بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:
فيقول الله عز وجل في الآية الحادية والعشرين من سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
يقول الله عز وجل: ومن آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته سبحانه: أن خلق لكم من أنفسكم أيها الرجال -أي: من جنسكم وشاكلتكم- أزواجاً؛ ليحصل السكن إليها والاطمئنان معها، وجعل بين الزوجين محبةً وشفقة، إن في ذلك لآيات دالةً على قدرته جل جلاله وكمال عظمته، لقوم يتدبرون فيعلمون أن قوام الدنيا بوجود التناسـل.
والحِكم التي تنطوي عليها هذه الآية:
أن جعل للإنسان ناموس التناسل.
وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعل كتناسل النباتات من نفسها.
وأن جعل الله أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعله من صنف آخر؛ لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف.
وأن جعل في التزاوج أنساً بين الزوجين، ولم يجعله تزاوجاً عنيفاً مهلكاً كتزاوج الضفادع.
وأن جعل بين كل زوجين مودةً ومحبة.
قال ابن عطاء رحمه الله: الفكرة سراج القلب، فإن ذهبت فلا إضاءة له، وما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة.
فالله سبحانه بدأ خلق المرأة من جسد الرجل، فخلق حواء من ضلع آدم ؛ ليتحقق الوفاق ويكتمل الأنس.
وفي هذه معنى الآية قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا[النساء:1]، وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا[الأعراف:189]، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً[النحل:72]، وقوله سبحانه: ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة:38-39].
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: ضمن قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا [القصص:73] معناه: لتميلوا، فعداه بحرف (إلى) وإن كان حقه أن يعلق بعند ونحوها من الظروف.
قال سيد قطب رحمه الله: يد الله جعلت في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقراراً للحياة والمعاش، وأنساً للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء.
وفي تفسير المودة والرحمة أقوال.
قيل: المودة: الجماع، والرحمة: الولد.
وقيل: المودة للشابة، والرحمة للعجوز.
وقيل: المودة والرحمة عطف قلوب بعضهم على بعض.
في الآية الكريمة أحكام:
الحكم الأول: في الآية دليل على عدم جواز التزاوج بين الإنس والجن، إذ لا يحصل الأنس إلا بالجنس، وفي هذا جواب على سؤال يطرحه كثير من الناس، حين يقولون: هل يجوز للإنسي أن يتزوج جنية؟ وهل يجوز للجني أن يتزوج إنسية؟
الجواب: لا، والعلم عند الله.
الحكم الثاني: في قوله تعالى: (لكم) ومثله: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ[الشعراء:166] دليل على أنه يجب على المرأة بذل نفسها في كل وقت يدعوها الزوج فيه، فإن امتنعت فهي ظالمة وفي حرج عظيم.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ).
قال الإمام النووي رحمه الله: هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي، وليس الحيض بعذر في الامتناع؛ لأن حقه الاستمتاع بما فوق الإزار.
ومعنى الحديث: أن اللعنة تستمر عليها حتى تزول المعصية بطلوع الفجر والاستغناء عنها أو بتوبتها ورجوعها إلى الفراش. انتهى كلامه رحمه الله.
الحكم الثالث: من أدلة وحدانية الله عز وجل: بقاء النوع الإنساني بالتوالد بعد حصول السكن بين الجنسين.
الحكم الرابع: ليس قضاء الوطر هو الغرض الأوحد من الزواج في الإسلام.
الحكم الخامس: المودة توجد بين الزوجين أولاً، ثم تفضي إلى حصول الرحمة.
وهاهنا مباحث في أحكام الزواج أذكرها:
المبحث الأول: الزواج مندوب لمن قدر عليه ورجا نسلاً، ويجب على من يشتهيه ويخشى الزنا، ويكره في حق من لا يشتهيه ولا يرجو نسلاً، ويحرم على من لم يخش عنتاً ولا يؤدي فيه حقوق الزوجية.
وباختصار: الزواج تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فتارة يكون مندوباً، وتارة يكون واجباً، وتارة يكون حراماً، وتارة يكون مكروهاً، والحكم العام: أنه مباح، والله أعلم.
المبحث الثاني: ذكر ربنا سبحانه الزواج في معرض الامتنان على العباد في سورتي النحل والروم، وثبت في الحض عليه أحاديث رواها جماعة من الصحابة، فيهم ابن مسعود وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
المبحث الثالث: المستحب للمسلم أن ينكح ذات الدين؛ لقول نبينا الأمين صلوات الله وسلامه عليه: ( تنكح المرأة لأربع ) إلى أن قال: ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ).
قال النووي رحمه الله في المجموع: يؤخذ من الحديث أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج نسيبة، ويؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات الجمال في الصفات، انتهى كلامه.
والحديث يكشف غرائز البشر وما استقر في طباعهم من قصد هذه الخصال الأربعة، وآخرها عندهم ذات الدين.
المبحث الرابع: الأب الفاضل يختار لبناته الأزواج الصالحين، فقد جاء رجل إلى ميمون بن مهران يخطب ابنته فقال ميمون : لا أرضاها لك، قال: ولم؟ قال: لأنها تحب الحلي والحلل. قال الرجل: فعندي من هذا ما تريد. قال ميمون : الآن لا أرضاك لها.
وقصة سعيد بن المسيب رحمه الله في تزويجه ابنته من كثير بن أبي وداعة رحمه الله معروفة، بعدما رفض تزوجها للوليد بن عبد الملك وهو ابن أمير المؤمنين حينذاك.
المبحث الخامس: الزوج الصالح هو الذي يعاشر زوجته بالمعروف، ويحسن إليها، ويصبر عليها، قال شريح القاضي رحمه الله:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكباً.
المبحث السادس: الزوجة الصالحة هي التي تطيع زوجها وتعاشره بالمعروف.
ذكر الإمام أحمد أهله فترحم عليها وقال: مكثنا عشرين سنة فما اختلفنا في كلمة.
ومن أمثلة ذلك: خبر فاطمة رضي الله عنها حين أخبرها علي رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه بالباب يستأذن، فقالت رضي الله عنها: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت.
قال الذهبي رحمه الله: عملت بالسنة رضي الله عنها.
وكذلك خبر أم سليم مع أبي طلحة حين مات ولدهما، وخبر فاطمة بنت قيس مع أسامة حين خطبها، وخبر معاذة العدوية مع صلة بن أشيم رضوان الله عليهم أجمعين.
المبحث السابع: على الزوج المسلم أن يتحمل ما يكون من غيرة الزوجة، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (كان نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حزبين، فحزب منه: عائشة و حفصة و صفية و سودة ، والحزب الآخر: أم سلمة وسائر أزواجه). الحديث.
وقصة عائشة مع حفصة في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وفي آخرها: ( جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول: يا رب! سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً! ).
قال النووي رحمه الله: هذا الذي فعلته وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه. انتهى كلامه رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم.
المبحث الثامن: من حكم الزواج: تصريف الغريزة الجنسية في منفذ شرعي، وإنجاب الأولاد، وتكثير النسل، وتكامل غريزة الأبوة والأمومة، والشعور بالتبعة وتحمل المسئولية، وتوزيع الأعمال توزيعاً عادلاً ينتظم به شأن الحياة.
أسأل الله أن يزوج شباب المسلمين، وأن يزوج فتيات المسلمين، وأن يرزق كل شاب مسلم زوجة صالحة، وأن يرزق كل فتاة مسلمة زوجاً صالحاً، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر