بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا[يس:33]، هذه الآية نبه الله عز وجل عليها في مواضع من القرآن كما في قوله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً[فصلت:39]، أي: ساكنة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ[فصلت:39]، أي: زادت، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]، وكذلك في أوائل سورة الحج حيث قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7]، أي: يا من تشك في القيامة! يا من تنكر البعث والنشور! جعل الله عز وجل لك آية في هذه الأرض التي تكون قاحلة صفراء، ليس فيها زرع ولا حياة ولا نبات، حيث ينزل من السماء مطراً لهذه الأرض التي كانت صفراء؛ فإذا هي تهتز خضراء، وإذا الأرض التي كانت ميتة قد دبت فيها الحياة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى[فصلت:39].
وأيضاً لما أمرنا ربنا بعبادته في سورة البقرة في أول نداء حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ[البقرة:22]، أي: الذي فعل ذلك جل جلاله هو المستحق للعبادة، وهذا المعنى يتكرر في القرآن مراراً؛ ولذلك ربنا يقول هنا: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]، أخرجنا منها قمحاً وذرة وشعيراً.. وغير ذلك من أنواع الحبوب، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ[الأنعام:95]، (يخرج الحي)، أي: هذا النبات، (من الميت)، أي: من هذه الأرض الميتة، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ[الأنعام:95]، قال بعض المفسرين: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، أو البيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة، أو لربما تموت المرأة فيخرجون من بطنها جنيناً حياً.. إلى غير ذلك من الأقوال.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ[يس:34]، الجنات: جمع جنة، وتصغيرها جنينة، وهو البستان الذي فيه ألوان من الزروع والثمار.
وقوله: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ[يس:34]، معلوم أن الجنات فيها نخيل وأعناب وفيها غير ذلك من الثمرات؛ لكن لماذا يخص الله النخيل والأعناب بالذكر دائماً في القرآن؟
الجواب: قالوا: لأنهما أنفع الثمار وأغناهما، والله يقول: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ[يس:34]، ولم يقل: من تمر وأعناب؛ لأن النخل كله نافع، وليس النافع فقط مجرد الثمرة، وإنما النخل ينفع في ثمره وينفع في جذعه وينفع في جريده وينفع في لحافه وينفع في طلعه.. فكله نافع، وكله يستفاد منه، والتمر كما لا يخفى عليكم يصلح قوتاً وفاكهة، يعني: يصلح أن يتخذه الإنسان قوتاً يستغني به عن غيره؛ ولذلك في الحديث: ( بيت ليس فيه تمر أهله فقراء وإن كانوا أغنياء، وبيت فيه تمر أهله أغنياء وإن كانوا فقراء )، فإذا كان في بيتك تمر فلا تتحير، متى ما جعت أخذت منه قبضة دون أن تحتاج إلى غسله ولا إلى طبخه ولا إلى ذبح ولا سلخ ولا شيء.. وإنما مباشرة تأكل منه، فيشبعك بعد جوع ويقويك بعد ضعف؛ ولذلك كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صام أنه يفطر على رطبات وتراً؛ فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء، قالوا: وهو أنفع شيء للمرأة في نفاسها؛ ولذلك قال ربنا جل جلاله لـمريم البتول: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً[مريم:25-26]؛ إذاً: خص الله عز وجل هذين النوعين بالذكر نفعهما.
وقوله تعالى: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ [يس:34]، فجرنا في تلك الجنات، وفي تلك الأرض من عيون الماء، والعيون أصلها من ماء السماء، كما قال ربنا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21].
قال الله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35] يعني: إذا تلوت قل: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ[يس:35]، وَمَا عَمِلَتْهُ)) هكذا، بمعنى أنك تنفي أن يكون هذا من عمل بني آدم، كما قال ربنا: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64] الزارع حقيقة هو الله جل جلاله، وإلا لو أمسك الله من السماء ماءها، ولو أن الله عز وجل بعدما حرثت يا ابن آدم، وبعدما بذرت، وبعدما سقيت، سلط على ذلك الزرع آفة لهلك زرعك. كما قال ربنا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]، فالفاعل حقيقة والمنعم هو الله جل جلاله، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ[النحل:10]، أي: تشربون منه، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل:10]، أي: ترعون أنعامكم هذه السائمة التي لا تتكلفون طعامها، ولا تشترون غذاءها وإنما تسوم، أي: تأكل من هذا الزرع الذي أنبته الله جل جلاله.
ولذلك سأل الله هذا السؤال: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ [الواقعة:63-65]؛ فالله جل جلاله قادر على أن يسلط على ذلك الزرع دابة أو آفة أو جائحة تجعله هشيماً، لا تنتفعون منه بشيء؛ ولذلك قال سبحانه: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ[يس:35]، أبداً ليس من صنع أيديهم، وهذا الذي رجحه الإمام أبو جعفر الطبري شيخ المفسرين رحمه الله، وذكر غيره احتمالاً آخر في قول ربنا جل جلاله: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ[يس:35]، قال: (ما) هنا موصولة، بمعنى: ليأكلوا من ثمره والذي عملته أيديهم، كالدهن الذي يستخلص من الزيتون ومن السمسم وغير ذلك مما تدخله صنعة وتصرف الآدمي، ليأكلوا من ثمره الذي أخرجه الله لهم وما عملته أيديهم.
وقوله تعالى: مِنْ ثَمَرِهِ[يس:35]، قرئت: (من ثمره). بضم الثاء والميم، على أنها جمع ثمار، كحمر جمع حمار، وقرأ أكثرهم: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ[يس:35]، على أنها (ثمر) جمع ثمرة، كبقر جمع بقرة.
وقوله تعالى: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ [يس:34]، قرأ حمزة و الكسائي و شعبة و ابن ذكوان بكسر العين، من العيون؛ لمناسبتها للياء، من العيون، وقرأ الباقون بالضم على الأصل: الْعُيُونِ [يس:34]، وكلاهما قراءة سبعية متواترة.
ثم سأل هذا السؤال: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]، يا من تعيش تحت سماء ربنا وفوق أرض ربنا، وتأكل من زرع ربنا وتشرب من ماء ربنا! ألا يستحق هذا الرب العظيم جل جلاله شكرك؟! قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )، وقال الله جل جلاله: فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً [عبس:24-26]، ثم ذكر سبعة أنواع يحتاج إليها الآدمي، فقال: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً[عبس:27-31]، هذه السبعة لك، أنت أيها الآدمي، ثم: وَأَبّاً [عبس:31]، الأب: الحشائش التي تأكلها البهائم والأنعام؛ ولذلك في خواتيم هذه السورة، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73]، يتكرر السؤال؛ ولذلك كان من هدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا طعم طعاماً كان يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا )، (غير مكفي) أي: ما نستطيع أن نكافئه حمداً، جل جلاله، (ولا مودع) أي: غير متروك سبحانه وتعالى، (ولا مستغنى عنه ربنا) أي: لو أنك ملكت من الأموال آلاف الملايين ثم بعد ذلك ما وجدت طعاماً تأكله، هل يغني عنك المال شيئاً؟!
ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، وهي من العلامات العشر التي في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ( لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر علامات: الدابة، والدجال ، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول المسيح بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى المحشر )، فإذا قتل المسيح بن مريم الدجال، وبدأ يهنئ عباد الله المؤمنين ويبشرهم بقتل الدجال، يوحي الله إليه بأني ( قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور )، أي: قد خرج أناس لن تستطيع أنت ولا غيرك قتالهم، كل ما عليك أن تفعله أن تأخذ المؤمنين الطيبين وتصعد بهم إلى جبل الطور، هؤلاء العباد هم يأجوج ومأجوج، كما قال ربنا: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، وكما قال الله: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً [الكهف:98]، أي: ينهد السد الذي بناه ذو القرنين ويخرج يأجوج ومأجوج على الناس، لا يتركون شيئاً رطباً إلا أكلوه ولا يابساً إلا أتلفوه.
والمسيح عليه السلام ومن معه سيكونون فوق الطور، يقول عليه الصلاة والسلام: ( ويصيبهم من الجهد والبلاء ما يصيبهم، حتى يكون رأس الثور أحب إلى أحدهم من مائة دينار ذهباً )، والآن لو عرض عليك رأس خروف أو مائة دولار أمريكي، أيهما تختار؟!
الجواب: الكل سيختار المائة الدولار، ولا أحد يقول: أريد رأس الخروف.
لكن لو نزل الجوع -عافانا الله وإياكم والمسلمين- وعاين الإنسان الموت بعدما أصابه من البلاء ما أصابه، لو قيل له: هذه أموال الدنيا وهذه قبضة من تمر، أيهما تختار؟ سيقول: قبضة التمر؛ لأنه في ذلك الوقت حاجته إلى الطعام ليس إلا؛ ولذلك ربنا جل جلاله دائماً في القرآن يعبر بالأكل حيث يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ[النساء:2]، ويقول أيضاً: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[البقرة:188]، ويقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً[النساء:10]، ومعلوم أن المال ينتفع به في الأكل وينتفع به في وجوه أخرى، فالإنسان يلبس بالمال وينكح ويسافر ويرجع ويتجر ويبيع ويشتري بالمال؛ لكن لما كان الأكل هو أول وجوه الانتفاع يذكره الله عز وجل دائماً، وكأنه ينبه به على غيره.
قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا[يس:36]، هنا جل جلاله ينزه نفسه عن الشريك والمثيل والنظير والظهير والند والشبيه، مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ [يس:36]، النبات فيه زوج، ذكر وأنثى، والإنسان من أنفسهم ذكر وأنثى، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]، أي: مما خلقه الله عز وجل أيضاً ذكر وأنثى نحن لا نعلمها، كما قال في آية أخرى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ[الذاريات:49]، فالكون كله قائم على سنة التزاوج، ليس هناك وتر إلا الله جل جلاله، ( إن الله وتر يحب الوتر )، جل جلاله، وأما الكون كله فقائم على الزوجية والتزاوج؛ ولذلك من قدرة ربنا جل جلاله أن النبات أرضه واحدة: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ[الرعد:4]، لكن قال: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ[الرعد:4].
ومن قدرة ربنا أن الناس يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة، وفاوت الله بينهم خلقاً وخلقاً، فليست خلقتهم واحدة؛ بل هذا طويل وهذا قصير، وهذا أحمر وهذا أسود، وهذا حليم وهذا غضوب، وهذا كريم وهذا بخيل، وهذا شجاع وهذا جبان، فالله عز وجل فاوت بين المخلوقات في خلقتها وفي خلقها، وهذا دليل على كمال قدرته جل جلاله.
أيها الإخوة الكرام! الآية في إخراج النبات من الأرض التي كانت ميتة دليل على أن الله قادر على أن يحيي الإنسان بعد موته، وهو الدليل الأول، وهاك دليلان آخران:
الأول: خلقه أولاً، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[الروم:27]، وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى[الواقعة:62]، وفي خواتيم السورة قال سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:78-79]، وقال سبحانه: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً [مريم:66-67]، الدليل الأول على أن الله عز وجل قادر على أن يحيي الإنسان بعد موته، فمتى ما حصل شك أو وسوسة فانظر في هذه الأرض القاحلة كيف أن الله عز وجل ينزل عليها الماء فيحييها، كذلك يوم القيامة نحن في قبورنا قد بليت أجسادنا وذابت عظامنا وفنيت ذواتنا، وما بقي إلا جزء يسير يقال له: العصعص، عجب الذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ).
ينفخ إسرافيل النفخة الأولى، وهي نفخة الصعق، فيموت من كان حياً، ثم ينفخ إسرافيل عليه السلام النفخة الثانية وهي نفخة البعث؛ قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وكم بين النفختين؟ قال عليه الصلاة والسلام: ( أربعون )، ولم يميز، هل أربعون يوماً أو شهراً أو سنة. الله أعلم.
ثم إن الله عز وجل ينزل من السماء مطراً كالطل، أي: كالندى، ليس مطراً غزيراً مغرقاً، وإنما مطراً خفيفاً يسيراً ينبت الناس في قبورهم؛ قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ[الأنبياء:104]، يعيدنا من هذا العصعص، فينبت الناس ثم ينادي مناد: أيتها الأجساد الخاوية! أيتها العظام النخرة! أيتها الأرواح المتفرقة! قوموا إلى ميقات رب العالمين، فيخرج الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويساقون إلى أرض المحشر لملاقاة رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان )، كل واحد منا سينادى باسمه: يا فلان بن فلان! ولذلك يوم القيامة يسمى: يوم التناد لكثرة النداءات، ينادى كل واحد منا باسمه واسم أبيه، ويمثل بين يدي الله عز وجل.
أما الكافر: فوا فضيحتاه! وأما المنافق: فوا حسرتاه! وأما الفاجر: فوا سوأتاه! ( وأما المؤمن الطيب -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- فإن الله عز وجل يدني عليه كنفه ويرخي عليه ستره، ثم يقرره بذنوبه، حتى إذا أنه قد هلك يقول الله عز وجل له: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك )، ففي الدنيا سترها الله، ويوم القيامة يغفرها جل جلاله بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
هذا يعتبر الدليل الثاني على أن الله عز وجل قادر على أن يحيينا؛ فمتى ما شك الإنسان يتذكر النشأة الأولى، ومتى ما شك الإنسان فإنه يتذكر إحياء الأرض بعد موتها.
الدليل الثالث: خلق السموات والأرض، قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ[غافر:57]، يعني: أنت مسكين! وزنك خمسين كيلو.. مائة كيلو، طولك مائة وخمسين سم، أو طولك متران مثلاً، المهم: أنت محدود في وزنك محدود في ارتفاعك، وفي حجمك وفي مساحتك، انظر إلى هذه السموات الشاسعة الفسيحة، التي لا تستطيع أن تدركها ببصرك، وأن تحدد قطرها وطولها وعرضها ومبدأها ومنتهاها، وليست سماء واحدة وإنما هي سبع سموات ومن الأرض مثلهن، الذي خلق هذا الشيء العظيم قادر على أن يعيدك مرة ثانية؛ ولذلك يجب عليك أن توقن أنك ملاق الله؛ قال الله عز وجل: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ[البقرة:45-46]، يظنون بمعنى: يوقنون، ليس الظن معناه إدراك الطرف الراجح، وإنما يقين؛ ولذلك يوم القيامة من أخذ كتابه بيمينه فرح وقال: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ[الحاقة:19-20]، بمعنى: أيقنت، أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20].
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر