بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء الثالث والأربعين، في الآية السادسة بعد المائة، قول ربنا تبارك وتعالى في سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ
[المائدة:106].
سبب نزول الآية
أيها الإخوة الكرام! أما سبب نزول هذه الآية فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه: أنها نزلت في تميم بن أوس الداري و بداء بن عدي وكانا رجلين نصرانيين، من نصارى فلسطين أو من نصارى لخم، وكان هذان الرجلان يتجران بين الشام ومكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صارا يتجران بين الشام والمدينة، وفي بعض الرحلات إلى الشام خرج معهما بديل السهمي مولى عمرو بن العاص رضي الله عنه، فلما كان ببعض الطريق اشتكى بديل، يعني: مرض، فكتب وصيته ودسها في متاعه، يعني: كتب في وصيته الأشياء التي يملكها وأخفاها في متاعه وأوصى إلى هذين النصرانيين تميم الداري والآخر، أوصى إليهما بأن يوصلا متاعه إلى أهله في مكة؛ فلما مات فتحا متاعه وأخرجا من هذا المتاع شيئاً ثم حجراه وربطا المتاع كما كان، ثم قدما المدينة على أهله؛ فدفعا متاعه ففتح أهله المتاع فوجدوا كتابه -أي: وصيته وعهده- وما خرج به، وفقدوا هذا الشيء الذي أخذه هذان الرجلان، فسألوهما. فقالوا: هذا الذي قبضنا - أي: هذا الشيء الذي أعطانا إياه - فقالوا لهما: هذا كتابه بيده. فقالوا: هذا الذي قبضنا وهذا الذي دفع إلينا، وما كتمنا شيئاً، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، ولأنه ليس بعد الكفر ذنب حلفا بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا إلا هذا وما كتمنا شيئاً، ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، وبعد حين ظهر معهما إناء من فضة مموه بالذهب وعرضاه للبيع فقال أهله: هذا الشيء الذي فقدناه في متاع بديل السهمي ؛ فقالا: نعم. ولكننا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا. وانظروا كيف اختلف الكلام!
أيها الإخوة: السرقة والغش قديمة في الناس وليست وليدة اليوم، لكن الأساليب تتطور، فهذان حلفا ثم بعد ذلك قالا: نعم. اشتريناه منه ولكن نسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب نفوسنا.
فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية التي بعدها:
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ
[المائدة:107]، ثم إن تميماً أسلم وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء مع صاحبي، وكأنه يقول: هذه الآية تنطبق علينا تماماً، الإناء أنا أخذته مع عدي بن بداء .
إطلاقات الشهادة في القرآن الكريم
معنى قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان)
أقوال المفسرين في قوله: (آخران من غيركم)
تذكر مصيبة الموت
كيفية شهادة الكافر على وصية الموت
دلالة جواز إشهاد الكافر في الوصية
أيها الإخوة الكرام! هذه الآية المباركة الحكم بها يتعلق بحالة ضرورة، وهذه الآية دليل على أن الشريعة قائمة على المرونة واليسر ورفع الحرج عن الناس، ومواجهة كل حالة بما يناسبها من أحكام.
والأصل أن الشهادة لا تقبل إلا من المسلم؛ بل ليس من كل مسلم، بل من المسلم العدل؛ فلو كان فاسقاً فلا تقبل شهادته، ومن باب أولى القضاء؛ فإنه لا يصح قضاء الكافر. وعندنا وظائف أربع شرط فيها الإسلام:
الوظيفة الأولى: الإمامة، وهي رئاسة الدولة.
الوظيفة الثانية: القضاء؛ فلا بد أن يقوم على القضاء بين الناس مسلم.
الوظيفة الثالثة: قيادة الجيش؛ لأن الجيش المسلم جيش عبادي، جيش جهادي فلا يصح أن يتولى القيادة فيه كافر.
الوظيفة الرابعة: أمر الزكاة، جباية وصرفاً، ومن باب أولى الوظائف التي طبيعتها دينية محضة كالإمامة والأذان والحسبة.. وما أشبه ذلك.
لكن قد يكون هناك حالة ضرورة كإنسان في سفر لم يجد مسلماً يشهده على وصيته، فهنا أباح ربنا جل جلاله أن يشهد رجلين من غير أهل الإسلام على وصيته بالشرط الذي ذكره ربنا جل جلاله.
نستفيد من الآية فوائد:
منها: مشروعية الشهادة حفظاً للحقوق ودفعاً للريبة.
ومن فوائد الآية: مشروعية الوصية خاصة عند حضور علامات الموت وأماراته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يوصي فيه إلا ووصيته عند رأسه )؛ فمن لم يكن قد كتب وصيته فليرجع ويكتب وصيته.
ومن فوائد الآية: وجوب الإشهاد على الوصية، إذ لا بد من أن تشهد على الوصية اثنين.
ومن فوائد الآية: أن شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية.
ومن فوائد الآية: وجوب أن يكون الشاهدان عدلين مسلمين عند وجودهما.
ومن فوائد الآية: علو مرتبة المسلم على الكافر، فلو شهد على هذه الوصية مسلمان فلا يشترط أن نحبسهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله.
ومن فوائد الآية: جواز تسمية الموت بالمصيبة، كأن يقول إنسان: أصابتني مصيبة، وهي موت فلان؛ فلا حرج في ذلك.
ومن فوائد الآية: أن هذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق، وهذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان.
أيها الإخوة! اليمين تغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان وتغلظ باللفظ. والآن اخترعوا شيئاً جديداً للتغليظ وهو الحلف في القرآن بحيث يوضع المصحف ويضع الشخص عليه يده، وهذا كله من باب التخويف.
فتغليظ الزمان: أن يقسم في زمان له حرمة.
وتغليظ المكان: أن يقسم في مكان له حرمة يعظمه، إذا كان في مكة بين الركن والمقام، وإن كان في المدينة بين البيت والمنبر، وإن كان في أي بلد من بلاد الله في المسجد الجامع، وإذا كان المقسم كافراً فإنه يقسم في المكان الذي يعظمه هو. هذا تغليظ بالمكان.
وتغليظ اللفظ: لو قال: أقسم بالله فإن هذا كافٍ؛ لكن قد يخوف بأن تغلظ عليه اليمين بحيث يقول: أقسم بالله العلي العظيم القادر على أن يفعل بي كذا وكذا، ويلقن ذلك القسم من أجل أن يرعوي ويتقي الله.
أيها الإخوة! هذه الآية بمعرفة سبب نزولها يتبين منها أن الإنسان إذا خان -نسأل الله العافية- فإنه يفضح في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الخيانة مصيرها إلى فضيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا دين لمن لا عهد له، ولا إيمان لمن لا أمانة له ).
أسأل الله أن يجعلنا من المتعظين المعتبرين المنتفعين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.