إسلام ويب

علم البلاغة [6]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علم المعاني يعتبر هو الأصل في البلاغة، ولا يمكن الاستغناء عنه -كما يستغنى عن علم البيان والبديع - بحال من الأحوال. ومن مباحث علم المعاني المسند إليه، وله أحوال عدة، منها: الحذف لأغراض بلاغية يراعيها المتكلم في خطاباته المتنوعة.

    1.   

    العلاقة بين علم البلاغة وعلم المعاني

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    فإن الأصل في البلاغة هو علم المعاني، ولا يمكن أن يأتي المتكلم بكلام مهما طال أو قصر ولا يكون فيه شيء من علم المعاني، ويمكن للمتكلم أن يأتي بكلام ليس فيه شيء من الأنواع الأخرى، ليس فيه بيان، وليس فيه بديع، كأن يقول: زيد قائم وما أشبه ذلك، فلا يكون في كلامه تشبيه، ولا استعارة، ولا بديع، ولا مطابقة، ولا تورية، ولا استخدام، ولا سجع، ولا شيء من الكلام الذي نعرفه في البديع، فالعبرة بعلم المعاني.

    علم المعاني هو البلاغة كلها في الحقيقة، والأشياء الأخرى إنما هي بمنزلة الثوب للجسد، وبمنزلة الألوان التي تكون صابغةً للثوب، الجسد قائم بذاته، هذا هو مثل علم المعاني، اليدان والرجلان والرأس وسائر الأعضاء هذا هو علم المعاني، لا بد أن يكون في كل الكلام، لا بد أن يكون فيه مسند إليه ومسند، أو أن يكون فيه شيء من متعلقات الفعل، أو قصر، أو إنشاء، أو فصل أو وصل، أو إيجاز أو إطناب أو مساواة، لا بد أن يكون في ذلك شيء من هذا فأكثر، ولكن ليس من الضروري أن يكون في الكلام بيان أو بديع.

    فعلم المعاني بمنزلة الجسد، وعلم البيان بمنزلة الثوب الذي تلبسه، وعلم البديع بمنزلة ما على الثوب من زخارف وألوان ونحو ذلك، يعني أشياء كمالية، فهذا التعريف الذي بنوا عليه البلاغة نظروا فيه إلى الأصل إلى جسد البلاغة، جسد البلاغة هو علم المعاني، فإذا عرف الإنسان أحوال هذه الألفاظ عرف كيف يستعملها، يحذف تارةً، ويثبت تارةً، ويعرف تارةً، وينكِّر تارةً، ويقدم تارةً، ويؤخر تارة، ويوجز تارةً ويطنب تارةً، ويجعل الكلام مساوياً لمعناه تارةً أخرى، إذا عرف ذلك يكون قد عرف البلاغة، وأما ما عدا ذلك فإنه تقريب للمخاطب، أنت حينما تحدث إنساناً عن شجرة النارجيل وهو لا يعرفها، تريد أن تقرب إليه الكلام تقول: إنها كشجرة النخل مثلاً، إنها عظيمة وطويلة ونحو ذلك، فهذا تشبيه وزيادة إيضاح، وإلا فالكلام الأول قائم بذاته، وهو كاف، والعيب إنما هو في الذي جهل ذلك، ثم إنه لو بحث سوف يعرف ما هي هذه الشجرة، ولكن التشبيه يقرب للمخاطب الأشياء البعيدة، أو الأشياء التي لا يعرفها بأشياء يعرفها.

    أنتم تعرفون قصة الرجل الأعمى الذي قيل: إنه أبصر، رد الله إليه بصره لحظات قليلة فرأى ديكاً، ثم ذهب بصره مرةً أخرى، فلم يعرف من الدنيا إلا الديك، وكانوا إذا حدثوه عن شيء قال: أين هو من الديك؟ فلو حدثوه عن جبل قال: هو مثل الديك ألف مرة كبير جداً وهكذا، فالتشبيه هو تقريب للمعاني، قد يكون تشبيه من وجه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كأن رأسه زبيبة)، والرأس كبير، ولكنه لا يريد التشبيه من كل وجه إنما أراد من بعض الوجوه.

    1.   

    أحوال المسند إليه

    نتكلم عن المسند إليه اليوم.

    إسناد الشيء إلى غير من هو له

    لكن أن تسند الشيء إلى غير ما هو له بمجرد ملابسات لابست ذلك الذي بنيت عليه الكلام، حينما يقول المؤمن: أنبت الربيع البقل، هو يعرف أن الذي أنبت البقل هو الله، أنبت الزرع يعني، أو تقول: محبتك جاءت بي إليك، أو تقول: أصل الناس الزمان والدهر، أو تقول: نهاره صائم، ونهره جار، بنى الأمير المدينة، هل الأمير هو الذي بنى المدينة أم هو أمر بذلك؟ وقول الشاعر:

    أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

    ونحو ذلك من الأمثلة، هذا ندرسه إن شاء الله في المجاز، لكننا نتكلم اليوم عن المسند إليه، الذي هو ركن مهم جداً في الكلام.

    المسند إليه قد عرفتموه حينما تكلمنا عن الإسناد الخبري، حينما نقول: زيد قائم، المسند إليه يكون مبتدأً، ويكون فاعلاً عندما تقول: قام زيد، زيد هذا هو الذي أسندت إليه القيام، وهذا معروف لديكم، لكن نريد أن نحكم عليه، وأن نتصوره جميعاً؛ لأن البعض قد يفوته هذا المعنى.

    سوف نتكلم عن المسند إليه من حيث الحذف والذكر والتعريف؛ التعريف بالضمير، والتعريف بالإشارة، والتعريف بالموصول، والتعريف بأل، والتعريف بالإضافة، والتعريف بالنداء، كل هذا سوف نتكلم عنه، كذلك حينما يكون منكراً، وحينما يكون موصوفاً، وحينما يكون معطوفاً يعني عطف البيان وعطف النسق، كل ذلك سوف نتكلم عنه، وكذلك إذا كان فيه ضميرُ فصلٍ، وكذلك نتكلم عنه من حيث التقديم والتأخير.

    المسند إليه من حيث الحذف

    فأما الحذف ـ وهذا هو أهم شيء ـ وقدمه المصنف، وأكثر المصنفين قدموا هذه الحالة وجعلوها الحالة الأولى للمسند إليه، يقول فيه الجرجاني: إنه باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيهٌ بالسحر؛ لأنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، وتجد فيه الصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، يعني أحياناً يكون الحذف أبلغ وأكثر في المعنى؛ لأن الذكر يقلل ويحجم المعنى، فإذا تركته ينطلق ذهن المستمع والمخاطب، ومن يقرأ هذا الكلام يذهب ذهنه كل مذهب، ويتصور معاني كثيرة، ويقدر أشياء كثيرة ومختلفة، وهذا حتى عندما تنظرون إلى المحذوفات في القرآن تجدون أنه يمكن أن يقدر كذا ويقدر كذا ويقدر كذا، وإذا قدرت كذا فله معنى، وإذا قدرت شيئاً آخر يكون له معنى، وهذا سوف نعرفه من خلال ما سنضرب المثل به.

    أغراض حذف المسند إليه

    1) أما حذفه للاحتراز عن العبث بناءً على الظاهر، أو تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ، فكقول الشاعر:

    قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل سهر دائم وحزن طويل.

    يقول: حذفه للاحتراز عن العبث بناءً على الظهور، يعني حينما يكون الكلام لا داعي له فلا تتكلم به، حينما يمكنك الحذف فلا تعدل عن الحذف؛ لأننا لا نريد كلاماً كثيراً، لا نريد ثرثرة، نريد كلاماً موجزاً، ما دام أنه يؤدي المقصود فنحن نريد ونبحث عن أداء المقصود، فإذا كان الكلام يؤدي المقصود من غير أن يذكر فيه هذا اللفظ أو تلك الجملة فلا نحتاج إلى ذلك، حينما قال: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف:45] بعده يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46]، هنالك كلام محذوف كثير، قال: (فأرسلون)، هو الآن لا يزال عندهم، هناك كلام كثير طوي؛ لأن الكلام فأرسلوه، فذهب إلى يوسف، فلما جاء إليه سأله وقال له: ((يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا))، ولكن هل هنالك من يخفى عليه هذا المحذوف إن كان من أهل العقول؟ المحذوف معروف، يستطيع أن يتوصل إليه المخاطب، فحينما لا يكون هناك داع للكلام، بناءً على الظهور؛ لأن المحذوف معروف، فلا داعي للكلام، فإذا قال لك إنسان كيف حالك؟ ماذا تقول؟ كلنا نقول: طيب أو طيبة؟ فالحال يؤنث ويذكر، لك أن تقول: كيف الحال وكيف الحالة؟، وتقول: طيب وتقول: طيبة، لكن لو قلت: طيبة عند إنسان لا يفهم لا يكون هذا الكلام بليغاً، إنما تحدثه بما يعرف، قل له: طيب؛ لأنه لا يعرف أن الحال تكون مؤنثة، فأكثرنا لا يقول: حالنا، أو حالي طيب خلاص معروف، طيب هذا خبر وهو مسند، والمسند إليه هو المحذوف، يقول ابن مالك:

    وفي جواب كيف زيد قل دنف فزيد استغني عنه إذ عرف

    عندما يقال: كيف حال زيد؟ هو كان مريضاً فقيل لك: كيف حال زيد؟ قلت: دنف، يعني: مريض، به مرض، فقلت: دنف أي: هو مريض، أي زيد دنف، فحذفته، وهذا داخل في قوله: (وحذف ما يعلم جائز..).

    قاعدة: حذف ما يعلم جائز، هذا في النحو، وعندنا في البلاغة: حذف ما يعلم أبلغ، إلا إذا كانت هنالك نكتة، قد يكون الحذف معلوماً، ولكن في ذكره نكتة زائدة لطيفة، ومعنىً زائد، فهذا يكون الذكر فيه أبلغ كما سوف نعرفه في باب الذكر في المسند إليه، إننا قد نذكره في باب التسجيل أو الإقرار ونحو ذلك، هذا هو الأصل، ليس حذف كل شيء، حذف ما يعلم جائز في النحو، وأبلغ في البلاغة: يراعى الاحتراز عن العبث والبناء على الظهور، أي: تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ، خذ هذا الكلام، تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ.

    طيب! جواباً لسؤال من سألك: كيف حالك؟ هنا عندنا لفظ وعندنا عقل، إذا قلت: حالي طيب، اعتمدت على اللفظ، وإذا حذفت اعتمدت على العقل، فيخيل إليك عندما تتكلم أن العدول عن اللفظ إلى العقل أولى، فتعدل عنه إلى ذلك، فتقول: طيب، ولا تقول: حالي طيب، فتعدل عن اللفظ إلى الحذف، بناءً على ما يدركه العقل، ولا شك أن هذا الكلام صحيح، ولكن ما كان من داع إلى هذا الكلام الطويل، هذا أمر معروف نعرفه؛ لأن الإنسان حينما يقول جواباً عن السؤال في كيف الحال؟ يقول: طيب، هذا أبلغ من قوله: حالي طيب؛ لأن كلمة (طيب) تشمل الحال، وقد يذهب بعد ذلك الفكر إلى كل شيء من الأمور أخرى، وأن كل شيء طيب، وليس الحال فقط، لكن حين يكون هنالك لفظ ينشغل الذهن به، فلا يعرف إلا هو وهو الحال، فهذا كلام صحيح، وهذا مثل قول الشاعر:

    قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل سهر دائم، وحزن طويل

    هذا إنسان عليل ومريض، فقال: عليل، يعني: أنا عليل، ولكنه حذف المسند إليه، هذا يكاد يصلح لكل ما مضى من الاحتراز عن العبث، وحتى للاختصار، ويصلح أن يكون لترجيح ما يفهمه العقل على اللفظ، ويحتمل أن يكون الشخص مريضا، وما عنده وقت للكلام الكثير، فأخذ من آخره وقال: عليل، وقد يكون لهذا ولهذا ولهذا لكل إنسان مشرب في الحذف، قد يكون حذفه هو للاختصار، وقد يكون حذفه لأنه مريض جداً ولا يستطيع الكلام، أو لا يستطيع النطق، وكلمة (عليل) أسهل عليه من كلمة أنا، وأخف على قلبه، يعني حينما يقول: أنا عليل هذا صعب عليه، لكن لو قال: عليل فلعل إنسان آخر يتفاعل معه.

    2) وقد يكون للاختبار تريد أن تعرف هل السامع متنبه معك أو هو في واد آخر، أنت في واد وهو في واد آخر، أنت تكلمه عن البلاغة، ومحاسن البلاغة وأهمية البلاغة، ثم يسألك في وسط الكلام عن موديل السيارة، هل هذا معك؟ هذا ليس معك، وتجدون شرود الأذهان عند الخطاب كثيرًا، خاصة إذا أطلت الكلام على المخاطب، فمثلاً المؤذن يؤذن فقلت: جميل، فتريد أن تعرف هل هو متنبه أم لا، أنت تريد بجميل صوت المؤذن، يعني صوت المؤذن جميل، فأردت أن تعرف هل هو متنبه لهذا أم لا، وهذا يكون في أشياء كثيرة.

    كذلك أحياناً يكون في مقدار التنبه، يعني في مقدار تنبه عقله ويقظته، يقولون: إن بعض الخلفاء كان مع إنسان في سفينة، فقال له: ما أحب الطعام إليك؟ قال: مح البيض، صفار البيض، فمضت سنة، ثم التقى به مرةً أخرى فقال له: مع أي شيء؟ قال: مع الملح بسرعة، يعني هذا متنبه للسؤال الأول الذي سأله قبل سنة، يعني مح البيض مع الملح، فحذف المسند إليه، السائل حذف المسند إليه، والمسئول حذف المسند إليه، وقد أراد أن يختبر مقدار يقظته ونباهته.

    3) كذلك يحذف من أجل صونه عن لسانك، كأن يكون المقام يحتاج إلى أن يذكر فيه لفظ الجلالة، ولكن أنت في مكان الوضوء أو شيء فحذفته واكتفيت بالخبر، أو جئت بالفعل وتركت الفاعل، ولم ترد أن تتلفظ بلفظ الجلالة؛ لأنك في مقام لا تريد أن تلفظ فيه بهذا الاسم السريع، أو كأن تقول الحائض في: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] آية عظيمة، أو تقول: أعظم آية، أو آية الكرسي، ولا تقول: (الله لا إله إلا هو).

    وعندما تقول: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية، تعرب (الله لا إله إلا هو): مبتدأ، وأعظم: خبر.

    فهي حذفتها؛ لأنها لا تريد أن تقرأ شيئاً من القرآن، يعني هي تحب ذلك، هذا عند من يرى أنه يكره أن تقرأ الحائض القرآن وهكذا.

    4) قد يكون الحذف أحياناً لصون لسانك عنه، أنت لا تريد أن تدنس لسانك بذكره، تريد أن يعف لسانك عن ذكر اسمه، كأن تقول عن البول مثلا، تقول: غير طاهر، لا تريد أن تذكر لفظ البول، ولكن السياق بالنسبة للمخاطب يبين عن ماذا تتحدث، فالبلاغة هي حكاية لما يحصل بين الناس، الناس أحياناً يتنزهون عن بعض الألفاظ، وأحياناً يقول بعضهم على المنبر: أنا أنزه نفسي عن أن أذكر كذا وكذا وكذا، أو أن أذكر اسم هذا الكافر، وشرعاً هذا ليس بصحيح، شرعاً أذكر من شئت كما شئت ليس في ذلك شيء؛ فقد ذكر فرعون وهو رئيس الفراعنة، وذكر غيره أيضاً من الصناديد والكفرة وغيرهم.

    والبلاغة تحكي ما يتعامل به الناس، وما يتحدثون به، فقد جرت العادة أن الإنسان إذا ذكر البول دعا لك عند البول قائلًا: أعزك الله، وأكرمك الله، وهذه كأنها من مقامات الدعاء، وكذلك إذا ذكر الكلب والخنزير والحمار، هل هذا أدب نبوي في الناس؟ بل بعضهم إذا ذكر المرأة قال: أعزكم الله، للمرأة أجاركم الله، وأعزكم الله، أو أنتم في كرامة أو أكرمكم الله، أو نحو ذلك، هذا شيء تواطأ الناس عليه، وليس من الأدب الشرعي في شيء، القرآن لم يعلمنا هذا ولا النبي صلى الله عليه وسلم علمنا هذا، ولا الصحابة في سيرتهم العملية، ولا الفضلاء من السلف، ولكن الناس اعتادوا على هذا.

    فالحاصل حينما يخيل للإنسان أنه يدنس لسانه عند ذكر لفظ من الألفاظ وحذفه قد يكون هذا من الأغراض التي عرفناها في حذف المسند إليه.

    5) كذلك من أغراض الحذف التمكن من الإنكار، أن يكون غرض المتكلم التمكن من الإنكار حين يستدعي المقام ذلك، وهو يتكلم مثلاً عن فلان من الناس ولكنه لا يذكر اسمه فيقول: فلان جاهل أو غبي أو نذل أو لئيم أو نحو ذلك، هو لا يذكر اسمه، ولكنه يتكلم بين أناس يعرفون عمن يتكلم، هذا تعليم للمكر، ولكن إن كان الكلام حقاً في مقام من المقامات التي تجوز فيها غيبة الإنسان أو كان المتكلم عنه كافراً فهذا شيء آخر، أما أن يقول الإنسان عن مسلم كلاماً هو من باب الغيبة ليس من باب التحذير النافع والقصد الصحيح فهذا شيء آخر.

    حينما يقول ذلك يقوله من أجل أنه إذا عوتب على ذلك، أو أراد أحد أن يعاقبه على ذلك يقول: أنا ما قصدت ذلك، ولا ذكرت اسمه، ويقسم بأنه ما ذكر الاسم، هو حذفه للاحتياط يعني من أجل أن يتمكن من الإنكار.

    6) ومن أغراض الحذف: عندما يكون المحذوف واحد لا يمكن تقدير غيره، وذلك نحو قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73]، الله عالم الغيب والشهادة، فليس هنالك شيء آخر يمكن أن يقدر في هذا المقام.

    7) وكذلك ضيق الفرصة كما قلنا ذلك إجمالاً في قول القائل: عليل، لكن أوضح من ذلك حينما يقول الصياد -هذا يمثلون به في الكتب- وهو ينتظر صيداً يقول: غزال.. غزال، حينما يقول هذا ليس هنالك فرصة لأن يأتي بالمسند إليه، فلا يحتاج إلى أن يقول: الماشي غزال، أو هذا غزال، ليس هنالك فرصة، وكذلك عندما يقول إنسان: غريق.. غريق.. غريق يعني يحتاج إلى إنقاذ غريق، ولا يقول: هذا غريق، أو كذلك حريق.. حريق يقول: حريق فوراً؛ لأن الجبلة طبعت الألسنة على مثل هذا الكلام، وعلى مثل هذا الحذف.

    8) أيضاً يكون الحذف لتعجيل المسرة، لتعجيل السرور، فإذا أردت أن أعجل بمسرتك، أو أن أعجل الفرح لك مثلاً، ونحن نتحدث مثلاً عن العيد فأقول: ثبت ثبت، أي: ثبت العيد أو ثبتت رؤية الهلال، أو أن تقول مثلاً مع أناس جائعين ينتظرهم الطعام تقول: طعام.. طعام، هم ينتظرون ذلك، أو عشاء.. عشاء.. غداء، ما يحتاج إلى أن تقول: هذا غداء أو هذا عشاء؛ لأنك أردت أن تفاجئهم بهذا الخبر، وأن تدخل المسرة عليهم باسم ما يريدون فوراً من غير أن تأتي بشيء آخر قبله.

    9) وقد يكون للعلم به كقوله سبحانه وتعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27]، وقوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83]، إذا بلغت التراقي، أي الروح، إذا بلغت الروح التراقي، ولكن الروح لم تذكر هنا، ولم تذكر قبل ذلك، وكذلك في قوله: (( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ))، أي: الروح، الحلقوم لم تذكر قبل ذلك، ولكنها معروفة، وهنالك شيء فوق ذلك فوق هذا المعنى وهو أنهم قالوا: هنالك معنىً بعيد، وهو أن الروح الآن في طريقها إلى الذهاب والخروج فكأنها غير موجودة، وليست موجودة، ولما كان الأمر كذلك روعي أيضاً هذا في اللفظ، فحذفت ولم تذكر حتى يعرف المخاطب بأن الروح كما فارقت المتن فقد فارقت الجسد، وهذا في آية القيامة وفي آية الواقعة، وكما قال الشاعر:

    أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

    إي والله هذا كلام صحيح، وهو مما يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن من الشعر لحكمة)، فالمراد: إذا حشرجت النفس وضاق بها الصدر، ولكنه حذفها؛ لأنها معلومة، وهي أيضاً في الطريق إلى المفارقة في هذه الحياة، وقريب من ذلك قوله سبحانه في سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وفي آخر الآية: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]، (لقد تقطع بينكم) أي: تقطع حبل المودة بينكم، وحبل المودة هنا فاعل وهو مسند إليه، ولكنه حذفه أيضاً للعلم به، ولمعنى بعيد أيضاً، وهو أن هذا الحبل أيضاً الذي هو كان سبباً في وصل المودة بينهم هو متقطع الآن، وكأنه لا وجود له، وإذا كان لا وجود له فلا ذكر له أيضاً، فيصبح الكلام: (لقد تقطع بينكم)، ونحن قد عرفنا مصير هذا الحبل ومآله، وفي قراءة أخرى: (لقد تقطع بينُكم) بضم النون، وهي قراءة سبعية، والبين في اللغة العربية يصدق على الوصل ويصدق على الفراق، والمراد بالبين هاهنا هو الوصل، فقال: (( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )) أي: الوصل الذي بينكم، حبل المودة الذي بينكم تقطع، والقراءة الثانية أبلغ مع أن اللفظ مقلوب.

    10) وقد يكون الحذف للتحقير، وهذا له أمثلة معروفة تستطيعون أن تتصوروها، مثلاً ذلك الرجل الذي كان غضبان منه ابن عمه، أو من ذلك الرجل الذي كان يظلم الناس، فقال:

    سريع إلى ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع

    يقصد هو سريع، أو يريد أن يذكر اسمه ولكنه لم يذكره؛ لأنه أراد التحقير، والله أعلم بما أراد، الحاصل التحقير يعرف بإشارة الإنسان، ويعرف بالحال وبالقرائن حينما لا يذكر الإنسان المسند إليه، كأن يكون مثلاً خرج عن فلان الذي يحتقره، ولم يذكره لأنه يحتقره، هذا أمر معروف.

    11) كذلك أحياناً قد يكون من الأسباب: الغيرة، لا يريد أن يذكر الإنسان اسم المحبوب، فيكتفي بالمسند؛ لأنه لا يريد التصريح باسمه؛ لأنه يغار على ذلك، فلا يسميه، كأن يقول مثلاً عن محبوبته: ذهبت ولا يذكر اسمها؛ لأنه يغار حين يذكر اسمها.

    12) وهنالك أسباب أخرى لحذف المسند إليه، قالوا: إن من تلك الأسباب اتباع الاستعمال، يعني كون الجملة المستعملة التي وردتنا عن العرب أو عمن سبقنا وردت على هذا اللفظ فنحن نذكرها كما جاءت، كقولهم: (رمية من غير رام)، رمية من غير رام هذا خبر، والمسند إليه وهو المبتدأ محذوف، ونحن الآن لا نقول: هذه رمية، وإنما نقول: (رمية من غير رام)، وهكذا قولهم (شنشنة نعرفها من أخزم)، لا نذكر فيها المسند إليه؛ لأننا نتبع الاستعمال الذي وصلنا، وهكذا فيما يتعلق بحذف الفاعل مر بنا أن المسند إليه قد يكون فاعلاً كما في إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]، لكن أحياناً يحذف الفاعل، ويكون مقامه نائب الفاعل، وذلك أيضاً مثل باب البلاغة، وقد أشرت إلى شيء من هذا عند الكلام في تعريف البلاغة وتعريف الفصاحة في الدروس الأولى، فنحن قلنا: إنه يحذف؛ لأنه معلوم، أو لأن المتكلم يجهله لا يعرف الفاعل حينما يقول مثلاً: ضرب زيد، أو سرق المتاع، سرق المتاع لا يعرف من الذي سرق المتاع، أو لأنه يعرفه فلا داعٍ لذكره، قد يكون حتى المخاطب أيضاً يعرفه، فإذاً الحذف يكون للعلم به أو للجهل به، قد يكون الخوف عليه؛ لأنه سارق مثله، أو الحاصل أنه يخشى عليه، فلم يذكره للخوف عليه، وقد يكون للخوف منه؛ لأن له بأساً، فهو صاحب بأس شديد، ويخشى بعد ذلك أن يسرق متاعه هو، فأيضاً كذلك؛ لأنه خاف منه.

    إذاً يكون حذف الفاعل للعلم به أو الجهل به أو الخوف منه أو الخوف عليه.

    وقد يكون للإبهام؛ لأنه يريد أن يبهم على السامعين، والإبهام غرض من أغراض الكلام، هذا نقول عنه: إنه بليغ، وقد وصل إلى درجة لا بأس بها من البلاغة؛ لأنه قدم إليهم كلامًا في أول الأمر على طريقة تجعل المخاطب يحرق ذهنه، وتجعل خاطره يحتدم، ونفسه تجيش، فيفكر في الكلام، ثم بعد ذلك إن وصل إليه وحده فهذا طيب، وإن لم يصل إليه وحده فعليه أن يجليه له، فإذا كان المقام يحتاج إلى إجلاء بالكلام، أو تجلية له ولكنه لم يجله له، فهذا عدول في الأسلوب.

    قد يقول قائل: إن ذكر الإسناد المجازي هنا لارتباطه بالإسناد، وأما ذكر الحقيقة والمجاز في علم البيان فراجع إلى النقل لا إلى الإسناد، فيكون الأول من علم المعاني، والثاني من علم البيان.

    الجواب: صحيح بالنسبة للمجاز الإسنادي هو مجاز عقلي، وهو متعلق باللفظ والمعنى بالنسبة لباب البيان، هو هنا ذكر من أجل ارتباطه بالإسناد فقط، لكن تعلقه بصميم المجاز الذي نعرفه هناك مثل: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16]، صحيح هذه فيها إسناد مجازي، لكنها من صميم المجاز الذي نعرفه في اللغة هناك، ولذلك الدارسون المتأخرون الذين حرروا مباحث البلاغة، وحتى أظن في كتاب البلاغة الواضحة المؤلفان ضمّا المجاز العقلي إلى المجاز اللغوي هناك لاستعارتهما فيما أظن، ولم يفردوه وحده؛ لأنه هو ألصق بالبيان، وإنما ذكر هنا بالإسناد فقط إلى الفعل وما في معناه، حتى الخلاف الكبير الذي في المجاز يصدق أول ما يصدق على هذا المجاز العقلي، فلا نريد أن نجزئ الكلام نتكلم هنا ونبحث المسألة، ونذكر أقوال من أثبت المجاز، وأقوال من لم يثبت المجاز، ونرجح ونبين كيف كان الخلاف هنا، وهل هو حقيقي أم غير حقيقي، ثم بعد ذلك نعيده هناك، هذا ليس من البلاغة أيضاً، والله المستعان.

    وصل الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796178