الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها، وعرفنا أنه قد ورد في فضلها جملة من الأحاديث الصحاح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة )، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ( حين سألته: من من أزواجك في الجنة؟ فقال: أنت منهن ).
وعرفنا أن عائشة رضي الله عنها قد ميزت بجملة من الفضائل والمناقب لم يشاركها فيها أحد من النساء، من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكح بكراً غيرها، ولا امرأةً أبواها مهاجران غيرها، وأن الملك نزل بصورتها في كفه في سرقة من حرير، وأنها كانت تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وكان الوحي ينزل عليه وهو في لحافها، وأن براءتها نزلت من السماء في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وأن الله عز وجل جمع بين ريقها وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر ساعات له في الدنيا عليه الصلاة والسلام، وذلك ( لما دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك رطب يستن به، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمت عائشة رضي الله عنها أنه يحب ذلك السواك، فقالت: يا رسول الله! آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. تقول رضي الله عنها: فأخذته وطيبته ولينته ثم دفعته إليه فاستن به -أي: استاك، قالت عائشة:- فما رأيته استن استناناً أحسن من يومه ذاك، ثم رأيته يشير بإصبعه إلى السماء، ويقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ثم وقعت يده، فعلمت أنه قد خير فاختار، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر ساعة من ساعات الدنيا ).
ومن فضائلها رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض في بيتها، وقبض في بيتها، وكان رأسه عليه الصلاة والسلام بين سحرها ونحرها، ودفن في بيتها.
ومن فضائلها: أنها مطيبة خلقت لطيب بشهادة القرآن، قال تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].
وهذه الآيات النازلة في براءة أمنا رضي الله عنها وأرضاها بلغت بضعة عشر آية، ولعله لو حصل استعراض للحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها، فسيكون ذلك أدعى لمعرفة معاني هذه الآيات؛ لأن عائشة هي صاحبة القصة، وهي أدرى بتفاصيلها، وروايتها ستكون من باب تفصيل المجمل، فما أجمل في القرآن فصلته عائشة رضي الله عنها في هذه الرواية الواضحة التي ذكرت في أمهات كتب السنة، ومنها الصحيحان (صحيحا البخاري و مسلم رحمهما الله تعالى)؛ فلنستمع إلى حديث عائشة رضي الله عنها.
قال الإمام البخاري رحمه الله: [ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال: حدثني عروة بن الزبير ، و سعيد بن المسيب ، و علقمة بن وقاص ، و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ].
ابن شهاب الزهري رحمه الله يروي هذا الحديث عن هؤلاء الأجلاء عن علقمة بن وقاص، و سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير ، و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، كلهم عن عائشة رضي الله عنها، قالوا: في هذا دليل على جواز تلفيق حديث الجماعة بعضهم إلى بعض، إذا لم يكن في ذلك تعارض، بمعنى أنه إذا كان حديث بعضهم يصدق حديث بعض فلا بأس أن يؤخذ من حديث هذا وحديث هذا وحديث هذا فيجمع كله، فهؤلاء جميعاً علقمة و عبيد الله و سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير كلهم سمعوه من عائشة رضي الله عنها، و ابن شهاب الزهري الذي كان وعاءً من أوعية العلم جمع حديث بعضهم إلى بعض، وخرج بهذه الرواية.
قال: [عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا].
الإفك هو الكذب؛ بل هو أقبح الكذب وأشنعه، وسمي إفكاً؛ لأن فيه قلباً للحقائق، يقال: أفكه إذا قلبه، ومنه قول الله عز وجل: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، ومنه قوله سبحانه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ [التوبة:70]، المؤتفكات قرى قوم لوط؛ وسميت مؤتفكات لأن الملك أفكها، كما قال ربنا: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [الحجر:74]، فالإفك هو القلب؛ فسمي الكذب إفكاً لأن فيه قلباً للحقائق وتزويراً لها.
قال: [وكلهم حدثني طائفةً من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصاً].
الاقتصاص من القص، وهو التتبع؛ ولذلك سميت القصة قصةً لأن فيها تتبعاً للخبر، وسمي القاص قاصاً لأنه يتتبع أثر الجاني، وسمي المقص مقصاً لتعادل جنبيه، وسمي القصاص قصاصاً لأن الجاني يفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه؛ فهذه كلها من مادة قص، يقول: وأكثر اقتصاصاً، أي: تتبعاً للحديث، وجمعاً له.
قال: [ وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضاً، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، قالوا: قالت عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه ) ].
(أقرع) أي: أجرى بينهم قرعة، والقرعة في اللغة وفي الاصطلاح هي السهم والنصيب، وفي القرآن الكريم قال الله عز وجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، يعني: بنو إسرائيل كلهم حريصون على أن يكفلوا مريم لأنها ابنة رجل صالح، ومن بيت علم وفضل، فلذلك اقترعوا فيما بينهم من يكون كافلاً لها.
وكذلك في قصة يونس عليه السلام، قال الله عز وجل: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، (فساهم) قال ابن عباس رضي الله عنه: أي اقترعوا، لما ثقلت بهم السفينة أجروا قرعة من أجل أن يخففوا حمولتها من الذي يلقى في البحر؟ فخرج السهم على يونس عليه السلام، قال الله عز وجل: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:141-142]، أي: ملام، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك لما طلب من قوم يميناً فأسرعوا أقرع بينهم؛ من أجل أن يختار من بينهم الذي يحلف، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه؛ لأن عنده زوجات ولا يستطيع أن يصطحبهن كلهن، فكان يجري القرعة.
والقرعة إما أن تكتب أسماء المقترعين على رقاع، ثم تجعل مخلوطةً، ويتخير من بينها واحدة، وإما أن يكتب النصيب في رقاع ثم بعد ذلك يتخير، والقرعة تكون إذا تساوى الناس في الاستحقاق، بمعنى: أن الزوجات متساويات، ومثله أيضاً لو أن امرأة عندها أولياء ليس ولياً واحداً، فمن الذي يتولى تزويجها؟ إذا تنازل بعضهم لبعض فالحمد لله، أما إذا حصل بينهم المشاحة فإننا نلجأ إلى القرعة، ومثله أيضاً لو أن ميتاً عنده أولياء، وكلهم جدير بأن يغسله، فإذا تشاحوا فإننا نقرع بينهم من أجل أن يتولى غسله أحدهم.
فالقرعة تحصل إذا حصل التساوي في الاستحقاق، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا )، معناه أنهم إذا تزاحموا في الأذان سيجرون بينهم قرعة من أجل أن يفوز أحدهم بذلك الأجر والثواب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، ومعنى ذلك أن الرجل إذا كان عنده أكثر من زوجة فأراد سفراً فلا بد أن يجري قرعةً، هذا عند جماهير العلماء، أما المالكية رحمهم الله فيقولون: لا، القرعة لازمة بين الأزواج في سفر القربة، مثل الحج، والعمرة، والجهاد، وهذه هي أسفار الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ما سافر لتجارة، ولا سافر لسياحة، وإنما سافر إما حجاً وإما عمرة وإما جهاداً في سبيل الله؛ ولذلك المالكية يقولون: الإقراع بين الزوجات واجب في سفر القربة، أما في غيره فله أن يصطحب من شاء؛ لأن بعض النساء تصلح للسفر، وبعضهن لا تصلح، وأظن الكلام هذا منطقي جداً؛ فلو كان الإنسان يريد أن يسافر، وإحدى زوجاته عندها ثمانية من الأولاد، والأخرى عندها ستة، والثالثة عندها واحد، والرابعة ما عندها شيء، فمن باب تخفيف الشريعة على الناس أن نأخذ بهذا الرأي الأخير، أما لو خرجت القرعة على الأولى مثلاً هل ستأخذها ومعها التسعة أو العشرة؟ فهذه إشكالية، دعونا من هذا فليس لنا به شأن، الحمد لله ربنا أراحنا من كثرة الزوجات، ونسأل الله أن يغنينا جميعاً من فضله؛ فواحدة تكفي إن شاء الله.
إذاً نقول بأن القرعة بين النساء في السفر ليست واجبة إلا في سفر القربة؛ لكن القرعة بين النساء قد يحتاج إليها أحياناً، فمثلاً لو أن الإنسان غاب غيبةً طويلة، ثم بعد ذلك رجع، فبأيهن يبدأ النوبة؟ هاهنا قد يحتاج إلى قرعة، المقصود من هذا الكلام أن القرعة مشروعة، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ).
هذه الغزوة المبهمة في الحديث هاهنا قد علم بأنها غزوة المريسيع، ويقال لها: غزوة بني المصطلق، غزوة المريسيع نسبة إلى ماء يقال له: المريسيع، وغزوة بني المصطلق نسبةً إلى القوم الذين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الغزوة على الراجح من أقوال أهل العلم في السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة، وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها، فغنم وسلم ورجعوا بالغنائم والسبايا، وكان من بين السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وجاءت هذه المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تستعين به في أن تفدي نفسها، فقال لها عليه الصلاة والسلام وهو الرءوف الرحيم: ( هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما ذاك؟ قال لها: أعتقك وأتزوجك؟ فرضيت، فتزوجها صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم يكونون أسرى بأيدينا، فأطلقوهم جميعاً، فأسلموا جميعاً، تقول أمنا عائشة : ما أعلم امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها من جويرية بنت الحارث )، كانت هذه المرأة سبباً في إسلام قومها، وكما ذكرت لكم أن أباها كان هو سيد بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنه وأرضاه.
فهذه الغزوة التي أبهمت في رواية أمنا عائشة هي غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق، وهي الغزوة التي اشتجر فيها رجلان جهجاه الغفاري ورجل من الأنصار حين ازدحموا على الماء فتدافعوا، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال عبد الله بن أبي ابن سلول لعنه الله: ما نحن ومحمد إلا كما قالت العرب: سمن كلبك يأكلك، فإن هؤلاء قد قدموا إلى بلادنا ثم كاثرونا وزاحمونا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. لعنة الله عليه، وهذا الكلام يدل على كفر متمكن، وحقد دفين، وشدة بغضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر