بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
ومع النداء الثامن والأربعين في الآية التاسعة والعشرين من سورة الأنفال، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
هذه الآية المباركة فيها مفردات تحتاج إلى بيان:
قوله سبحانه: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:29]، التقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية؛ وذلك بفعل المأمور واجتناب المحذور والصبر على المقدور.
قوله تعالى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29]، الفرقان: مصدر كالشكران والكفران والغفران والبهتان، وهو ما يفرق به بين شيئين متشابهين لا يستطيع المرء التمييز بينهما، يقول الله عز وجل: من يتقي الله فإنه سبحانه يهبه فرقاناً يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الحق والباطل.
لقب القرآن الفرقان؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل كما قال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].
قال ابن جرير رحمه الله: والمعنى والله أعلم: يجعل لكم نوراً في بصائركم تفرقون به بين الحق والباطل، والنافع والضار، والصالح والفاسد.
قال في (المنار): والتنكير للفرقان للتنويع، فرقاناً في كل شيء، فرقاناً في الفتن، فرقاناً في السياسة، فرقاناً في الرياسة، فرقاناً في الحلال والحرام، فرقاناً في العدل والظلم؛ فمن اتقى الله جعل له فرقاناً في كل شيء.
قوله تعالى: وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29]، التكفير بمعنى: الستر، ومنه سمي الكافر كافراً؛ لأنه ستر الفطرة التي فطر الله عليها، فيكون المعنى: يسترها حتى تكون غير ظاهرة.
قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29]، أي: يغفر لكم ما اقترفتم من الذنوب.
وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29]، أي: الصغائر. وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29] أي: الكبائر.
وقال بعضهم: بل المراد يغفر لهم ما تقدم وما تأخر.
قوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]، هو سبحانه المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
ينادينا ربنا بوصف الإيمان فيقول: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إن اتقيتم الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة أماناتكم فإن الله عز وجل يكرمكم بحصول أربعة أشياء:
أولها: يجعل لكم فصلاً وفرقاناً بين حقكم وبين باطل عدوكم ومن يبغيكم بالسوء؛ بنصره إياكم عليهم وإعطائكم الظفر بهم؛ ولذلك سمي يوم بدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وهذه الآية كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
ثانيها: (يكفر عنكم سيئاتكم)، ويمحو عنكم ما سلف من الذنوب التي بينكم وبينه جل جلاله.
ثالثها: (يغفر لكم) أي: يغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها.
رابعها: يعاملكم بفضله جل جلاله ولا يعاملكم بعدله فقط، وهذا الفضل منه مستلزم للأجر العظيم والثواب الجزيل؛ لأنه سبحانه هو الموفق عبده لطاعته حتى استحق من ربه الجزاء.
هذه الآية المباركة فيها بيان بعض ثمرات التقوى، وفي آيات أخرى بين ربنا سبحانه أن المتقي يجعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، يجعل له من أمره يسراً، يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، وبين ربنا أنه يحب المتقين، وأنه ولي المتقين، وأن المتقين هم أهل الكرامة عنده: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فالعاقل من عباد الله هو الذي يعمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، ويترك معصية الله على نور من الله خوفاً من عقاب الله.
يستفاد من هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: أن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل؛ ولذلك فإن أتقى هذه الأمة وأنقاها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتبه الأمر على الصحابة، بعضهم قال: والله ما مات رسول الله، وبعضهم بقي ذاهلاً؛ لكن أبا بكر رضي الله عنه كان كالجبل الشامخ، كالطود العظيم، ما تحير ولا تردد بل قام فيهم قائلاً: (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات)، جعل الله له فرقاناً.
ثم لما ارتد المرتدون واشتبه الأمر على بعض الصحابة صدع أبو بكر رضي الله عنه بالحق وآتاه الله فرقاناً فقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة). وهكذا في سائر المواقف.
وبعد أبي بكر عمر ، ثم من بعدهم من الصحابة رضوان الله عليهم، هؤلاء الذين اتقوا الله فجعل الله لهم فرقاناً ونصرهم ونجاهم وجعل لهم مخرجاً من كل هم وقعوا فيه.
الفائدة الثانية: حسن عاقبة التقوى والمآل الطيب لأهلها، التقوى لا تؤدي إلا إلى خير ولا تقود إلا إلى بر وفضل.
الفائدة الثالثة: الوعد من الله بالنصر والتمكين لمن استقام على تقواه.
نسأل الله أن يجعلنا للمتقين إماماً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر