرة ولعل أشهرها الآن أن إنساناً يأخذ الدولار بشيك آجل لكن بسعر أعلى فيكون قد اجتمع فيه نوعا الربا: ربا الفضل وربا النسيئة.

    فلذلك أقول: أي إنسان يريد أن يتعامل بمعاملة ما فعليه أن يسأل ويحتاط لئلا يقع في الربا، ونسأل الله أن يطيب مطاعمنا.

    1.   

    قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)

    النداء السادس عشر في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]]، هذه الآية شبيهة بآية أخرى من سورة آل عمران هي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، فهذه الآية نزلت عقيب غزوة أحد، ونعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن غزوة أحد مثلت زلزالاً للمؤمنين، فقد زلزلوا زلزالاً شديداً، حيث قتل سبعون من خيارهم وجرح آخرون، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين ألقوا بأيديهم، وبعضهم ولى مدبراً لما سمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعضهم تساءل: أنى هذا؟ يعني: كيف نهزم ونحن المؤمنون الموحدون؟

    والمنافقون واليهود انتهزوها فرصة من أجل أن يشككوا المسلمين في دينهم، فقال اليهود: لو كان محمد نبياً ما غُلب، ولكنه ملك كسائر الملوك تارة يغلب وتارة يُغلب، فصوروا النبي صلى الله عليه وسلم على أنه طالب ملك، وطالب رئاسة يسري عليه ما يسري على غيره.

    وأما المنافقون فقد قالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، واطلبوا الأمان منهم، فاذهبوا إلى أبي سفيان واطلبوا منه الأمان؛ لأنهم سيغزون المدينة ثانية، فأنزل الله هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، والمراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أطلقت هذه الشائعات من حولهم، والعبرة بعموم اللفظ.

    وقوله: إِنْ تُطِيعُوا )) الطاعة تطلق على مطلق امتثال أمر من آمر، وقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) الرد: التصيير، كما مر معنا في قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ))، وقوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ))، فالرد على الأعقاب أي الارتداد والرجوع إلى الشرك، فقوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ )) أي: فترجعوا خاسرين في الدنيا والآخرة.

    أما في الدنيا فالذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، وحرمان الوعود التي وعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا[النور:55].

    وقال الحسن البصري رحمه الله: معنى الآية: إن تستنصحوا اليهود والنصارى؛ وتقبلوا منهم؛ لأنهم كانوا يستغوونهم ويرمون لهم الشبه، فإن تطيعوا هؤلاء وتستنصحوهم وتقبلوا منهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

    وهذه الآية في معناها آيات كقول الله عز وجل في المنافقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[النساء:89]، وقول الله عز وجل في أهل الكتاب وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ[البقرة:109]، وقوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[آل عمران:69].

    وما زال الكفار في القديم والحديث مثابرين على أن يردوا المسلمين عن دينهم ويزلزلوا عقائدهم، فتارة ببعثات تبشيرية وحملات تنصيرية، وتارة بفعل أهل الاستشراق الذين استغووا كثيراً من أبناء المسلمين ممن ذهبوا إلى بلاد الغرب طلباً للعلم بزعمهم أو عن طريق الحملات العسكرية كما هو حاصل الآن، وهي حملات عسكرية سافرة، أطلقوا عليها الحرب المقدسة، وهذا كله من أجل أن يردوا المسلمين على أعقابهم فينقلبوا خاسرين.

    كلام سيد قطب في تفسير الآية

    يقول سيد قطب رحمه الله: يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة، فبها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر، فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه -والعياذ بالله- كافراً، ومحال أن يقف سلبياً بين بين، محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه، فإنه قد يخيل إليه هذا، فيخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح أنه يستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع ذلك محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه، وهذا وهم كبير.

    فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الشر والباطل والضلال والطغيان والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم؛ يتنازل في الحقيقة عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى، فليست العبرة بهزيمة في معركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد هزموا بنص القرآن الكريم، فالله عز وجل بين بأنهم نصروا أولاً ثم انكسروا في الأخير، لكن هل شك رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة؟ لا، والله! فهو صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ودمه ينزف: (اصطفوا لأثني على ربي)، وأثنى على ربه جل جلاله بكلمات وكأنه المنتصر عليه الصلاة والسلام، وهو في حقيقة الأمر منتصر؛ لأن المبدأ والعقيدة ما تغيرت ولا تزلزلت، والأنبياء هكذا سنتهم يدال عليهم مرة ويدالون مرة، وهذه سنة الله عز وجل كما قال جل في علاه: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران:140].

    صور من الثبات على المنهج

    وكاتب هذه الكلمات سيد قطب رحمه الله تمكن منه أهل الطغيان، وسجن وعذب وأوذي، ثم في ختام الأمر قتل رحمة الله عليه، لكن هل ذهب فكره؟ وهل نسي أمره؟ وهل ذابت عقيدته؟ لا، والله! بقيت كلماته كما قال: إن كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة، فما زال إلى يومنا هذا كثير من أبناء حركة الإسلام والصحوة الإسلامية موجههم الأول هو فكر سيد قطب ، وما بثه وما نثره في كتبه.

    بل أبلغ من ذلك أبو العباس ابن تيمية شيخ الإسلام رحمة الله عليه، هذا الرجل الذي قاتل التتار، وقاتل الصليبيين، وأحيا السنة، وأمات البدعة، وجاهد في الله حق جهاده، بعض العلماء هددوه وما اتقوا الله فيه، ووشوا به عند السلطان، فألقي في السجن ومات فيه، رحمة الله عليه، فمات في سجن القلعة، لكنه ما هزم، بل ما زال فكره رحمه الله هو المغذي وهو المحرك، وما زال علماء الإسلام يرجعون إلى فتاويه وإلى كتبه وإلى أقواله التي طبقت المشارق والمغارب.

    وأبلغ من هذا وأوضح الإمام أحمد رحمة الله عليه الذي جلد بالسياط في فتنة خلق القرآن، لكنه رضي الله عنه ما تنازل ولا تغير؛ فجعل الله العاقبة له وأظهر أمره، وصار إمام أهل السنة.

    ومن قبله مالك رحمة الله عليه و أبو حنيفة و سفيان الثوري وغير هؤلاء كثيرون ممن لم يطيعوا الذين كفروا، ولم يداهنوا الذين نافقوا، ولم يتنازلوا عن شيء من الدين، فما ردوا على أعقابهم خاسرين، بل جعل الله لهم رفعة الذكر في الدنيا وإن شاء الله جنة عرضها السموات والأرض في الآخرة.

    وهناك أناس يطيعون الذين كفروا شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ بهم الأمر أن يتنازلوا عن الدين كله، نسأل الله السلامة والعافية.

    كلام الجصاص في تفسير الآية

    قال أبو بكر الرازي الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن: فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً، إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم، كالجاسوس والخريت الذي يهدي على الطريق، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو و أبو بكر و عامر بن فهيرة كان دليلهم عبد الله بن أريقط وكان كافراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ائتمنه ومشى خلفه وهو يصف له الطريق إلى أن بلغ المدينة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وثق به، فقد يكون كافر من الكفار خريتاً خبيراً بالطريق، أو يصلح أن يكون جاسوساً للمسلمين، وأوضح من هذا صاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة، والزوجة تشير بصواب، يعني: لو فرض أن إنساناً متزوجاً من كافرة كأن تكون نصرانية أو يهودية فبينك وبينها ولد أو أولاد، فأنت تقول: نذهب بالأولاد إلى مدرسة كذا، وهي قالت: لا، بل نذهب بهم إلى مدرسة كذا والسبب كذا وكذا وكذا وكذا، ووجدت أن رأيها صواب، هنا في هذه الحالة لا نقول: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149] فإشارة الزوجة -مع كفرها- لو أشارت بالصواب فالقول قولها، كذلك الخبير والجاسوس، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة.

    1.   

    قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض ...)

    النداء السابع عشر في الآية السادسة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران: قو ل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156].

    هذه الآية أيضاً في سياق الحديث عن غزوة أحد، فإنه لما قتل من المسلمين سبعون عليهم من الله الرضوان، بدأ المنافقون يشككون المسلمين ويحاولون أن يلقوا الندم في قلوبهم ويقولون لهم: لو قعد هؤلاء الذين خرجوا للقتال كما حكى الله عنهم: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا[آل عمران:156].

    هذه الفرية التي يروج لها المنافقون قال الله عز وجل عنها في سورة النساء: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78].

    وهنا في هذه الآية الله عز وجل يقول: يا مؤمنون! لا تتشبهوا بهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، فأنتم مؤمنون، قد أنزل الله عليكم قرآناً، وفي هذا القرآن بيان أن الآجال محدودة، وأن الأنفاس معدودة، وأنه َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولا يموت أحد إلا في الساعة التي عينها رب العالمين جل جلاله لقبض روحه.

    وقوله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ))، فلا تكونوا كالمنافقين، أمثال عبد الله بن أبي وأصحابه الذين قالوا كما قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ ))، فاللام هنا بمعنى عن، أي: عن إخوانهم، والمقصود بالإخوة هنا أخوة النسب، أو اللام لام التعليل أي: لأجل إخوانهم، كما في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[النساء:51]، أي: لأجل الذين كفروا، فقوله تعالى: وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ )) أي في النسب.

    إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ )) أي: خرجوا مسافرين للتجارة أو لغيرها أَوْ كَانُوا غُزًّى )) أي خرجوا للغزو والجهاد في سبيل الله، لو كانوا مقيمين أو باقين عِنْدَنَا )) أي: في الظلال وفي البيوت وحيث هم، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ))، ما ماتوا في السفر، ولا قتلوا في الغزو، قال الله عز وجل: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))، فجعل هذا الاعتقاد الفاسد مسيطراً عليهم ومستبداً بهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم قال تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ))، واللام كما يقول أهل اللغة لام العاقبة، فعاقبتهم الحسرة كما في قوله سبحانه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا[القصص:8] أي لتكون العاقبة الحزن والحسرة في قلوبهم والعداوة.

    فهاهنا أيضاً: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ))، والحسرة الندامة على فراق المحبوب، وهؤلاء المنافقون جلسوا يتحسرون، ويقولون: إخواننا هؤلاء ضيعوا الحزم وما أحسنوا الرأي، ولا أبرموا الأمر، خرجوا للغزو وما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وما زالوا متلهفين على ما فاتهم، وهذا صنيع من لا يؤمن بقضاء الله وقدره.

    قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ )) فالحياة بيده، والموت بيده، فقد يحيي من خرج للغزو مع تعرضه للحتوف، وقد يكون في سفينة مع قوم فيغرقون جميعاً ويسلمه الله عز وجل، وقد يكون الإنسان في مكان يشب فيه حريق أو يهدم بيت على من فيه والله عز وجل ينجي من شاء، وقد يكون إنسان آمناً في سربه، وعلى فراشه، وفي ريعان شبابه، وميعة صباه، واكتمال قوته، ووفرة صحته ثم يختطفه الموت.

    فـخالد بن الوليد رضوان الله عليه البطل المجاهد الذي عقمت النساء أن يلدن مثله والذي قال فيه أبو بكر الصديق : إن أسدكم قد عدى على أسد الفرس فغلبه على خراذيله، أي: قطع اللحم التي بين يديه، ولما بدأ خالد يفتح الفتوح في بلاد فارس، -هذا البطل الأشم والأسد الضرغام رضي الله عنه- تعرض للشهادة مراراً حتى بلغ من حاله أنه في بعض بلاد الروم وجد كيساً فاستخرجه ثم سأل سيد الروم وقال له: ما هذا؟ قال له: إنه لم يكن شيء أبغض إلي من شر أدخله على قومي، وإني قلت: لو كان هؤلاء الناس أهل شر أحتسي هذا السم فأموت، يعني: هيأ هذا السم من أجل أن ينتحر، وهذا صنيع الكفار في كل زمان، فقال خالد رضي الله عنه: باسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم أخذ السم ليتناوله، فأسرع إليه المسلمون ليمنعوه لكنه غلبهم رضي الله عنه وابتلع السم، فقال ملك الروم: والله! إن قوماً فيهم هذا لن يغلبوا، وما حدث لـخالد شيئاً رضي الله عنه، فهذه من كراماته، ثم مات هذا البطل على فراشه، وقال وهو على فراش الموت: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!

    وهذه سنة الله عز وجل، فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد وإن كان تحت ظلال النعيم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) فبصره نافذ لا تخفى عليه خافية، قال أهل التفسير: وهذا تهديد للمؤمنين أن يماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد.

    ونظير هذه الآية قول الله عز وجل: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[آل عمران:168]، وكذلك كان المنافقون يقولون للمؤمنين: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ[التوبة:81]، قال الله عز وجل: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[التوبة:81]، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ[النساء:72]، وقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا[الأحزاب:18]، وهذا حال المنافقين، يثبطون المؤمنين عن القتال قبل أن يقع، ثم إذا وقع وقُتِلَ ناس جرياً على سنة الله عز وجل، كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146]، فهذه سنة الله عز وجل، فهؤلاء يقولون: هؤلاء حمقى مغفلون، سفهاء، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

    وهذه الآية تشير إلى عقيدة لا بد أن تنطوي عليها قلوبنا، وهي الإيمان بقضاء الله وقدره، أنه لا يقع في الكون شيء إلا وقد كتب عند الله، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[الحديد:22]، أي: من قبل أن نخلقها، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ[التغابن:11]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

    فلذلك الإنسان المسلم إذا نزلت به مصيبة فإنه يستسلم لقضاء الله وقدره، فلو أصابه حادث، أو نزل به نقص في المال، أو هلك له ولد أو والد أو زوج فلا يقول: لو فعلت كذا لما حدث كذا، ولو أني ما أتيت من هذا الطريق لما وقع هذا الحادث ونحو ذلك، بل يجب على المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[التوبة:51]، ولذلك ينسب للشافعي رحمه الله أنه صور هذا المعنى فقال:

    تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

    فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

    وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

    من فوائد الآيات السابقة

    هذه الآيات يستفاد منها فوائد:

    الفائدة الأولى: النهي عن التشبه بالكفار والمنافقين، قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا[آل عمران:105].

    الفائدة الثانية: أن دأب المنافقين في كل زمان تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    الفائدة الثالثة: أن الله عز وجل يعاقب الإنسان بعمله ولا يظلم ربك أحداً، فلما قالوا هذه القولة الكاذبة الخاطئة قال الله عز وجل: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ )).

    الفائدة الرابعة: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل، فهو المحيي وهو المميت.

    الفائدة الخامسة: علم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767980320