بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
فقد مضى معنا الكلام عن الأحكام التي تتعلق بالدفن، ويلزم التنبيه على أن فقهاءنا رحمهم الله قالوا: لو أن الإنسان مات في البحر، وكان بين الناس وبين البر وقت طويل بحيث يخشى عليه من التغير فإنه يغسل ويكفن، ويصلى عليه، ويثقل، ثم يرمى في البحر، ويثقل بمعنى: يربط معه شيء ثقيل، بحيث يصل إلى القاع لئلا يطفو، فربما يزول عنه كفنه، ولربما تتغير هيئته، ويتعرض لما لا ينبغي، فيصنع هذا من باب: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وبعض الفقهاء قالوا: يجعل بين لوحين، بحيث يبقى طافياً، فيجده جماعة من المسلمين فيدفنونه.
وكذلك بالنسبة للغسل، فلو أن إنساناً تعذر غسله، إما لعدم وجود الماء، أو خشية عليه من التقطع كالمجدور، أي: الذي أصيب بداء الجدري عافانا الله وإياكم، أو المحترق الذي لا نستطيع أن نغسله، وكذلك الغريق، لو أنه وجد بعد أيام وقد اهترئ جسده، فهؤلاء جميعاً ييممون، أي: نترك الطهارة المائية، ونلجأ إلى بدلها وهي الطهارة الترابية، وكذلك لو مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال، ولم يكن هناك من يغسلها، فإننا نلجأ إلى التيمم أيضاً؛ لأن الله تعالى قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، وبعض العلماء قالوا: التيمم ليس له معنى في هذه الحالة؛ لأن التيمم طهارة حكمية، وليس طهارة حقيقية، ولأن تغسيل الميت يقصد به التطهير والإنقاء، ولذلك ما يتقيد بعدد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )، بينما الإنسان لو توضأ، أو اغتسل فإنه لا يشرع له أن يزيد على الثلاث؛ لأن (من زاد على الثلاث فقد تعدى، وأساء، وظلم) كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! التعزية من سنن الإسلام، فيندب لك أيها المسلم لو أن أخاك أصيب بمصيبة أن تعزيه، وأن تلقي في سمعه من الكلمات ما يسليه عن مصابه، ويحضه على الصبر، ويبشره بعظيم الأجر.
وقد ثبتت التعزية في السنة القولية، والسنة العملية، أما السنة القولية، فما رواه ابن ماجه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( من عزى أخاً له في مصيبة، كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة )، وعند الترمذي بسند ضعيف: ( من عزى مصاباً فله مثل أجره ).
وأما السنة العملية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزي أصحابه إذا مات لأحدهم ميت، وفي حديث قرة المزني رضي الله عنه (أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحضر مجلسه، وكان له ابن يأتي من وراء ظهره، فيجلسه بين يديه)، أي: كان عنده ولد صغير، دائماً يأتي معه لمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن بنيه قد مات، فامتنع عن الدرس -يعني: انقطع عن الدرس- فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! إن بنيه ذاك قد مات، فذهب عليه الصلاة والسلام يعزيه، فقال له: أيسرك أن تمتع به حياتك! أم يسرك ألا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته يفتح لك، قال: بل الثانية يا رسول الله! قال: فهي لك، قال الصحابة له: أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم ).
وثبت من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تقول: (يا رسول الله! إن ابني يحتضر فاشهدنا، فأرسل إليها يعزيها، قال: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب )، قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا أحسن ما يعزى به، أي: هذه الكلمات أفضل شيء في التعزية، حيث نذكر هذا المصاب بأن هذا الذي أخذ منه هو أصلاً ملك لله عز وجل، (إن لله ما أخذ وله ما أعطى)، ونذكره أيضاً بأن هذا الذي حصل، سيحصل له وسيحصل للمعزي، وللجميع.
مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى.
الكل سيموت، وكما قيل:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء منقول
فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
ولذلك نقول له هذا الكلام: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).
وتحصل التعزية بكل كلام يتحقق به المراد، فليس بالضرورة أن نقول هذه الكلمات، فالمراد هو تسلية المصاب، والدعاء للميت، وأمر أهله بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هذه هي أغراض التعزية؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذهب يعزي في جعفر قال: ( اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه )، فدعا لـجعفر ودعا لـعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهما، وكذلك لما عزى في أبي سلمة قال: ( اللهم اغفر لـأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه )، فالتعزية تحصل بأي لفظ من الألفاظ التي يتحقق بها المقصود والمراد من التعزية.
المسألة التي بعدها قال أهل العلم: يعزى جميع أهل الميت الكبار والصغار والرجال والنساء إلا أنها في حق الضعفاء والصبيان آكد، فلو كان للميت أب شيخ كبير، فتعزيته آكد من تعزية غيره، ولو كان للميت ولد صغير أيضاً، فتعزيته أولى من تعزية غيره، قالوا: إلا أن تكون المرأة شابة فلا تعزى، يعني: إذا كانت المرأة شابة يخشى منها الفتنة، فإنها لا تعزى، وطبعاً: غير داخل معنا في الكلام ما يصنعه بعض الطغام من أنه يعزي من ليس بمحرم، كابنة العم ونحوها فيحضنها، ويبكي معها، فهذه ليست تعزية، وإنما هذه معصية. وحين نقول تعزية فإن معناها: لو أن المرأة مات زوجها، أو مات ولدها، أو كذا، فإني أعزيها بالكلمات التي تسليها وتذكرها بأن قدر الله نافذ، وأن أمره غالب، وأنه لا يسلم من الموت أحد، ونحو ذلك من الكلام، أما ما يصنعه بعض الناس أنه يمشي يعزي من ليست محرماً، أو يعزي حتى الجارة، ويبكي معها وما إلى ذلك، فهذه ليست تعزية، وإنما هي معصية.
أقول مرة أخرى: بأن التعزية تكون لأهل الميت جميعاً، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونسائهم، إلا المرأة التي يخشى منها الفتنة، والتعزية في حق الصبيان والضعفاء آكد.
المسألة التي بعدها: متى تكون التعزية؟
قال علماؤنا: تشرع قبل الدفن وبعده، إلا أنها بعد الدفن آكد؛ لأنهم قبل الدفن مشغولون بميتهم، وبعد الدفن وحشتهم للفراق أعظم، فالتعزية تجوز قبل الدفن وبعده، لكن الأفضل أن تكون بعد الدفن؛ لأنهم قد فارقوه واستودعوه التراب، لكن لو دعت مصلحة لتعزيتهم قبل الدفن، فلا بأس، كما لو ظهر عليهم الجزع، يعني: أحياناً مثلاً بعد حصول الموت وخاصة إذا كان موت فجأة، فإنه يحصل شيء من الجزع لأهل الميت، فهاهنا لو رأيت أن من المصلحة أن تبادر بتعزيتهم، وتسليتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فهذا طيب.
المسألة التي بعدها: هل تحد التعزية بثلاثة أيام؟
نقول: جمهور العلماء قالوا: نعم، لا عزاء بعد ثلاث، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع، ثم قالوا: إن التعزية شرعت للتخفيف عن أهل الميت، وأهل الميت غالباً يفارقهم الحزن بعد ثلاث، ولذلك الشريعة أذنت في الإحداد لمدة ثلاثة أيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشراً )، قالوا: فلو حصلت التعزية بعد الثلاث فإنه يكون فيها تجديد للحزن، واستثنوا من ذلك من كان غائباً في سفر، فجاء بعد الثلاث فلا بأس بأن يعزى، لكن الذي رجحه بعض أهل العلم هو أن التعزية لا تحد بثلاثة أيام، ولا بأس أن تكون بعد الثلاث متى ما كانت المصلحة داعية، واستدلوا على ذلك بأن جعفراً رضي الله عنه لما قتل في مؤتة أمهل النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثاً، (ثم جاء فدعا بالحلاق، فحلق رأسي عبد الله بن جعفر و محمد بن جعفر ثم جعلت أسماء بنت عميس تشكو له الفقر، فقال لها: العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) وطبعاً لا تعزية أفضل من ذلك، يعني: ما يمكن أن نقول: هذا ضمان اجتماعي، أو كذا، وإنما وليهم في الدنيا والآخرة، فهو ضمان في الدنيا والآخرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم بدأ يدخل السرور عليهم قال: ( أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب -يعني: الولد يشبه جده- وأما عبد الله فقد أشبهني خلقاً وخلقاً، اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه)، دعا للولد الصغير، فقال هذا الولد: فما اشتريت شيئاً، ولا بعته إلا ربحت فيه، أي: إذا اشتريت فبربح، وإذا بعت فبربح، لبركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام.
أقول مرة ثانية: التعزية لا تحد بثلاثة أيام، فمتى ما وجدت أن تعزيتك ستسلي أهل الميت، كما لو سمعت بأن إنساناً مات، متى مات؟ قيل لك: والله مات يوم السبت، قلت: سبحان الله! من يوم السبت، وأنا ما سمعت، واليوم الأربعاء، إذاً بينك وبين الوفاة أربعة أيام مثلاً أو خمسة، لكنك وجدت أن تعزيتك لأهله، سواء بالذهاب أو بالهاتف ستسليهم، وتدخل السرور عليهم، وتشعرهم باهتمامك بهم، فلا حرج بأن تذهب إليهم معزياً، أو أن تهاتفهم معزياً.
أيها الإخوة الكرام! التعزية من مكارم الأخلاق التي دعت إليها شريعة الإسلام، وأمر بها نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه الأيام التي تعقب الوفاة شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن نصنع لأهل الميت طعاماً، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم )، فنصنع لهم الطعام، ونبعث به إليهم؛ لأن شغلهم بمصيبتهم ألهاهم أن يهيئوا طعاماً لأنفسهم، ولا بأس بأن يبقى بعض الخاصة، وأهل الميت مع أولاده، ومع زوجه، يبقون معهم في البيت لا بأس بهذا، وليس هو من الاجتماع المنهي عنه؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت إذا مات لها ميت، طبعاً أمنا عائشة ابتليت بموت أبيها رضي الله عنه، وبموت أمها أم رومان ابنة عامر رضي الله عنها، وكذلك بموت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، وبمقتل أخيها محمد بن أبي بكر رضوان الله على الجميع، فكان إذا مات الميت من أهلها فإنه يبقى معها بعض أهلها وخاصتها، يعني: يكونون معها في البيت من أجل أن يؤنسوها ويسلوها عن مصابها، فكانت تأمر بتلبينة فتطبخ، وتأمر بثريد فيصنع، وتأمرهم بأن يأكلوا منه، وعندنا في التعزية، قد يتعذر صناعة الطعام لأهل الميت؛ لبعد المسافات، يعني: الآن مثلاً ربما يموت ميت، ويأتي المعزون من أماكن بعيدة، فيقدم إليهم شيء من ماء بارد، أو شراب ساخن، ولربما يصادف وقت طعام فيأكلون، والناس الآن قد لجئوا بدلاً من صنعة الطعام -وصنعة الطعام ما زال يمارسها الجيران-، لكن الأرحام والإخوان والزملاء والخلان يلجئون بدلاً من صناعة الطعام إلى أن يدفعوا مبلغاً من المال، وهذا أيضاً من مكارم الأخلاق، ومن التعاون على تحمل المصيبة، وعدم ترك أهل الميت في مواجهتها وحدهم.
ويبقى لنا بعد ذلك الكلام عن زيارة القبور، فنقول: زيارة القبور سنة قولية، وسنة عملية، أما السنة القولية، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة )، وقول النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي ذر : ( يا أبا ذر! زر القبور، تذكر بها الآخرة ).
وأما السنة العملية، فقد ثبت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي أهل البقيع، فيدعو لهم ويستغفر لهم)، وثبت (أنه كان يأتي شهداء أحد، فيدعو لهم ويستغفر لهم)، فهي سنة قولية، وسنة عملية، أما كونها سنة للرجال، فهذا باتفاق، ما خالف في ذلك أحد، بشرط أن تكون زيارة مشروعة وليست زيارة ممنوعة.
والزيارة المشروعة هي التي يتحقق بها ثلاثة أغراض:
الغرض الأول: تذكر الآخرة.
الغرض الثاني: السلام على الميت أو الأموات.
الغرض الثالث: الدعاء لهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان إذا أتى أهل القبور قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية )، ففيها السلام وفيها الدعاء.
والزيارة الممنوعة هي التي تشتمل على معصية، ومن المعصية لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو الدعاء بدعوى الجاهلية، ومن المعصية النياحة كذلك، بل أعظم المعاصي وأبشعها الوقوع في الشرك والعياذ بالله، بأن ندعو هذا الميت بدلاً من أن ندعو له، فأقول: يا فلان! أو يا سيدي فلان! أنا أريد الجنة، أو أنا أريد الشفاء، أو أنا أشكو إليك الفقر ونحو ذلك، قال الله عز وجل: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
وأيضاً من المعصية: أن يؤخذ التراب من القبر للتبرك به، أو الاستشفاء ونحو ذلك.
أقول: الزيارة لا بد أن تكون زيارة مشروعة، وهي في حق الرجال سنة باتفاق.
وبالنسبة للنساء، فقد جاء في الحديث: ( لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج )، وجاء في الحديث أيضاً: ( لعن الله زائرات القبور )، ومن هنا قال أهل العلم، بل جمهورهم بأن زيارة النساء للقبور مكروهة، وبعضهم قال بجوازها للشيخة دون الشابة، والشيخة هي التي انقطع عنها إرب الرجال، لكن الصحيح -والعلم عند الله تعالى- أن الزيارة تطلب في حق النساء مثلما هي في حق الرجال، من غير تفريق بين الشابة والشيخة:
أولاً: لعموم الخطاب، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها فإنها تذكركم الآخرة )، فقوله: (فزوروها) خطاب للرجال والنساء.
ثانياً: علل عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنها تذكركم الآخرة)، والنساء محتاجات لتذكر الآخرة كالرجال.
ثالثاً: ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عائشة الدعاء التي تدعو به إذا جاءت إلى القبور، قالت له: (ماذا أقول؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين )، فلو كانت الزيارة ممنوعة لما علمها عليه الصلاة والسلام، وثبت في السنة أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبر وقد جلست عنده امرأة تبكي، فقال لها: (يا أمة الله! اتق الله واصبري)، ولم يقل لها: اتق الله وانصرفي.
وثبت أيضاً أن أمنا عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر فقيل لها: ( ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: بلى، نهى ثم رخص )، فأقول: لا حرج في أن تزور المرأة القبور بشرط أن تكون زيارة شرعية، وليست زيارة بدعية، بمعنى أنها تخرج في كامل حجابها متحفظة متسترة، ثم لا تحدث عند القبر بدعة ولا شركاً، وكذلك لا تأتي بمعصية، فإذا حصلت هذه الشروط فلا حرج في أن تزور المرأة القبور، بل هي مأجورة في ذلك إن شاء الله.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله زوارات القبور ) فيحمل ذلك على المكثرات من الزيارة، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وبهذا المسلك يحصل الجمع بين الأدلة كلها، ولا نضرب بعضها ببعض؛ لأنها كلها ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تتقيد الزيارة بوقت مخصوص، بل يجوز أن نزور القبور بالليل والنهار، في يوم الجمعة، وفي غير يوم الجمعة، ولا ينبغي تخصيصها بيوم العيد، فقد جرت عادة بعض الناس خاصة من النساء، بأنهم يجعلون يوم العيد يوماً للقبور، ونقول: هذا مضاد لغرض الشرع، فإن الشرع أراد ليوم العيد أن يكون يوم فرح وسرور، وليس يوم حزن وكآبة، فلا ينبغي تقييدها بيوم العيد.
وأيضاً أقول: الإنسان إذا دخل القبور، فإنه يسلم سلاماً يشمل به الجميع، ولا بأس بعدها أن يخصص ميته بسلام، بأن يقف قبالة وجهه ويسلم عليه باسمه، وأيضاً لا مانع من أن يبشره بالخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث أنه خرج مع مولاه أبي رافع إلى بقيع الغرقد قبل وفاته بأيام عليه الصلاة والسلام، فقال: ( السلام عليكم يا أهل بقيع الغرقد، ليهنأكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن يتبع آخرها أولها، وللآخرة شر من الأولى )، فهاهنا النبي عليه الصلاة والسلام بشر أهل البقيع بأنهم في خير.
وبالنسبة لزيارة قبر الكافر، الإمام ابن تيمية رحمه الله قال: ولا أعلم سالفاً استحب زيارتها، لكن لو مر بها للاعتبار والاتعاظ فلا بأس، يعني: مثلاً كفرة كانوا أهل سلطان وكذا، فتمر من أجل أن تتذكر بأنهم قد صاروا تحت التراب، وأنهم معذبون وما إلى ذلك فلا بأس، لكن لا تسلم عليهم، لا تقول: السلام عليكم أهل الديار، ولا تدعو لهم؛ لأن الله قال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، بل يستحب لك أن تبشره بالنار؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـبشير بن الخصاصية : (حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار)، أي: قل له: أبشرك بالنار، فهذه بعض الأحكام التي تتعلق بالتعزية وزيارة القبور.
مسألة: الكافر هل يعزى؟
نقول: نعم، إذا كان عندك جار كافر مات له ميت فإنك تعزيه، وماذا تقول له؟ نقول: الكافر إما أن يكون مات له كافر، أو مات له مسلم، فإذا مات له مسلم نعزي الكافر فنقول له: غفر الله لميتك، ما نقول له: أحسن الله عزاك، وإنما نقول له: غفر الله لميتك، أي: لأخينا المسلم الميت، أما إذا مات له كافر مثله، فنقول له: أخلف الله عليك، يعني: بدل الكافر الميت هذا ربنا يبدلك به مسلماً. ولا غرابة، فإن الله عز وجل يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وعلى العكس لو أن مسلماً مات له كافر، أبوه كافر مثلاً، فمات هذا الأب الكافر فنقول للمسلم: أحسن الله عزاءك، أما المسلم إذا مات له مسلم فإننا نقول له: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعظم أجرك، وجبر كسرك، ونحو ذلك من الدعاء الطيب.
السؤال: هل تعود الروح إلى الجسد للإنسان بعد أن يموت ويدفن، وإن كان لا فكيف يسمع الدعاء؟
الجواب: الميت إذا وضع في لحده، وتولى عنه مشيعوه، وإنه ليسمع قرع نعالهم يقول الله عز وجل: ( أعيدوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى )، فتعاد روحه في بدنه، وتعلق الروح بالبدن على خمسة أوجه: تعلق الروح بالبدن والإنسان في بطن أمه، ثم بعد ما يخرج إلى الحياة، ثم تعلقها به وهو نائم، ثم في القبر، ثم أكمل التعلقات يكون يوم القيامة؛ لأنها لن تفارقه بعد ذلك، فلا نوم هناك ولا موت، وأكرر بأن الروح من أمر ربي، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، ولذلك العلماء رحمهم الله تحيروا في مسألة صلاته صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس بالأنبياء، هل صلى بهم أرواحاً أم صلى بهم أرواحاً وأشباحاً؟ فنقول: الله على كل شيء قدير، ما المانع من أن الله أخرجهم أرواحاً وأشباحاً، وأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك لقيه ثمانية من الأنبياء في السماء فلقي في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى ، وفي السابعة إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور.
أيضاً: هل لقيهم أرواحاً فقط؟ أم أرواحاً وأشباحاً؟ نقول: الله أعلم أي ذلك كان، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.
والمعروف أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحوالهم ليست كأحوال غيرهم؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( مررت ليلة أسري بي بـموسى وهو قائم يصلي في قبره ) عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن لأحد أن يقول: كيف قام وقد دفنوه، وحطوا عليه الحجارة، ثم قيامه من القبر معناه أنه سيدفع التراب برأسه؛ لأن موسى عليه السلام كان رجلاً طويلاً، نقول: ما نقيس الأمور الغيبية على الأحوال المشاهدة المحسوسة، وإنما ذاك عالم غيبي لا يخضع لقوانين الدنيا، وهذا سيأتي معنا أيضاً في الكلام عن عذاب القبر، فإن بعض الناس يقول: الميت هذا نحن دفناه وبعد خمسة أيام من دفننا إياه لقيناه كما هو، والله ما لقينا ملائكة يجلسوه، ولا لقينا قبره روضة من رياض الجنة كما تقولون، والكافر كذلك ما تغير، ويقعد يحلف لك على ذلك، فهذا يدل على أن عقله خفيف؛ لأنه يقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، وشتان شتان ما بينهما، وأحد إخواننا في السعودية يقول: كان هناك واحد من الشيوخ الكبار الطاعنين في السن، مرض ودخل في غيبوبة، فجعلوه في مستشفى نظيف، وهو رجل من البادية، فقالوا: لما أفاق وجد الأسرة البيضاء، والبلاط أبيض، والحائط أبيض والممرضات وكذا، فقال: الحمد لله الذي أدخلني الجنة، وقال: ثم لقيه واحد من أولاده فقال له: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ نعرف أنك قليل صلاة.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير عمرنا أواخره، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راض عنا غير غضبان، وأحسن الختام يا علام، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم أنزل عليهم الضياء والنور، والفسحة والسرور، وجازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، وارحمنا اللهم برحمتك إذا صرنا إلى هذا المصير، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر