بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، نحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة الجسيمة، حيث جمعنا في هذا البلد الأمين المبارك الطيب الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طيبة طابة )، وهو الذي اختاره الله تعالى في الأزل مهاجراً ومقاماً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحمد الله تعالى كذلك في هذه اللحظة أن جمعنا بمقنب من صالحي الأنصار، فقد قال كعب بن زهير رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم:
من سره شرف الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
فنحن اليوم جمع الله لنا نعمتين، فاجتمعنا في المدينة في مقنب من صالحي الأنصار في ضيافة الأنصار، ولا يفوتنا شكر هذه النعمة العظيمة الجسيمة التي نسأل الله تعالى أن يثبتها، ونسأل الله تعالى أن يجعل الجميع من المتحابين فيه المتجاورين فيه، المتجالسين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
قلت: إن كعب بن زهير رضي الله عنه أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
من سره شرف الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
ونحن اليوم أنعم الله علينا بهذه النعمة فنحن في مقنب من صالحي الأنصار، وفي ضيافة الأنصار في هذه المدينة الطيبة الطاهرة.
نحن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( المحيا محياكم، والممات مماتكم، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( واستوصوا بالأنصار خيراً، فإنهم أدوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم ).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ).
ولقوله: ( علامة الإيمان حب الأنصار، وعلامة النفاق بغض الأنصار ).
وقد بين ما لهم من الفضل والمزية في الإسلام، ولا يزال التاريخ يشهد بذلك؛ فأنا أتيت من بلاد استقر فيها هذا الحي من الأنصار؛ فأثرهم فيها بارز، ونصرتهم لله ورسوله ما زالت على ما أثنى الله به عليهم في كتابه؛ فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
فهذا الثناء الذي نتعبد الله تعالى بتلاوته هو باق خالد، وأثره في الأنصار باق كذلك واضح؛ ولذلك فإن تضحيتهم للإسلام غير جديدة، فهم الذين ضحوا بسبعين شهيداً يوم أحد، وبسبعين شهيداً في بئر معونة، وبسبعين شهيداً في اليمامة، وبسبعين شهيداً يوم قتل أبي عبيد ، وهذه هي التي يقول فيها البدوي رحمه الله:
أصيبت الأنصار يوم أحد بئر معونة اليمامة اعدد
جسر أبي عبيد الشهيد سبعين سبعين بلا مزيد
وهم الذين ضحوا كذلك في دفاع المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشاهد كلها، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في ذلك:
وقال الله قد صيرت جنداً هم الأنصار موعدها اللقاء
لنا في كل يوم من معدٍّ سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
وأثرهم في الإسلام ومشاهدهم فيه لا يمكن أن نحصيها، ولا نستطيع الوفاء بما لهم من الحق، ويكفيهم أن الله اختارهم لنصرة هذا الرسول الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم، واختارهم لجواره؛ فأحبهم حباً شديداً، وكان يقول: ( في كل دور الإنسان خير )، وعندما (
نحن جواري من بني النجار يا حبذا محمد من جار
قال: أشهد الله إني أحبكم ).
وكذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في المدينة يعس ليلةً فسمع عجوزاً من الأنصار تنشد:
على محمد صلاة الأبرار صلى عليك الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكا بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
فأبكت عمر بكاءً شديداً لما أدرك من محبة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المحبة تقتضي منهم الدفاع عنه وعن دينه، والقيام بنصرته، وتقتضي من ذرياتهم كذلك القيام بما قام به أسلافهم وأجدادهم؛ فقد قال ابن رواحة رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصرف المشركين عن طريقه:
خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
فهذا شأن الأنصار ضربوا الكفار على تنزيله، ثم هم يضربونهم على تأويله، وتأويله بروزه للعيان، وظهوره في واقع الناس، فقد قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]، تأويله هو بروزه للأيام، فما وعد الله به تحققه هو تأويله؛ فقد قال الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:27]، فكان نزولها في الحديبية، وكان تأويلها في عمرة القضية، أي: بعد ذلك بعام.
إن أولى ما تشغل به المجالس ... وصدق ربنا جل جلاله، فهو رسالة أرسلها الله إلينا فاختار لها أفضل الرسل من الملائكة ومن البشر، وعصمها وحفظها من التحريف والتبديل والتغيير، ولا شك أن أي إنسان منكم إذا أتاه كتاب من عند ... الذي قد مات وهو يعلم أنه منه فسيحترمه احتراماً شديداً، ولو أتاه كتاب من علي بن أبي طالب أو من عمر بن الخطاب أو من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سيحترمه احتراماً كبيراً، وإذا أتاه كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه إليه لا شك أنه سيحترمه غاية الاحترام، وهذا كتاب جاء إلينا جميعاً وهو موجه إلى كل فرد منا من عند ربنا جل جلاله، رسالة أرسلها الله إلى كل فرد منا، واختار لها ما لا يمكن أن يقع منه التفريط، اختار لها من الملائكة جبريل أمينه على الوحي، واختار لها من البشر أفضل الخلائق جميعاً وأزكاهم وأحبهم إلى الله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الله في التنويه بهذه الرسالة الكريمة: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:192-196].
فأثنى على هذا الكتاب بهذا الثناء العظيم، فهو رسالة جاءت إلينا من هذا الطريق، جاءت إلينا من عند الله سبحانه وتعالى؛ فلذلك لا بد من تدبرها، ولا بد من إحياء المجالس بها، ولا شك أن كل من لديه مفخرة عظيمة يحب إبراز تلك المفخرة وإظهارها، وأعظم مفخرة وأعظم ذكر لهذه الأمة هذا القرآن الذي بين أيدينا؛ فلذلك ينبغي ألا تخلى منه المجالس، وينبغي أن يكون تدبره غالباً على كل أوقاتنا، وأن نهتم بتفسيره وقراءته وتدبره؛ فقد قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
وتدبر هذا القرآن للناس فيه مقامان:
المقام الأول: في حق من يعرف العربية، وهو يتفهم معانيه، وأن يلتمس نفحات الله سبحانه وتعالى؛ ففي هذا القرآن النفحات القدسية؛ فيمكن أن يرزق هذا بحرف، ويرزق الآخر بحرف آخر؛ فكل حرف منه إذا قرأه الإنسان بنية وصدق كتب له به عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فالحرف الواحد يفتح للإنسان فيه، وقد ورد ( أن الحرف الواحد من القرآن يدخل به سبعون ألفاً الجنة )، حرف واحد، ( وأن كلاليب الصراط يدخل بالكلاب الواحد منها سبعون ألفاً النار )، فحروف القرآن تقابل كلاليب الصراط، الكلاب الواحد يدخل به سبعون ألفاً جهنم، والقرآن كل حرف منه الحرف الواحد يدخل به سبعون ألفاً الجنة؛ لإيمانهم به، وتلاوتهم له، وتقبل الله لهم، فالقارئ قد يقرأ ختمةً كاملة فيقبل الله منه حرفاً واحداً، ولكن يبارك له في ذلك الحرف فيثاب به هذا الثواب العظيم؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قرأ القرآن كان له بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ).
فلذلك هو خير ضيافة، وهو خير ما يقدم في الأفراح، وأذكر أنني مرةً زرت بيتاً كريماً. ومعي ضيوف كرام عليه، فأقسم صاحب البيت أنه لم ينحر جملاً، ولن يذبح بقراً ولا غنماً، ولكن سيذبح بشراً، فقيل له: ما هذا؟ فقال: كل هذه كانت تذبح للأضياف من قبل وأريد شيئاً لم يفعل من قبل، وضيافة الأنصار إذاً هي القرآن، ولا يمكن أن تقارن بأية ضيافة أخرى، ولا يمكن أن يعدل عنها بأي شيء آخر.
لذلك سنجلس قليلاً على مائدة كتاب الله نتدبر بعض الآيات.
ذكر الله في سورة الفرقان منهجاً عظيماً في الذين ارتضاهم من عباده، فبين حياتهم في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم، وفيما يأتون وما يذرون، هذا المنهج متكامل جاء بكل أعمال الإنسان المرضية عند الله، وبكل التروك التي ينبغي أن يتركها.
والأعمال كلها تنقسم إلى هذه القسمين: إلى أفعال وتروك، فافتتح هذا المنهج بقوله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61]؛ فأثنى على نفسه بتمام البركة ودوامها، فعبر بالفعل الذي يدل على التجدد؛ وبين أن هذه البركة في نماء وتجدد دائماً، والمقصود بالتجدد منها الطرف الذي يعني الناس؛ فما يصل إلينا من بركات الله لا حصر له، وهو يتجدد في كل اللحظات وفي كل الأوقات، يصل إلينا من المنافع البركات من الله ما لا يمكن أن نحصيه، وكل هذه من النعم العظيمة؛ فكل عظمة وكل شعرة وكل تنفس وكل شيء تعيش فيه هو نعمة مستقلة من نعم الله لا تستطيع إحصاءها، حتى في الضراء توجد نعم عظيمة من نعم الله يدفع بها ما هو أعظم منها من الضراء؛ ولذلك يقول أحد العلماء:
لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينة
كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنة
فأثنى على نفسه بهذه البركة العظيمة.
ثم أثنى على نفسه ببعض أفعاله جل شأنه فقال: الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61]، أثنى على نفسه ببعض أفعاله في العالم العلوي التي تنعكس على العالم السفلي فينتفع الناس بها رغم بعدها، والمسافات الشاسعة بينهم وبينها، فالبروج التي في السماء، وما جعل فيها من النور الذي به تزول ظلمات البر والبحر كل ذلك من نعم الله العظيمة التي يبعد عنا مصدرها، ولكن الله يوصلها إلينا رغم المسافات الشاسعة، فنور كوكب من الكواكب لا يصل إلى الأرض إلا بعد آلاف السنين الضوئية لبعده، ولكن الله سبحانه وتعالى قدره في الأوقات، فكل لحظة يصل فيها شيء من الأشعة إلى الأرض كان في آلاف السنين في طريقه إليها، ومن تدبير الله ألا يصل هذا الشعاع إلا في هذا الوقت، والذي بعده في الوقت الذي يليه، والذي بعده في الوقت الذي يليه حتى تكون النعم في اطراد واستمرار، سِرَاجاً [الفرقان:61] وهو الشمس، والسراج هو الذي تستمد منه الكائنات المضيئة في الأرض وفي الفضاء المحيط بها إضاءتها جميعاً؛ ولذلك عطف عليه القمر فجعل القمر بعد الشمس لتبعيته لها في الإضاءة والنور؛ لذلك قال: وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61]، وهذا القمر مع الشمس آيتان من آيات الله كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الكسوف قال: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ).
وهذه الآيات هي براهين على وحدة الله وقدرته، وهي تقتضي من الناس أن يحمدوا الله عليها، وأن يزدادوا إيماناً ويقيناً بمشاهدتها، وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا رأى الهلال يقول: أيها الخلق المتردد في منازل التقدير، والمتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامةً من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع؛ فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل.
آية عجيبة من آيات الله سبحانه وتعالى يمتن بها على عباده بحسن صنعته، وبدائع قدرته، وحكمته البالغة التي لا مبدل لها؛ فلهذا قال: وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61].
ثم قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].
ارتباطاً بهذين الكوكبين العظيمين اللذين هما آية الليل وآية النهار؛ فقد جعل الله آية الليل ممحوةً، وجعل آية النهار مضيئة، رتب عليهما الظرفين الزمنيين وهما الليل والنهار، فجعل تعاقبهما آيةً من آياته، ونعمةً من نعمه كذلك، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، ومعنى قوله: (خلفة) أي: يخلف أحدهما الآخر؛ فالله تعالى يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، ونحن الآن في ظرف هو النهار، وسيخلفه الليل، ثم يخلفه النهار بعد ذلك إلى أن ينقضي الزمان فيرث الله الأرض ومن عليها؛ فتعاقب الليل والنهار حكمة الله فيه، كما قال تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، (لمن أراد أن يذكر) أي: يتذكر أيام الله الخالية، ويتذكر نعمة الله عليه ليكون ذلك سبباً له للخوف من الله وللرجاء، فتذكر أيام الله في الماضين وسرعة أخذه الوبيل لهم مؤذن بالخوف، وتذكر ما أنعم الله به علينا من أنواع النعم التي لا نحصيها مؤذن كذلك بالرجاء؛ ولهذا يقول الحكيم:
حسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى أودك
إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غداً
فتذكرك لآلاء الله ونعمه، وتذكرك لأخذه الوبيل في الماضين يمنعك من أمرين كلاهما خطر على إيمانك:
الأمر الأول: هو أمن مكر الله، وقد قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
والثاني: هو اليأس من رحمة الله، قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وأهل العلم ذكروا أن الذنب يخالطه خمسة أمور هي أشد ضرراً على الإيمان من الذنب نفسه:
الأمر الأول: تعظيم الذنب، أن يعظم الذنب لدى الإنسان حتى يظن أنه أكبر من المغفرة، فيكون سائراً مستمراً في طريق المعصية؛ لأنه يظن أنه قد أوجب النار فلا يتوب، فهذا استعظام الذنب عن التوبة هو يأس من رحمة الله، وقنوط من روح الله، وهذا ضلال مبين.
الأمر الثاني: استصغار الذنب واحتقاره، وذلك بأن يهون على الإنسان ذنبه، والواقع أن كل ذنب حتى لو كان من اللمم والصغائر فإنه باعتبار من عصي به ذنب عظيم، فقد عصي به العظيم الجليل جل جلاله؛ فلذلك ينبغي للمؤمن ألا يحتقر ذنبه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( إن ذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا ).
فالمؤمنون يتذكرون ذنوبهم، ويبكون عليها، ويتوبون وينيبون، وهذه الإنابة هي سبب للقرب من الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن بعض المذنبين بتوبتهم ينالون حظاً عظيماً من ذلك الذنب؛ لأنه أجدى منهم إلى مهابة الله سبحانه وتعالى والحياء منه، والخوف الشديد منه، وسبب ما فرطوه في جنب الله؛ ولهذا يستشعرون نداء الرب الكريم إذ ينادينا جميعاً فيقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].
فلذلك يحتاج المؤمن إلى تذكر ذنبه؛ لكن دون مبالغة وتعظيم حتى لا يظن أنه أعظم من المغفرة.
الأمر الثالث: هو الإصرار على الذنب؛ فالذنب يقع فيه الإنسان باستزلال الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء، ولكن إذا كان من أهل التقوى فسريعاً ما يقلع ويتوب إلى الله تعالى، ويستشعر أنه قد استزله الشيطان حتى يقع في معصية فيبادر إلى التوبة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].
إن أهل التقوى ليسوا جميعاً معصومين من الوقوع في الذنوب، ولكنهم إذا وقعوا فيها ذكروا الله وبادروا إلى التوبة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
وهذه الآية فيها قراءتان معناهما متقاربان؛ فقراءة: (طائف من الشيطان) الطائف هو النسيم الذي يأتي من الهواء فيمر فوق الأرض بخفة ويذهب، وقراءة (طيف من الشيطان) والطيف هو ما يرى في المنام، وهو سريع الذهاب أيضاً، فالذي يمسهم من عمل الشيطان شبه بالطائف، وشبه بالطيف أيضاً، وهذه استعارة مكنية وقد حذفت أداة التشبيه، فإذا مسهم شيء من عمل الشيطان كالطيف أو كالطائف (تذكروا) أي: ذكروا الله سبحانه وتعالى وما فرطوا في جنبه، (فإذا هم مبصرون)، فيتضح لهم المنهج، وتتضح أمامهم دواعي التوبة ليتوبوا إلى الله.
ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد يذنب فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً ).
ثم إن الإصرار على الذنب سبب لزوال الحياء من الله؛ لأن الملائكة يقدمون تقريراً في الصباح: يا رب! عبدك فلان فعل الذنب الفلاني، في الوقت الذي فعله فيه، ثم في مساء ذلك اليوم: يا رب! عبدك فلان ما زال مقراً على الذي فعله الصباح، ثم في صباح الغد، وهكذا فتتراكم التقارير عند الله، وحينئذٍ لا يزداد ذلك العبد إلا قسوةً وابتعاداً عن الله حين تتراكم التقارير عنه وهو لم يستح من الله، والملائكة يرفعون إليه هذه التقارير، وهم شهود يشهدون عليه بذلك، فالإصرار على الذنب أمره عظيم جداً؛ فلا بد أن نكون جميعاً من التوابين، فالله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقد أمرنا الله بالتوبة جميعاً، فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]، نسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.
الأمر الرابع: الجسارة على الذنب والجرأة عليه، فالمؤمن في الأصل يخاف الله، فلا يقدم على الذنب إلا وهو في وقت الغفلة عندما يستزله الشيطان إليه، كأن الشيطان سرقه حتى وقع في الذنب؛ لأنه يخاف الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه ينظر إليه، وبعلمه ذلك تزداد الخشية في قلبه، ويزداد الخوف والقشعريرة التي تقتضي الإقلاع عن الذنب عند بداية الوقوع فيه؛ ولذلك جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله فقال: يا إبراهيم ! إن نفسي لا تساعدني على ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان لا يراك فيه فاعصه، فقال: كيف أجد مكاناً لا يراني فيه ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فقال: إنك لجريء إذا جابهت ربك بالمعصية وهو يراك، فقال: زدني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسماه ثم اعصه، فقال: رحمك الله، أين لي مكان غير الأرض والسماء؟ فقال: إنك لجسور إذا أتيت في داره فعصيته في سلطانه وتحت إمرته، فقال: زدني، قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج إليه من كل نعمة أنعم بها عليك ثم اعصه، قال: كيف أخرج إليه من نعمته وأنا من نعمته؟ خلقي من نعمته، فقال: إنك للئيم، إذا أكلت رزقه وأخذت نعمته ثم استعنت بها على معصيتك.
فلذلك إذا ازداد الإنسان خوفاً من الله اقتضى ذلك منه الابتعاد عن معصيته، والحذر منها غاية الحذر، والابتعاد من الجسورين على الذنوب الذين لديهم شجاعةً عليها والذين قد ماتت قلوبهم؛ فلا يستشعرون هذا الشعور، ولا يحسون به.
وأنا دائماً أذكر أن العلمانية الحديثة من أخطر آثارها على المسلمين أثران:
الأثر الأول: تحطيم دائرتي الحلال والحرام؛ فالأصل في تصور المسلم أنه يعلم أن من الأمور ما هو في دائرة الحلال، ومن الأمور ما هو في دائرة الحرام؛ فما هو في دائرة الحلال أذن الله فيه، وما هو في دائرة الحرام حجبه الله ومنعه؛ لكن هذه الدائرة تحطمت اليوم في تصور كثير من المسلمين؛ فأصبحوا لا يميزون بين الحلال والحرام، لا يهم أحدهم هل هذا حلال أو هذا حرام، لا يضع هذا السؤال على نفسه أصلاً، لا يقدم السؤال؛ بل يقول: هل هذا فيه ربح؟ هل فيه منفعة عاجلة؟ هل أحقق من ورائه مكاسب؟ ولا يهمه هل هو حلال أو حرام.
الأثر الثاني: التعلق بالأسباب تعلقاً بالغاً، وترك مسبب الأسباب؛ فالأسباب هي من أمر الله، وكلها قابلة للتخلف، فأنتم تعلمون أن من أعظم الأسباب الكونية: النار للحرق، والجوع للموت، فمن دخل النار في العادة يحترق، لكن تخلفت هذه القاعدة بدخول إبراهيم في النار، هل تعلمون أن الله تعالى قال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فأنجاه الله من النار.
وفقد الغذاء والماء أيضاً من الأسباب التي تكون سبباً للموت، لكن أصحاب الكهف مكثوا ثلاثمائة وتسع سنين دون ماء ولا غذاء ولم يموتوا.
إذاً التعلق بالأسباب ليس وارداً؛ بل ينبغي أن نتعلق بمسبب الأسباب؛ لأنه قادر على خرقها بكل الأوقات، واليوم كسرت العلمانية الحديثة تعلق الناس بمسبب الأسباب، وشدت تعلقهم بالأسباب، فإذا جاء الغلاء والقحط قالوا: هذا من التضخم والانكماش في الاقتصاد، وإذا جاء القحط قالوا: إن التيار الفلاني نقل الجبهة المدارية إلى مكان كذا، وينسون أن هذا من ذنوبنا، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، والله تعالى يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
فإذاً هذه الجسارة على الذنوب هي من آثار العلمانية، وأنتم تشهدونها، وترون كثيراً من الناس يقعون في الطوام الكبار وهم لا يشعرون أنهم فعلوا شيئاً، فهي أرق في أعينهم من الشعر، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً الذين حجبهم الله عنه جل جلاله وشغلهم بمعصيته، وأشدهم بلاءً الذين حجبهم عن الشعور بذلك.
فهم محجوبون عن الله، ولا يشعرون بأنهم محجوبون عنه، يضحكون ويأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام وهم يقذرهم الديان جل جلاله، وقد حجبهم عنه وطردهم عن بابه، فهؤلاء مصيبتهم أكبر من كل المصائب؛ وذلك لأنهم أولاً هم محجوبون، ثم بعد ذلك لا يشعرون، لو أنهم حجبوا ثم شعروا بذلك فندموا لكان ذلك يمكن أن يكون سبباً للتوبة، لكن لم يشعروا به أصلاً، ولم يشعروا أن لديهم أي نقص، لا يشعرون بأي نقص ولا أي قصور لديهم.
والناس في سبيل الجراءة على المعصية أربعة أقسام:
القسم الأول: الحاجز بينهم وبين المعصية كالجبل لا يستطيعون اختراقه؛ فلا يرون للمعصية حركةً، ولا لوناً، ولا يشمون لها رائحةً، ولا يسمعون لها صوتاً، هؤلاء حجبهم الله، حال بينهم وبين المعصية، فشغلهم بالطاعة، ولله تعالى عباد يختارهم من خلقه، فيستعملهم في طاعته، أصلاً خلقوا لإكرامهم بطاعة الله، ووفقوا وهدوا لما يرضي الله، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، نواصيهم ظللت بالطيب من القول وبالصراط الحميد، فلا يعرفون معصيةً ولا يستطيعونها، ولا يستحلونها، ولا يتعلقون بها، ولا يجالسون أهلها، ولا يحبونها في أي نوع من أنواع المحبة، وهؤلاء محفوظون.
القسم الثاني: الحاجز بينهم وبين المعصية كالزجاج، يرون حركتها وألوانها، ولكن لا يشمون رائحتها، ولا يسمعون أصواتها، ولا يستطيعون الوصول إليها، وهؤلاء محفوظون أيضاً من المعصية، ولكن حفظهم منها أقل من حفظ السابقين، فربما أخذت شيئاً من وقتهم ينظرون إلى ألوانها وحركاتها فتأخذ شيئاً من أوقاتهم بمجرد النظر، ولكنهم لا يستطيعون الوصول إليها.
القسم الثالث: الحاجز بينهم وبين المعصية كالماء، يستطيعون اختراقه في بعض الأحيان لكن بصعوبة، وهو لا يحجب الألوان ولا الحركات ولا الروائح، ولكنه يحجب الأصوات.
القسم الرابع: الحاجز بينهم وبين المعصية كالهواء، فهم مع المعصية في لحاف واحد، لا يحسون باختراق حاجز بينهم وبين المعصية، فالهواء حاجز وهو جسم، ولذلك يحل بيعه، كما قال خليل رحمه الله يقول:
وجاز بيع عمود عليه بناء للبائع إن انتفت الإضاعة وأمن كسره ونقضه البائع وهواء فوق هواء إن وصف البناء.
فيجوز بيعه، فلما كان جائز البيع دل ذلك على أنه جسم، لكن هذا الجسم يخترق بسهولة، تخترقه الأجسام بسهولة؛ فهؤلاء هم مع المعصية في لحاف واحد، لا يفصلون أنفسهم عن المعصية، لا تبقى معصية من المعاصي إلا ولهم فيها مشاركة، عيونهم مشغولة بالمعاصي، وآذانهم مشغولة بالمعاصي، وأفواههم وأيديهم وأرجلهم، وكل جوارحهم مشاركة في المعصية، نسأل الله السلامة والعافية، لو أرادوا التوسل إلى الله في جارحة من جوارحهم لم تعصه وتمحظت لطاعته لما وجدوا؛ لأن كل جوارحهم قد استغلت وتعفنت بفعل المعاصي.
والأقسام الأربعة موجودة في كل عصر من العصور، ولكن الله تعالى يستر المؤمنين بستره الجميل، وهذا الستر نحن بحاجة إليه، فلو كشف الله الستر لحظةً لما استطاع أحد منا أن ينظر إلى أحد، ولا أن يجالسه لنتن معصيته، ولكن الله سترنا بهذا الستر، نسأله ألا يرفع عنا ستره.
الأمر الخامس: هو الجهر بالذنب، أي: إعلان الذنب، فالمجاهرة ضد العافية، فالمعافون هم الذين لا يجاهرون بالذنوب، إذا وقعوا فيها ساءتهم وستروها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن )؛ لكن الذين يسرون بمعاصيهم فيجهرون بها، ويظهرونها أمام الناس ولا يستحيون منها هؤلاء غير معافون، نسأل الله السلامة والعافية، لم يعافهم الله سبحانه وتعالى من المعصية حين أعلنوها وجاهروا بها؛ لأن الإعلان بالمعصية دعوة إليها، فكل ذنب لم تره من قبل عند رؤيتك الأولى له يقشعر له جسدك، وتستنكره غاية الاستنكار.
فمثلاً القتل يعتبر من الذنوب العظيمة، وإذا رأيت إنساناً مظلوماً مذبوحاً ألست ستستنكر هذه الفعلة ويقشعر لها جسدك لأنك لم تتعود عليها؛ لكن إذا سمعت أكل غيبة، أو سمعت كذباً لا يقشعر لها جسدك؛ لأنها ذنب مألوف لديك، تعودت على سماعه الصباح والمساء، فكل ذنب تعود الإنسان عليه يزول من ذهنه ما كان حاصل في الذهن كراهته والاقشعرار منه، وكثرة المساس تزيل الإحساس؛ ولهذا فإن هذه الذنوب لها هيبة قبل الوقوع فيها، فمن وقع فيها كأنما نجر من الجدار الذي بينه وبينها صفاً فاقترب إلى المعصية، والواقع أن الطاعات هي بمثابة اللحاء للجذع الذي هو أصل الإيمان، فكلما انتزع شيء من اللحاء يبس شيء من الجذع؛ وكذلك هذه المعاصي إذا وقع الإنسان في شيء منها فقد نقص إيمانه بذلك، ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ترفع إليها الرءوس فيها وهو مؤمن )، فإيمان الإنسان يتصدع ويتشقق بسبب الوقوع في هذه المعاصي، نسأل الله السلامة منها.
فإذاً: تذكر الإنسان لهذه المعاصي مؤذن له بالتوبة، ثم بعد ذلك تذكره للنعم مؤذن له بالشكر، فلهذا قال: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان:62] أو (أن يتذكر) أيام الله في الخالين، ويتذكر ما فرط هو في جنب الله، (أو أراد) أي: ما حصلت لديه الإرادة للشكور، أي: لشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بما أنعم به عليه من النعم التي لا يستطيع إحصاءها، وهذا مقتض بأن النهار هو للعمل البدني، والليل هو للعمل القلبي، والنهار يزاول فيه الإنسان نشاطه وأعماله، والليل يفكر فيه ويحاسب فيه نفسه، ويخطط فيه لأعماله، ويفكر فيه للمستقبل، ويفكر ماذا سيعمل غداً إن عاش؟ والتفكير يحتاج إلى وقت يكون الإنسان فيه خالياً غير مشغول البدن؛ لأنه في وقت الشغل البدني يصعب على الإنسان إنضاج الفكر، وإفرادها بقالب معقول.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، هذه عند كثير من المفسرين نعمة أخرى امتن الله بها على عباده، وبعد أن أثنى على نفسه بنعمة خلق الأبراج والشمس والقمر، ونعمة خلق الليل والنهار أثنى على نفسه بخلقه لهؤلاء العباد الصالحين؛ فهذه نعمة يحتاج إليها الناس؛ لأن هؤلاء العباد الصالحين سبب للهداية وسبب لاستجابة الدعاء، وينتفع الناس بمشاهدتهم ورؤيتهم، فهم نعمة على الناس أيضاً، فالنعمة فيهم متعدية غير قاصرة.
وقال بعض أهل التفسير: هذا استئناف؛ وهو بيان لأسس هذا المنهج بالتعامل مع خلق السموات والأرض وما فيهن، فقد خلق كل ذلك لمصلحة بني آدم كما قال الله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وأولى الناس باستغلاله هم المتصفون بهذه الصفات المذكورة، وهم الذين ارتضاهم الله من عباده؛ وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان:63]، والعباد جمع عبد، والعبد تجمع على كثير من الجموع، وقد نظمها ابن مالك و السيوطي فنظما عشرين جمعاً لعبد:
عباداً عبيد -جمع عبد- وأعبد عابد ومعبوداً ومعبدة عبدت
... إلى آخر النظم الذي أتى بعشرين جمعاً بلفظ عبد.
والعبد في اللغة تطلق على أربعة أمور:
الإطلاق الأول: تطلق على عبد الخلق، فكل مخلوق فهو معبد أي: خاضع لمن خلقه؛ لأنه الذي يصوره كيف يشاء؛ فالله تعالى يقول: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، ففي الرحم يصور الله الإنسان على ما شاء، ولا دخل للإنسان في ذلك، فلا يشاور، هل يحب أن يكون طويلاً، أو يحب أن يكون قصيراً؟ هل يحب أن يكون أبيض أو أسود؟ هل يحب أن يكون جميلاً أو ذميماً؟ هذه أمور لا يشاورنا الله عليها، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، هي فقط حكمة الله وتدبيره. فهذا القسم الأول هو عبودية الخلق، والخلائق جميعاً عباد لله من هذا الوجه، مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم كلهم عباد لله، ومن جهة الخلق أنهم مخلوقون له جميعاً.
الإطلاق الثاني: هو عبد النعمة، أي: الذي أنعم الله عليه، وهذه النعمة المقصود بها في هذا المقام الرزق، وإلا فالنعمة أخص من الرزق؛ لأن الرزق هو ما به الانتفاع عاجلاً وآجلاً سواءً كان موافقاً للشرع أو مخالفاً له، أما النعمة فتختص بما يوافق الشرع في الاصطلاح، لكن الإطلاق هنا يفيد الجموع، فعبد النعمة معناه العبد الذي أنعم عليه ربه بأية نعمة سواءً كانت من الرزق الحلال أو من الرزق الحرام، فخلقه وتصويره ومعاشه وحياته وهدايته كل ذلك من هذه النعم، والإنسان بجميع حذافيره عبد لله من جهة النعمة؛ لأن الله أنعم على الخلائق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم بنعمة الخلق وبنعمة الرزق، والإحياء والإماتة، وما ينزل من الرزق من السماء، وما يثبت لهم في الأرض من أنواع الأرزاق، كل ذلك نعمة شاملة للخلائق تشمل كافرهم ومؤمنهم وبرهم وفاجرهم.
الإطلاق الثالث: عبد المحبة، وهو من يتعلق قلبه بشيء فيحبه حباً شديداً، فهو عبد له، فمحب الله حباً شديداً عبد لله من جهة المحبة؛ ولذلك يقول الشاعر:
يا عمرو فعلي عند زهراء يعلمه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
(لا تدعني إلا بيا عبدها) هذه عبودية المحبة، والله تعالى يقول: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً [البقرة:165]، فهذا الإيمان يقتضي منا تمام المحبة لله سبحانه وتعالى، وهذه المحبة ليست بمجرد عمل الجوارح وعمل العقل؛ بل لا بد فيها من عمل العاطفة والمحبة الباطنية، كثير من إخواننا ومن طلبة العلم ومن الدعاة ومن العلماء يظنون أن محبة الله هي مجرد الامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه، وهذا غير صحيح؛ بل محبة الله فيها جانب عاطفي قلبي لا يذوقه إلا الذين تربوا على ذلك، وهم أهل التزكية الذين زكوا أنفسهم وطهروها؛ فمن كان من أهل التزكية هو الذي يذوق طعم المحبة؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن أصحابه ذلك الرجل الذي كان يلقب حماراً ، وكان يشرب الخمر فيجلد، قال: ( لا تفعلوا؛ فإنه يحب الله ورسوله )، هذا الرجل الشرير السكير الخمير يحب الله ورسوله، فهذا دليل على أن المحبة أمر عاطفي قلبي، حتى لو حصلت معها معصية، نعم أنه من لوازم المحبة الطاعة كما قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، ولكن هذا مرتب عليها بعد حصولها، هو أمر زائد، فالطاعة أمر زاد عن المحبة، فتحصل المحبة أولاً ثم بعد ذلك تكون الطاعة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر