الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، ولم يترك شيئاً مما أمره به إلا بلغه، فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله! فإن رمضان هو شهر الجود والإحسان، شهر تفطير الصائمين وإطعام الطعام، شهر إدخال السرور على المسلمين وتنفيس كروبهم، وقد بين ربنا جل جلاله في كتابه الكريم أن الصدقة من خصال المتقين أهل الإيمان، الذين وعدهم الله عز وجل بفسيح الجنان، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:15-19]، وبشر ربنا جل جلاله المنفقين المتصدقين بالخلف فقال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
أيها المسلمون عباد الله! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الصيام والصدقة، فقد ثبت من حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، فقرن صلوات ربي وسلامه عليه بين الصيام والصدقة؛ لأن كلاً منهما دليل على إيمان صاحبه، دليل على أنه عبد لله حقاً، فالصائم الذي ابتلاه الله عز وجل بالكف عما يحب من الطعام والشراب والشهوة، والمتصدق الذي ابتلاه الله عز وجل ببذل ما يحب كلاهما استجاب أمر الله عز وجل، ومن جمع بين الخصلتين فكان صائماً متصدقاً فقد أتى الخير من أبوابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن للجنة أبواباً، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهادـ، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! فهل أحد يدعى من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ).
أيها المسلمون عباد الله! قال علماؤنا: الصدقة في حال الحاجة والمسغبة والضيق أفضل من الجهاد، فإذا نزلت بالمسلمين حاجة، وأحاطت بهم مجاعة فالصدقة أفضل من الجهاد.
والصدقة أفضل من الحج؛ لأن الحج عبادة نفعها قاصر، والصدقة نفعها يتعدى إلى الغير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة فعفا إلا زاده الله بها عزاً، وما فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ).
يا أيها المسلم! يا من تجمع المال إلى المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول ابن آدم: مالي مالي وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا: يا رسول الله! ما منا واحد إلا وماله أحب إليه، قال عليه الصلاة والسلام: فإن مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أبقيت)، وقال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله تعالى ليقبل صدقة أحدكم بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه حتى تكون كالجبل أو أعظم )، هذه الصدقة اليسيرة القليلة التي تتقرب بها إلى الله عز وجل تجدها يوم القيامة حسنات كأمثال الجبال.
أيها المسلمون عباد الله! الصدقة فيها خير الدنيا والآخرة، قال أهل العلم: في الصدقة عشر خصال محمودة، خمس في الدنيا وخمس في الآخرة، أما التي في الدنيا: فتطهير المال، وتطهير البدن، ودفع البلايا والأمراض، وإدخال السرور على المسلم، وبركة المال، قال الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أن صدقة السر تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار )، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: ( أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ).
وأما الخصال الخمس التي في الآخرة: فتيسير الحساب، وتثقيل الميزان، والجواز على الصراط، ورفع الدرجات، وأن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر من بينهم: رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه )، أخفاها لأنه يريد الله والدار الآخرة، أخفاها؛ لأنه يرد الأجر والثواب لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا يريد أن يطير له ذكر حسن بين الناس، وإنما يريد الله والدار الآخرة.
يريد وجه ربه جل جلاله قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9].
أيها المسلمون عباد الله! إن الصدقة لا تقع من الله بموقع القبول إلا إذا تحققت فيها شروطها:
وأول هذه الشروط: أن تكون للعبد فيها نية صالحة، يريد ما عند الله من أجر وجزاء، كما قال بعض الصالحين: من لم يرَ نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته ضرب بها وجهه وما قبلها الله منه، حين تبذل الصدقة لا بد أن ترى نفسك أحوج إلى الأجر والثواب من حاجة الفقير إلى تلك الصدقة، لا بد أن تبتغي بها وجه الله عز وجل:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
لا بد أن تكون لك نية خالصة لله عز وجل.
الشرط الثاني: أن تضع هذه الصدقة في مظانها مجتهداً، فتجتهد أن توصل هذه الصدقة لمن يستحقونها، فلا تنفق منها خبط عشواء، بل تجتهد في أن تصيب بها من أمر الله عز وجل أن يتصدق عليهم، وأن ينفق عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي )، وابذل صدقتك لأرحامك الأقرب فالأقرب ممن لا تجب نفقتهم عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا: ( أن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة )، أي: يكتب الله لك الأجر مرتين، ولما (سألت زينب زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تنفق على زوجها وأيتام في حجرها أيجزئها؟ قال: نعم، ولك أجران ).
الشرط الثالث: أيها المسلمون عباد الله! ألا يكون مع الصدقة منٌ، فإن (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فقالوا: من هم يا رسول الله، خابوا وخسروا؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب )، المنان بما أعطى، أي: الذي يعطي ثم يمنُّ على من أعطاه.
كذلك ولا يصحب صدقتك أذىً أيها المسلم! فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [البقرة:264]، أي: نزل عليه غيث من السماء، فلن ينبت هذا الحجر زرعاً، وما زاد الماء على أن جلاه ولمعه، لكن لا زرع، ولا خير يرجى منه.
كذلك المنان المؤذي بصدقته، لا تثمر أجراً، مثله كمثل هذا الحجر، كما بين ربنا جل جلاله حيث قال: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265].
أيها المسلمون عباد الله! قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح؛ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تنتظر حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: هكذا وهكذا ولفلان كذا ولفلان كذا )، فالآن وأنت في عافيتك وفي صحتك، وأنت ترجو الغنى وتخشى الفقر، تخرج هذا المال طيبة به نفسك، مرضياً للرحمن محارباً للشيطان، قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:268-271].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تباهت الأعمال فقالت الصدقة: أنا أفضلكم. يصور رضي الله عنه الصدقة وكأنها تتكلم، تباهي الصلاة، والصيام والحج وسائر الأعمال تقول لهم: أنا أفضلكم؛ لأن في الصدقة إطعاماً لجائع، وكسوة لعاري، وسقياً لظمآن، وتنفيساً عن مكروب، وتفريجاً عن مهموم، وإدخالاً للسرور على مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحب العمل إلى الله سرور تدخله على مسلم؛ تطرد عنه جوعاً، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، ولأن أمشي في حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً ).
اللهم اجعلنا من خير عبادك المؤمنين الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:2-5]، توبوا إلى الله واستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كل، وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله! فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
ولا يخفى عليكم إخوتي في الله! ما نزل في الناس في هذه البلاد من بلاء وغلاء، غلت الأسعار غلاء فاحشاً، وصار كثير من الناس إذا وجد طعاماً في إفطاره لا يجد طعاماً في سحوره، وكثير من الناس يعانون مسغبة وضيقا، نسأل الله أن يفرج عنا أجمعين.
أيها المسلمون عباد الله! تقربوا إلى الله عز وجل بالنفقة في هذا الشهر، وأولى الناس بنفقاتكم أرحامكم، الأقرب فالأقرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصانا بالأرحام خيراً، وهذا الغلاء الذي نزل قد أصاب طوائف عديدة من أبناء هذا الشعب، ولكن مما يؤلم النفس ويوجع القلب أن يكون الجوع والمسغبة يعاني منه صغارنا، وفلذات أكبادنا، أطفالنا وطلابنا في مدارسنا، كثير من هؤلاء الأطفال لا يجد ما يفطر عليه، كما حدثنا المدرسون الثقات، يلزمون فصولهم في ساعة الإفطار لا يخرجون منها، يوهمون الناس بأنهم يذاكرون وأنهم يقرءون، لكنهم لا يريدون الخروج من الفصول؛ لئلا يفتضح أمرهم ولئلا يعرف بأنهم لا يملكون فطوراً.
أيها المسلمون عباد الله! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( ليس منا من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم )، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أيما أهل عرصة باتوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله )، فهؤلاء الصغار بحاجة إلى من يمد لهم يد العون، بحاجة إلى من يدخل عليهم السرور، بحاجة إلى من يعينهم على نشأة سوية في تحصيل دروسهم، وفي استذكار موادهم؛ من أجل أن ينشئوا وهم محبون لهذا المجتمع لا حاقدون عليه.
وهناك جماعة من الشباب الأخيار، نذروا أنفسهم لمشروع رائد خصصوه لإطعام هؤلاء الصغار، تحت شعار وضعوه: مجتمع لا يجوع فيه الصغار، منظمة مجددون، والآن أفلحوا في أن يطعموا ثلاثة وستين ألفاً من التلاميذ، وبعضهم في أطراف ولاية الخرطوم.
أيها الإخوة الكرام! هذا مشروع لا غبار عليه ولا شبهة فيه، ولا شك أنه باب من أبواب الخير، فإن هؤلاء الصغار مظنة لأموال الزكاة، وهؤلاء الصغار موضع للصدقات، وهؤلاء الصغار يمكن أن توقف عليهم الأوقاف، وهذا المسجد المبارك على مقربة منه مدارس في شرقه وفي غربه، نرجو أن تصل تبرعاتكم وصدقاتكم وزكواتكم إلى هؤلاء من أجل أن نكفل، لا أقول مدرسة واحدة، بل عدداً من المدارس، يجد الدارسون فيها من أولادنا طعاماً في الصباح يعينهم على إكمال بقية يومهم، واستيعاب ما يلقى عليهم من علوم، فمن استطاع أن يتبرع ولو بأقل القليل فليفعل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا فقال: ( سبق درهم مائة ألف درهم )، درهم واحد عند الله خير من مائة ألف درهم ( قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما فقد تصدق بنصف ماله، ورجل عنده مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف فبذلها ).
أيها المسلمون عباد الله! أروا الله عز وجل من أنفسكم خيراً، وابذلوا أموالكم ترجون ما عند الله من أجر وثواب، وقد قدروا أن إفطار التلميذ الواحد خلال عام دراسي كامل لا يزيد على أربعة وتسعين جنيهاً، أربعة وتسعون جنيهاً خلال عام دراسي كامل تكفل للتلميذ إفطاراً، يستطيع التلميذ أن يجد وجبة تعينه على تلقي دروسه، وتعينه على الاستيعاب.
أسأل الله عز وجل أن يعيننا على فعل الخيرات، وأن يوفقنا لبذل الصدقات، وأن يختم لنا بخير، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم بارك لنا في شهر رمضان، اللهم تقبل منا ما مضى، وبارك لنا فيما بقي، وأعنا على الصيام والقيام، واجعلنا ممن صامه إيماناً واحتساباً، وممن قامه إيماناً واحتساباً، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا به حتى نلقاك، اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ارفع عنا البلاء والغلاء والوباء والزلازل، والمحن وسائر الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم غير حالنا إلى أحسن حال، أطعم جائعنا واكس عارينا واهد ضالنا ورد غائبنا، واجمع كلمتنا، واغفر ذنوبنا، وطهر قلوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، واشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وحسن أخلاقنا، ووسع أرزاقنا، وبلغنا آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، واجعل حبك أحب الأشياء إلينا، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، واقطع عنا حاجات الدنيا بدوام الشوق إلى لقائك.
اللهم إذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر أعيننا من عبادتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك مما لا نعلمه، ونعوذ بك من زوال نعمتك وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك، وجمع سخطك، نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم يا سميع الدعاء يا قريب الرجاء نسألك أن تفرج عن إخواننا المسلمين في الصومال، اللهم أطعم جائعهم يا أرحم الراحمين، اللهم نفس كروبهم يا أكرم الأكرمين، اللهم ارفع عنهم مقتك وغضبك يا خير المسئولين ويا خير المعطين، اللهم عجل فرج إخواننا في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن، اللهم خلصهم من شر شياطين الإنس والجن يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن بنى هذا المسجد المبارك ولمن عبد الله فيه، ولجيرانه من المسلمين والمسلمات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر