بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
أيها الإخوة الكرام! رمضان هو شهر الدعاء، وربنا تبارك وتعالى لما تكلم عن الصيام قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والمسافر حتى يرجع، ودعوة الوالد لولده )، وفي مثل هذه الليالي المباركة وفق الطيبون لقيام الليل في الثلث الآخر حين ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ ).
والدعاء له شروط وآداب معروفة، لا يكاد يجهلها واحد، لكن أريد أن أتكلم عن مسألة يغفل عنها كثيرون، وهي الاعتداء في الدعاء، قال الله عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، قال أهل التفسير: أي لا يحب المعتدين في الدعاء، قال ابن جرير رحمه الله: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حده الذي حده لعباده في دعائه، أو في غير ذلك من الأمور.
والإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله أجمل قضية الاعتداء في الدعاء في كلمات معدودة قال: فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله، يعني: الإنسان لو سأل الله عز وجل بدعاء يناقض حكمة الله فهو معتدي، ولو طلب شيئاً يناقض شرع الله فهو معتدي، ولو طلب شيئاً يناقض ما أخبر الله به فهو معتدي.
أيها الفضلاء! بعد الإجمال تفصيل، أقول: بأن الاعتداء بالدعاء تارة يكون في اللفظ، وتارة يكون في الأداء والطريقة، وهاهنا عد بعض أهل العلم عشرين نوعاً من أنواع الاعتداء مستفادة من الضابط الذي ذكره ابن القيم رحمه الله.
أول أنواع الاعتداء في الدعاء: أن يشتمل الدعاء على شيء من الشرك بالله، وهذا أشنع الاعتداء وأفحشه وأقبحه؛ لأن الدعاء عبادة، ولا يجوز صرفه لغير الله عز وجل، يقول الله سبحانه في وصف حال المشركين مع أصنامهم: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14]، فسماه الله عز وجل شركاً، وإبراهيم عليه السلام قال لأبيه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، فقال الله عز وجل: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49].
فالشرك في الدعاء أيها الإخوان! أن تطلب من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، كحال من يذهب إلى بعض الشيوخ الأحياء فيشكو إليه عدم الإنجاب، يعني: ما عنده ولد، ويطلب من الشيخ أن يهبه الولد، وقد يبلغ السفاهة بمن يدعي أنه شيخ أن يقول له: أعطيناك ما طلبت، وأيضاً ما يفعله بعض الناس من اللجوء إلى المقبورين، ويروون في ذلك حديثاً موضوعاً: ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور )، نسأل الله السلامة والعافية.
النوع الثاني أيها الإخوان! أن يطلب من الله شيئاً دل الشرع على نفيه، مثاله: أن يطلب من الله أن يخلد مؤمناً في النار، أو يدعو على مؤمن بأن يخلده الله في النار، فهل هذا ممكن؟ الجواب: لا؛ لأنه لا يخلد في النار مؤمن، أو يدعو لكافر أن يدخله الله الجنة، وهذا مستحيل؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، أو يدعو لنفسه بأن يكون أول من تنشق عنه الأرض، وقد يبلغ السفه ببعض الناس إلى أن يدعو بأشياء عجيبة، فلو أن إنساناً دعا بأن يكون أول من تنشق عنه الأرض يكون سفيهاً؛ لأنه قد علم يقيناً أن أول من تنشق عنه الأرض هو الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يطلب من الله أن يكون أول من يدخل الجنة، وهذا أيضاً مستحيل؛ لأن أول من يدخل الجنة هو الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يطلب من الله أن يخلده إلى يوم القيامة، يعني: تكون حاله كحال إبليس، حين قال: أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14]، فهذا مستحيل؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، أو يطلب من الله العصمة من الخطأ والذنوب، وهذا مستحيل أيضاً؛ لأن كل بني آدم خطاء، أو يطلب من الله أن يطلعه على الغيب، أو يطلعه على اللوح المحفوظ، وهذا كله من الاعتداء في الدعاء؛ لأنه طلب شيئاً دل الشرع على نفيه.
النوع الثالث: أن يطلب نفي شيء دل الشرع على ثبوته، مثال ذلك: كأن يدعو لكافر ألا يعذبه الله بالنار، وهو لا يمكن؛ لأن الكافر معذب في النار يقيناً؛ أو يسأل ربه ألا يبتليه أبداً: اللهم لا تبتليني أبداً، فهذا مستحيل؛ لأن الله عز وجل قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [الأنبياء:35]، وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة:155]، وقال أيضاً: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]، إلى غير ذلك من الآيات، أو يطلب من الله ألا يبعثه: يا رب أسألك أن أموت لكن لا أبعث، هذا مستحيل، قال تعالى: بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، والله عز وجل أقسم، على وجود البعث هذا كله من الاعتداء في الدعاء، أو مثلاً من يدعو الله بألا يقيم الساعة، الساعة ما تأتي، بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]، هذا كله من الاعتداء في الدعاء.
النوع الرابع: أن يطلب نفي ما دل العقل على ثبوته، يعني: العقل أثبت أن الكل أكبر من الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، فهذا يدعو الله بألا يجعل الواحد نصف الاثنين، أو يدعو الله بأن يجعل الجزء أكبر من الكل، هذا أيضاً من الاعتداء في الدعاء.
النوع الخامس من الاعتداء: أن يطلب إثبات ما دل العقل على نفيه، كأن يسأل ربه أن يوجده في مكانين في وقت واحد، مثل أن يكون في الحج وفي الجهاد في وقت واحد، وهذا مستحيل، ولا يمكن، أو يدعو على عدوه بألا يكون موجوداً ولا معدوماً، مثلاً يدعو على شارون أنه ما يكون موجوداً ولا معدوماً، هذا العقل ينفيه، فالإنسان لا يخلو من حالين: إما أن يكون موجوداً أو معدوماً.
النوع السادس أيها الإخوان! أن يسأل شيئاً مستحيلاً في العادة، كمن يسأل الله أن يمطر له من السماء ذهباً أو فضة، أو يسأل الله أن يعطيه جبلاً من ذهب، أو يسأل الله عز وجل الولد من غير زواج، فتجده دائماً يدعو: يا رب! اللهم إني أسألك الأولاد، يا رب! أعطني عشرة أولاد، لكنه لم يتزوج ويقول: الله على كل شيء قدير، فنقول: هذه حماقة، فالله على كل شيء قدير نعم، ليس هناك أحد ينفي ذلك، لكن الله عز وجل جعل للأشياء أسباباً، فهو يطلب من الله الولد بغير زواج، أو يطلب من الله أن يرفع عنه لوازم البشرية، اللهم أغنني عن الطعام، أو اللهم أغنني عن الشراب، اللهم أغنني عن النفس، هذا أيضاً من الاعتداء في الدعاء، وبعض الناس -وهذا يقع كثيراً- يسأل الله النصر على الأعداء، وأن يجعل أموالهم غنيمة للمسلمين، وهو لم يفعل أي سبب من أسباب النصر، فهذا كله من الاعتداء في الدعاء، قال تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].
النوع السابع من الاعتداء: أن يطلب نفي أمرٍ دل الشرع على نفيه، يعني: الدعاء يكون تحصيل حاصل، يعني مثلاً: إنسان يدعو الله ألا يهلك الأمة بسنة أي: بمجاعة، ويدعو الله ألا يسلط على الأمة عدواً من سواء أنفسها فيستبيح بيضتها، ما هناك فائدة من هذا الدعاء؛ لأنه أصلاً الرسول صلى الله عليه وسلم دعا به واستجيب له، وكذلك أن يدعو الله عز وجل ألا يدخل الكفار الجنة، فنقول: أصلاً الكفار ربنا قال: لن أدخلهم الجنة.
النوع الثامن من الاعتداء في الدعاء: طلب ثبوت أمر دل السمع على ثبوته يدعو الله بألا يخلد في النار مؤمناً، أو يدعو الله بألا يدخل الجنة كافراً ونحو ذلك، وهذا أيضاً الشرع قد سبق به.
النوع التاسع من الاعتداء: أن تعلق الدعاء على المشيئة، وهذا يحصل كثيراً عند الناس، يقول لك: أسأل الله أن يبارك فيك إن شاء الله، وأن يغفر لك إن شاء الله، وأن يزوجك إن شاء الله، وأن يرزقك الأولاد إن شاء الله ونحو ذلك، فهذا خطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه: باب ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له )، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت )، فهذا الدعاء يتنافى مع الأدب، حتى مع الناس، يعني: واحد من الناس يأتي يطلب منك شيئاً، ثم يقول لك: إن كنت تريد أن تعمله فاعمله، وإن لم ترد أن تعمله فالله كريم. هل ستعمله؟ قل له: خلاص الله كريم، أو بعض السائلين يمد يده ويقول لك: من الله لا منك، طبعاً كلمة حق أريد بها باطل، خلاص إذا من الله اذهب الله يعطيك.
فالإنسان ما يعلق دعاءه على المشيئة، لكن ليعزم وليقل: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم أغنني، اللهم أكرمني، اللهم ارفعني، اللهم اجبرني، ولا يقل: إن شئت.
النوع العاشر من الاعتداء في الدعاء: أن تدعو على من لا يستحق أن تدعو عليه؛ لأن بعض الناس هكذا، لو اختلف مع إنسان في أي شيء دعا عليه، فهذا أيها الإخوان من الاعتداء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ).
النوع الحادي عشر من الاعتداء في الدعاء: أن تدعو الله بحرام، يعني: تدعو الله بتحصيل شيء محرم شرعاً، كمن يدعو الله أن ييسر له خمراً يشربها، أو خنزيراً يأكله، أو امرأة يزني بها، أو مالاً يسرقه، أو وقتاً يسافر به إلى بلاد الكفر في غير ضرورة، هذا من الاعتداء في الدعاء.
النوع الثاني عشر: من الاعتداء في الدعاء رفع الصوت فوق الحاجة، إذا كان الإنسان يدعو بمفرده، فإنه يدعو ربه تضرعاً وخفية مخافتة، أما إذا كان يدعو في جماعة كما هو الحال في الجمعة، أو في الاستسقاء ونحو ذلك من المناسبات، فإنه يرفع صوته بالقدر المناسب، أما الصياح والصراخ فهذا يتنافى مع الأدب مع الله، فلو أنك دخلت على ملك من ملوك الدنيا، فقلت له: أيها الملك! أنا أريد منك كذا وكذا، يقول: أخرجوه، ولربما قال: خذوه فغلوه، ومن عذابي أذيقوه. لماذا؟ لأنه تجاوز حدود الأدب، إذاً: الدعاء لابد أن يكون فيه نوع من المخافتة وخفض الصوت.
وفسر بعض السلف قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] بالذين يرفعون أصواتهم رفعاً زائداً على الحاجة.
النوع الثالث عشر: أن يسأل الله ما لا يصلح له، كأن يسأل الله منازل الأنبياء، أو أن يكون ملكاً لا يحتاج إلى طعام أو شراب، أو أن يعطى خزائن الأرض ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية، أو النبوة.
النوع الرابع عشر: أن يسمي الله بغير أسمائه، ويوجد الآن في بعض كتب الأوراد عند بعض الطرقية تلقى مكتوباً فيها: بهبه هبهب شقشق نقنق وكذا، وتجد المسكين يجلس بعد صلاة الصبح يردد هذا، تقول له: ما هذا؟ يقول لك: هذا من أسماء الله، أين هذا الاسم، هل هو في القرآن أو في السنة؟ يقول: لا، هذا عرفه الشيخ، الشيخ عرفه من أين؟ يقوم يأتيك بالحديث: ( أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك )، سبحان الله! ما العلاقة بين هذا وذاك؟ فهذا كله من الاعتداء في الدعاء، أن تسمي الله بغير أسمائه، أو تثني عليه بغير ما أثنى به على نفسه جل جلاله.
النوع الخامس عشر: أن يدعو ربه دعاء غير متضرع، بل دعاء مستغن، وهذا حال كثير من الناس، كمثل الإمام حين يدعو يوم الجمعة، والمستمع رافع يديه فقط دون تأمل، وهذا من أعظم أنواع الاعتداء في الدعاء، فيجب على الإنسان أن يدعو الله عز وجل دعاء المسكين الذليل المفتقر، الخائف المتضرع، من أجل أن تحصل له الإجابة.
النوع السادس عشر وهذا كثير جداً، خاصة في الأشرطة المتداولة، وخاصة في دعاء ختم القرآن: تطويل الكلام وتشقيقه بغير حاجة، مثال ذلك: أن يدعو ربه أن يرحمه، إذا وضعه في اللحد تحت الجنادل والتراب وبين الدود، وقد سالت العيون، وسحنت الخدود، وسال الصديد، وكذا، يعني: كأنه يصف حاله إلى ربنا جل جلاله، وكأنه لا يعرفه، هذا التفصيل ليس له داع، وكذلك بعض الناس يقول: اللهم ارحمني إذا وضعت في التراب، وتولى الأحباب، وذهب الأصحاب.
فنقول: هذا معروف، أنك وضعت تحت التراب فلا أحباب ولا أصحاب، ولو أكرموك وطبقوا السنة فإنهم يقعدون عندك عشر دقائق، لكن لا أحد سيسكن معك في قبرك.
وكذلك أيها الإخوان! الدعاء على العدو، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمل، ( اللهم قاتل الكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك )، لكن بعضهم يقول: اللهم أخرس لسانه، وشل أركانه، اللهم أبطل سمعه، وأبطل بصره، وعطل جوارحه، وكذا وكذا، فهذا التفصيل أيضاً من الاعتداء، ومن العجيب ما أخرجه أبو داود عن ابن سعد ولعله مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: ( سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها )، يعني: من القصور والحور والحرير كله، والجنة يا إخواننا فيها كما يقول الله لك: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ [الزخرف:71]، وإنك إن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر، وأيضاً( عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال له: أي بني! سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء )، وكان صلى الله عليه وسلم يتخير من الدعاء أجمعه، ( وكان يحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك ).
النوع السابع عشر من أنواع الاعتداء في الدعاء: أن يتقصد السجع في الدعاء ويتكلفه، والسجع أن تكون الجمل على روي واحد، هذا السجع في الدعاء تكلفه مكروه، وهذا كثير الآن فبعض الناس يقول: اللهم احفظنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، قل: اللهم احفظنا ويكفي، وبعض الناس يقول: اللهم ارحمنا إذا صرنا تحت الجنادل والتراب، وتفرق عنا الأحباب، وذهب عنا الأصحاب، وسالت الخدود، وأكلنا الدود، وسال منا الصديد، هذا كله تكلف وتفصيل ليس له داع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا بجوامع الكلم، وما كان يتكلف سجعاً، وما جاء من السجع في بعض دعائه عليه الصلاة والسلام جاء من غير تكلف، ولذلك تجده منسجماً مستساغاً كقوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشفع )، فهذا سجع، لكنه غير متكلف، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي )، فهذا أيضاً تجد أنه غير متكلف.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب ما يكره من السجع في الدعاء، ثم ذكر أثراً عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم، فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع في الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.
فهذا ابن عباس يوصي عكرمة تلميذه، ويقول له: (حدث الناس كل جمعة مرة) يعني: إذا كان عندك حديث في المسجد، يكون في كل جمعة مرة، فإن أبيت ففي كل جمعة مرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، يعني: ما نكثر من الحديث مع الناس بقال الله وقال رسوله، لم؟ لأن النفس تمل، لما قيل لـابن مسعود : لم لا تحدثنا في كل يومٍ؟ قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا )، يعني: يكون عندك في كل أسبوع حديث، أو حديثان، أو ثلاث مرات، يكون حسب الحاجة، فهذا الكلام نقوله لبعض الناس خطبة الجمعة انتهت، يجي بعض الناس يقول لك: أنا أريد أعظ الناس، سبحان الله! ليس الوقت مناسباً للموعظة، ولذلك ربنا جل جلاله من حكمته قال لنا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا [الجمعة:10]، والناس قد استمعوا للإمام نصف ساعة، أو أربعين دقيقة، أو ثلث ساعة فيكفي، ما نمل الناس بكثرة الحديث.
قال له: ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، يعني: أناس يكونون في بستان، في رحلة ترفيهية، ومعهم خروف، وربما يريدون أن يلعبوا بعض الألعاب، كمثل كرة أو ما أشبه ذلك، ومعهم مسابقات وحركات، ويقوم صاحبنا مجرد ما يجتمعون يلقي لهم كلمة؛ لأن بعض الناس إذا اجتمع الناس ما عنده صبر، فإذا وجد الناس مجتمعين في عرس أو في جنازة، فما عنده صبر عن الكلام، بل يرى هذه فرصة، فأولئك الشباب الذين في البستان قد اجتمعوا ومعهم خروفهم وألعابهم، وقد اشتهت أنفسهم الترويح، يقوم أخونا يبدأ ويحدثهم عن عذاب القبر مثلاً، أو يحدثهم عن أحكام الطلاق، فإذا سكت الناس سكتوا على مضض، ولو كان ما عندهم أدب أو ما احتشموا لقالوا: يا أخي! اسكت، اسكت لا أم لك، فقد أضجرتنا وأزعجتنا وآذيتنا لا عافاك الله، ربما يسمعونه شيئاً من ذلك، ولذلك ابن عباس يقول لـعكرمة : ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، يعني: لما تشعر أنهم مشتهون لحديثك، قالوا لك: نريد منك كلمة، نريد موعظة، حين ذلك حدثهم وكلمهم.
يعني: هذا الأمر ينبغي أن نرعاه حق رعايته، وأن نعرفه حق المعرفة لئلا نكون سبباً في أن نبغض الناس في دين الله عز وجل.
قال ابن عباس رضي الله عنه: وانظر السجع في الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب. يجتنبون السجع في الدعاء، ولذلك بعض العلماء لما رأى إنساناً يتكلف في الدعاء قال له: يا هذا! على الله تتكلف، حتى مع الله في تكلف وشقشقة، وانتقاء للألفاظ الفخمة، ثم قال له: إني عهدت فلاناً يوم عرفة، لا يزيد على أن يقول: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، وهذه كلمات أي إنسان يفهمها.
النوع الثامن عشر من الاعتداء في الدعاء: قصد التشهق، بحيث لا يكون ذلك بسبب غلبة البكاء، وإنما هو أمر يتعمده ويطلبه، يتعمده يحاول في أثناء دعائه يتشهق وكذا يري الناس بأنه يبكي، وما هو بباك، كما قال بعض السلف: كانوا يراءون بأعمالهم، فصار الناس يراءون بما لا يعملون، يعني: يراءون بشيء أصلاً ليس عندهم ولا عملوه، وهذا الصنف من الناس داخل في قول الله عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].
النوع التاسع عشر: أن يتخذ دعاءً من غير الوارد في الكتاب والسنة، فيصير ذلك شعاراً له، يواظب عليه، يعني: بعض الناس يخصص دعاء معيناً من تأليفه هو، أو من تأليف فلان من الناس، دعاء لا هو في القرآن، ولا في السنة، فيواظب عليه، وتجدون هذا في بعض المساجد دبر الصلوات المكتوبات، يواظبون على دعاء معين، ولا يخلون به أبداً، حتى إن الصغير يشب ويظن بأن هذا الدعاء من أساس الدين وأصوله.
النوع العشرون: التغني في الدعاء، والتلحين والتمطيط، هذا أيضاً مكروه، وإنما الإنسان يدعو بالضراعة، وبالخضوع من غير تغن ولا تقعير، ولا تمطيط، من أجل أن تحصل له الإجابة إن شاء الله.
قال الكمال بن الهمام رحمه الله، وهو من أعلام الحنفية: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به، فكأنه قال: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، نسأل الله السلامة والعافية.
ختاماً أيها الإخوان! أقول لكم: أفضل الدعاء ما ورد في القرآن، ولذلك روى الإمام البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: ( كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] )، ثم يأتي من بعد ذلك الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم اجعلني لك ذكاراً، لك شكاراً، لك مخبتاً، لك مطواعاً، إليك أواهاً منيباً، اللهم تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي )، أو قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ) إلى آخر الدعاء، أو قوله: ( اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي ) إلى آخره، وهكذا ما ثبت عنه صلوات ربي وسلامه عليه.
أما الأدعية التي ألفها فلان وفلان من الناس، فاضرب عنها صفحاً، واطو عنها كشحاً، ولا تشتغل بها، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يجعلنا من مجابي الدعوة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر