بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
أسأل الله أن يجعلنا من المقبولين.
كان النداء السادس قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، ثم النداء الذي بعده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، والنداء في هذه الآية قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].
هذه نداءات ثلاثة في أوائل القرآن من سورة البقرة تتكلم عن الإنفاق، وقد ختم القرآن بسور أيضاً تتكلم عن الإنفاق، فنجد في سورة القلم حديثاً عن أصحاب الجنة الذين منعوا حق الفقير والمسكين، قال تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20].
وبعدها سورة الحاقة، يقول الله عز وجل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:30-34].
وبعدها في سورة المعارج قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
وبعدها في سورة المدثر قال الله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44].
وبعدها في سورة الإنسان قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8]، هذا كله حديث عن الإنفاق، وأن يعود الغني بجزء من ماله على الفقير من أجل أن يتحقق التكافل وتزول الأحقاد، ويكون مجتمع المسلمين مجتمعاً معافى، يعرف كل امرئ حقه ومستحقه.
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، فقد كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل -أي: قطع التمر- أخرجت من حيطانها -يعني: بساتينها- البسر، وهو التمر إذا ظهر لونه، أخرجوه فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين، والأسطوانتان هما العمودان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي الواحد منهم بقناء التمر فيعلقه في حبل بين الأسطوانتين، ويأتي الواحد من فقراء المهاجرين ويأكل من هذا الذي علق، فكان الرجل من الأنصار، يعمد إلى حشف التمر، أي: إلى أردى التمر فيجعله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267].
يا مؤمنون! يا طيبون! يا من تريدون وجه الله بنفقتكم! وترجون من ورائها الأجر والثواب اعلموا ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، فإذا أردت أن تنفق فلا تعمد إلى الرديء، وإنما إلى الطيب من جنس ما تحب، قال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
وقوله: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] يشمل ذلك التجارات والصناعات والرقيق والملابس والحيوان وغير ذلك.
وقوله: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267] يشمل ذلك الزروع والثمار والمعادن والركاز وغير ذلك.
ونلاحظ هنا أن الله عز وجل قال: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا [البقرة:267]، ولم يقل: (ومما أخرجتم)، بل قال: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267]، فالكسب -كما يقول ابن القيم رحمه الله-: أضافه الله للعباد؛ لأنه فعلهم القائم بهم، وأما إخراج الزرع فليس من فعلهم، بل هو من فعل الله كما قال ربنا سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64]، ولذلك قال: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267]، وقد ذكر ربنا جل جلاله هذين الصنفين: (ما كسبتم) و(مما أخرجنا لكم من الأرض) باعتبار أنه خطاب للمؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد كان الأنصار أهل زرع، وكان المهاجرون أهل تجارة؛ لأن مكة ليس فيها زرع، ولذلك نجد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة )؛ لأن أهل مكة دائماً يستعملون الموازين بحكم التجارة، أما الأنصار لأنهم أهل تمر وأهل زرع فدائماً كانوا يستعملون المكيال الصاع.
قال سبحانه: وَلا تَيَمَّمُوا[البقرة:267]، أصلها: (تتيمموا) بمعنى: تقصدوا، والتيمم: القصد.
وقوله: الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، الخبيث: الرديء أو الحرام، يعني: إما أن يكون المقصود بالخبث: الخبث من حيث المادة، أو الخبث من حيث جهة الكسب.
وقد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشه وظلمه. ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحوه الخبيث )، هذا على تفسير الخبيث بأنه الحرام.
وقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، يعني: هذا المال الرديء لو أنكم أعطيتموه لما قبلتموه إلا على إغماض، كحال الإنسان الذي يغمض عينيه وهو يعلم العيب الذي في هذا الشيء الذي أعطيه، ولذلك يا عبد الله! الشيء الذي لا تقبله لنفسك لا تقدمه لله عز وجل.
قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]، هنا ختم الله عز وجل الآية بذكر هذين الوصفين الجليلين، فهو جل جلاله غني عن جميع المخلوقين، غني عن نفقات المنفقين، غني عن طاعات الطائعين، فأمرهم جل جلاله بالنفقة من أجل أن يزكيهم هم ويطهرهم هم، لا لحاجته إليه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فهو غني عنكم جميعاً، قال الله تعالى أيضاً: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].
ثم هو سبحانه حميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام التي توصلهم إلى دار السلام، حميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والرحمة والحكمة، وحميد الأوصاف؛ لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات لا يبلغ العباد كنهها.
يقول ابن القيم رحمه الله: ختمت الآية بصفتين يقتضيهما سياقها: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]، فغناه وحمده يأبيان قبول الرديء؛ لأن قابل الرديء - أي: الإنسان الذي يقبل الرديء من المال - إما أن يقبله لحاجته إليه، كالجائع فإنه لو أعطي أي شيء لقبله، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها؛ لأنها ليست نفساً شريفة، أو نفساً كاملة، لكن الله عز وجل غني حميد؛ ولذلك لا تقدموا إليه الرديء.
أيها الإخوة الكرام! وهذه الآيات عملت عملها في سلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ( كان أبو طلحة -و أبو طلحة هو زوج أم أنس، زوج أم سليم - واسمه: زيد بن سهل ، كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، -بيرحاء يعني: حديقة بستان كبير- وكانت مستقبلة المسجد -أي: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله! قد أنزل الله ما قد علمت، وإن أحب مالي إلي بيرحاء فهي لك يا رسول الله! اجعلها حيث شئت. قال عليه الصلاة والسلام: بخ بخ! ذاك مال رابح اجعلها في قرابتك )، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ردها إليه، وأمره أن يقسمها في أرحامه؛ لأن (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة).
وهناك مثال آخر أيضاً لـأبي طلحة رضي الله عنه، حيث جاء رجل ضيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: مسلم جديد، فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم عند أزواجه شيئاً من أجل أن يطعمه هذا الضيف، فقال لأصحابه: ( من يضيف الرجل هذه الليلة؟ قال أبو طلحة : أنا يا رسول الله! فذهب به إلى أهله فوضع بين يديه الطعام، وكان طعاماً قليلاً، وقد أمر زوجته بأن تعلل الصبيان -يعني: تضع ماءً على نار توهمهم بأنها تصنع لهم عشاءً حتى يناموا- فلما وضع الطعام بين يدي الضيف قال لامرأته: قومي إلى السراج وكأنك تصلحينه فأطفئيه- يعني: اجعلي الدنيا ظلاماً؛ لئلا يرى الضيف ولا يتحرج- ففعلت المرأة ذلك وجلس هو رضي الله عنه ومعه زوجه أم سليم وكأنهما يأكلان، لكنهما في واقع الأمر لا يأكلان، حتى شبع الضيف رضي الله عنه، فلما قدم أبو طلحة في الصباح تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وقال: عجب ربنا من صنيعك أنت وصاحبتك البارحة، وأنزل الله عز وجل قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] ).
ومثال ثالث وهو أعجب مما سبق ولسنا مطالبين به: عبد الله بن عمر رضي الله عنه اشتهى سمكاً بعدما مرض مرضاً شديداً فنقه منه، ومن المعلوم أن المريض إذا نقه ربما يشتهي الشيء الذي كان محروماً منه، فاشتهى رضي الله عنه سمكة فالتمست بالمدينة فلم توجد؛ لأنه ليس هناك بحر، فوجدت بعد مدة من الزمن واشتريت بدرهم ونصف ثم شويت، وجيء بها على رغيف لـابن عمر ، فجاء سائل يطرق الباب، فقال عبد الله بن عمر لغلامه: يا غلام! لفها برغيف وادفعها إليه. فأبى الغلام، وقال له: أنت مريض ومحتاج إليها من أجل أن ترجع إليك قوتك. فانتهره وأمره بدفعها إليه، فذهب الغلام ثم جاء بالسمكة والرغيف فوضعها بين يدي ابن عمر وقال له: كل هنيئاً يا أبا عبد الرحمن، فقد أعطيته درهماً بدلها واسترجعت السمكة، فقال ابن عمر : لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدرهم الذي أعطيته إياه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له )، وهذا مثال لا يكون إلا من تربية محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك مثال رابع: وهو أعجب: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من الصحابة أهدي إليه رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال من بعثت إليه: إن فلاناً -لشخص آخر- كان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فقال الثالث: إن أخي فلاناً.. وهكذا حتى دارت على سبعة أبيات فرجعت للأول؛ قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء: أن عبد الله بن جعفر - وكان رجلاً مشهوراً بالسخاء والكرم - خرج إلى ضيعة له، أي: إلى بستان خارج المدينة، فنزل على نخيل قوم وفيهم غلام أسود يعمل فيه، إذ أتي الغلام بقوته، يعني: هذا العامل جيء له بطعامه، فدخل كلب ودنا من الغلام فرمى الغلام إلى الكلب بقرص فأكله، ثم رمى إليه بالثاني فأكله، ثم رمى بالثالث فأكله، و عبد الله بن جعفر ينظر إلى هذا الأمر ويتأمل، فقال: يا غلام! كم قوتك في كل يوم؟ قال له: هذه الأرغفة الثلاثة، يعني: كأنه رغيف للفطور ورغيف للغداء ورغيف للعشاء. قال له: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال له: ما هي بأرض كلاب، يعني: الأرض التي نحن فيها هذه ليس فيها كلاب، والظاهر أنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. قال له: فما تصنع ببقية يومك؟ قال: أطوي يومي هذا، يعني: أصبر على الجوع، فقال عبد الله بن جعفر : لا حول ولا قوة إلا بالله، يلومونني على السخاء، يعني: كان عبد الله بن جعفر مشهوراً بالسخاء والكرم، وكان الناس يلومونه، فقال: يلومونني على السخاء، والله إن هذا لهو السخاء، وإن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى البستان الذي نزل فيه ضيفاً واشترى الغلام، ثم أعتقه لوجه الله وملكه البستان.
قال الله عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، انظروا ثلاثة أرغفة ماذا صنعت؟ نال حريته، وأخذ البستان الذي لم يكن إلا عاملاً فيه!
هذه الآية قد اشتملت على فوائد:
الفائدة الأولى: وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة، وما يقوم مقامهما من العملات التي اخترعها الناس، ووجوب الزكاة في الناطق من الإبل والبقر والغنم؛ إذ الكل داخل في قوله تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267].
الفائدة الثانية: وجوب الزكاة في الحرث من الحبوب والثمار فيما لو بلغت نصاباً، وكذا في المعادن لعموم قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267].
الفائدة الثالثة: قبح الإنفاق من الرديء وترك الجيد، فلا تنفق الرديء وتكنز لنفسك الجيد.
الفائدة الرابعة: قال ابن خويز منداد رحمه الله وهو من علماء المالكية: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لأن ولده من كسبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أولادكم من طيب أكسابكم، فكلوا من أموال أولادكم هنيئاً )؛ ولذلك في الآية التي في سورة النور قال الله عز وجل: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ [النور:61]، ولم يذكر أولادكم؛ لأن بيوت أولادكم بيوتكم، وأموال أولادكم أموالكم.
الفائدة الخامسة: تقديم الكسب على ما يخرج من الأرض يدل على تفضيله، ويعضده الحديث الذي في صحيح البخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده ).
وهناك حديث آخر: ( سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب، قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور )، فقوله: (عمل الرجل بيده) يدخل فيه: الزراعة، والاحتشاش، والاحتطاب، ويدخل فيه كذلك الصناعات الأخرى إذا كان فيها أمانة، فلو أن إنساناً يعمل بالبناء فهو بعمل يده، ولو أنه يعمل بالنجارة أو بالحدادة أو بغير ذلك فهو بعمل يده لكن بشرط الأمانة، والحقيقة أن الأمانة أصبحت عملة رديئة، حتى ذكروا أن بعض البنائين - مع الاعتذار لإخواننا المقاولين - بنوا حائطاً وقالوا: من يذهب إلى صاحبه فيأتينا بالأجرة؟ فقال الآخر: ومن يمسك الحائط حتى لا يقع؟!
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر