بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه, ورضا نفسه, وزنة عرشه, ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
الإسراء والمعراج كان معجزة أكرم الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، تأييداً لنبوته, وتصديقاً لرسالته, وإعلاماً للخلق أجمعين بأنه رسول رب العالمين.
مثلما أكرمه جل جلاله بانشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه وابتعاثه بمسه ودعوته وتكثيره ببركته، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم الجم الغفير من الناس من طعام يسير، ومثلما أيده الله عز وجل بإبراء المرضى وذوي العاهات، وسلام الشجر والحجر عليه، وتكليمه للحيوانات والجمادات، وانقلاب الأعيان له فيما مسه بيده الشريفة صلوات ربي وسلامه عليه.
كذلك الإسراء والمعراج من ناحية جاء تثبيتاً لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية أخرى جاء إقامة للحجة على المعاندين من المشركين والجاحدين.
أيها الإخوة الكرام! إن الإسراء قد ذكر صراحة في القرآن في صدر سورة بني إسرائيل، والمعراج قد ذكر ضمناً في صدر سورة النجم، فهما رحلتان علويتان ربانيتان، رحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بواسطة البراق، ورحلة من المسجد الأقصى إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى إلى أن بلغ مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وخاطبه ذو الجلال والإكرام.
وهاهنا سؤال: لماذا أتي بالبراق لرسول صلى الله عليه وسلم وكان في قدرة ربنا جل جلاله أن يحمله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بغير واسطة؟
قال أهل العلم: أراد الله أن يؤنس نبيه صلى الله عليه وسلم بالعادة في مقام خرق العادة، وأن يأتي به راكباً لا ماشياً, فإن الراكب أفضل من الماشي.
ولماذا كان الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟
الجواب: ليجمع بين رؤية القبلتين في ليلة واحدة، وليجمع الله له أشتات الفضائل؛ لأن بيت المقدس كان مهاجر الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم، مثلما قال ربنا جل جلاله عن إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، أين ذهب عليه السلام؟ قال عز وجل: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، هي أرض فلسطين.
فالله جل جلاله أراد لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يشهد تلك البلدة المباركة التي كانت مثوى الأنبياء والصالحين من قبله، ولذلك قال الله عز وجل: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، بارك الله حوله بكثرة من دفن من الأنبياء والصالحين، وبارك الله حوله بكثرة ما أنبت من الزروع والثمار.
ولماذا كان الإسراء والمعراج ليلاً؟
الجواب: لأن الليل هو مظنة الفيوضات الرحمانية، والتجليات الربانية، وتلك الرحلة استغرقت جزءاً من الليل، ولم تستغرق الليل كله.
أيها الإخوة الكرام! إذا كان تاريخ الإسراء والمعراج مجهولاً لدينا فهذا جهل لا يضر، فالمهم أن يؤمن كل مسلم بأن الله عز وجل قد أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم بتينك الرحلتين المباركتين، إسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومعراج من المسجد الأقصى إلى السموات العلى.
ولا بد للمسلم كذلك أن يعتقد يقيناً أن الإسراء والمعراج كان معجزةً حسيةً، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده، فلم يكن بالروح ولم يكن مناماً، وهذا الذي عليه جمهور علماء المسلمين سلفاً وخلفاً، أن الإسراء والمعراج معجزة حسية كانت بالروح والجسد.
واستدلوا على ذلك بالقرآن, فإن الله عز وجل قال: (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ )) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، قالوا: هذه الآية فيها عدة وجوه تدل على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد:
الوجه الأول: أن الله عز وجل قد افتتحها بالتسبيح: سبحان، ولا يكون التسبيح إلا عند حدوث الأمر العجيب الذي تحار فيه العقول، ولو كان بالروح فقط أو كان مناماً لما استحق أن يتعجب منه.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، والعبد روح وجسد، ولم يقل: سبحان الذي أسرى بروح عبده، وإنما قال: بعبده روحاً وجسداً.
الوجه الثالث: قال سبحانه: لِنُرِيَهُ [الإسراء:1]، والرؤية هي من آلات الجسد؛ بدليل قول الله عز وجل عن الحادثة نفسها: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، والبصر من آلات الجسد لا من آلات الروح.
ثم إن تفاصيل هذه الرحلة تدل على أنها كانت بالروح والجسد، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أتيت بالبراق )، فلو كان بالروح أو كان مناماً لما احتيج أن يؤتى بالبراق.
ثم إنه لو كان بالروح فقط أو مناماً لما كذبه كفار قريش، ولما جحدوا ذلك الأمر، لكن الثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع قبيل الفجر كان أول من لقيه بنت عمه أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، وسألت النبي عليه الصلاة والسلام: أين كان؟ فحكى لها صلوات ربي وسلامه عليه، لأن الله عز وجل قال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].
فهاهنا المرأة تعجبت من هذا الحديث؛ لأن العقل لا يستوعبه بل يستبعده، فقالت له: ( يا رسول الله! لا تحدث الناس فيكذبوك، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لأحدثنهم، فجاء عليه الصلاة والسلام وجلس عند الكعبة، وكان أول من مر به في ذلك الصباح عدو الله ورسوله أبو جهل عمرو بن هشام ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ساخراً: يا محمد! هل من جديد؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: نعم، قد أمسيت معكم ثم أسري بي إلى بيت المقدس في الشام. فقال له أبو جهل : وأصبحت بيننا؟ قال له: نعم. فقال له أبو جهل متحدياً: أرأيت لو دعوت لك الناس أتخبرهم بالذي أخبرتني به؟ قال: ادعهم، فدعا أبو جهل غوغاء قريش ودهماءها مع سادتها وقادتها، فأحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له أبو جهل : يا ابن أخي! حدثهم بالذي حدثتني به؟ فحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار القوم ما بين مصفق ومصفر وواضع راحتيه على رأسه ).
فالكل يستبعد ويكذب ويعجب، كيف تبلغ الجرأة بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول بهذا الذي قال؟ وصار القوم ما بين مصفق ومصفر، وواضع راحتيه على رأسه.
( ثم لما ذهبت عنهم السكرة، وبدءوا يفكرون، بدءوا يطرحون الأسئلة، فقال جاهلهم: يا محمد! صف لي بيت المقدس، فإني قد أتيته؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فغشاني من الكرب ما لا يعلمه إلا الله )؛ لأن إنساناً ذهب إلى مكان، وما مكث فيه إلا برهة يسيرة من الزمن قد لا يطيق وصف ذلك المكان، بخلاف من أقام في هذا المسجد سنين عدداً، فإنه يستطيع أن يذكر مداخله ومخارجه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
وذهب القوم إلى أبي بكر وقالوا له: يا أبا بكر ! أسمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أنه خرج من مسجدنا في الحرم فأتى مسجد إيلياء ورجع من ليلته، فقال: أنتم تكذبون عليه؟ قالوا له: اذهب إليه فسله؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: إن قال فقد صدق، فإني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في ساعة من ليل أو نهار ).
أيها الإخوة الكرام! ومما يدل على أن الرحلة كانت روحية جسدية يقظة لا مناماً ما سيأتي في قصة هرقل ، ففي الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في السنة السابعة من الهجرة برسل إلى الجبابرة والطواغيت وملوك الأرض، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم دحية بن خليفة الكلبي , وبعث إلى كسرى ملك الفرس عبد الله بن حذافة السهمي ، وبعث إلى المقوقس حاكم مصر والإسكندرية حاطب بن أبي بلتعة , وبعث إلى النجاشي ملك الحبشة بـالعلاء بن الحضرمي .
أما هرقل ملك الروم فإنه لما جاءه دحية بن خليفة رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان مكتوباً فيه: ( من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم! سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين )، والأريسيون الفلاحون والأتباع بسطاء الناس، وختم ذلك الكتاب بقول ربنا جل جلاله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
و هرقل كان ملكاً عاقلاً قد استكمل أداة الملك الذهنية العقلية، ما كان ككسرى ذلك الأحمق الفاجر الذي بصق على كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مزقه، ثم أرسل إلى عامله على اليمن، وكان اسمه باذان ، قال له: ابعث رجلين إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فليأتياني به في جامعة - يعني: في قيد- فجاء الرجلان يختالان كأنهما طاووس، وقد كثفت شواربهما، وقد حلقا لحاهما، جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه بالمهمة، بأننا جئنا لإلقاء القبض عليك.
(والنبي صلى الله عليه وسلم كان حليماً فنظر إليهما وقال: من أمركما بهذا؟) يعني: هذه الهيئة المنكرة في الشوارب، حيث كانت كثيفة ومفتولة، واللحى محلوقة، من أمركما بهذا؟ (فقالا: ربنا، يعنيان كسرى، فقال: لكن ربي أمرني بغير هذا، أمرني بحف الشوارب وإعفاء اللحى ثم قال لهما: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما، ثم قال: ارجعا إلى صاحبكما باذان العامل على اليمن، وأخبراه بأن ربي جل جلاله قتل ربه الليلة )، ربي قتل ربه كسرى الليلة.
فرجع الرجلان ذليلين صاغرين خاسرين إلى صاحبهما باليمن وأخبراه، فوقتوا تلك الليلة، ثم جاء البريد بعد حين يخبر بأن كسرى عليه لعنة الله قتل في تلك الليلة، فأسلم أهل اليمن, والحمد لله رب العالمين.
فـهرقل ما كان أحمق ككسرى، وإنما قرأ الكتاب وهو لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعماله ورجال مخابراته: انظروا هل هاهنا أحد من العرب؟ فانبعث القوم يبحثون فوجدوا رجلاً هو أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو زعيم معسكر الشرك أبو سفيان صخر بن حرب الأموي ، فجيء به ومعه جماعة من التجار.
فقال له هرقل : ( إني سائلك عن هذا الذي يزعم أنه نبي فلا تكذب، فإن كذبت أخبرني من معك بأنك كاذب، و أبو سفيان رضي الله عنه يحكي هذا الكلام بعدما أسلم، ويقول: والله ما منعني من الكذب في ذلك اليوم إلا خشية أن يعهد القوم علي كذبة)، أي: التجار الذين معي لا ينبغي أن يعهدوا علي كذبة، كأن الكذب كان عند العرب من الخصال الذميمة التي تنافي الرجولة, وقد أكد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )، فالمؤمن لا يكون كذاباً، فبدأ هرقل يوجه إلى أبي سفيان أسئلة عشرة:
و أبو سفيان يجيب على هذه الأسئلة بالصدق الذي ينبغي، ومما يعلم من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سأله: هذا الذي يزعم أنه نبي هل هو ذو نسب فيكم؟ قال: نعم.
وخلاصة الأجوبة العشرة: (أن هرقل قال له: هو رسول الله, ولئن طالت به حياة ليملكن ما تحت قدمي هاتين )، ثم بدأ يعلل له هذا الحكم، كيف أنه توصل بسعة أُفقه وصحة عقله إلى هذا، وكيف استدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله؟ ليس بمتقول ولا كذاب حاشاه!
قال: ( لما سألتك: هل هو ذو نسب فيكم؟ قلت: نعم، وكذلك الأنبياء، ما بعث الله نبياً إلا وهو ذو نسب في قومه )؛ لئلا يطعن فيه طاعن، ولئلا يقول قائل: اذهب فإنما أنت من سقط الناس، إنما أنت من السوقة، لا بد أن يبعث من أوسط الناس داراً، وأعلاهم نسباً.
قال: (
ثم سألتك: هل جربتم عليه كذباً قبل أن يقول ما قال؟ فقلت: لا، فمن كان يدع الكذب على الناس لم يكن ليكذب على الله ).
يعني: هذا ما يكذب في تعامله مع الناس، فهل ينتقل فجأة إلى أن يكذب على رب الناس جل جلاله فيقول: أنا مرسل من عنده؟
قال: ( ثم سألتك: هل يغدر؟ فقلت: لا، وكذلك الأنبياء لا يغدرون )، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مطبوعون على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، لا يخونون، ولا يغشون، ولا يغدرون، ولا يكذبون، أخلاقهم في القمة.
قال: ( ثم سألتك: هل يدخل في دينه الضعفاء أم الأقوياء؟ قلت: بل الضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء ).
ولذلك في القرآن الكريم دائماً نقرأ: قال الملأ.. قال الملأ.. وهؤلاء المعاندون هم الكبراء الأقوياء الذين يملئون العيون بقاماتهم الفارعة، وأجسادهم الممتلئة، ويملئون الآذان بفصيح قولهم، ثم إنهم يملئون المجالس: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:75-76] معنى ذلك: أن أتباع صالح كانوا هم المستضعفين.
وكذلك هنا في قصه شعيب: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88]، وهناك فرعون ومن معه المتكبرون المتغطرسون أبوا أن يؤمنوا لـموسى وهارون، وما تبعه إلا من كانوا أذلة مستضعفين من بني إسرائيل.
قال: (
وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، وكذلك أمر الأنبياء )، النبي يبدأ دعوته فيتبعه الواحد والاثنان، ثم بعد ذلك يتكاثر من حوله الأنصار والأتباع.
قال: ( وسألتك: هل يرتد عن دينه أحد سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلت: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب )، الإيمان إذا سكن قلب العبد فإنه قد يبذل روحه دون أن يفقد دينه.
هنا أبو سفيان أسقط في يده, وقال لمن معه: ( لقد أمر أمر ابن أبي كبشة)، لقد أمر، يعني: عظم، ومنه قول الله عز وجل: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71]، قال: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حتى إن ملك بني الأصفر ليخافه).
وهناك زيادة ليست في البخاري ، وإنما عند البيهقي في دلائل النبوة قال: (
قال: وعند هرقل كبير البطارقة البابا، فقال له: أنا أعرف تلك الليلة أيها الملك! قال له: وما علمك بها؟ قال: كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد كلها، فلما كانت تلك الليلة غلقتها سوى باب غلبني، فاستعنت عليه بعمال المسجد فما استطعنا، فجئنا بالنجاجرة -أي: النجارين- والله لكأنما نزاول جبلاً -ما نحرك باباً بل نحرك جبلاً، ولا يتحرك من مكانه- فقال النجارون: لعله سقط عليه شيء من النجاف، -أي: من السقف- وإن أصبح الصباح عالجناه وذهبوا.
يقول ذلك البطريق: فلما أصبحت حركته بيدي فأغلق، وإذا في حلقته أثر مربط الدابة, فعلمت أنه ما حبس تلك الليلة إلا على نبي، وأنه قد صلى في مسجدنا ).
فهنا أبو سفيان قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه بدلاً من أن تفسد عليه الأمر زادت هرقل تأكداً بأن محمداً رسول الله.
وبالمناسبة أيها الإخوان! قصة هرقل هي من العجب العجاب، فهذا الرجل على سعة عقله ورجاحة فكره ما وفق للإيمان نسأل الله العافية؛ فإنه بعدما استيقن أن محمداً رسول الله جمع أركان دولته الوزراء والقادة والقسس والرهبان، ثم أمر عماله فغلقوا أبواب القصر، فخاطبهم قائلاً: تعلمون أن المسيح عيسى بن مريم قد بشر برسول يأتي من بعده، وقد ظهر في جزيرة العرب رجل يزعم أنه نبي، وقد كاتبني ودعاني إلى دينه, وترجح عندي أنه رسول الله, وإني سأتابعه على دينه.
فحاص القوم حيصة الحمر، يعني: هاجوا هنا وحصلت مظاهرة، وحركة غوغاء وتدافعوا نحو أبواب القصر، لكنهم وجدوها مغلقة، فقال: ارجعوا, ارجعوا, فإنما أردت أن أختبر ثباتكم على دينكم.
هذا شغل السياسة، قال لهم: أنا ما قلت هذا الكلام إلا من أجل أن أختبر ثباتكم على دينكم، ثم بعد ذلك بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الهدايا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ظن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه )، وفعلاً جاءت جنود الله في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم يكتمل الأمر في عهد عمر وتفتح بلاد الشام، ويخرج هرقل خاسئاً ذليلاً، ويقول: سلام يا سوريا سلام لا لقاء بعده ويخرج، وينحاز إلى القسطنطينية ويستمر أمره هناك، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ) , فالملك لله يؤتيه من يشاء.
المقصود أيها الإخوة الكرام! أن هذه المعجزة كانت بالجسد والروح يقظة لا مناماً.
إذا تبين ذلك أيها الإخوة الكرام! فإن نبينا عليه الصلاة والسلام قد وصف تلك الرحلة، وقد حكاها من الصحابة جمع غفير، فيهم أنس بن مالك و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و علي بن أبي طالب و جابر بن عبد الله وأم المؤمنين عائشة ، و أبو ليلى و أبو حبة الأنصاريان وغيرهم رضوان الله عليهم، وقد اعتنى بسرد أسمائهم الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لسورة الإسراء، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان نائماً في الحجر، وفي بعض الروايات أنه كان في بيت أم هانئ.
وقبل أن نتجاوز هذا الموضع أقول: إن بعض المتقدمين قالوا بأن: الإسراء والمعراج كان مناماً أو كان بالروح. واستدلوا على ذلك بأن أم المؤمنين عائشة قالت: ( ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسري به )، ولا شك أن هذه الرواية مكذوبة، ولا يمكن أن تقول عائشة هذا الكلام؛ لأن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة، فقد كان في مكة, وقد اتفق كتاب السير والمؤرخون على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بنى بـعائشة رضي الله عنها إلا عقب غزوة بدر, بنى بها في شوال من السنة الثانية من الهجرة.
فمعنى ذلك أن عائشة رضي الله عنها ما كانت تساكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فكيف تقول: (ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به).
واستدلوا أيضاً برواية عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ومعلوم أن معاوية وأباه في لحظة الإسراء والمعراج كانوا على الكفر، فإن معاوية وأباه كليهما من الطلقاء، كليهما أسلم بعد فتح مكة.
وبعض المعاصرين كـمحمد حسنين هيكل رحمة الله عليه، ومن قبله محمد فريد وجدي، وغيرهم ممن تأثروا بالمدرسة العقلية، أيضاً تأولوا قصة الإسراء والمعراج مثلما تأولوا قصة شق الصدر، و محمد فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين تأول الأحاديث الواردة في أشراط الساعة، فتأول الدجال، وتأول الدابة، وتأول طلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك من العلامات، هذه كلها أولها تأويلاً عقلياً.
ووقع في ذلك الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفيل، ففي قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:3-4]، قال: بأن هذه الحجارة كانت وباء الجدري، يعني: ليست حجارة حقيقية، وإنما وباء الجدري.
ولذلك قال السيد قطب رحمه الله في الظلال: متى عهدنا وباء الجدري يفرق بين قرشي وحبشي، إن الله عز وجل قال: حجارة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، والحجارة في لغة العرب معروفة، و ابن عباس رضي الله عنه وصف تلك الحجارة بأنها كانت: فوق العدسة ودون الحمصة؛ يعني: أكبر من حبة العدس وأدنى من حبة الحمص، وهذا مقياس دقيق، وقال: مع كل طائر ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه، يرمي الواحد من هؤلاء بالحجر فيصيبه في رأسه، فيحرق جوفه ويخرج من دبره ويخلص إلى الفيل تحته فيقتله، والله على كل شيء قدير.
ولذلك أيها الإخوة الكرام! لو أن الإنسان أراد أن يحكم عقله فلك أن تتصور لو أن واحداً من أجدادنا قبل مائة سنة قيل له: سيأتي على الناس زمان يحمل الواحد منهم في جيبه جهازاً في حجم كف اليد، ويخاطب به آخر في أقصى بلاد الصين، فهل عقله سيستوعب ذلك؟ لن يستوعب وسيستبعد ويقول: أنت تخرف.
ولو أن واحداً من أجدادنا قيل له: بأنه هناك جهازاً صغيراً سيصنعه الناس ينقل لك بالصوت والصورة ما يحصل الآن في أقصى بلاد الله التي بيننا وبينها من المسافات ما لا يعلمه إلا الله, فإنه أيضاً لن يصدق هذا.
ولو قيل له: بأن جهازاً آخر يقف أمامه الإنسان فيصور ما في باطنه، وينظر الطبيب إلى ذلك المصور فيشخص العلة ويعرف موطن الداء، هذا كله مما اخترعه الناس، ومما توصلنا إليه معشر بني آدم بما يسر الله عز وجل من علوم؛ وقد قال سبحانه: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113]، وقال سبحانه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
فلا ينبغي للإنسان أن يحكم عقله في كل شيء ويقول: هذا ممكن وهذا غير ممكن، فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ورد في كتاب ربنا جل جلاله فما علينا إلا أن نسمع ونصدق ونتواضع ونقول: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتيت بالبراق )، والبراق سمي براقاً من البرق؛ لأنه سريع يضع حافره حيث ينتهي طرفه، أو لأنه يلمع من البريق، أو من قولهم: شاة برقاء إذا اختلط بياضها بسواد.
قال: ( أتيت بالبراق، وهو دابة فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره حيث ينتهي طرفه، فأتيت بيت المقدس )، في بعض الروايات يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بأنه عرض عليه إناء من ماء، وإناء من خمر، وإناء من لبن, فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن, فقال له جبريل عليه السلام: هديت للفطرة، ولو اخترت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو اخترت الخمر لغويت وغويت أمتك)، فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن.
ومضى مع جبريل عليه السلام، وهو في الطريق يقول عليه الصلاة والسلام: ( مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره ).
وهاهنا بعض الناس قد يطرح سؤالاً يقول: ما بال موسى يصلي في قبره والدار دار جزاء وليست دار عمل، فإذا فارقت الروح الجسد فلست بمأمور بالصلاة، ( فمن مات قامت قيامته ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختم على عمله.
لكن أقول أيها الإخوة الكرام! صلاة موسى عليه السلام في عالم البرزخ ليست صلاة تكليف وإنما صلاة تلذذ، وقد ذكروا عن بعض الصالحين من هذه الأمة وهو عبد الواحد بن زيد رحمة الله عليه، وكان سيداً من سادات الصالحين, كما ذكر ذلك الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته في سير النبلاء: فقد ذكر أن هذا العبد الصالح كان يحب الصلاة، وقلبه معلق بالمساجد، وأصيب بالفالج أي: أصيب بالشلل، فدعا الله عز وجل أن يطلقه كلما حان وقت الصلاة، فكان إذا أذن المؤذن رجعت إليه قوته فيتطهر ويصف قدميه بين يدي الله عز وجل، ويصلي الفرض وما اتصل به من نفل حتى إذا فرغ رجع إليه الفالج.
وبعض الناس قد يقول: لم لم يدع ربه بأن يعافيه؟ نقول: هو ما يريد أن يفوت أجر المرض، بل يريد أن يجمع بين الحسنيين.
الشاهد أن هذا العبد الصالح في آخر عمره دعا الله فقال: اللهم إن كنت قد آتيت أحداً صلاة في قبره بعد موته فأعطنيها، فرئي في المنام بعد موته وهو يصلي في قبره، وهذا ليس بنبي ولا برسول ولا صحابي، لكنه رجل صالح.
ولذلك نقول: أيها الإخوة الكرام! صلاة موسى عليه السلام في قبره صلاة تلذذ لا صلاة تكليف، فالنبي صلى الله عليه وسلم مر بـموسى وهو قائم يصلي في قبره، ثم أتى بيت المقدس فجمع له الأنبياء.
وهاهنا سؤال: هل جمعوا له أرواحاً، أم جمعوا له أرواحاً وأشباحاً؟
الجواب: الله على كل شيء قدير، ولا نجزم، فإذا كانوا أرواحاً فالله عز وجل ذكر للروح صفات، وأنها تصعد وتنزل وتخرج وتتكلم وما إلى ذلك مما دلت عليه النصوص، وهذه الروح أيضاً تخاطب، فمسألة هل جمعوا له أرواحاً أو أرواحاً وأشباحاً؟ نقول: الله أعلم أي ذلك كان.
وهل كانت صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء قبل أن يعرج إلى السماء أو بعدما نزل من السماء؟
الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول: لعلها كانت بعد نزوله من السماء؛ لأنه لو صلى بهم قبل العروج لما احتاج أن يعرفه جبريل بهم لما صعد، قال له: هذا أبوك آدم، وهذا أخوك يحيى، إلى آخر من لقيهم صلوات ربي وسلامه عليه.
لكن يمكن أن يقال لـابن كثير: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم, وما أتيحت له الفرصة لكي يتعرف عليهم، كما لو أنك صليت بالناس هاهنا فليس بالضرورة أن تعرفهم، بل ربما تخرج ولا تعرف واحداً منهم، فالمسألة محتملة.
الشاهد: أن الصلاة أقيمت، ودفع جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه ليصلي بالأنبياء إماماً، وفي هذا من الدلالة ما لا يخفى أن رسالته صلى الله عليه وسلم خاتمة، وأن كتابه مهيمن، وأن الله عز وجل قد كمل به الدين، وأتم به النعمة، وأن شريعته قد جاءت ناسخة لشرائع الأنبياء قبله، وأن الناس لا يحتاجون بعده إلى نبي، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد النبيين وأفضلهم.
قال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، وقال سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وهو موسى عليه السلام, وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253].
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رب! خلقت آدم بيديك، وزكيت نوحاً فسميته عبداً شكوراً، واصطفيت موسى فكلمته تكليماً، وآتيت عيسى من المعجزات، فقال الله عز وجل له: يا محمد! لقد أعطيتك أفضل من ذلك كله، غفرت لك ذنبك، فأنت تمشي بين الناس مغفوراً لك، ولم أصنع هذا لأحد قبلك، وأعطيتك الكوثر ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج، وعدد آنيته بعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأعطيتك المقام المحمود وهي الشفاعة العظمى التي لا يشاركك فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وجعلت أمتك خير الأمم )، فالنبي صلى الله عليه وسلم تقدم إماماً بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في بيت المقدس.
يقول عليه الصلاة والسلام: ( ثم أتيت بالمعراج )، والمعراج على وزن مفعال، ومفعال في لغة العرب اسم الآلة، ولذلك الآلة التي نفتح بها الباب نقول لها مفتاح، والآلة التي نأخذ بها الشوك نسميها ملقاط، وقل مثل ذلك في المزلاج، وقل مثل ذلك في المنشار، وغير ذلك كلها على وزن مفعال.
ومعراج اسم آلة تستخدمها الملائكة في العروج إلى السماء، ولك أن تقول: سلم يستخدمه الملائكة في العروج إلى السماء، أتي النبي صلى الله عليه وسلم بالمعراج فعرج إلى السموات العلى، وللسماء أبواب؛ كما قال الله عز وجل: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ:19]، ( فكان جبريل عليه السلام يستفتح فيقول أهل السماء: من؟ فيقول: جبريل، يقولون: من معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: أوقد بعث؟ فيقول: نعم، فيقولون: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ثم يفتح له ).
والنبي عليه الصلاة والسلام قابل ثمانية من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم, قابل في السماء الأولى أبا البشر آدم قالوا: وهذا من عناية الله به، أن يكون أول من يلقاه أبوه، كما لو أنك نزلت بلداً أنت فيها غريب فوجدت فيها أباك يستقبلك في المطار، فهذا الاستقبال ينزل على قلبك برداً وسلاماً، وتزول عنك كل وحشة، فلا أحن على الولد من الوالد.
قال: ( فلقي آدم أبا البشر عليه السلام في السماء الأولى, قال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، فإذا نظر عن يمينه استبشر وتبسم, وإذا نظر عن شماله عبس وبكى، قال له جبريل: أما الذين عن يمينه فالصالحون من أبنائه أهل الجنة، وأما الذين عن شماله فالكفار والفجار أهل النار )، فـآدم عليه السلام يسر لما يرى من صلاح بنيه عن يمينه، ويسوءه ما يرى من فساد بنيه الذين عن شماله.
ثم في السماء الثانية: لقي صلى الله عليه وسلم ابني الخالة يحيى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عيسى بأنه ( أشبه الناس به عروة بن مسعود الثقفي، وأنه رجل أبيض مشرب بحمرة سبط الرأس، أي: ناعم الشعر، يتقاطر منه الماء كأنما خرج من ديماس )، وسلم عليهما صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم في السماء الثالثة: لقي يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ( فإذا هو قد أوتي شطر الحسن )، رآه صبيحاً وسيماً جميلاً صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم في السماء الرابعة: لقي إدريس، وتلا صلى الله عليه وسلم: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57].
ثم في السماء الخامسة: لقي المحبب في قومه هارون بن عمران، ( فإذا هو شيخ عظيم اللحية عظيم العثنون )، والعثنون هو أوسط اللحية، وبعض الناس عنده لحية, وما شاء الله في وسطها طول يعني: زيادة، ( ما رأيت شيخاً قط أجمل منه ) صلوات الله وسلامه عليه.
ثم في السماء السادسة: ( لقي موسى بن عمران قال: فلما جاوزته بكى، قيل له: وما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر ممن يدخل من أمتي )، وما قال هذا الكلام حسداً حاشاه صلوات الله وسلامه عليه, فإن الحسد في الجنة منزوع عن آحاد المؤمنين؛ كما قال الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] ، فما بالكم بالأنبياء والمرسلين.
وإنما موسى عليه السلام قال هذا الكلام من باب حزنه على ما فاته من الأجر؛ لأن أجر النبي بعدد من تبعه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).
( ثم صعد صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة فإذا إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور )، لما بنى لله في الأرض بيتاً معموراً يؤمه الطائفون والمصلون والمؤمنون كان جزاؤه أن يكون مستقره في السماء السابعة، وأن يرى مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.
وهذا مطرد أيها الإخوان في سيرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإبراهيم عليه السلام قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: ( أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة عذبة الماء, طيبة التربة, وأنها قيعان, وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ).
وهاهنا سؤال أيها الإخوة الكرام: عدد الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون لكن جملتهم كم؟
الجواب: ثبت في صحيح ابن حبان : ( أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً )، وعدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، فهم جم غفير.
وأما لم اقتصر اللقاء على ثمانية؟ فالجواب: لا يمكن أن نقول مثلاً: بأن الثمانية هؤلاء هم أولو العزم، وهذا ليس بصحيح, فإنه لم يلق نوحاً وهو من أولي العزم، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما لقي موسى وعيسى وإبراهيم.
ولو أن قائلاً قال: لقي هؤلاء لأنهم عرب؟ نقول له: ليس بصحيح ما منهم ولا عربي؛ لأن العرب من الأنبياء ليسوا سوى أربعة كما بين صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( وأربعة من العرب صالح وهود وشعيب ونبيك يا أبا ذر )، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأما لم اقتصر اللقاء على هؤلاء الثمانية؟
فالجواب: بعض أهل العلم قالوا: بأن الأنبياء دعوا إلى لقائه؛ فمن أسرع أدرك ومن بطأ فاته، وهذا الكلام غير مقبول، يعني: هل يتخلف الأنبياء عن لقاء محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل عطلتهم المواصلات والشوارع زحمة أو إشارات مرور، يعني: هذا الكلام لا يستقيم.
ونقف عند هذا الحد، وسيأتي ذكر للمشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، ثم نخلص إلى الدروس المستفادة من هذه المعجزة العظيمة التي أكرم الله بها نبينا عليه الصلاة والسلام.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر