بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وعدد ما اختلف الليل والنهار، وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:
والمعنى الإجمالي لهذه الآية المباركة: يا أيها المؤمنون! إذا تعاملتم بالدين بيعاً أو سلماً أو قرضاً، فاكتبوا هذه المعاملة، وليكن الكاتب عدلاً، ثقةً، مأموناً، يقظاً، خبيراً بألفاظ الكتابة ومعانيها، ولا يمتنع هذا الكاتب من نفع إخوانه المسلمين، وليتذكر نعمة الله عليه حين علمه بعد جهل، فليكتب وليقم المدين بالإملاء عليه حال الكتابة؛ ليكن إملاؤه حجة عليه؛ لأنه غير متهم بأن يزيد على نفسه ما لم يأخذ، وأوصى ربنا سبحانه هذا المدين المملي بوصيتين: الأولى: تقوى الله، والثانية: ألا ينقص شيئاً من الحق الذي وجب عليه، فإن كان المدين ناقص الأهلية، بأن كان سفيهاً مبذراً ناقص التدبير، أو ضعيفاً صبياً أو مجنوناً، أو جاهلاً أو شيخاً هرماً لا يقدر على ضبط الأمور، أو كان عاجزاً عن الإملاء لبلاهة أو خرس، أو عي أو عمى، فعلى وليه الذي يتولى أموره من وصي أو مترجم أن يقوم بالإملاء على الكاتب بالعدل والإنصاف دون زيادة أو نقصان.
ثم أرشدنا ربنا سبحانه إلى ضبط الأمور وتقرير الوقائع عن طريق الإشهاد، فنشهد على هذه المعاملة رجلين مسلمين حرين ممن نرضاهم ونقبل شهادتهم، فإن لم نجد رجلين، فرجل وامرأتان.
والسبب في اشتراط امرأتين مكان الرجل الواحد: أن المرأة قليلة الضبط، كثيرة النسيان، لا تهتم غالباً بالمعاملات المالية، فإذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى.
ونهى ربنا سبحانه عباده عن الامتناع عن الشهادة إذا توجهت عليهم؛ إذ بالشهادة تثبت الحقوق وتنهى المنازعات، ويمنع الظلم والجور.
ثم نهانا ربنا سبحانه عن الملل والضجر من كتابة الدين قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن هذا أدعى للقسط، وأبعد من الخطأ، وأنفى لحصول الريبة والشك، وأقطع للنزاع والشقاق.
واستثنى من ذلك: التجارة الحاضرة، التي تستدعي حركة وسرعة وتقابضاً، فلا داعي للكتابة حينئذ، إذ لا يترتب عليها شيء من النزاع والاختلاف، لكن الإشهاد مطلوب؛ لأنه أحوط.
والمبدأ الواجب اتباعه في هذه المعاملة هو: عدم المضرة، فلا يحل للكاتب ولا الشهيد إيقاع الضرر بالدائن أو المدين بتحريف أو إخفاء بعض الوقائع، كما لا يجوز للمتعاملين إلحاق الضرر بالكاتب أو الشهيد بحمله على الزور أو تهديده أو ترغيبه برشوة ونحوها، ومن فعل شيئاً من ذلك فإنه يوصم شرعاً بالفاسق؛ لهذا فلا بد من التزام التقوى وامتثال أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه؛ لأن فيها صلاح الدنيا والآخرة.
وفي قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، يقول سيد قطب رحمه الله: الضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة، فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته، ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية، فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلاً نفسياً في المرأة حتماً، وتستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية، ولا ترجع فيها إلى تفكير بطيء، وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة، وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها، حين تكون امرأة سوية.
بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا انحرفت مع أي انفعال، فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.
وفي هذه الآية المباركة -آية الدين- أحكام منها:
الحكم الأول: الإسلام دين معني باقتصاد الأمة، فليس هو دين رهبنة وفقر واعتزال للحياة، بل جاء لتنظيم الحياة بأحكام الدين، وهذه الآية أطول آي القرآن.
الحكم الثاني: المال في ذاته ليس بغيضاً عند الله، بل هو ممدوح أو مذموم حسب حال صاحبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ).
الحكم الثالث: المقصود من هذه الأحكام: حفظ علاقات المحبة والود، وصلاح ذات بين المسلمين، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس.
الحكم الرابع: لا ينبغي للإنسان أن يستدين مالاً، إلا لضرورة أو حاجة ملحة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من ضلع الدين وغلبة الرجال.
الحكم الخامس: الأمر بكتابة الدين أمر إرشاد، لا أمر وجوب، بقرينة قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283].
الحكم السادس: شهادة النساء مع الرجال جائزة في الأموال وتوابعها.
الحكم السابع: وجوب أداء الشهادة إذا طلبها القاضي، أو إذا خاف الشهيد ضياع الحق على صاحبه.
الحكم الثامن: أداء الشهادة والكتابة يجب أن يكون بالحق والعدل.
الحكم التاسع: تقوى الله سبب لحصول العلم والمعرفة.
الحكم العاشر: شكر النعمة سبب لدوامها، ويكون شكرها باستعمالها في طاعة الله.
ثم ليعلم أن من استدان وهو ينوي الأداء أعانه الله على ذلك؛ لما روى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله )، ولا يجوز للمدين أن يماطل في أداء دينه لكون الدائن غنياً، كما يفعل ذلك بعض الناس، يقول: اقترضت من فلان ألفاً أو ألفين، وهذه لا تؤثر معه شيئاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم ) رواه الشيخان.
كما يستحسن للدائن أن يتجاوز عن المدين المعسر؛ رجاء الثواب من الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يجد من الخير شيئاً، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه ) رواه مسلم عن أبي مسعود البدري .
ويستحب للدائن إن لم يتجاوز عن المعسر: أن يضع عنه بعض دينه، وفي الحديث: ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن المعسر أو يضع عنه ) رواه مسلم عن أبي قتادة .
ولا بأس على المدين أن يرد الدين مع زيادة دون اشتراط من الدائن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( استلف بكراً ورد رباعياً، وقال: إن خير الناس أحسنهم قضاءً ) رواه مسلم عن أبي رافع .
ومن مكارم الأخلاق أن يدعو المدين للدائن، فقد جاء عن عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض منه أربعين ألفاً، فجاءه مال فدفعه إليه، وقال: بارك الله في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء ) أخرجه النسائي .
فما أروعها من أحكام! وما أحسنها من آداب!
نسأل الله أن يرزقنا الالتزام بها، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر