الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
ففي الآية السادسة والعشرين من سورة البقرة يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة:26].
في سبب نزول هذه الآية قولان لأهل التفسير:
القول الأول: أنها نزلت في المنافقين الذين ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً حين قال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[البقرة:17]، ومثلاً مائياً حين قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ[البقرة:19]، فقال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال.
القول الثاني: أن الآية نزلت في المشركين الذين سمعوا قول الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، وسمعوا قول الله عز وجل: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ[الحج:73]، فقالوا: لا يشبه هذا كلام الله، فالله أجل من أن يذكر الذباب والبعوض والعنكبوت، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي[البقرة:26]، والحياء تغير وانقباض في النفس عند قول أو فعل ما يترتب عليه العيب والذم.
والله جل جلاله منزه عن الحوادث، لكن صفة الحياء نثبتها له على ما يليق بجلاله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي ستير )، وقال: ( إن الله يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما خائبتين )، فصفة الحياء ثابتة لربنا على ما يليق بجلاله.
لكن الحياء لا يمنعه من أن يبين الحق، أو أن يقول الحق، أو أن يفعل ما هو حق، كما قال سبحانه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53] جل جلاله.
وفي هذه الآية يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، والبعوضة حشرة حقيرة لها خرطوم كخرطوم الفيل في الصفة دون الحجم، ولها قدرة كبيرة على مص الدماء، وقد منحها الله عز وجل أجنحة وآذاناً وقدرة على الاستشعار.
يقول علماء الحيوان: بأن البعوضة تستطيع أن تستشعر وتبصر فريستها من بعيد من نحو خمسة وستين متراً، ولذلك فإن كبار الحيوانات وضخامها لا تقدر على البعوضة.
والله جل جلاله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها.
قال المفسرون: معنى (فما فوقها) أي: فما دونها، يعني ما هو أقل من البعوضة، كما تقول لإنسان: أنت تقترف جريمة من أجل جنيه أو فوق ذلك، أي دون ذلك، نصف الجنيه مثلاً.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا بجناح البعوضة وليس بالبعوضة، فقال: ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ).
وقد بين ربنا جل جلاله أن قوة المثل ليس في ضخامة وعظم الممثل به، بل قد يكون الممثل به حقيراً لشيء حقير، وقد يكون الممثل به كبيراً لشيء كبير، والمعول على مطابقة المثل للواقع.
وبين ربنا جل جلاله أن الناس ينقسمون في هذا المثل إلى قسمين:
القسم الأول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ[البقرة:26]، يعلمون بأن هذه الأمثال حق، وأن الله عز وجل يبين بها مراده للناس.
القسم الثاني: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً[البقرة:26]، قولهم: (ماذا أراد الله)، هذا من باب الاستهزاء والسخرية، لا لأنهم يقرون بأن هذا الوحي من عند الله عز وجل، لكنهم يقولون: على فرض أن هذا الكلام كلام الله، (ماذا أراد الله بهذا مثلاً)؟ قال الله عز وجل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27].
ومثلها أيضاً الآية التي في سورة الرعد، أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد:17].
في الآية الرابعة والسبعين من هذه السورة نفسها يقول الله عز وجل مخاطباً اليهود: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
هذا المثل ذيل الله به قصة قتيل بني إسرائيل، وهو شاب خطب من عمه ابنته فأبى أن يزوجه؛ لأنه فاسق، فأضمر في نفسه: لأتزوجن ابنتك ولآخذن مالك، وفعلاً عدى على عمه فقتله، ثم ألقاه بين حيين، فاختصم أهل الحيين، فهؤلاء يقولون: أنتم قتلتموه، وهؤلاء يقولون لأولئك: بل أنتم قتلتموه، فقالوا: فيم الاختصام وفينا نبي الله موسى؟ فجاءوه فأخبروه بأنه قد قتل قتيل لا ندري من قاتله، فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً[البقرة:67]، نحن نخبرك بأن جريمة قتل مروعة قد حصلت وأنت تقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67]، قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67].
فبدءوا يتشددون، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ[البقرة:68]، يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا[البقرة:69]، يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[البقرة:70]، وكلما سألوا كلما ضاقت الخيارات أمامهم، وانحصرت الصفات، ولم يجدوا تلك البقرة إلا عند يتيم من بني إسرائيل، فطلب حشو جلدها ذهباً، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
ثم بعد ذلك ذكوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71]، قال الله عز وجل: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا[البقرة:73]، خذوا شيئاً من تلك البقرة، يدها أو رجلها أو رأسها، فاضربوا به القتيل، فأحياه الله عز وجل، فسأله نبي الله موسى: من قاتلك؟ قال: قتلني ابن أخي فلان، ثم أعاده الله ميتاً، قال سبحانه: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73].
لكن القوم لم تؤثر فيهم تلك المعجزات ولم تحدث إيماناً تلك الآيات البينات، بل قست قلوبهم فكانت قاسية شديدة كالحجارة، قال الله عز وجل: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً[البقرة:74]، فقلوب اليهود أشد قسوة من الحجارة. وبين ربنا جل جلاله أن الحجارة أفضل منهم من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ[البقرة:74]، أي: تلك العيون التي تكون في الصخور.
الوجه الثاني: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ[البقرة:74]، أي: تلك التي تكون عقب الزلازل.
الوجه الثالث: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[البقرة:74].
فالله عز وجل يضرب المثل بهذه الأشياء التي نراها رأي عين، حجارة يتفجر منها الماء، وحجارة تتشقق فيخرج منها الماء، وحجارة تهبط من خشية الله؛ ولذلك قال أهل التفسير: وصف الله عز وجل قلوب الكافرين بالطبع والختم والغشاوة والقسوة والمرض والموت والران، وكلها صفات قبيحة والعياذ بالله.
والموفق من اعتنى بصلاح قلبه. أسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر