الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:1-2] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله, الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] , يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله! قد مضى من الشهر ثلثه، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما مضى, وأن يعيننا على ما بقي.
أيها المسلمون عباد الله! في هذا اليوم المبارك من أيام رمضان يوم الجمعة الذي هو خير يوم طلعت عليه الشمس؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تيب عليه، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار صلوات ربي وسلامه عليه بيده يقللها ) .
هذا اليوم الذي هو من أيام رمضان، والذي هو يوم الجمعة قد تتابعت نعم الله علينا فيه بافتتاح هذا المسجد المبارك، الذي يفرح بتشييده وارتفاع منارته كل مؤمن موحد، كل من يعظم حرمات الله، كل من يعظم شعائر الله، يسر ويفرح بأن يرى بيتاً لله يرفع؛ لأن هذه المساجد أيها المسلمون عباد الله! بيوت الله.
وقد عظمها ربنا جل جلاله في كتابه، فذكرها في ثمان وعشرين آية, وأضافها إلى نفسه جل جلاله إضافة تشريف؛ فقال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] .
والأرض كلها لله، والبيوت كلها لله، قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189]، وقال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، لكنه خص المساجد تشريفاً لها وتكريماً وتعظيماً، فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] .
وحثنا جل جلاله على عمارتها؛ عمارة حسية ببنائها وتشييدها وترميمها وتنظيفها، وعمارة معنوية بأن تكون مكاناً للذكر والشكر، وللعبادة والتهليل، وللابتهال والتمجيد، ومكاناً للتعليم والتعلم، هذه هي المساجد التي حثنا ربنا جل جلاله على عمارتها، وأخبر أن عمارها هم المؤمنون، قال سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وفي مقابل هذا، كل من سعى في خراب هذه المساجد خراباً حسياً بتدميرها أو تخريبها أو الإساءة إليها, أو خراباً معنوياً بأن يمنع ذكر الله فيها، فهو متوعد من الله بالخوف في الدنيا والآخرة، وبالخزي في الدنيا والآخرة؛ لأنه أظلم الظالمين، يقول سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114] .
يا أيها المسلمون! هذه المساجد اعتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما هاجر إلى المدينة فوصلها يوم الإثنين ضحى، ابتنى مسجد قباء، وأخبر صلوات ربي وسلامه عليه: ( أن من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له أجر عمرة )، يعني: صلى فيه أي صلاة، سواء مفروضة كانت أو نافلة.
ثم بعدما مكث في قباء أياماً أربعة، انتقل صلوات ربي وسلامه عليه إلى المدينة، قبل أن يبني لنفسه بيتاً، وقبل أن يتخذ لنفسه مقراً، بنى لله مسجداً يقول سبحانه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] .
وأخبر صلوات ربي وسلامه عليه ( أن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ).
أيها المسلمون عباد الله! بلغت عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر المسجد أنه كان يشارك في البناء بنفسه؛ ينقل الحجارة على كتفه الشريفة صلوات ربي وسلامه عليه، ويرى التراب على ثيابه صلوات ربي وسلامه عليه، وينشد هو وأصحابه:
تلك الحمال لا حمال خيبر تلك أبر ربنا وأطهر
كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشارك بنفسه، ويحث أصحابه على عمارة هذه المساجد؛ لأنه يعلم ما أعد الله عز وجل من الجزاء والثواب على عمارتها، يقول صلى الله عليه وسلم: ( من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة )، ويقول: ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة -أي: ولو كعش طائر- بنى الله له بيتاً في الجنة )، فأنت إذا بنيت لله عز وجل مسجداً من طين، أو من طوب، أو من غير ذلك من المواد، يبني الله عز وجل لك بيتاً في الجنة؛ ( بناؤه لبنة من فضة, ولبنة من ذهب, وملاطه المسك, وحصباؤه اللؤلؤ, وترابه الزعفران، من دخله ينعم فلا يبأس، ويسعد فلا يشقى، ويخلد فلا يموت ), ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
أيها المسلمون عباد الله! قد أمرنا الله سبحانه بأن نعظم حرمة هذه المساجد، وأن نقدرها حق قدرها، فلا بد أن ندخلها بطريقة معينة، بلباس معين، يقول سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، ويدخل إليها الداخل برجله اليمنى، ويدعو بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم, وبوجهه الكريم, وسلطانه القديم, من الشيطان الرجيم ) .
ويسلم على الجالسين فيها، ولا يجلس حتى يركع ركعتين؛ لأنه بيت لا كالبيوت، هو بيت الله عز وجل، فلا بد أن نركع ركعتين قبل أن نجلس في بيت من بيوت الله.
ومن تعظيمنا لحرمة المساجد ألا نرفع فيها أصواتنا، وأن نجنبها بيعنا وشراءنا، وإقامة حدودنا وضرب الرقاب، ونشدان الضالة، وأن نجنب هذه المساجد كل ما له رائحة كريهة، ورد في الحديث: ( من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ).
وعلينا أن نجنب مساجدنا خلافاتنا، وأن نخلع على أبوابها كل رداء قبلي، وكل رداء عنصري، وكل رداء حزبي، وكل خلاف سياسي، نخلع على أبوابها كل انتماء لغير الإسلام، قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ [الحج:78]، وفي الحديث: ( كونوا عباد الله إخواناً )، فنحن قبلتنا واحدة، وصلاتنا واحدة، وديننا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا واحد، ولا يتأتى لأمة فيها من عوامل الوحدة والاتفاق مثل أمتنا أن تختلف في بيوت الله عز وجل على أمور فرعية، ومسائل ظنية هي مساغ للاجتهاد، ومجال للأخذ والرد بين أهل العلم والفضل.
أيها المسلمون عباد الله! قد أكرمكم الله في حيكم بهذا المسجد المبارك الذي أسأل الله عز وجل أن يبني لمن بناه بيتاً في الجنة، وأن يجزيه خيراً على ما قدم، وأن يخلف عليه بخير مما أنفق، وكل من ساهم في هذا المسجد بمال أو رأي أو جهد أو مشورة أو طلب دعم أو غير ذلك فهو مأجور عند الله عز وجل، ومن صلى فيه، وقرأ قرآناً، ومن دعا، ومن رجا، ومن تاب، ومن استغفر، وكل حلقة علم تعقد، وكل مجلس ذكر يقام فهو في ميزان حسنات من قاموا بهذا المسجد، فرفعوا بناءه، وشيدوه وفرشوه وزودوه بما يريح العابدين والركع السجود.
أيها المسلمون عباد الله! يا من أكرمكم الله عز وجل بهذا المسجد اعلموا أنها نعمة يتوق إليها كثير من المسلمين، فهو نعمة من نعم الله العظيمة، فالمسجد مكان تسكن فيها النفس، ويطمئن فيه القلب، وترتاح فيه الروح، وهو مكان يفرج الله فيه الهم، وينفس الله فيه الكرب، ويقضي الله فيه الحوائج، ويحط الله به الخطيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تطهر في بيته، ثم خرج إلى بيت من بيوت الله ليؤدي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها ترفعه درجة والأخرى تحط عنه خطيئة ).
والسعي إلى المسجد، والمحافظة على الصلاة فيه سبب للنور يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم: ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، فمن خرج إلى صلاة العشاء في ظلمة الليل البهيم، ومن خرج إلى صلاة الصبح لا يرجو إلا الله، فإنه مبشر يوم القيامة بالنور التام، يقول سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12] .
ألا فاعمروا هذا المسجد بطاعة الله، واجعلوه مكاناً للصلاة والذكر، والدعاء والقرآن، ومكاناً للم الشمل، ووحدة الصف، ومكاناً يتعلم فيه الجاهل، ويذكر الله فيه الغافل، ويرشد فيه الضال، ويغاث فيه الملهوف، ويعان فيه المحتاج، ويعلم فيه الجاهل، وهكذا كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن كان جاهلاً وجد فيه العلم, ومن كان ضالاً وجد فيه هداية، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يربط الأسير في مسجده حتى يكون مآله إلى الإسلام.
وفي مسجده يدخل أناس مشققة ثيابهم من مضر، مجتابي النمار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فيتغير وجهه لما يرى بهم من الفاقة، ثم يقول لأصحابه: ( تصدق رجل من درهمه, من ديناره, من صاع تمره, من صاع بره, من صاع شعيره، ويبسط ثوباً في المسجد، ويذهب الصحابة رضوان الله عليهم، ويأتي كل بما يستطيع حتى يأتي رجل بذهبية قد عجزت يداه عن حملها, فيتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء ) .
ألا فاجعلوا مسجدكم هذا مثابة للناس وأمناً، يأتي إليه الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والشيخ والشاب، والعالم والعامي، كل يجد فيه بغيته، وكل ينال حظه من العلم والنور والهدى.
واعلموا أيها المسلمون عباد الله! أن من نعم الله علينا في هذه البلاد أننا نرى في كل حين مسجداً لله يرفع، ومنارة تشيد، وهذه دلالة على أن هذه الدار دار إسلام، ودار قرآن، ودار شريعة، ودار هدى، ومن أراد غير ذلك فليلتمس له بلداً سواها، فهذه الدار دار إسلام، فأهلها مسلمون موحدون محبون لله، محبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ففي كل يوم يرفع لله بيت، ومما يزيد المرء سروراً أن نجد هذه المساجد معمورة لا تكاد تسع الناس، مهما وسعت، مهما كبرت، لا تكاد تسع الناس في الجمعة والجماعة.
ومما يزيد المرء سروراً أن يكون أكثر عمارها شباباً، رجالاً ونساء، فأكثر من يعمرون المساجد في هذه البلاد، ومن يحضرون حلق العلم ومجالس الذكر هم من الشباب، ذكوراً وإناثاً. فنقول كما قال عباد الله الصالحون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة الإيمان، الحمد لله على نعمة المساجد، ونسأل الله عز وجل المزيد من فضله.
اللهم اغفر لمن بنى هذا المسجد المبارك، ولمن عبد الله فيه، ولجيرانه من المسلمين والمسلمات، اللهم من بنى هذا المسجد فابن له بيتاً في الجنة، وارزقه من الجنة، واجعل مآله إلى الجنة، واغفر ذنوبه، وكفر سيئاته، وحط عنه خطاياه، برحمتك يا أرحم الراحمين! توبوا إلى الله واستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كل، وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله! فقد ارتأى أهل هذا الحي أن يطلقوا على هذا المسجد اسم رجل قدم روحه فداء لهذا الوطن، أن يطلقوا عليه اسم رجل بذل مهجته في سبيل الله عز وجل، وهو الشهيد بإذن الله طه الماحي الذي لحق بربه قبل سنوات عديدة, ربما قبل خمس عشرة سنة.
وهذا يدلنا على أن الإنسان لا يبقى له من الذكر إلا ما خلد من عمل صالح، ومن فأل طيب، ومن عمل حسن فهذا هو الذي يبقى, فكم من إنسان يذهب، وقد كانت له في الدنيا رتبة، وكان له فيها جاه، وكان له ذكر بين الناس، لكنه ما خلف عملاً صالحاً، فسرعان ما ينساه الناس، وسرعان ما تطوى ذكراه، وتقلب صفحته، والدنيا تطوي أناساً كثيرين.
لكن الذي يخلد ذكره هو من كان له عمل صالح، ومن كان له قول حسن، ومن كان له معاشرة مع الناس طيبة، ومن كان معظماً لله ورسوله، ومن كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ومن عاش لأمته لا لنفسه، فهؤلاء هم الذين يخلد ذكرهم.
وقد امتن الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال له: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، قال أهل التفسير: لا يذكر الله إلا ويذكر معه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كانت حياته كلها لله، كان نطقه ذكراً، وكان صمته فكراً، وكان نظره عبراً. وهكذا من كان على هدي محمد صلى الله عليه وسلم يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة.
ونحن ما زلنا نذكر أبا بكر و عمر و عثمان و علياً و طلحة و الزبير وعبد الرحمن و سعيداً و أبا عبيدة ، وما زلنا نذكر بلالاً و أبا هريرة و عبد الله بن سلام ؛ لأنهم كانوا أصحاب علم نافع وعمل صالح، كانوا أصحاب تقى وهدى وعفاف وغنى, فهكذا كن يا صاحب المال! ويا صاحب الجاه! ويا صاحب السلطان! اعلم بأن هذا كله زائل، وأن الدنيا ستطويك أيامها كما طوت غيرك, لكن لا يبقى إلا العمل الصالح.
أسأل الله عز وجل أن يغفر لأخينا طه الماحي ، وأن يسكنه فسيح جنته، وأن يعلي مقامه في عليين، وأن يخلفه في عقبه في الغابرين، وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يفسح له في قبره, وأن يمد له فيه مد بصره، ولجميع شهداء المسلمين، ولجميع موتى المسلمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حقاً إلا أعلنته، ولا باطلاً إلا أزهقته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا داعياً إلى هداك إلا وفقته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً، اللهم اجعل شهر رمضان شاهداً لنا، ولا تجعله شاهداً علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين، لك مطواعين، إليك أواهين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا برحمتك يا أرحم الراحمين، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين! نسألك أن تبارك لنا في مسجدنا هذا، وأن تعيننا على عمارته بالتقوى والإيمان، وأن تجمع كلمتنا فيه، وأن توحد صفنا فيه، وأن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين!
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر