الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فالعلماء حينما يتكلمون عن البلاغة فإنهم أول ما يتكلمون عنه تعريف الفصاحة والبلاغة، تجدون هذا في كل الكتب، التعريف اللغوي يعتنون به لأنه هو المدخل إلى التعريفات الاصطلاحية؛ لأنك لا تستطيع أن تفهم التعريف الاصطلاحي أو أن تأتي بتعريف اصطلاحي إلا إذا عرفت التعريف اللغوي، ما معنى هذه الكلمة؟ ما معنى مادة الفاء والصاد والحاء، والباء واللام والغين؟
طالب العلم إذا أراد أن يبحث عن كلمة مفردة فعليه أن يرجع إلى الكتب التي تعنى بالتأصيل، فيعود مثلاً لكتاب مقاييس اللغة لـابن فارس الذي تحرى الدقة والصحة، وإذا عرفت أصل الكلمة وما تدل عليه من دلالة عامة فإنك تستطيع بعد ذلك أن تنطلق من هذا المعنى إلى تفريعات الكلمة، وإذا رجعت مثلاً إلى هذا الكتاب وبحثت عن معنى (فصح) أو (فصُح) أو (أفصح) أو (الفصاحة) تأتي إلى الكلمة بحروفها الثلاثة، وهي الحروف الأصول: الفاء والصاد والحاء، وجدتها لفظة تدل على معنى الظهور والبيان حيثما جاءت، سواء أتي بهذا اللفظ إلى إنسان أو إلى معنىً من المعاني أو إلى شيء من الجمادات، هذا المعنى ملازم لهذا اللفظ حيثما جاء، والعرب تقول: أفصح الصبح، ما معنى أفصح الصبح؟ معناه أنه ظهر وبان، وكذلك أفصح اللبن عن رغوته، إذا أزيلت الرغوة وظهر، ويقال عن اللبن: إنه أفصح، أفصح الصبي وأفصح العجمي، كل ذلك من هذا الباب.
وإذا أصبحت الفصاحة ملكة في نفس الإنسان فإنه يقال عنه: فصُح، يعني أصبحت الفصاحة سجية له؛ لأن هذه الألفاظ التي تأتي على صيغة فعُل تدل على أن هذا خلق وسجية من سجايا ذلك الشخص الذي نسب إليه هذا المعنى، كما نقول: شرُف و عظُم و كرُم، ونحو ذلك، وكذلك في البلاغة نقول أيضاً: في الأصل المادة (بلغ)، لكن حينما نصف إنساناً قد صارت البلاغة سجية له نقول: إنه بلُغ.
والبلاغة مصدر والفصاحة مصدر، البلاغة من (بلغ) والمراد: الوصول إلى نهاية الشيء، نحن لا نريد أن نتوسع في هذا الباب، ولكن أريد فقط أن أرشدكم إلى التأصيل في هذه المسألة، سوف يبحث طالب العلم إذا أراد أن يبحث عن معنى كلمة من حيث أصلها، وهذا الكتاب ليس فيه كل الألفاظ العربية، لكن كل ما فيه هو صحيح، هنالك كتب أوسع منه لكنها تعنى بالجمع، وقد يكون في بعض الألفاظ ضعف، ولا يعتمد عليها؛ لأنها ليست بصحيحة؛ كما هو شأن صاحب القاموس المحيط، فإنه يجمع ما هب ودب، وغالبه صحيح، ولكن قيض الله له من يشرحه، يستدرك عليه ما نقص منه وما ذكره وهو في الحقيقة من الدخيل أو هو من المعرّب، مما ليس بعربي في الأصل، وإلا فهو أوسع من كتاب الصحاح -أعني القاموس المحيط- ثم لسان العرب.
قالوا: إن في الصحاح أربعون ألف لفظة، وفي القاموس ستون ألفًا، وفي لسان العرب ثمانون ألفًا، وفي تاج العروس للزبيدي مائة وعشرون ألفًا، والله أعلم. المهم أنها متفاوتة بهذا الترتيب، أقلها الصحاح.
وقد عرف بعض الفارسيين البلاغة فقال: (إنها معرفة الفصل والوصل). وهذا التعريف أيضاً يكاد يطبق عليه كثير من علماء البلاغة، وذلك أن الفصل والوصل ركن ركين في باب البلاغة، والبلاغة ليست هي الفصل والوصل فقط، ولكن هي من باب: من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، أو من باب: الحج عرفة، يعني إشارة إلى ركن مهم في هذا المقام.
وقال بعضهم: (إنها تشخيص الأقسام، واختيار الكلام)، وسئل هندي عن البلاغة فقال: (إنها وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة).
وللحسن بن سهل تعريف للبلاغة، والمراد به التعريف العام، وليس التعريف الاصطلاحي للبلاغة، لكنه يريد البلاغة التي يتكلم بها الإنسان، ويعبر عنها في كتابته، ولا يريد البلاغة الاصطلاحية التي ندرسها مع الفصاحة، يقول: (البلاغة ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة)، وهذا تعريف من أصدق التعريفات على هذا العلم.
بالغ بعضهم في تعريف البلاغة فقال: (إن البلاغة هي ما بلغ بك الجنة)، وهذا كأنه تعريف صوفي لا علاقة له بما نحن بصدده الآن، فلو سألت سؤالاً عن إنسان قام وتكلم بين الناس بكلام عامي، لم يراع فيه الفصاحة ولا قوانين النحو والصرف، فهل هذا يعتبر بليغاً؟ وهل يعتبر كلامه بليغاً؟
وهذا عندنا من شروط الفصاحة، والفصاحة شرط من شروط البلاغة، والكلام البليغ؛ لأن البلاغة هي أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحة الكلام، لابد أن يكون الكلام فصيحاً، لكننا نورد عليك إشكالاً، وهو أن هذا المتكلم قد بلغ إلى مقصوده بما تكلم به، فإنه تكلم بكلام عامي أثر في المخاطب تأثيراً بالغاً ونال به مقصوده، وهل البلاغة إلا هذا! فقد بلغ إذاً ما يريد، وماذا تريد بعد هذا؟ يعني من ناحية الاصطلاح البلاغي، لا يعد بليغاً؛ فيكون إذًا التعريف الذي شرحناه والشرط الذي شرطوه خاصاً بما يتعلق بالكلام العربي الفصيح، لكن البلاغة مطلقاً ليست البلاغة الاصطلاحية، وإنما البلاغة ما يبلغ الإنسان فيها إلى منتهى ما يريد أو إلى ما يريد فإنها تحصل بأي كلام يتكلم به، وتجد أن بعض الناس يتكلم بكلام عامي أو ينظم شعراً نبطياً، ويصل إلى ما يريد وينال بذلك جائزة، والنفوس تستحسن مثل هذا الكلام وتقبله، وربما رجحته على الكلام الفصيح، الذي يراعي فيه المتكلم قوانين النحو والصرف، ولهذا قلنا: إن البلاغة من حيث العموم ليست خاصة باللغة العربية، فصيحها وعاميها، بل هي في كل لغة، فلو تكلم الإنسان بلغة أخرى، تكلم كلاماً يخاطب به إنساناً يعرف ذلك الكلام فهذا كلام بليغ؛ أترى إن الإنسان إذا تكلم بكلام يتبع فيه قوانين اللغة العربية، وتكلم بذلك الكلام أمام إنسان لا يفهم هذا الكلام لأنه ليس بعربي، ترى هذا من البلاغة في شيء؟
البلاغة تتحقق بما إذا كان يعرف اللغة التي يتكلم بها المخاطب، فيؤدي ذلك الكلام بلغة المخاطب، فيكون حينئذ بليغاً، لكن البيانيين حرصوا أن تكون البلاغة مطابقة للكلام العربي الفصيح؛ لأننا نخدم بذلك القرآن الكريم الذي لم يخرج عن حدود الفصاحة أبداً، وهذا هو الفرق، وإلا فكل كلام يؤدي المقصود يعتبر عند الناس بلاغة؛ لأنه قد أوصل المتكلم إلى ما يريد، فإذا سمعت فريقاً من الناس يتكلمون بكلام، سواء كان كلاماً عربياً أو غير عربي فإنك تخاطبهم بما سمعته منهم، تحكي ما قالوه هم، فإذا سمعت شيئاً وقلت مثله وأدى ذلك الكلام غرضه بأي لغة فإنه قد بلغ المقصود.
فالناس يختلفون في لغاتهم، لكنهم لا يختلفون في الصمت مثلاً، لا يختلفون في ذلك؛ فليس هنالك صمت عربي، ولا صمت إنجليزي، ولا صمت فرنسي، الصمت واحد، وكذلك الضحك، كل واحد يستطيع أن يضحك، والضحك من نوع واحد، لا يحتاج إلى أن يتعلمه الإنسان؛ ولذلك الأعجمي الذي لا يتكلم لأنه أصم، لم يسمع شيئاً حتى يتكلم فيحسن ماذا؟ ولكنه قد يضحك كما يضحك الناس، وهذا الضحك ملكة متولدة عن الإعجاب، فهي تعبر عن نفسها، ويرى الناس يضحكون فيضحك، أما الكلام فإنه مبني على حروف معينة وبنطق معين، فيحتاج إلى محاكاة.
قال صاحب الصحاح في تعريف البلاغة: (إن البلاغة هي الفصاحة) ولم يفرق بينهما، العرب لم تكن تفرق بينهما تفريقاً كهذا التفريق؛ لأن التفريق عندنا اصطلاحي، بعد أن تلقفنا نحن أساليب العرب، وأردنا أن نفرق بين الفصاحة والبلاغة فرقنا بينهما بهذا التفريق الذي سوف تعرفونه، وحينما نقول: إن العرب لم تفرق بينهما لا يعني أنهما مترادفان ترادفاً تاماً، ولكن ماذا نصنع إذا أردنا أن نشرح كلمة من الكلمات، لابد أن نأتي بلفظة أخرى، وليس هنالك لفظة أخرى هي مطابقة للفظة الأولى تضمناً والتزاماً، هذا غير موجود، لكن المسألة من باب التقريب؛ فقالوا: إن الفصاحة هي البلاغة.
الفصاحة لها علاقة بماذا؟ والبلاغة علاقتها بماذا؟ الفصاحة والبلاغة كلاهما علاقته بالكلام، موضوعنا كله الكلام، الذي نتكلم به والذي نكتبه، لكن الكلام الذي نتكلم به منه ما هو كلمة، ومنه ما هو كلام، كلمة واحدة، لفظة واحدة، قد تكون هذه اللفظة حرف، ومنه ما هو كلام، وهنالك متكلم، يعني نحن عندنا كلمة وكلام ومتكلم، فهل نقول عن الكلمة الواحدة: إنها كلمة فصيحة؟ كلمة واحدة، لفظة واحدة، مثلاً كلمة (إنسان) هل هي كلمة فصيحة؟ نقول عنها: إنها كلمة فصيحة؟ نعم، هنالك كلام هل نقول عنه إنه كلام فصيح؟ نعم، نقول عنه: إنه كلام فصيح، هنالك متكلم هل نقول عن المتكلم: إنه متكلم فصيح؟ نعم، نقول عن المتكلم: إنه متكلم فصيح.
كذلك البلاغة أيضاً هل تكون بالكلمة والكلام والمتكلم؟ عندنا كلمة واحدة مثل كلمة: إنسان أو كتاب، هل نقول عن هذه الكلمة إنها كلمة بليغة؟ كلمة واحدة، لفظة واحدة، وليست الكلمة التي يلقيها إنسان نقول: إنه ألقى كلمة، الخطيب اليوم ألقى كلمة، لا نريد هذا، ولكن نريد اللفظة الواحدة كلفظة كتاب، هذا نعرفه نحن من غير أن ندرس في الكتب، أننا لا نطلق على اللفظة الواحدة أنها لفظة بليغة، لكن حينما يكون لدينا كلام هل نقول عن الكلام: إنه كلام بليغ؟ نعم نقول: إن فلاناً اليوم تكلم بكلام بليغ؟ كذلك المتكلم هل نقول عن المتكلم: إنه بليغ؟ نعم نقول عن المتكلم: إنه بليغ.
على هذا يكون الفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة عند البيانيين يوصف بها الكلمة والمتكلم والكلام، وأما البلاغة فإنها تطلق على الكلام والمتكلم، هذه قضية واضحة ، لكن هل كل كلمة مفردة نقول عنها: إنها فصيحة، أم أن هنالك شروطاً لابد من توافرها في اللفظة حتى نقول عنها: إنها فصيحة؟ لابد من شروط.
لا تكون الكلمة فصيحة إلا بثلاثة شروط:
عدم التنافر في الحروف:
لابد أن تكون كلمة سهلة، ليس فيها تنافر، والتنافر في حروف الكلمة معناه أن الحروف تكون متزاحمة، مخارجها قريبة، صعبة على اللسان، لا يستطيع الإنسان أن ينطق بها إلا بصعوبة، هذه كلمة ليست بفصيحة، أُذن الإنسان العربي أُذن مرهفة، تريد كلاماً سهلاً، يصل إلى الأذن بسهولة، ويكون خفيفاً على القلب، وخفيفاً على اللسان، وخفيفاً على السمع.
هنالك كلمة (هعخع) ترون أن النطق بها فيه صعوبة، هذه الكلمة تقال لنبت من النبات ترعاه الإبل، هذه الكلمة لا نقول عنها: إنها فصيحة، باتفاق؛ لأنها صعبة على كل إنسان، ما السبب في ذلك؟ أن أحرفها متقاربة، كلها من الحلق، ليس هنالك عضو آخر يشترك مع الحلق حتى يساعده في عملية النطق بهذه الحروف، بخلاف الحروف التي تخرج من اللسان؛ فإن في اللسان عشرة مخارج، هنالك طرف اللسان وهنالك وسط اللسان وأقصى اللسان وحافة اللسان، كل هذه مخارج، فيمكن للإنسان أن ينتقل من مكان إلى مكان أما هنا فالحروف كلها تخرج من الحلق، وفي ذلك صعوبة. كذلك الشفتان، حتى لو كانت الكلمة لا تخرج إلا من الشفتين فهنالك عضوان: الشفة السفلى والشفة العليا، وبينهما تعاون، أو أطراف الثنايا العليا مع الشفة السفلى، لكن هذا هواء في الحلق، ولذلك عندما جمعوا حروف الإدغام - وهي ستة - جمعوها في لفظة واحدة وقالوا هي (يرملون)، لكن حينما أرادوا أن يجمعوا حروف الإظهار، وأنها جميعاً تخرج من الحلق لم يستطيعوا أن يجمعوها في كلمة واحدة ولا يمكن ذلك، لا يمكن أن تجمع، بخلاف كلمة هعخع؛ لأنها أربعة، وحروف الإظهار ستة، لا تستطيع أن تنطق بها جملة واحدة أبداً.
كذلك هنالك كلمة قال بعض النقاد: إنها كلمة مظلومة، وهي موجودة في أقصر كتب البلاغة، وهي كلمة (مستشزرات) هذه لفظة جاءت في شعر الشاعر المشهور امرئ القيس حينما وصف شعر امرأة، قال:
غدائرها مستشزرات إلى العلا..
مستشزرات يعني: مرتفعات، السين ثم التاء ثم الشين ثم الزاي، الشين والزاي وقبلهما التاء والسين، هذه حروف في النطق بها شيء من الثقل، فيها شيء من الصعوبة، مشكلتها أنها جاءت مع الشين، ثم الانتقال إلى الزاي، الزاي حرف ليس من حروف الانتشار، الشين ملأ علينا الفم؛ لأنه حرف تفشي كما هو معروف، انتقلنا بعد ذلك إلى الزاي، التي مخرجها ضيق، هذه العملية شوشت على البلاغيين وجعلوها مضرِب المثل في تنافر الحروف، لكن بعض النقاد قال: إنه ليس فيها تنافر، بل هي كلمة فصيحة؛ لأنها عبرت عن المعنى في هذا المقام تعبيراً كاملاً، حتى إن الذي له ذوق وله ممارسة للألفاظ العربية يجد أن هذه الكلمة هي التي تعبر عن ذلك الشعر المتزافر، الذي قد دخل بعضه فوق بعض وارتفع، فتداخلت هذه الكلمة كما يتداخل الشعر، الشعر دخل بعضه في بعض، وهو يصف شعر امرأة، التي غدائرها - أي ضفائرها - مرتفعة إلى فوق، فهو يصف هذا بهذا اللفظ، الذي يعبر عن التعقيد الحسي الموجود في الشعر، وهو أيضاً عقد هذه اللفظة بهذه الحروف المتداخلة، وهل البلاغة إلا التعبير عن مقتضى الحال بما يقتضيه، فهو عبر عن الحال بما يتطلبه الحال، والكلمة أيضاً فصيحة وبليغة، فصيحة في مقام يحتاج إلى كلام بليغ.
أن تخلو هذه اللفظة من الغرابة:
فلا تكون اللفظة غريبة، ما معنى الغرابة؟ لا يريد الغرابة بمعنى أنها تخفى عليه، وتكون اللفظة غريبة بالنسبة له، لا يعرف معناها، وإنما يريد أن تكون غريبة عن معرفتك لمعناها، حتى بعد أن تعرف، وإلا فنحن نقول: غريب القرآن وغريب الحديث غريب علينا، وكل من لا يعرف شيئاً فهو غريب عليه، فهذه لها مثال، وبالمثال يتضح المقال، وسوف نتحرى أن نذكر الأمثلة التي يذكرها العلماء. قال الشاعر:
ومقلة وحاجبًا مزججًا وفاحمًا ومرسنًا مسرجا
ماذا يصف هذا الشاعر؟ فاحماً يصف الشعر؛ لأن الشعراء مغرمون بالشعر، فقال: وفاحماً: أسود، ومرسناً، ما هو المرسن؟ يعني الأنف، يصف أنف من يصفها، مسرجاً، ما معنى كلمة مسرجا؟ افتح القاموس وستجد أنها تحتمل معنيين بعد البحث والتنقيب:
إما أن يريد أن يقول: إنها كالسراج في البريق واللمعان، يعني كأن هذه الأنف بيضاء، مشوبة بحمرة، فهي كالسراج؛ تبرق، لمعاناً وبريقاً مثل السراج، فهو عبر عن هذا فاختصر هذا الكلام في لفظة (مسرجا).
وهنالك معنىً آخر؛ وهو أنه يريد أن هذه الأنف كالسيف السريجي، فقد كان هنالك رجل اسمه سريج، يصنع السيوف، لا نظير له بصناعة السيوف، والسيف تعرفون أنه طويل فيه انحناء، والأنف إذا كان طويلاً فيه انحناء فإنه محمود، فلعله أراد أن هذا الأنف كالسيف السريجي، ما ندري، هل يريد هذا أم يريد ذاك.
لكن لا يسلم للبيانيين دعواهم هذه بأن هذه اللفظة إذا كانت تحتمل معنيين لا يمكن تحديد واحد منهما، إذا كان الشاعر قد أراد هذا وهذا، أراد أن يشبهها بالسراج وأراد أن يشبهها بالسيف السريجي، فهل هذا محظور؟ هذا من البلاغة، بل هذا هو الصحيح في مسألة سوف نذكرها في مناسبة أخرى، وهي مسألة المشترك، هنالك ألفاظ مشتركة لها معنيان أو ثلاثة أو خمسة أو عشرة، أو مائة، في اللغة العربية هنالك بعض الألفاظ تجد لها مائة معنىً ومعنى، ومن ذلك كلمة (العجوز) إذا فتحت القاموس في (عجز) في باب الزاي وفصل العين تجد أنه ذكر ستة وسبعين معنىً، ثم أضاف عليها بعد ذلك الشراح أضافوا إليها خمسة وعشرين معنى، فأصبح المجموع مائة معنى ومعنى، لكلمة (عجوز) فلو أراد إنسان أن يعبر عن هذا يأتي باللفظة مرة واحدة، ثم بعد ذلك يعيد إليها ضمائر أو شيئًا آخر وهذا في القرآن، ورجح ذلك ابن تيمية، وهو إعمال المشترك في معنيين، مثال ذلك: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً[النور:3]، (ينكِح) (نكح) في اللغة العربية تأتي بمعنى وطأ، وتأتي بمعنى عقد، من العقد يعني، النكاح: العقد أو الوطء، ويمكن أن يراد هذا وهذا، هذا معروف، كذلك تعرفون الجبن يأتي على عدة معان، أنا قلت في المنظومة:
وأبغض الجبن في نفسي وآكله أكل المحب له فاستعمل النَظَم
الجبن كلنا نبغضه، الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كلنا نأكل الجبن، هذا المطعوم، وكذلك مثلاً كلمة (عَير) يطلق على الجمل وعلى الحمار وعلى الرجل الشريف، الرجل الشريف - السيد - يقال له عَير، هذا هو شأن العرب.
قال ابن مالك:
حمار العير وطبل ووتد ورجل وجبل وما تجد
من ناتئ في وسط شيء ويرد وهو بمعنى سيد الأصحاب
كل ناتئ بين شيئين أيضاً يقال له: عَير. هذا ضمنته في بيت هذه المعاني:
وأركب العَير في عير وأربطه فيه.. وأخشاه إذا نظر
لا نريد أن نستطرد في هذا الكلام، الذي أخرجنا إلى هذا هو (وفاحماً ومرسناً مسرجا) إن كان الشاعر قد أراد إعمال المعنيين في هذا اللفظ فهذا عندي كلام فصيح، وهذه اللفظة لفظة فصيحة، بل هي فائقة في الفصاحة؛ لأنه أراد هذا.
ألا تكون الكلمة مخالفة للقياس الصرفي: ومثلوا لذلك أيضاً بمثال تجدونه في الكتب، وهو قول الراجز:
الحمدُ لله العليّ الأجللِ..
ماذا كان عليه أن يقول حتى لا يقع في مخالفة القياس؟ نقول: الأجل، بالإدغام، لكنه فك الإدغام وجاء باللامين: الأجلل، فهنا نقول: إنه قد خالف القياس، ولابد أن يكون كلام المتكلم في كل لحظة، موافقاً لقوانين اللغة العربية، نحوها وصرفها ودلالاتها، فهاهنا قد وقع الشاعر في مخالفة القانون، ومن خالف قانوناً فإنه يخرج بعد ذلك عن الفصحاء، فلا يقال عن هذه لفظة: إنها فصيحة.
وهكذا الألفاظ الدارجة التي يخطئ فيها كثير من الناس، مثلاً كلمة (مشكلة) فهي تجمع على ألسنة الناس على (مشاكل) وهذا جمع ليس بصحيح، فإذا قلت: مشاكل حكمنا على نطقك هذا أو على لفظتك هذه بأنها لفظة ليست فصيحة، لماذا؟ لأنها خالفت القياس، حتى كان يقول بعض مشايخنا: (إن من المشكل جمع مشكلة على مشاكل)، فالصحيح جمعها على (مشكلات) كمعضلة ومعضلات؛ لأننا لا نقول: معاضل، نقول: معضلات، وما كان على هذا الوزن (مفعلة) فإننا نجمعه على (مفعلات) ولا نجمعها على (مفاعل)، وهكذا مثلاً كلمة (مدير) لا نجمعها جمعاً مكسراً، المدير لا يكسر، لا يجمع جمع تكسير، وإنما نجمعه جمع سلامة، والقاعدة أيضاً تقول فيما كان على وزن (مُفعل) إنه لا يجمع هذا الجمع، الذي هو على وزن فعلاء، يعني هم أرادوا أن يشبهوه باللفظ الذي يجمع على فعلاء؛ لأننا حينما نجمع (مشير) هل نقول: مشراء؟
لا نقول: مشراء، معروف هذا، لكن عندما جئنا إلى كلمة مدير، هنالك خداع، أحياناً الواقع يخدعك، وأحياناً الألفاظ هي التي تخدعك، الألفاظ المتشابهة، فكلمة وزير تجمع على وزراء، هذا صحيح، هذا جمع صحيح، لكن هنالك فرق بين وزير و مدير و وكيل، كلمة وكيل، هذه الواو أصلية، وليست زائدة؛ فإنه على وزن فعيل، بخلاف مدراء فالميم زائدة وهو على وزن مفعل، فهذا إذا جئتني بكلام وفيه هذه اللفظة، وقلت: جاء المدراء وضعنا تحت مدراء خطين أحمرين، إذا ما أردنا أن نتتبع الكلمات الفصيحة في كلامك، أما إذا لم نرد ذلك فهذا أمر آخر، وهكذا كل الكلمات التي يحصل فيها لحن، وهذا أيضاً الباب فيه واسع، هذا بالنسبة للفصاحة في الكلمة الواحدة المفردة.
لا يكون الكلام فصيحا إلا بالشروط الآتية:
خلوصه من ضعف التأليف: يعني أن يكون الكلام على وزن ضعيف، ضعيف في حكم النحويين، يرون أن هذا الترتيب ضعيف، هذا الترتيب ليس ناشئاً على القانون الصحيح، ويمثلون لذلك بقولهم: (أكلوني البراغيث)، ويمثلون له أيضاً بمثال تجدونه في الكتب، عندما يقول الإنسان: (ضرب غلامه زيداً)، ما معنى هذا الكلام؟ ضرب غلامه زيداً، من الذي ضرب الآخر؟ طبعاً نحن ما زال عندنا علامات نستطيع أن نعرف بها المفعول به ونعرف الفاعل فقد انتهت المشكلة، حتى لو حصل تقديم وتأخير، ما لم يكن هنالك شيء يمنعنا من الفهم؛ لأن الغرض هو الفهم والإفهام؛ فنحن عندما نقول: ضرب زيداً غلامه، هذا الكلام ما فيه إشكال، وأيضاً هو جار على قانون اللغة، ليس فيه مشكلة، يعني أصل الكلام في: ضرب غلامه زيداً، أصله ماذا؟ ضرب زيداً غلامه، الغلام هو الذي ضرب زيداً، نحن عندنا علامة رفع وعندنا علامة نصب، ولكن هنا الترتيب هكذا: ضرب غلامه زيداً.
الضمير في العادة نسنده ونعيده إلى شيء متقدم، هذا هو الأصل؛ أن الضمير يعود على مذكور، ولذلك نقول: يعود على أقرب مذكور، يعني على شيء قد ذكر، لكننا في هذه المرة جئنا بكلام لم يعد الضمير فيه على مذكور ثابت ولكنه عاد على متأخر، ولكنه متأخر في اللفظ وفي الرتبة، هنا المشكلة أخف، يعني التأخر في الرتبة، فهو مفعول به، أليس رتبة المفعول به بعد رتبة الفاعل؟
إذاً هو في مكانه الصحيح، وقد تأخر في اللفظ فقط، لكن المشكلة إذا عاد الضمير على متأخر في لفظه وفي رتبته فإنه يكون شاذاً، ويكون هذا الترتيب ضعيفاً في حكم البلغاء وأهل الفصاحة والبيان، هذا الكلام ليس بفصيح، ولكن هل هو بليغ؟ لا، ما هو بليغ عندهم، لابد في الكلام حتى يكون بليغاً أن يكون فصيحاً، هذه الشروط احملها معك إلى البلاغة، لابد حتى في الكلمة الواحدة، إذا كان هناك كلام كثير فيه كلمة ليست بصحيحة يحكمون على هذا الكلام بأنه ليس ببليغ، هذا الحكم في اعتقادي هو ظلم وعدوان! إذا كان الكلام كثيراً وفيه كلمة واحدة فإنه ظلم لأخواتها؛ فقد تكون هنالك جملة بارعة في ذلك الكلام ولكننا نحكم على هذه الجملة المفيدة التي وردت فيها هذه اللفظة بأنها جملة ليست بليغة، أما أن يكون الكلام كله ليس ببليغ؛ فهذا يحتاج إلى نظر، والمسألة متعلقة بالذوق، وذوقك في طعامك وشرابك يختلف عن ذوقي، وكذلك ذوقك في التعاطي مع الكلام يختلف عن ذوقي أنا وذوق فلان وذوق فلان؛ فالمسألة متفاوتة، فيقولون: فيه نظر، وفي النظر نظر، فجاء آخر وقال: وفي نظر في النظر نظر! وهكذا؛ لأن المسألة ليست باتفاق، خاصة في الألفاظ التي يقال: إن فيها تنافراً، أو من باب ضعف التأليف والمخالطة لما هو فصيح أو لما هو مشهور ومنضبط في القوانين النحوية والصرفية، وقد قال ابن مالك:
وشاع نحو خاف ربه عمر وشذ نحو زان نوره الشجر
ومن هذا الباب قول الشاعر:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
أن يخلو الكلام من تنافر الكلمات، كالتنافر الذي مر بكم في كلمة (هعخع) و (مستشزرات)، لكن ذلك في كلمة واحدة، وهذا في كلام، ويمثلون على ذلك بقول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
حتى قالوا: إنه لا يستطيع إنسان أن ينطق هذا البيت مرتين أو ثلاثاً إلا ويتلعثم، ولكن القوى تتفاوت في هذا، قد يستطيع أن يلفظ به إنسان مرات كثيرة ولا يتلعثم، ولكن لا شك أن في النطق به صعوبة، حتى قالوا: إن هذا من كلام الجن.
ويمثلون له أيضا بقول الشاعر:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي وإذا ما لمته لمته وحدي
هذا فيه صعوبة بسبب الحاء والهاء، أمدحه أمدحه؛ الحاء من وسط الحلق والهاء من أقصى الحلق، والمسافة قريبة جداً، وكذلك كونه كرر الكلمة مرتين، هذا البيت رده النقاد، وقالوا: هذا لا يصلح أن يكون مثالاً للتنافر؛ لأنه ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا[الإنسان:26] الشاهد: (سبحه)، فكيف نقول: إن هذه الكلمة ليست بفصيحة؟ لكنهم -والله أعلم- أرادوا أن هذا الكلام فيه تنافر لأنه كررها مرتين؛ ولهذا نقول: تنافر في الكلمات، ليس في لفظة واحدة، كررها مرتين، أمدحه أمدحه والورى، ولو كانت مرة واحدة لم يكن الا في لفظة واحدة، ونحن طبعاً نتكلم الآن عن الكلام.
ولك أن تستشهد أيضاً بالبيت الذي استشهد به بعض البلاغيين، وهو للأعشى ميمون بن قيس ، وهو قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاوِ نشولٌ مشلٌ شلشلٌ شولُ
إلا أن كثيراً من نقاد البلاغيين رفعوا أيديهم عن نقل هذا البيت، وقالوا: إنه جار على سَنَنَ الفصاحة والبلاغة والبيان، وأنه لا نقد فيه ولا تنافر في حروفه، وذلك أن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال، وقد كان حال هذا الشاعر يستدعي مثل هذه الألفاظ التي كأنه تلعثم بلسانه فيها، فقد كان الرجل مخموراً ثملاً، وأراد أن ينطق بمثل هذه الألفاظ، وجرت على لسانه هذه الألفاظ التي كثر فيها حرف الشين، فقال مثل هذه الألفاظ المتتابعة التي تعبر عن واقع الحال، إلا أنه صادف أن تكون الكلمات مبتدئةً بالشين، فكان ذلك مطابقاً لمقتضى الحال، وهل البلاغة إلا مراعاة الواقع، فلا ينتقد مثل هذا البيت عند بعض النقاد والبيانيين.
وكذلك قول الشاعر وهو خالد بن صفوان بن قناص، وكان شاعراً بعيداً عن الحضارة، وتوارد على لسانه كثير من الألفاظ الوحشية، فقال في قصيدته المشهورة لدى الأدباء:
عوجوا على طلل بالقفص خلاني أقوى فقطانه أرآل هيقان
قد غيرت آيه ريح شآمية ووبل مثعنجر بالسيل مرنان
أمسى خلاء وأمسى أهله شحطت نواهم حيث أموا أرض نجران
ومنها:
دار لجارية بيضاء لاهية كالشمس ضاحية في خلق جنان
بيضاء خرعبة خود مطيبةٍ للعين معجبة نفي لأحزاني
فخذ ما شئت في هذه القصيدة أو في هذه الأبيات من الألفاظ التي تريد أن تجعل منها ما هو صالح من تنافر الحروف، أو خذ منها ما تشاء من الألفاظ المجتمعة في جملة واحدة مما قد لابسه شيء من التنافر في الكلمات.
أن يخلو من التعقيد، وعرّف التعقيد هنا في التخليص بأنه: (ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل إما في اللفظ وإما في المعنى)، التعقيد ألا يكون الكلام واضحاً، أي لا يكون الكلام دالاً على المراد بسهولة، بل بصعوبة وبمشقة؛ كقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
الفرزدق الآن يمدح خال هشام بن عبد الملك، خال هشام اسمه إبراهيم، هل ترون أن هذا الكلام ظاهر الدلالة على الذي يريده الشاعر أو المعنى في بطن الشاعر؟ في بطن الفرزدق، يعني لا نصل إلى حل إلا بصعوبة، لكن بأول وهلة ما نستطيع أن نعرفه.
هو ماذا يريد؟ ليس في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه، ليس في الناس حي يقارب هذا الممدوح - الذي هو إبراهيم - إلا واحد هو ملك، مملك، أبو أمه، أبو أم هشام هو أبوه، أبو هذا الممدوح، يعني أبو أم هشام هو أبوه، فهو إذاً خاله، وهذا هشام ابن أخته، فـإبراهيم خاله، فتوصل إلى هذا المعنى المعقد بهذا التركيب المعقد.
ومثل ذلك قول المتنبي:
أنى يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنت محمد
ما هذا الكلام؟! وهو شاعر الفصاحة والبيان، ولكنه عقّد هذا الكلام، أحياناً الشاعر يمدح بدون رغبة، وعندما يكون بدون رغبة، ولم يحصل على جائزة في المرة السابقة يأتي بكلام إما أن يكون معقداً، وإما أنه يشبه الهجاء، كما كان يفعل المتنبي مع كافور، حتى إنه كان مرة يمدح كافوراً فقال:
وما طربي لما رأيتك بدعة لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
قال ابن جني ما زدت على أن جعلته قرداً تطرب منه.
ويقول له أيضا:
تعجبني رجلاك في النعل إنني رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
يعني أن رجله كبيرة وكأنه وهو يمشي لابس نعل، وليس معه نعل!
فهو يقول بما أن أبا البرية آدم، يعني فكيف يكون آدم أبا البرية والثقلان أنت وأبوك محمد؟ هو هذا الكلام، لكنه جاء بهذا التعقيد فقال:
أنى يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنت محمد
ففصل بين هذا الكلام.
طبعاً هذا الكلام مقبول لأننا نستطيع أن نفهمه، لكن الجاحظ نقل عن رجل كان دخيلًا ليس من العرب يقول: إنه سأل دخيلاً عن غبيّ، أخذته الشرطة، فقال له: لأي شيء أخذته الشرطة؟ فقال: في أصحاب سِلِب نعال! هذا كلام لا نستطيع أن نفهمه، فصاحبه إنسان عجمي ليس بعربي، لكنه تعلم اللغة العربية قليلا، فبدأ يركب الكلام بأي طريقة، فقد تجد بعض الأعاجم الذين لا يعرفون اللغة العربية يقولون: أنا فلوس قليل فيه، فلوس كثير ما في.
وقال مرة يشتم غلام الجاحظ، قال: الناس أنت كلهم حياء أقل! ما معنى هذا الكلام؟ يعني أنت أقل الناس حياءً، أنت أقل الناس كلهم حياءً، وكان إذا أراد أن يقول: باع إنسان فرسين يقول: بيع فرس وفرس! لأنه ما يستطيع أن ينتزع فعلاً من المصدر، ولا يعرف التثنية، ولا يعرف الإعراب حتى يأتي بكلمة معربة. هذا مثال للتعقيد في اللفظ.
وإما أن يكون التعقيد في المعنى، كقول الشاعر:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
هذا الشاعر أخبر أنه سوف يبتعد عمن يحب، وأنه سوف يطلب داراً بعيدة، وأنه سوف يسكب الدموع على أحبابه، لماذا؟ لأنه فارقهم، وهذا أمر محمود وسائغ، وهو أمر طبيعي يعرفه كل أحد، سكب الدموع عند فراق الأحبة، فلا يلام على مثل هذا الكلام؛ لأنه موافق ومطابق للطبائع والواقع، ولكنه بعد ذلك قال: لتجمدا، قال: إنه يسكب الدموع من أجل أن تجمد عينه، يريد أن يقول: إنه ابتعد عن الأحبة من أجل أن يقربوا وأن يلتقي بهم، وهذا أمر ممكن، وقال: إنه يسكب الدموع من أجل أن يحصل له سرور وانشراح صدر بلقائهم، لكنه عبر عن السرور بقوله: لتجمدا، وهل السرور يعبر عنه بجمود العين؟ حين لا يبكي الإنسان ولا يخرج دمعه من عينيه يحتمل أمرين: يحتمل أنه مسرور، ويحتمل أنه حين يبكي لا يخرج من عينيه دموع، وحين نقول: إن عينه حين لا تساعده بالدموع يحتمل ذلك أنه مسرور، وليس هنالك داع من دواعي البكاء لا يجوز لنا لغةً أن نعبر عن هذا بالجمود، لا نقول: إن عينه قد جمدت، ولكننا نعبر عن بخل العين بالدموع بالجمود، فنقول: إن فلاناً عينه جمدت، ولن تساعده على البكاء؛ لأنها بخلت عليه بالدمع، ولا يجوز لنا أن نعبر عن السرور بالجمود، من هنا انتقد البلغاء هذه اللفظة وقالوا: إن هذا تعقيد في المعنى؛ لأنه خالف المعنى الصحيح، والتعبير الصحيح الذي كان ينبغي أن يعبر به، ولهذا قال الشاعر:
ألا إنَّ عيناً لم تجُد يوم واسط عليك بباقي دمعها لجمود
يعني: العين التي لا تبكي حين وقت البكاء هذه عين جامدة، ولذلك ذكر ابن حزم في طوق الحمامة أنه ودع أخاً له من الإخوان وحبيباً له، وأيضاً كان معهما ثالث يودعه، فكان ذلك الثالث يبكي وهو يودع صاحبه، ويقول:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط عليك بباقي دمعها لجمود
قال ابن حزم: وأنا كنت أعالج نفسي وأحاول أن أبكي ولكن عيني لم تساعدني بالدمع، وكان عندي جفاف في الدمع، فقلت:
وإن امرأً لم يغن حسن اصطباره عليك وقد فارقته لجليد
أي: وإن الإنسان الذي لا يصطبر حين تفارقه لجليد يلوذ بشدة الفراق، وأنا أتصبر وأتحمل فراقك أيها الصاحب، هذه هي الفصاحة التي قد سلمت من التنافر في الكلمات، ومن ضعف التأليف، ومن التعقيد.
بقي هنالك أمران ذكر بعض البيانيين أنه يجب أن يخلو الكلام الفصيح منهما، ونحن لم نذكرهما ولم نفصلهما؛ لأننا لا نرى ذلك، هذان الأمران هما:
كثرة التكرار، وضربوا له مثلاً بقول الشاعر:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد
سبوح أي: فرس، لها منها عليها شواهد، فقالوا: إن تكرار هذا الضمير في قوله: لها ومنها وعليها تكرار معيب يخرج الكلام عن الفصاحة، ولكن هذا مرفوض؛ لأن مثله موجود في أبلغ الكلام وهو القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى يقول: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، فقوله: (فألهمها فجورها وتقواها)، هذه ضمائر متكررة، ومع ذلك لا يجوز لنا أن نقول: إن هذا الكلام خارج عن حد الفصاحة، بل السورة من أولها إلى آخرها كذلك: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:1-4]، لكن الشاهد الذي تتابعت وتكررت فيه في ألفاظ متقاربة هو قوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، وهذه السورة من أولها إلى قوله: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، فيها أحد عشر قسماً، ولم يجتمع مثل هذا في القرآن الكريم في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:1-7]، هذه أحد عشر قسماً متتابعة لم تجتمع في القرآن في غير هذا الموضع، والشاهد في قوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8].
تتابع الإضافات، وضربوا لذلك مثلاً بقول الشاعر:
حمَامَةَ جرعا حومة الجندل اسجعي فأنت بمرأى من سُعادَ ومَسمع
الشاهد في الشطر الأول من صدر البيت في قوله: حمامة جرعا حومة الجندل، حمامة هذه منادى مضاف، جرعا مضاف، حومة مضاف، الجندل مضاف إليه، وهذا فيه تتابع في الإضافات، وهل هذا معيب؟ قال بعضهم: إنه معيب، ولكن قد يحتاج المقام حتى يختصر المتكلم مثل هذا التتابع، خاصةً إذا كان كلامه من نوع الشعر، فمثلاً إذا أردت أن تقول: قابلت صاحب غلام صاحب غلام صاحب غلام زيد، ماذا تقول غير هذا الكلام، إذا كنت لا تعرف الأسماء، ولا تعرف إلا اسم زيد، وفي القرآن قال الله تعالى: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:1-2]، لقد تتابعت الإضافات ها هنا كما ترون، ذكر مضاف، رحمة مضاف، ورب مضاف، والكاف مضاف إليه، فهذه إضافات متتابعة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولا يسوغ لنا بعد ذلك أن نقول: إن تتابع الإضافات منافٍ للفصاحة، أو للكلام الفصيح، إلا إذا كانت الإضافات خارجةً عن الحد، بأن كانت كثيرةً جداً في مقام يستطيع المتكلم أن يأتي بكلام ليس فيه مثل هذه الإضافات، وحينئذ يلام مثل هذا المتكلم الذي قال هذا الكلام، وهذان الشرطان اللذان هما التكرار وتتابع الإضافات يمكن أن نستبعدهما؛ لأننا لا نحتاج إليهما، وليسا بعيب في الكلام الفصيح.
انتهينا من الفصاحة في الكلمة والكلام، وبقي بعد ذلك الكلام عن الفصاحة في المتكلم، والفصاحة في المتكلم هي: (القدرة على أن يتكلم بكلام فصيح)، والكلام الفصيح هو الذي توفرت فيه الشروط السابقة، وما على المتكلم إلا أن يلتزم بالشروط السابقة التي شرطناها في اللفظة المفردة، والتي عرفناها في الكلام، إذا حصل له ذلك فإننا نقول عنه: إنه فصيح: والفصاحة ملكة يقتدر بها على تأليف كلام فصيح، لكن لابد أن يكون صحيحاً موافقاً لما شرطناه من قبل.
السؤال: كيف يزيد الطالب رصيده اللغوي؟
الجواب: هذا عليه أن يقرأ العربية، ويتعلم اللغة العربية، الأصل أنه يتعلم اللغة العربية من دواوين اللغة، يعني من القواميس والمعاجم، والأفضل أن يمارس أول شيء غريب القرآن، وما استطاع من غريب السنة، وعليه أن يدرس اللغة العربية من خلال الشعر العربي؛ لأنك حينما تدرس الشعر العربي تدرس الألفاظ ومعانيها وتنطق نطقاً صحيحاً، وتدرس التراكيب، وتدرس أيضاً النواحي البلاغية، كل هذا اختصره في قراءة الشعر العربي، وليس بشرط أن تبدأ بدواوين الجاهليين لأن فيها كثيراً من الغريب، وهذا الشعر غريب عليك، فتحتاج إلى أن تأخذ بعض القصائد السهلة، وتدرسها، ابدأ بالأسهل ثم السهل ثم الصعب ثم الأصعب حتى يصبح كله سهلاً عليك، يعني مثلاً لو قرأ الإنسان لامية ابن الوردي، ثم مثلاً لو قرأ بعد ذلك في ديوان المتنبي، ثم لو قرأ في ديوان جرير، وأبي نواس، وزهير بن أبي سلمى، هؤلاء شعرهم سهل جداً، لكنهم مطبوعون، أهل طبع، هنالك شعراء هم أهل براعة، وهنالك شعراء هم أهل صناعة، يصنعون الشعر ويتكلفون فيه، وهنالك أصحاب طبع، كما تسمع مثلاً كلام أبي نواس في قوله:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
فبعد ذلك يكون الطالب حريصاً دائماً على أنه إذا مرت عليه مفردة غريبة عليه يسارع إلى البحث عنها، وينقب عنها في القاموس، يبدأ أيضاً كذلك يطالع في مختار الصحاح، أنا أعرف إنسان أصبح بعد ذلك فائقاً في اللغة العربية، كان حيث ما كان ومعه مختار الصحاح، ثم رأيناه بعد مدة فإذا به معه مختار القاموس، تعرفون! مختار القاموس أوسع من مختار الصحاح، ثم بعد ذلك كبر قليلاً فإذا معه المصباح المنير، ثم بعد ذلك صار معه لسان اللسان، ثم صار يحمل بعد ذلك القاموس، هكذا بدأ يتوسع بهذه الطريقة.
وكتاب مختار الصحاح هذا كتاب سهل جداً، يستطيع الإنسان أن يمر عليه مرتين.. ثلاث مرات.. أربع مرات، يستطيع يخزن هذه المعلومات حتى يأتي بعد ذلك الاستدعاء، حين يكون هنالك استدعاء لهذه المعلومات ستجدها إن شاء الله؛ لأنه الأصل أن في ذهن الإنسان أنه يستوعب، في الأصل يأخذ كل شيء ويضعه في بؤرة الشعور في الذهن، لكن المشكلة أن الذهن لا يمكن أن يكون على حالة واحدة، الذهن يتشتت، في لحظة واحدة يمكن أن يمر بمسافات كثيرة، ويذهب هنا وهنا فتتشتت لديه المعرفة فتضيع الكلمة؛ وذلك بحسب تركيز الإنسان؛ واستجماع عقله مع قلبه أيضاً، إذا اجتمعت جنود الروح والوجدان والتفاعل مع الشيء الذي يريد أن يحفظه أو أن يستوعبه فإنه إن شاء الله يستوعبه؛ لهذا إذا كان الإنسان عاشقاً للغة العربية ـ لا أقول: محباً ـ فهذا هو الذي سيستفيد، يقول الشاعر الناظم:
شعرت بالنحو وبالبيان وإنهما لساحران
يعني أن اللغة سحر، تسحر، كم سحرت اللغة العربية من الناس بما فيها من براعة وبما فيها من سلاسة، وبما فيها من معانٍ دقيقة وجليلة.
هكذا إذا أراد الطالب أن يزيد من رصيده اللغوي، وعليه أيضاً أن يشتغل بالكلمات التي لها معانٍ، أحياناً اللفظة لها معانٍ، مثل الكلمات المثلثة، مثلث قطرب هذا الصغير، أبياته قليلة، ستون بيتاً، هذه أحسن من دورة علمية تحفظها وتضبطها وتفهمها، وهي مشروحة، فيها شرح، والمشكلة أنهم شرحوها بالشعر أيضاً، شرحها الفاسي وشرحها ابن زريق.
هنالك أيضاً مثلث كبير لـابن مالك، مثلث معروف، ومنظوم له، ومثلث آخر لحسن قويدر، هذا أيضاً كذلك عدد أبياته قريبة من أبيات ابن مالك، وهو أمتع وأسلك، وهو أيضاً كذلك موجود، احفظ في اللغة ما شئت، لكن لا تروح تحفظ متن في الفقه، ادرس الفقه من خلال الكتاب والسنة، احفظ آيات من القرآن، بدلًا من أن تحفظ هذه الأبيات أو هذا المتن احفظ آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام، احفظ بلوغ المرام ونحو ذلك من الأشياء التي يرجى الاستعانة بها.
وإلى هنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر