بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
يقول تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:27-29].
يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف:27].
هذا الخطاب جاء عقيب الآيات التي تناولت خبر أصحاب الكهف مفصلاً، يأمر الله فيه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يواظب على درس هذا القرآن وتلاوته، وألا يتأثر بأسئلة المشركين ودعواهم؛ فإنهم كانوا يكثرون من طرح الأسئلة، وإيراد الإشكالات، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، وأمره الله عز وجل أن يجيبهم بقوله: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس:15].
يقول الله عز وجل: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف:27].
قوله: (اتل) التلاوة: هي القراءة اللفظية، كما قال سبحانه في وصف عباده المؤمنين: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً [الأنفال:2]، فـ(تليت) بمعنى قرئت، (اتل ما أوحي إليك)، أي: اتل الوحي الذي أنزله الله إليك.
والوحي في لغة العرب: هو الإلهام في خفاء، والوحي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كصلصلة الجرس، أو كدوي النحل، أو يأتيه عياناً في صورة بشر، أو يأتيه مناماً، أو يأتيه إلهاماً يلقي في روعه ما شاء الله أن يلقي.
مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف:27]، أي: القرآن، والإضافة للتشريف.
قوله تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27]، التبديل: هو التغيير بالزيادة والنقص، فالله عز وجل ينفي استطاعة أحد من خلقه أن يبدل شيئاً من كلماته القدرية أو الشرعية، كما قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، وقال: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]؛ فلا يستطيع أحد أن يبدل عدلها جوراً، ولا أن يبدل صدقها كذباً.
قوله: وَلَنْ تَجِدَ [الكهف:27] أي: يا محمد! مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف:27]، (ملتحداً) هذه الكلمة أصلها اللام والحاء والدال، كلمة اللحد التي تدل على الميل، ومنه قيل للشق الذي في جانب القبر: لحداً، ومنه قيل لمن مال عن عبادة الله إلى عبادة غيره: ملحد، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، فاللحد الميل، و(ملتحداً) بمعنى ملتجأ؛ لأن من التجأت إليه فقد ملت إليه، فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لن تجد غير الله من تلجأ إليه وتميل، أو تعتصم به وتستجير، وفي معنى هذه الآية قول الله عز وجل: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:21-22].
وفي معنى هذه الآية التي هي قول الله: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف:27] قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67].
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
وكذلك قول الله عز وجل: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91-92].
وقوله تعالى: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4].
ففي هذه الآيات كلها يأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجهد بالليل والنهار سراً وعلانية، في تلاوة هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن يقرأه على الناس، وأن يعلمهم أحكامه؛ لأنه الكتاب الذي فيه خير الدنيا والآخرة.
وليس الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما الأمر لنا جميعاً، فنحن المسلمون مأمورون بأن نتلو هذا الوحي، وأن نقرأه.
وقد بين ربنا جل جلاله عاقبة تلاوته، وقال سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121]؛ فالذي يتلو هذا القرآن يرزقه الله الإيمان، ويزيده منه.
وبين ربنا سبحانه ما أعد لهم من الأجر والثواب؛ فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعد الله من الأجر والثواب لمن واظبوا على تلاوة هذا الكتاب، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، وثبت عنه أنه قال: ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب، وطعمها حلو -أي: أنه طيب ظاهراً وباطناً- ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو )، أي: أنه طيب باطناً بخلاف ظاهره.. إلى غير ذلك من النصوص التي تبين فضل تلاوة هذا الكتاب العزيز.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بهذه الآية؛ فكان يقرأ القرآن على كل أحواله، وما كان يمنعه من القرآن شيء إلا الجنابة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن في مجامع الناس، وفي مواسمهم، وفي بيت الله الحرام، وفي كل مكان، وكان يغشى بهذا القرآن المشركين، والمنافقين، واليهود.. وغيرهم، ولا يتأثر صلوات ربي وسلامه عليه بتكذيب المكذبين، وإعراض المعرضين، حتى إنه عليه الصلاة والسلام مر على ملأ من الخزرج وهم جلوس، فوقف يقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله ابن سلول لعنه الله: يا هذا! لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تغشنا به في مجالسنا، اجلس في مسجدك، فمن جاءك فاتل عليه. وانظر إلى مثل هذا اللؤم من هذا الكفار الأثيم، ومع ذلك لم يتوان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تنفيذ أمر الله عز وجل.
وفي قول الله عز وجل: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف:27]، معنى التهديد لكل من أراد أن يبدل كلمات الله، أو أن يخفي شيئاً مما أوحاه الله، ومثله قول ربنا تبارك وتعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47].
ثم بعدها يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
هذه الآية المباركة اتفق المفسرون على أنها نازلة في شأن جماعة من الكفار طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحي فقراء المهاجرين، كـبلال بن رباح ، و خباب بن الأرت ، و عمار بن ياسر ، و صهيب بن سنان ، و عبد الله بن مسعود وأمثالهم رضوان الله عليهم، فطلبوا منه أن ينحيهم عن مجلسه، أو أن يجعل لهم يوماً غير يومهم، وبرروا ذلك بأن قالوا كما في بعض الروايات: ( يا محمد! اجلس في صدر المجلس )؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يجلس مع أصحابه مختلطاً بهم حيث انتهى به المجلس؛ فلم يكن له مجلس خاص عليه الصلاة والسلام، فقالوا له: ( اجلس في صدر المجلس، ونح عنك هؤلاء الذين روائحهم كروائح الضأن )، يعني: أن رائحة الواحد منهم كرائحة الضأن.
وفي بعض الروايات أنهم قالوا: ( يا محمد! نح هؤلاء، فإنهم تؤذينا روائح جبابهم )، يعني: أن الثياب التي يلبسونها رائحتها منتنة، ونحن لا نتحمل ذلك، وفي بعض الروايات أنهم قالوا: ( نحن سادات مضر، وأشرافها )، هكذا زكوا أنفسهم؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثته نفسه بأن يجيبهم إلى بعض ما طلبوا، فلن يطرد الفقراء، وإنما سيجعل لهم يوماً، ويجعل لصناديد الكفر يوماً، من أمثال: أبي جهل بن هشام ، و أمية بن خلف ، و عقبة بن أبي معيط ، و الوليد بن المغيرة ، و الأخنس بن شريق وأمثالهم من صناديد الكفر.
ومثلها قوله تعالى في سورة الأنعام: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52].
ومثلها قول قوم نوح لنوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، وقولهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ [هود:27]، وقد طلبوا من نوح عليه السلام أن يطردهم، فقال لهم: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود:29-30]، أي: من يمنعني من الله إن أنا طردت هؤلاء الموحدين الطيبين.
وفي معنى هذه الآية قول ربنا تبارك وتعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].
وأنبه إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام حين مال إلى إجابة المشركين إلى بعض ما سألوه إنما كان يريد مصلحة الدعوة، لا مصلحة نفسه -معاذ الله- فإنه عليه الصلاة والسلام لا يزيده شرفاً جلوس أولئك الأوباش من أمثال أبي جهل ، و الوليد ، و عقبة ، و عتبة ، و أمية ، وغيرهم من صناديد قريش، ولا يضره عليه الصلاة والسلام إعراضهم، لكنه كان حريصاً على إيمانهم حباً للخير منه صلوات رب وسلامه عليه، فالله عز وجل خاطبه.
وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر: أنا، و ابن مسعود ، ورجل من هذيل، و بلال ، ورجلان لست اسميهما؛ فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اطرد هؤلاء، لا يجترئون علينا، يقول رضي الله عنه: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه؛ فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52] ) الآية التي في سورة الأنعام، وهي وهذه الآية معناهما واحد، وقد تقدم معنا في أصول التفسير أن السبب قد يكون واحداً، وتنزل في شأنه أكثر من آية، وقد تكون الآية واحدةً ونزلت في أكثر من سبب واحد.
قال الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28]، والصبر هو الحبس، ومعنى: (واصبر نفسك)، أي: وحبس نفسك ومنه قول القائل:
فصبرت عارفةً لذلك حرةً ترسو إذا نفس الجبان تطلع
قال تعالى: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف:28]، الدعاء: المناجاة، وقيل: المراد بالدعاء هنا الصلوات، بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28]، وفي قراءة ابن عامر : (بالغدوة والعشي)، الغدوة والغداة: الوقت ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يعني: من بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس هذا الوقت يسمى الغداة؛ ولذلك يقال لصلاة الفجر: صلاة الغداة، (والعشي) هو المساء، قيل: المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، وقد ورد في فضله هاتين الصلاتين معاً جملة من النصوص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين دخل الجنة )، والبردان: الصبح والعصر.
كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر؛ فمن استطاع منكم ألا يغلب على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فليفعل )، أي: صلاة الصبح وصلاة العصر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فيصعد الذين باتوا فيكم ) يعني: الذين جاءوا في صلاة العصر اليوم يصعدون غداً عند صلاة الصبح، ( فيسألهم ربهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون )، أي: أتيناهم وهم يصلون العصر، وتركناهم وهم يصلون الصبح، فهؤلاء الصحابة الكرام كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قال تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28].
الجملة في محل نصب على الحال، والحال هنا من الواو في قوله سبحانه: (يريدون)، أي: هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم في صلاتهم وذكرهم ودعائهم لا يريدون السمعة، ولا يريدون الثناء الحسن من الناس، ولا يريدون شيئاً من الدنيا، وإنما يريدون وجه الله، وهذا دأبهم في سائر أعمالهم، كما قال عنهم ربنا: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:8-9]، (يريدون وجهه).
قال الله عز وجل: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28].
(لا تعد) أي: لا تصرف عيناك فلا تحول وجهك عنهم، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، الجملة في محل نصب على الحالية من الكاف، في (ولا تعد عيناك عنهم) يا محمد حال كونك مريداً لزينة الحياة الدنيا بأن تريد مجالسة أهل الشرف والغنى. وأعيد القول بأن نبينا عليه الصلاة والسلام ما حدثته نفسه بذلك رغبةً في الدنيا، وإنما حباً لإيمان القوم، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يعجبه من الدنيا شيء إلا مؤمن تقي، كما قالت أمنا عائشة : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدنيا شيء إلا ذو تقى )، والله عز وجل أوصاه في القرآن فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
( وسيدنا عمر رضي الله عنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه، ذرفت عيناه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا ابن الخطاب ؟ قال: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت أكرم الخلق على الله تنام على مثل هذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: رضيت يا رسول الله! قال: فاحمد الله على ذلك ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كانت عيناه متعلقتين بالدنيا قط، لكن الله عز وجل يخاطبه، والوصية لنا، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، فلا تحرص أيها الداعية وأيها المذكر بالله أن تجالس أهل الشرف والغنى؛ بل لتكن دعوتك للجميع: للفقراء والأغنياء، والضعفاء والأقوياء، للعرب والعجم، للأحمر والأسود، اجلس مع هؤلاء الذين يحبون الله ويذكرونه، ويسبحونه ويهللونه، ويكبرونه ويمجدونه، ويصلون له ويدعونه، اصبر نفسك معهم، وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، ولا تحرص على مجالسة أهل الشرف والغنى إن هم أعرضوا، وإلا لو كان أهل الشرف والغنى محبين لله ورسوله، حريصين على الخير أيطردون ويزجرون الرسول صلى الله عليه وسلم؟ بالتأكيد لا، ولو أحصينا العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا فيهم ستةً من الأغنياء رضوان الله عليهم؛ فليست القضية قضية غنىً أو فقر، وإنما قضية إقبال وإدبار.
وَلا تُطِعْ [الكهف:28] أي: يا محمد! مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، أي: من جعلنا قلبه غافلاً بالختم عليه، والعياذ بالله، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7]، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155] فقلوبهم لا ينفذ إليها هدى، وقد قالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت:5] أي: في أغطية، مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5].
قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28].
وهذه الآية كقول الله عز وجل: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:24]، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ [القلم:9-10]، الوليد بن المغيرة ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:11-13]؛ فالله عز وجل ينهاه عن طاعة هؤلاء، ويأمره بالإعراض عنهم، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ [النجم:29-30].
وبعض الناس لا يزن الناس إلا بالأحمر والأبيض، بالذهب والفضة، بالدينار والدرهم، بالحسب والنسب، بالشرف والجاه، هذا هو ميزانه، وقد قال الأول:
إن الغني إذا تكلم بالخطأ قالوا: أصبت وصدقوا ما قالا
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المجالس كلها تكسو الرجال مهابةً وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحةً وهي السلاح لمن أراد قتالا
وقال الآخر:
يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها
فبعض الناس طباعهم كطباع الكلاب، ما يزنون إلا بالدينار والدرهم، نسأل الله العافية، والله عز وجل يهدم هذه الموازين، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: اصبر مع بلال و خباب و عمار و صهيب و ابن مسعود ، ومن كان مثلهم، وأعرض عن الوليد بن المغيرة ، و عقبة بن أبي معيط ، و أمية بن خلف ، و شيبة بن ربيعة ، وأمثالهم من أهل الثراء والغنى، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، أي أن اتباعه لهواه منعه من قبول الحق، وَكَانَ أَمْرُهُ [الكهف:28] أي: شأنه، فُرُطاً [الكهف:28] من الإفراط أو من التفريط، من الإفراط: وهو مجاوزة الحد، فإنهم جاوزوا الحد حين قالوا: نحن سادات مضر وأشرافها، أو من التفريط: وهو تفريطهم في الجلوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع إليه.
هذه الآيات عملت عملها في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحرص على الجلوس مع هؤلاء، وعلى أن يذكر شرفهم، وينوه بفضلهم؛ فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـبلال : ( يا بلال ! إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، فقال: يا رسول الله! ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به ركعتين ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن عماراً ملئ إيماناً من مشاشه إلى قدمه ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن مسعود رضي الله عنه في ساقيه: ( والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد )، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يثني على هؤلاء رضوان الله عليهم؛ بل نزلت في بعضهم آيات من القرآن، كقوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207]، وهذه نزلت في صهيب بن سنان ، وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه مرةً كان على بابه بلال و عمار و خباب و سهيل بن عمرو ، و أبو سفيان بن حرب ، و صفوان بن أمية ، فأذن للثلاثة الأولين وترك الآخرين، فورمت أنوف القوم، فقال لهم سهيل رضي الله عنه، وكان أعقلهم: يا قومي! لوموا أنفسكم، فإنكم دعيتم ودعوا، فأجابوا وبطأتم، يعني: دعوة الإسلام جاءت للجميع، والرسول صلى الله عليه وسلم ما دعا عماراً و خباباً وترك الآخرين، وإنما دعا الكل، فهؤلاء أجابوا وتأخرتم.
ومرة أخرى كان سهيل و صفوان و أبو سفيان جلوساً حول عمر ، فجاء بلال وبعض من كانوا مثله من المهاجرين، فـعمر رضي الله عنه قال: تنح يا سهيل ! تنح يا أبا سفيان ! تنح يا فلان! فنحى هؤلاء وأدنى هؤلاء القوم، فهذا هو ميزان الإسلام.
قال الله عز وجل: وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29].
أي: وقل يا محمد لهؤلاء المشركين: (الحق من ربكم)، إما أن تكون (الحق) مبتدأً والجار والمجرور خبرها، وإما أن تكون (الحق) خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره: هذا هو الحق، أي: هذا الذي أتلوه من كتاب ربي هو الحق؛ ليس أساطير الأولين، ولا حكايات الغابرين، ولا من الكهنة والشياطين، وإنما هو الحق مصدره الإله الحق جل جلاله، كما قال سبحانه: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147].
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وهذه الآية ظاهرها التخيير، وحقيقتها التهديد، يعني -ولله المثل الأعلى- كما تقول لولدك: يا بني ادرس! يا بني! حافظ على وقتك، يا بني! استعد للامتحان، وكلما وجدته لاهياً أو لاعباً قلت له هذا الكلام، فلما أيست منه قلت له: إن شئت فادرس، وإن شئت فأهمل، هل يفهم الولد من كلام أبيه أنه قد أطلق له العنان وخيره؟ لا؛ بل يفهم منه التهديد، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، أي: من شاء فليصدق وليعمل، ومن شاء فليكذب وليعرض، والدليل على أنها للتهديد ما بعدها، قال الله عز وجل: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً [الكهف:29]، (إنا أعتدنا) أي: أعددنا وهيأنا وجهزنا، يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: أي شيء فالله عز وجل يخلقه بكلمة (كن) فيكون؛ لكن الله عز وجل عبر بهذا اللفظ: (أعتدنا)؛ لأنه يلقي ظلالاً من السرعة والتهيؤ والاستعداد والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة لاستقبال هؤلاء الكافرين.
(ناراً) أي: ناراً عظيمة.
أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، أي: هذه النار التي هيأها الله للمشركين قد أحاط بها سرادق، قال بعضهم: السرادق: السور، وقال بعضهم: هو البيت الذي يكون من كرسف، أي: من قطن، وقيل: هو دخان يحيط بجهنم يمنع الخروج منها، كما في قول الله عز وجل: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31].
وقال سبحانه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:43-44].
والمراد من هذه الأقوال شيء واحد، وهو إحداق النار وإحاطتها بهم من كل جانب والعياذ بالله، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات من القرآن، كقول ربنا الرحمن: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16].
وكقوله سبحانه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، (لهم من جهنم مهاد) أي: فراش، (ومن فوقهم غواش) أي: أغطية، فالفراش نار، والغطاء نار.
وكقوله تبارك وتعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الأنبياء:39]، فهذه كلها آيات تدل على أن النار محيطة محدقة بهؤلاء الكفار.
قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ [الكهف:29]، أي: الكفار، كما قال ربنا: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106].
ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا [الكهف:29]، (وإن يستغيثوا) السين والتاء للطلب، أي: وإن يطلبوا الغوث، وطلبهم للغوث بينه الله في القرآن كما في قوله: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ [الأعراف:50]، هذا الذي يريدونه، فيجابون إلى طلبهم.
لكن نسأل الله العافية يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف:29]، والمهل قال بعضهم: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض، من حديد، أو نحاس، أو رصاص، فهذه المعادن إذا أذيبت تسمى مهلاً، وقيل: المهل هو دردي الزيت، أي: عكر الزيت، يعني إناء الزيت لو نظرت في أسفله ستجد عكراً، ولا أقصد زيت الطبخ المعلّب وإنما الزيت الذي لم ينق؛ فتجد في أسفله عكراً، ومنه قول الله عز وجل: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:8-9]، ومعنى: تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] أي: كعكر الزيت، يتغير حالها.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، نسأل الله العافية، نعوذ بالله من عذاب النار، والله عز وجل تهدد الكفار بنوعين من العذاب:
العذاب الأول: حسي نفسي، وهو السرادق الذي أحاط بتلك النار، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن جرير ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لسرادق النار أربعة جدر، كل جدار مسافة أربعين سنة )، هذا السرادق.
والمهل الذي يغاث به أهل النار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته، وبين القرآن كذلك صفته، في القرآن الكريم قال الله عز وجل: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16-17]، وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات:67-68]، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4]، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:44]، لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:24-25].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم:16]: ( يقربه، فإذا قربه إلى فيه شوى وجهه حتى تسقط فروة رأسه، فإذا شربه سلت ما في أمعائه حتى تخرج من دبره )، يعني: يحرقه والعياذ بالله ظاهراً وباطناً.
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:57-58] أي: ينوع لهم، مثلما ينوع لهم الطعام، ويكون عندهم وجبات مختلفة، تارةً الزقوم، وتارةً الغسلين، وتارةً الضريع، وكذلك الشراب ينوع لهم.
وقول الله عز وجل: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ [الكهف:27]، يستفاد منه: الأمر بتلاوة القرآن لفظاً، واتباعه حكماً.
فقوله: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف:27]، يستفاد منه: أن القرآن وحي من الله عز وجل، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم منه إلا البلاغ، فما ألف شيئاً منه، ولا تصرف في شيء من ألفاظه، وإنما هو مبلغ.
قول الله عز وجل: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27]، يستفاد منه أنه لا يستطيع أحد تبديل كلمات الله ولا تغييرها، والكلمات شاملة لكلماته القدرية وكلماته الشرعية.
قوله تعالى: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:22].
فيه الوعيد الشديد لمن تركوا تلاوة القرآن والعمل به، كما قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وكما قال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
قول الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28]، يستفاد منه الصبر مع المؤمنين الموحدين وإن كانوا فقراء ومساكين، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، ويستفاد من ذلك: الثناء على أولئك المؤمنين بأنهم أهل إخلاص لربهم، ورجاء فيه جل جلاله، كما يستفاد منه: أن عبادتهم كانت مستمرةً متتابعة، فما كانوا يعبدون الله حيناً، ويقطعون عبادته حيناً؛ بل (يدعون ربهم بالغداة والعشي).
قول الله عز وجل: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، يستفاد منه النهي عن الإعراض عنهم، والاشتغال بغيرهم ممن أعرض، كما قال سبحانه في سورة عبس: أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس:5-6]، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:8-10]، عليه الصلاة والسلام.
في الآيات تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة دون اعتبار بالحقائق النفسية، والمكارم الخلقية، كما قال الله عز وجل: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ [النجم:30]، أي: الدنيا، أما مكارم الأخلاق، وعلوم النفس وشرفها فهذا لا يعرفون عنه شيئاً، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28].
يستفاد من الآيات أن الإسلام دين المساواة؛ فلا فرق بين شريف ووضيع، وغني وفقير إلا بتقوى الله عز وجل، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
قول الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا [الكهف:28]، يستفاد منه أن الهدى والضلال بيد الله، من شاء الله أقام قلبه، ومن شاء الله أزاغه، ولم يقل: ولا تطع من غفل قلبه؛ بل قال: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28].
قوله تعالى: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، يستفاد منه أن اتباع الهوى مانع من قبول الحق والإذعان له، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29]، يستفاد منه أن على الداعية إلى الله أن يبين الحق للناس.
قوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، يستفاد منه تهديد الكفار والمشركين المعرضين بعاقبة كفرهم، وأن عاقبة كفرهم نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16].
قول الله عز وجل: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً [الكهف:29]، يستفاد من هذه الآية: أن الجنة والنار لا تنشئان يوم القيامة، وإنما هما مخلوقتان موجودتان، وقد دلت على ذلك آيات من القرآن، كقول ربنا الرحمن: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:21-22]، وغيرها من الآيات، ومن السنة أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج رأى الجنة ورأى النار؛ بل دخل الجنة عليه الصلاة والسلام، ورأى عذاب أهل النار.
فالنار موجودة، والجنة موجودة، ولا يمنع هذا أن الله عز وجل ينشئ ويجدد فيها حيناً بعد حين، يعني كما في الحديث: ( يا محمد! أخبر أمتك أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، فكلما قال العبد هذه الكلمات غرس الله له غرساً في الجنة.
قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ [الكهف:29] قلنا: إنهم الكفار، فيستفاد منه بأن الكفر هو أظلم الظلم.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا.
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار عن الوجه الذي يرضيك عنا، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر