الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، ولم يترك شيئاً مما أمر به إلا بلغه، فتح الله به أعيناً عمياً وأذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة، وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ( وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ): إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون عباد الله! هذه آخر جمعة في رمضان، أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يعيد علينا رمضان أزمنة عديدة وأعواماً مديدة، في حياة سعيدة، وأن يختم لنا شهر رمضان بالمغفرة والرضوان، والعتق من النيران، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أيها المسلمون عباد الله! كم كان الواحد منا يتوق إلى حديث في ختام الشهر، يتناول رقائق القلوب التي تذهب غائلة النفوس وأمراضها، ولكن رياحاً سوداً وعواصف هوجاء تحيط ببلادنا في هذه الأيام، تحمل المرء حملاً على أن يتناول حديثاً هو أشبه بالسياسة، حديثاً يتجنبه الإنسان في رمضان؛ لأن رمضان شهر للتوبة، شهر للإنابة، شهر للرقائق، شهر لتقريب الناس من رب الناس جل جلاله، وحثهم على فعل الخيرات، وترك المنكرات، والمسارعة إلى الطاعات، ولكن هيهات هيهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هناك أنباء تذاع هنا وهناك، ومقالات تدبج في صحف وتسود بها أوراق، بل تصريحات تصدر من بعض الناس ممن تسنموا مواقع المسئولية والقرار، يدعون فيها إلى تغيير القوانين ذات الصبغة الدينية، ويحددونها بأربعة كما ذكروها، يدعون فيها إلى ترويج المنكر، وإتاحة الباطل، زعماً بأن هذا يؤدي إلى استبقاء البلاد موحدة، وأنه يدفع عنها خطر التقسيم، وأخطر ما هنالك دعوة تصدر من بعض الناس إلى جعل منصب الرئاسة متداولاً، بمعنى بأنه يتولاه مرة مسلم من أهل الشمال، ومرة يتولاه نصراني من أهل الجنوب، تحت دعوى أسس جديدة للوحدة الوطنية، هكذا قالوا.
وهاهنا أيها المسلمون عباد الله! لا بد أن نستعرض تاريخاً قريباً يعرفه الناس جميعاً، بأن هذه الدولة التي قامت منذ عشرين سنة أو تزيد، إنما أسست مشروعيتها على التنادي بالإسلام، والرجوع إلى شريعة الإسلام، والدعوة إلى التحاكم إلى ما أنزل الله عز وجل.
قامت هذه الدولة من يومها الأول تدعو إلى الاستنارة بهدي القرآن، واتباع تعاليم الإسلام، ورأى الناس من قادتها تنادياً إلى الجهاد ودعوة إليه، كلما دهمت البلاد داهية فتدافع الشيوخ والشباب والأساتذة والطلاب، وقدموا أرواحهم ودماءهم طيبة بذلك نفوسهم، من أجل هذه الدعوة التي رفع شعارها.
كم من مسئول قدم نفسه أو ولده طيبة بذلك نفسه في سبيل هذا الشعار، بل كم من أم دفعت بولدها دفعاً إلى أتون المعارك طيبة بذلك نفسها، ثم إذا جاءها خبر استشهاده تلقت ذلك بالتكبير والتهليل، هذا تاريخ ليس بالبعيد، كل الناس قد شهده وحضره، ويذكر تلك الأيام.
كانت حركة التمرد الصليبية الشعوبية المدعومة من أمم الكفر في المشارق والمغارب، كانت تجمع لها التبرعات في الكنائس، وتدعم في المحافل الدولية، بل كان بعض ذوي القربى في بلاد العرب والمسلمين يمدونها بالمال والخبرات والسلاح، ويدفعونها دفعاً إلى مواصلة القتال، عانت هذه البلاد وعانى أهلها ما عانوا، من مؤامرات الأعداء تارة تغزى وتارة تقصف، وطوراً تحاصر وتتهم، هذا كله قد حصل، دعمت حركة التمرد بما لم تدعم به حركة مثلها، لكن أولئك الأخيار الأبرار الذين تدافعوا لساحات الوغى وميادين الجهاد، تفتتت على إرادتهم كل مؤامرات الأعداء: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25].
لما يئس أعداء الله من أن يحققوا انتصاراً في الميدان، وأن يسقطوا هذه الدولة وفق ما اشتهت نفوسهم، وأملت عليهم شياطينهم، وأزتهم على ذلك أزاً، لجاءوا إلى سلاح المفاوضات، بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، ومنوا أهل الحكم عندنا بأنهم إذا وقعوا تلك الاتفاقية فإن عقوبات اقتصادية سترفع، وسيمحى اسم السودان من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، وسيعاد إلى منظومة المجتمع الدولي، إلى غير ذلك من الأماني التي كانت كما قال ربنا: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].
ما مضى إلا زمن يسير حتى أدرك الناس أن تلك الوعود: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18]، كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39]، ما كانت تلك الوعود إلا ترهات وأباطيل.
وقعت اتفاقية السلام، وجاء قائد التمرد الصليبي إلى هذه البلاد، ودخلها دخول الفاتحين، وتهللت تلك الوجوه الكالحة التي طالما اشمأزت من ذكر الله، وكانت للإسلام كارهة، ولأحكامه شانئة، تهللت تلك الوجوه وقد منوا أنفسهم بردة سريعة ترجع بالناس إلى عهود التيه والظلام، حيث كان الخمر مبذولاً، والزنا متاحاً، وسب الدين يسمع جهاراً نهاراً من غير نكير، منوا أنفسهم بأن يرجعوا إلى تلك الأيام السوداء، ولكن كان الحال كما قال ربنا: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:50-53].
ظهرت كرامة أولئك الشهداء الأخيار الأبرار، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ما ضيع الله جهادهم سدى، فأخذ الخبيث أخذ عزيز مقتدر، بعدما منى نفسه بأنه سيحكم البلاد والعباد، بعدما هيأ نفسه سنين عدداً، فسفك الدماء، وأزهق الأرواح، وشن الحرب، ومد بحبل من الناس، من أجل تحقيق تلك الغاية، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر في لمح البصر، وهو سبحانه وتعالى فعال لما يريد.
أيها المسلمون عباد الله! وقعت اتفاقية السلام التي ما كانت خيراً محضاً، ولا خيراً راجحاً، بل عارضها في حينه العلماء وبعض الساسة، وناس من أهل الحل والعقد، وكشفوا عيوبها، وبينوا عوارها، لكنهم بعد ذلك سكتوا على مضض؛ لأن وعود بذلت بأن أبواب الدعوة ستفتح في الجنوب، وأن الميزانيات سترصد لذلك، وأن ضمانات ستكون لإخواننا المسلمين في الجنوب، لكن هذا كله ما كان، غلقت المؤسسات الإسلامية في الجنوب: كديوان الزكاة، وجامعة القرآن، والبنوك الإسلامية، بل غلقت بعض المساجد، وحظر الحجاب، وضيق على المسلمين، وقتل بعضهم، وأحرق بعضهم جهاراً نهاراً تحت سمع الدنيا وبصرها، هذا كله قد حصل في الجنوب.
ومن اليوم الأول الذي وطئت فيه أقدام هؤلاء الصليبيين العنصريين أرض هذه البلاد، من يومهم الأول ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله، يمتنون العلاقات، ويقوون الأواصر مع كل عدو لهذه البلاد، وتبدو من أفواههم ما تكنه صدورهم، بل منذ أن عقدت لجنة الدستور كانت أولى البوائق التي جاءوا بها أنهم اعترضوا على البسملة وهي كلمة بسم الله الرحمن الرحيم، مع أن الذين روجوا لتلك الاتفاقية كانوا يقولون: بأن أعظم المكاسب وأهمها إقرار الشريعة في الشمال، أن يحكم شمال السودان ووسطه وشرقه وغربه، أن يحكم السودان ما عدا الجنوب بشريعة الإسلام، بقانون رب العالمين، هكذا قيل، لكن لما كتب الدستور كان الاعتراض على البسملة من اليوم الأول.
يا أيها المسلمون! يا عباد الله! دعوات تروج في هذه الأيام، بل في يومنا هذا تنشر الصحف بأن رئيس مفوضية حقوق غير المسلمين وهو ليس بمسلم، قدم إلى رئاسة الجمهورية جملة من التعديلات على القوانين السارية في الخرطوم من أجل أن تكون عاصمة جاذبة هكذا قال.
وأعلن قادة الحركة العنصرية الشعوبية: أنهم يطالبون بالمزيد.
وهاهنا سؤال لا بد أن يوجه لأهل الحكم عندنا:
يا أيها الناس! أترون تلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب، كانت من أجل أشخاصكم أو من أجل تنمية كما تقولون؟
أكانت تلك الأرواح الزاكية التي صعدت إلى ربها من أجل شوارع تعبد، أو طرق ترصف، أو سدود تنشأ، أو جسور تشاد؟ اللهم لا، لا هذا ولا ذاك، والله ما جاهد الناس في الله حق جهاده، ولا قدموا أرواحهم طيبة بذلك نفوسهم، إلا من أجل أن يروا كلمة الله هي العليا، ما قدموا أرواحهم إلا من أجل أن يأتي على الناس يوم تسود فيه شريعة الإسلام، يحل الحلال ويحرم الحرام، ويؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
يا أهل الحكم، ويا قادة هذه البلاد! اعلموا أن مشروعيتكم من تبنيكم لشريعة الإسلام، من حماسكم لقضايا المسلمين في المشارق والمغارب، إننا أيها المسلمون عباد الله! نظن خيراً في رئيس الجمهورية؛ لما رأينا منه من حرص على مكارم الأخلاق، وإقامة للشعائر، وحب للدين وأهله، وسعي في بسط سلطانه، ما زلنا نثق في أن هذا الرئيس الذي انتخب من جماهير هذه الأمة وبويع، ما زلنا نثق في أنه يدافع عن الإسلام، وأنه يعيش من أجله، لكنني أقول له ولغيره: اقرءوا التاريخ قديمه وحديثه، وتأملوا في حال ناس قد مضوا، تنازلوا عن الدين وتنكروا له وأهملوه من أجل الحفاظ على الدنيا:
نرفع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
ذهبت الدنيا والدين.
يا أيها الناس، يا أيها المسلمون! ألا فاعلموا أننا على الوحدة حريصون، وفيها راغبون، ومن أجلها عاملون؛ لأننا نكره أن يتفتت الوطن، نكره أن يقتطع جزء منه، وذلك شعوراً منا بالواجب المنوط بنا نحو إخواننا المسلمين في الجنوب، رغبة في مد جسور التواصل مع غير المسلمين دعوتهم إلى الإسلام، وتواضعاً على القضايا التي يتفق عليها، لا نرغب أبداً في أن يأتي يوم يقتطع فيه جزء من هذه البلاد، أو من غيرها من أرض المسلمين، لكننا مع ذلك لا بد أن نقرر أموراً يجب أن تكون واضحة في الأذهان، في أذهان الحكام والمحكومين، والرعاة والرعية:
أولها: بأن حفظ الدين مقدم على كل شيء، فمن أجله خلقنا، ومن أجله نبقى، ومن أجل الدين تذهب الأنفس والأموال والأعراض، من أجل الدين شرع الجهاد، من أجل الدين تطير الرءوس وتتطاير الأشلاء، دينك دينك، لحمك دمك: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]، حفظ الدين أولى الأولويات وأهم المهمات وأعظم الأمور وآكدها، ومن أجل الدين يضيع كل شيء، ولا يضيع الدين من أجل شيء، هذا ينبغي أن يكون واضحاً.
ثانياً: شريعة الإسلام أيها المسلمون عباد الله! هي الكفيلة بأن تضمن الحقوق للناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، فشريعة الإسلام هي العدل المطلق وهي النور الأبلج وهي الحق المبين، ونحن نقرأ في القرآن: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8]، نقرأ في القرآن: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
ثالثاً: أيها المسلمون عباد الله! إن ظلماً عظيماً وحيفاً مبيناً، بل إن عيباً كبيراً أن تحكم الأغلبية بما تهوى الأقلية، عيب كبير أن تتحكم الأقلية في الأغلبية، لا يوجد هذا في دنيا الناس، حتى في الأمم التي تتشدق بالحريات، وأنها عريقة في ديمقراطيتها، ما زال المسلمون يشكون في كل يوم عنتاً وتضييقاً، تارة بمنع المآذن، وتارة بحضر النقاب، وتارة بإجراءات يقصد بها المسلمون تمييزاً لهم عن غيرهم.
أقول أيها المسلمون عباد الله! هذه الأقلية تريد أن تفرض شروطها على الأغلبية، تريد للأغلبية المسلمة أن تتنكر لدينها، أن تغير معتقدها، أن تقبل بالعلمانية، أن تشطر الحياة بين الله وبين الإنسان، لكن الأغلبية لن ترضى بهذا أبداً، لم؟ لأننا معشر المسلمين نعتقد أن الدين كل لا يتجزأ، وأن الله الذي فرض الصلاة وفرض الصيام هو الذي فرض الحجاب، هو الذي حرم الخمر والميسر، هو الذي أمر بالدعوة إلى الدين، هو الذي أمر بمكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، الدين كل لا يتجزأ، ولا يمكن أن نتنازل عن شيء من الدين لكائن من كان، فضلاً أن يكون هذا المتنازل له ليس إلا مواطناً شأنه شأن غيره، لماذا يريد أن يتحكم في الناس، وأن يفرض عليهم ما لا يرضونه، ولا يقره دينهم.
رابعاً: أيها المسلمون عباد الله! ينبغي أن يعلم ويوقن بهذا أهل السياسة عندنا، والقائمون على مراكز القرار، أن سقف التنازلات لا حدود له، من تنازل عن شيء سيتنازل عن غيره، ويقنع بالدون من كان دوناً، من رضي بأن يتنازل عن شيء من الدين فعما قريب سيتنازل عما سواه، ها هي شوارع الخرطوم يعلم القاصي والداني أنها ملوثة بالكاسيات العاريات خاصة من غير المسلمات، أنهن يسرن كاسيات عاريات، يؤذين الناس بتلك المناظر، يعلم القاصي والداني أن الخمور تصنع من قبلهم وتباع، من غير عقوبة رادعة ولا قرار مانع، يعلم القاصي والداني أن زناً يمارس، وأن بغاءً يشاع، ويشكو القائمون على أمن المجتمع من أن هناك حملات منظمة لترويج المخدرات، لترويج الخمور، لترويج الأفلام الفاضحة، والصور المنكرة بين طلاب الجامعات ذكوراً وإناثاً، ولا يشكون قط أن هناك جهات تدير هذه الأعمال كلها هذا كله حاصل، لكن القوم ما يرضون بذلك، بل يريدون أن يقروه وأن يجعلوه مواداً مكتوبة في القانون.
الكل يعلم بأن المطاعم في رمضان تقدم الطعام للناس جهاراً نهاراً، بزعم أن في البلد من ليس بمسلم، لكن القوم لا يرضون بذلك، بل يريدونه قانوناً مكتوباً.
يا أيها المتنازلون! يا أيها المتراجعون! يا أيها الحالمون! يا من تريدون أن تتنازلوا عن الدين من أجل وحدة متوهمة! ما أدراكم أن تتنازلوا وأن تقروا هذه المنكرات في قوانين ملزمة، ثم بعد ذلك لا تحصل الوحدة، ينفصل الجنوب وتبقى تلك القوانين التي تحرق قلوب المسلمين وتفتت أكبادهم، تبقى عاراً عليكم في الدنيا والآخرة، ما أداركم أن تقروا هذه القوانين اليوم ثم بعد ذلك ينفصل الجنوب، فيأتي المنافقون ودعاة العلمنة، فيقولون: انفصل الجنوب لكن ما زال في الشمال غير المسلمين، ما زال في الشمال المرضى، ما زال في الشمال ذوي الحاجات، إذاً لا بد أن تبقى هذه القوانين كما هي.
هل اطلعتم على الغيب؟ إن هذه التنازلات لا حدود لها.
خامساً: اعلموا أيها المسلمون! أن أهل العلم لا يمانعون في أن تبذل الدنيا من أجل الدين، لا مانع أن تبذل الدنيا من أجل الحفاظ على الدين، فتلك هي المدارة التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تألف الكفار بالمال، بالمتاع بالأنعام، تألفهم ببعض الدعاية، كقوله عليه الصلاة والسلام: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن )، ونحو ذلك، لكن الممنوع المحظور المقبوح المنبوذ أن يبذل الدين من أجل الدنيا، هذا هو الممنوع، وتلك هي المداهنة التي ذم الله أهلها حين قال: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].
يا أهل الحكم! إن رأيتم من المصلحة أن تبذلوا أموالاً أن تبذلوا ثروات فلا مانع من هذا، أما أن تبذلوا الدين فإني أعيذكم بالله من ذلك: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [النحل:92]، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، نعوذ بالله أن نمزق ديننا من أجل أن نرقع دنيانا، نعوذ بالله من أن يضيع الدين من أجل منصب، أو من أجل جاه أو من أجل سلطان، اقرءوا قول الله عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، اقرءوا قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، اقرءوا قول الله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].
يا أيها المسلمون يا عباد الله! إن القلوب التي تخفق بحب الله عز وجل وحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم، إن القلوب التي صامت لله عز وجل في هذا الشهر وقامت لا يمكن أن ترضى أبداً بأن يتنازل عن شيء من دين الله، لا يمكن أن نرضى كمسلمين بأن ينقص الدين ونحن أحياء، لا بد أن يعلم حكامنا هذا الكلام، ولا بد أن ننادي به، ولا بد أن نتنادى إليه، ولا بد أن نعظ عليه، ولا بد أن يذكر بعضنا بعضاً، لئلا يضيع الدين في غمرة انشغال الناس برمضان وبالعيد وبغير ذلك، تمرر قوانين وتحاك مؤامرات، ثم بعد ذلك يستفيق الناس على واقع مؤلم فيندمون حيث لا ينفع الندم.
وأخيراً: نرفع أكف الضراعة لله، ونحن صائمون، وفي يوم الجمعة، وفي ساعة الإجابة ندعو الله عز وجل فنقول: اللهم أهلك من في هلاكه صلاح المسلمين، اللهم أهلك من في هلاكه صلاح المسلمين، اللهم أهلك من في هلاكه صلاح المسلمين، اللهم من أراد أن يضيع ديننا ويبدل شريعتنا فخذه أخذ عزيز مقتدر، واقبضه قبضة مهيمن متكبر، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين؛ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله! اختموا رمضان بتوبة لله عز وجل، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، لو أنا رجعنا إلى الله رجوعاً صادقاً، وتبنا إلى الله توبة نصوحاً، وتحللنا من المظالم كبيرها وصغيرها، فإن الله عز وجل قادر على أن يغير ما بنا، قادر على أن يبدلنا بعد الذل عزاً، وبعد الخوف أمناً، وبعد الفرقة اجتماعاً ووحدة.
أيها المسلمون عباد الله! ما زال في الشهر بقية وهذه ليالٍ فاضلة، لا تنشغلوا بالدعاء لأنفسكم عما يحاك لدينكم، لا تنشغلوا بقضاياكم عما يراد بأمتكم، بل الجئوا إلى الله عز وجل، واضرعوا إليه بأن يعز الإسلام والمسلمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم من أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بخير فأجر الخير على يديه، ومن أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بسوء، فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدميره في تدبيره، وأهلكه كما أهلكت عاداً وثمود، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم من مكر بنا فامكر به، ومن كاد لنا فكد له، ومن أراد بديننا وبإسلامنا شراً وسوءًا فأرنا فيه عجائب قدرتك يا جبار يا منتقم، اللهم إنا نستنصرك فانصرنا، ونستغيث بك فأغثنا، وندعوك فلا تردنا على أعقابنا، اللهم استجب دعاءنا، وحقق رجاءنا، واجعل هذه الأكف التي ارتفعت إليك مقبولة عندك يا رب العالمين، وخذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر