بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء الثاني والخمسين في الآية الرابعة والثلاثين من سورة التوبة، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
معاني المفردات:
قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ [التوبة:34]، (الأحبار) جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم من علماء اليهود.
قوله تعالى: وَالرُّهْبَانِ [التوبة:34]: الرهبان: جمع راهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية.
قوله تعالى: لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ [التوبة:34]، إطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع في القرآن مثل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وقوله سبحانه: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً [الفجر:19]، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء:10].
قوله سبحانه: بِالْبَاطِلِ [التوبة:34]، الباطل ضد الحق. أي: يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل. أي: أكلاً لا مبرر له.
والباطل يشمل وجوهاً كثيرة: منها: تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس.
ومنها: القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحق حقه المعين له في الشريعة.
ومنها: جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم.
ومنها: أكل أموال اليتامى وأموال الأوقاف والصدقات.
قول الله عز وجل: وَيَصُدُّونَ [التوبة:34]، الصد عن سبيل الله: هو الإعراض عن متابعة الدين الحق في خاصة النفس، وإغراء الناس بالإعراض عن ذلك، فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم؛ إذ يغيرون العمل بها ويضللون العامة في حقيقتها حتى يعملوا بخلافها، وهم يحسبون أنهم متبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أتباع ملتهم أن الإسلام ليس بالدين الحق.
قوله تعالى: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] (سبيل الله) طريقه، واستعير لدينه الموصل إليه، أي: لرضاه.
قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة:34]، أصل الكنز في اللغة: الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: ( ألا أخبركم بخير ما يكنز أحدكم؟ المرأة الصالحة )؟!
والكنز هو نفس المكنوز، تسمية له بالمصدر، ويقال لمن كانت له بدانة: فلان كنز اللحم.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة:34]، سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب، والفضة فضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى: لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
قال بعض العلماء: الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته. وهو قول ابن عمر و جابر بن عبد الله و عكرمة و السدي رحمة الله عليهم أجمعين.
وقال آخرون: هو كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أو لم تؤد. وهو قول علي رضي الله عنه.
وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
قال شيخ المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذكر عن ابن عمر من أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعيد الله إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة، وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ربع عشرها، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف ألوف من الكنوز لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر؛ لأن ما كان فرضاً إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، أو للتطهر منه برده إلى صاحبه، فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره، بل يكون اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب رجل ماله رده على ربه.
وبعد: فإن فيما حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور قال : قال معمر : أخبرني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جبينه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلاً إلا بطح له بقاع قرقر تطؤه بأخفافها -حسبته قال: وتعضه بأفواهها - يرد أولاها على أخراها حتى يقضى بين الناس، وإن كانت غنماً فمثل ذلك إلا أنها تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ).
يقول ابن جرير رحمه الله: وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاص كما قال ابن عباس . انتهى كلامه رحمه الله.
قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، أي: لا يؤدون زكاتها.
ذكر الرازي رحمه الله شيئين وهما: الذهب والفضة، ثم قال: (ولا ينفقونها) فيه وجهان:
الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى، فهو كقوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9].
الثاني: أن يكون التقدير: ولا ينفقون الكنوز.
وقال الزجاج : ولا ينفقون تلك الأموال.
قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ [التوبة:34]، أي: أخبرهم، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، أي: مؤلم موجع.
يقول الله عز وجل: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيراً من العلماء والقراء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[التوبة:34]، يأخذون الرشوة في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبونه بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، ويأخذون عليه ثمناً قليلاً من سفلتهم، قيل: كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أنه من النفقة في سبيل الله والتزلف إليه سبحانه، وهم من خلال ذلك يكنزون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي رضي الله عنه عن الراهب الذي استخرج كنزه.
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[التوبة:34]، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام بنهيهم إياهم عنه، ويأكلها أيضاً معهم الذين يكنزون الذهب والفضة وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ[التوبة:34].
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[التوبة:34]. أي: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم لهم يوم القيامة موجع من الله.
وهؤلاء هم رءوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء والعباد وأرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر رحمه الله: ذكر الله في هاتين الآيتين انحراف الإنسان في ماله وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعاً، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله وإخراجها للصد عن سبيل الله.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، والنهي عن الشيء أمر بضده.
في هذه الآية الكريمة فوائد:
أولاً: أن الله تعالى أسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم؛ لأنهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، ومثله قوله تعالى: وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ [المائدة:62] ، وقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59]، وقوله: وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:46]، فالإنصاف مطلوب.
ثانياً: بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وأنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم.
ثالثاً: تحريم أكل أموال الناس بالباطل ولو كان ذلك باسم الدين.
رابعاً: التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: ( لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ )، وفي رواية : ( فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا هؤلاء؟ ).
خامساً: التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم.
سادساً: حرمة كنز المال وجمعه وعدم الإنفاق منه.
سابعاً: وجوب الزكاة في الذهب والفضة إذا بلغا نصاباً.
ثامناً: أن المال الذي تؤدى زكاته لا يسمى كنزاً ولو دفن تحت الأرض.
أسأل الله سبحانه أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، والحمد لله أولاً وآخراً.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر