نحمد الله تعالى على ما يسر وبلغ وأنعم، ونسأله من فضله المزيد، نحمده سبحانه وتعالى على أن أعان على صيام رمضان وقيامه، وأن بلغنا رمضان، ونسأله أن يعيده علينا بالعافية والأمن والإيمان، وأن يبلغنا إياه أزمنة عديدة وسنوات مديدة.
أما بعد:
فإن الموضوع المقترح للتحدث فيه هو: الإسلام بين جهل أبنائه وكيد أعدائه، وليس كيد أعداء الإسلام جديداً؛ بل قد كادوه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنواع المكايد التي حدثناها عنه القرآن، وأخبر أنهم يكيدون كيداً، وأن الله تعالى يكيد كيداً، وبين أن كيدهم رغم كثرته وكثرة تنوعه إلا أنه وبال عليهم وعائد عليهم بالخسران الدنيوي والأخروي، لذلك فإن المستغرب في الأمر أو الجديد فيه هو جهل أبناء الإسلام لما يكاد لهم، لا وقوع الكيد، ولا تنوعه ولا قوته، وإنما جهل أبناء الإسلام به، فهذا الذي ينبغي الوقوف عليه والتحدث فيه.
أما كيد أعداء الإسلام له، فمن المسلَّم أن كل من يعادي أمراً سيبذل جهداً في سبيل تحطيمه وتقليصه وتحجيمه، وهو معذور بذلك؛ لأنه عمل بمقتضى قناعته.
وكذلك من المسلَّم أن الله عز وجل إذ أرسل هؤلاء الرسل إلى الناس؛ لإقامة الحجة عليهم، شاء أن يكون الناس على حزبين: حزب يتبعون الرسل وهم حزب الله، وحزب يتبعون الشيطان وهم حزب الشيطان، وأن يستمر الصراع بين هذين الحزبين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا الصراع له مقومات متعددة، ذكرت في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، فالله تعالى يقول: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، إذاً هذا قدر نافذ، ومشيئة ربانية أراد الله لها أن تدير هذا الصراع المستمر، الذي هو امتحان وابتلاء للناس، هل سيصمدون أمام هذه المكائد، ويقدمون التضحيات في سبيل نصرة دينهم ونشره، وإعلاء كلمة ربهم الذي خلقهم وسواهم، أو ينخرطون في صفوف المستضعفين والمستذلين، أو يتبعون كيد أعدائهم فيكونون من حزب الشيطان؟
كل هذه الاحتمالات واقعة في الناس، ومن الناس من سيثبت ويصبر يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وهؤلاء هم الذين يكتب الله لهم العاقبة، ومن الناس من سينخدع وتنطلي عليه الحيل والمكايد، وهذا يعد في عداد المستضعفين الذين تقضى أمورهم في غيبتهم.
والقسم الثالث: قوم استطاع الحزب المعادي أن يسخرهم لضرب أبناء جلدتهم وإخوانهم في دينهم، فكانوا سلاحاً في أيدي أعدائهم، يضربون به إخوانهم.
هذه الأقسام الثلاثة في صفوف المؤمنين موجودة، ومن حكمة الله تعالى أن يبقى وجودها وأن يستمر، لكن من حكمة الله تعالى أن يبقى الانتصار وعلو الشأن وعلو الدرجة في هذه المعركة القائمة دولاً، فيعلو كعب كل فئة من هذا الفئات في وقت من الأوقات، وكذلك للباطل صولة يشع خلالها ويشيع، ثم بعدها يتراجع ويضمحل، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن للباطل صولة فيضمحل )، وذلك من حكمة الله تعالى؛ لأن التضحية والجهاد والبذل في سبيل نصرة هذا الدين امتحان للناس، ومن عدل الله تعالى ألا يشدد الامتحان على أقوام ويسهله على آخرين، فهم جميعاً مصيرهم واحد، فإذا كان امتحن أولئك النفر الأولين الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاداهم ذووهم وأقربوهم، وأخرجوا مما كانوا فيه من زهرة هذه الدنيا، ومما يتنافس الناس فيه من معاشها، وأوذوا في الله عز وجل أبلغ أنواع الأذى، فامتحنهم الله بذلك فنجحوا في هذا الامتحان، وامتحن من بعدهم بامتحانٍ أسهل من هذا فنجحوا في الامتحان، وكان الجزاء واحداً، فإن هذا منافٍ للعدل الذي به أقام الله السموات والأرض.
لذلك كانت تضحية أولئك النفر الأولين تضحية بالغة، وعلى حجمها وقدرها قامت دولة الإسلام، فانتشار الدولة وارتفاع رايتها وعلوها ومكانتها، إنما كان بقدر جسامة تضحية أولئك النفر الذين حملوا هذا الدين وحملوا لواءه ونبراسه مضيء للناس.
ثم شاء الله تعالى أن تدول الدولة، وأن تتغير الأوضاع وأن تتبدل، كما بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ذلك في كثير من الأحاديث، التي منها: ما أخرجه الإمام أحمد و الحاكم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريةً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة وسكت )، فهذا التداول والتبادل ليس فقط تداولاً وتبادلاً في أسلوب الحكم المتبع، فنحن لا يهمنا بكثير من الاهتمام الذي يطغى على غيره أسلوب الحكم القائم بقدر ما يهمنا الاستقامة على أصل المحجة البيضاء التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث يشير إلى أحوال الناس عموماً، فلن تكون الخلافة إلا عند صلاح الناس، ولن يكون الملك العاض إلا عند بقايا من الخير لعدم تنافس الناس في أمور الدنيا.
ثم يأتي الملك الآخر الجبرية، وذلك في حال ظهور الفساد وفشوه في الناس، ثم تعود الخلافة إذا صلح الناس.
إذاً ارتباط تنوع الحكم وتدوله إنما هو بصلاح الناس وفسادهم وبقدر اقترابهم من منهج النبوة.
ولهذا قال العلماء: كما تكونوا يولَ عليكم، وقالوا: الناس على دين ملوكهم، فلذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المراتب التي ليست هي مراتب لمجرد السلطة العليا في الدولة بقدر ما هي مراتب لأحوال الناس أيضاً.
ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للرجل الذي سأله فقال: ما لك اتفق الناس على أبي بكر و عمر واختلفوا عليك وعلى عثمان ؟! فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان وأمثالنا، واختلف الناس علي وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك. فعلى أساس هذا يتم الحكم، وعلى أساس ما يشيع بين الناس ويعلو بينهم من المفاهيم والقيم يحكمون.
ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، ورأى الفساد الشائع المنتشر في وقته، وإن كان لا يقارن بما سمعتم وبما رأيتم من أنواع الفساد في عصركم، أراد عمر أن يصلح أحوال الناس، فدعا رجلاً من كبار التابعين وأئمتهم هو رجاء بن حيوة ، فقال: يا رجاء ! إني أريد أن أصلح إصلاحاً، ولكني لا أجد رجاله، فقال: يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق يجلب إليها ما يروج فيها، فما يجد الثمن الكبير لدى السوق هو الذي يجلب إليها، فكذلك إذا صلح السلاطين جلب إليهم أهل الصلاح وأهل الخير، وإذا فسدوا احتف بهم أهل الشر والفساد، ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما أرسل الله من نبي ولا خلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة خير تأمره بالخير وتعينه عليه، وبطانة شرٍ تصرفه عن الخير وتنسيه إياه، فلا تذكره إذا نسي )، فهاتان البطانتان اللتان تحفان أهل الحكم على أساسهما يتم توجه المؤسسة بكاملها.
ولذلك فإن الفساد الذي يستشري في الناس، ويشيع إذا أنكره الناس وكان ذليلاً بينهم فمعناه أن الدين قوي، أما إذا غفلوا عنه وأهملوه، وكان أهل الخير مغلوبين على أمرهم في أوساط الناس، فمعناه أن الدين ضعيف وأنه عاد إلى غربته.
ولذلك ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس )، وفي رواية: ( الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي )، وفي رواية: ( قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ).
فإذاً هذه الغرابة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم غرابة في المظهر والمخبر، وغرابة في الاعتقاد والعبادة والسلوك والأخلاق، وغرابة حتى في الرأي العام لدى الناس.
فالذي يحيي سنةً من السنن في وقت هذه الغربة يشار إليه بالبنان، ويزعم أنه مبتدع أو أنه مخالف لما كان عليه الناس، والذين يخالفونه يعلمون أن هذا إنما أحيا سنةً، وإنما استدل بوحي ثابت، ولكن الغرابة هي التي طمست أبصارهم عن ذلك الوحي، ونظير هذا كثير في حياة الناس، فالناس لا يمكن أن يغسلوا وتمسح من قلوبهم مسحات الخير كلها، بل لا بد من بقايا من الخير، وهذه البقايا لا شك أن كثيراً من الناس يستهجنها ويريد التخلص والتفسخ منها، فيريد أن يتجاهل كل ما كان موجوداً في المجتمع بزعمه أنه مجتمع متخلف، والتقدم لديه هو الانبهار بحضارة أعدائه وبما هم فيه، فبذلك يتخلصون من أوجه الخير التي كانت موجودةً، وكانت مسترةً على ما كان من أوجه النقص، وكان الله تعالى رافعاً بها العذاب عن أولئك القوم بما كان فيهم من الخير، فإذا محي ذلك الخير وعم الشر، جاء العذاب الماحق والقاضي على الجميع، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25].
أما موضوع مكايد أعداء الدين، ومعلوم الكيد القديم الذي يتمثل في كيدٍ مادي، وكيدٍ معنوي، فالكيد المادي على رأسه محاولة قتل الأنبياء، ومحاولة قتل أجنادهم، ومحاولة التخلص منهم بأنواع الإيذاء، ولذلك أخبرنا الله تعالى عن مكايد الأمم السابقة لأنبيائهم، فمنهم أقوام قتلوا أنبياءهم بالسيف، ومنهم أقوام دسوهم في آبار، ومنهم أقوام حاولوا الاعتداء عليهم بأنواع الاعتداء، فحاولوا صلبهم وحاولوا تقطيع أعضائهم، ومنهم أقوام آخرون حاولوا تكذيبهم وتنفير الناس منهم، وأقوام آخرون آذوهم بالضرب والشتم بأنواع الشتائم التي بين الله تعالى في كتابه، وبين أيضاً جزاء أولئك الأقوام كلهم، وأن التجربة دائماً تعود وهي أن يكتب الله تعالى العاقبة للمتقين.
ثم الكيد الثاني: وهو كيد معنوي، بما يكيدونه لهذا الدين والحق الذي يأتي به الرسل، من الشبهات التي يقصد بها تشكيك الناس فيه أو تفريقهم عنه، بمختلف الوسائل، وهذا سماه الله وحياً، ولكنه ليس وحياً من عند الله، إنما هو وحي من الشيطان، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فالشياطين يوحون إلى أوليائهم هذا النوع من الوحي الذي يقصد به إثارة الشبهة وتشكيك الناس في الدين، ومحاولة شغلهم عنه، وصرف ولائهم عنه إلى أمور تافهة يتنافسون فيها، ونظائر هذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، فحين حرم الله تعالى أكل الميتات جاء المشركون، فأوحى إليهم أولياؤهم من الشياطين، فقالوا: عجباً لمحمدٍ يبيح أكل ذبيحته هو، ويحرم ما ذبحه الله تعالى بشبشار من ذهب، وكذلك جادلوه فقالوا: إنك تزعم أن ما نعبده من دون الله حصب جهنم، وأنت لا تبرأ من عيسى بن مريم وهو يعبد من دون الله؟ فرد الله تعالى عليهم في كتابه بهذه الشبهة وفندها، ونظير هذا كثير جداً من الشبهات التي هي من الكيد المعنوي.
واستمرار هذا الكيد كثير، فمن المعلوم أن اليهود عليهم لعائن الله حاولوا التخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله عندما أصعدوا عمرو بن جحاش فوق الدار، وحمل صخرة عظيمة يريد أن يلقيها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل فأخبره فانصرف وترك مكانه حتى سقطت فيه الصخرة بين أصحبه وهم حلقة عليه.
ونظير هذا من المكائد كثير، فقد وضعوا له السم في الشاة يوم خيبر، وحاولوا تفريق أصحابه، وحاولوا إثارة النعرة والقتال بين الأنصار بعد أن أصلحهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وأصلح ذات بينهم.
وكذلك لم تزل مكائدهم للرسول صلى الله عليه وسلم مستمرةً حتى بعد موته، فقد حاولوا أن يصلوا إلى جسده الشريف في قبره صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوه إلى ديارهم فيستسقوا به ويكون عندهم، فعصمه الله تعالى منهم.
وكذلك مكايد النصارى الذين عملوا من المكايد الظاهرة للإسلام الشيء الكثير، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النصارى العرب النجرانيين يحاولون مناظرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشته بالعلن، حتى يشيع أن أقواماً ليسوا خيرة أهل الكتاب ولا قادتهم أتوه فناظروه وناقشوه، فإن هزمهم فليسوا بالقادة، وإن هزموه على ما يزعمون فإنهم أقاموا الحجة عليه وأبدوا للناس أنه ليس رسولاً، فلما أتوه هزمهم الله تعالى، وأنزل سورة آل عمران التي فندت ما كان معهم من الشبه، وردت ما كانوا عليه، فرجعوا وأقروا بالجزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك مكايد نصارى العرب الذين كانوا في الشام، وقد حاولوا التخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا إثارة الفتنة بين أصحابه حتى في الحوادث البسيطة.
فمثلاً: عندما تخلف الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، وكان فيهم كعب بن مالك رضي الله عنه، وكان رجلاً مشهوراً بين العرب بأنه شاعر وخطيب، وتاجر مشهور، وعاقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك المقاطعة وذلك التأديب البالغ، وانقطع الوحي خمسين يوماً أرجأهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، حتى يأتيه الوحي فيهم، وعلم نصارى العرب بما حصل، فأرسلوا كتاباً إلى كعب بن مالك فيه: أنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان، فالحق بنا نكرمك. وهذا كيد وإن كان بمنظارنا هنا ضعيفاً؛ لأنه كيد لشخص واحد من بين المسلمين كلهم، إلا أنه إنما يقصد به تفريق أصحابه عنه، وتشويه سمعته، وهذا ما عصم الله كعب بن مالك منه، فأتاه الكتاب في حالٍ حدثنا الله تعالى عنه بقوله: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118]، في هذا الحال يأتيه هذا الكتاب المغري من ملك نصارى العرب، فيوفق الله تعالى كعب بن مالك ليأخذه ويلقيه في النار بين يدي الرسول، ولا يجيبه ببنت شفة، مع أنه ممتحن ومبتلىً في أوساط المسلمين، فهم جميعاً قد أمروا باعتزاله وألا يردوا عليه السلام، وألا يكلموه، حتى زوجته أمرت أن تعتزله وألا تكلمه وألا ترد عليه السلام، ولما جاء إلى ابن عمه وأقرب الناس إليه وهو أبو قتادة بن ربعي رضي الله عنه وتسور عليه الباب، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فقال: يا أبا قتادة ! أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت أبو قتادة طويلاً، ثم قال: الله ورسوله أعلم، فرجع كعب على أدراجه يبكي.
في مثل هذه الأزمة العجيبة، من المعلوم أن أبا قتادة يعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله، فهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين بايعوا في العقبة، وإن كان لم يشهد بدراً، ولكن كانت بدر أذكر في الناس وكانت ذات ميزة عجيبة في أوساط الناس، وقد بايع كعب تحت الشجرة، فحل عليه رضا الله الأكبر الذي لا سخط بعده.
نظير هذا من المكائد كثير ولا يزال يتكرر.
هنا سنقفز قفزة تاريخية لنصل لواقعنا اليوم، فالمكايد لدين الله تعالى مستمرة على أوجها وعلى قوتها، بحيث كانت في القديم تجد من يقف في وجهها، وتجد الكيد المقابل، وتجد أقواماً حققوا في أنفسهم قول الله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].
واليوم خلت الساحة غالباً إلا من رحم ربك لهذا الكيد، فلم يجد من يقف بوجهه، ولم يجد من يتربص به هذه التربص المنصوص: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]، بل استسلم كثيرٌ من الناس وسوادهم لهذا الكيد، فأصبح شائعاً بين ظهرانيهم، وأصبح أثره بارزاً في حياتهم، وهذا ما تلمسونه في أنفسكم، فهل فيكم من يجد في نفسه تلك الغيرة وذلك الحماس، بحيث لو عرض عليه في أمس أوقات الحاجة في حال الفقر المدقع، المنقطع النظير، وفي حال مقاطعة الأهل والأقارب له، وفي حال إعراض جميع الناس عنه وعقوبته، عرض عليه مبلغ من المال ووظيفة راقية مرتفعة لمجرد مواساته في هذا الوقت، هل تظنون أنه يجد في نفسه الجراءة ليصمد ويصبر دون هذا الإغراء، كما حصل لـكعب بن مالك ؟
الواقع أن كثيراً منا إلا من رحم ربك لا يجد في نفسه هذا الثبات وهذا الاستمرار، ولذلك تعرض الدريهمات القليلات، وأيضاً الوظائف المتدنية، وأيضاً حتى التعامل الذي فيه ذلة ومسكنة مع المؤسسات الكنسية البارزة، ومع الهيئات اليهودية الواضحة، التي لا تحتاج إلى أن تكشف القناع عن نفسها، فنجد الناس يتسارعون إليها ويتنافسون عليها كأنهم يتنافسون على بيعة الرضوان.
إذاً هذا التنافس الحاصل في صفوف المسلمين آن له الأوان لينتقل وليرتفع، ولأن يعود المسلمون إلى دينهم، ولأن يعلموا أن الله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن ما كتب لهم لم يكن ليخطئهم، وأن أرزاقهم عند الله ليست عند اليهود ولا عند النصارى، وأن الله عز وجل امتحنهم بهذا الفقر وهذه الحاجة؛ ليعلم هل هم واثقون بوعده وعهده، صابرون على ما ابتلاهم به، أو هم خلاف ذلك من عبدة الدنيا، الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )، فهذا النوع من الناس ليسوا في الواقع عباداً لله محقين في عبوديتهم، إنما هم عباد للدراهم والدنانير والمغريات المختلفة.
لذلك لا يمكن أن يعول عليهم في هذه الحرب القائمة، ولا أن يوزن لهم وزن في هذه المعادلة الواضحة بين جند الله تعالى أهل الحق، وجند الشيطان أهل الباطل، لذلك لا يعول عليهم فهم رعاع لا يزنون شيئاً، وحتى إن الكفار الذين يغوونهم ويبذلون لهم الأموال، ويبذلون لهم المغريات المختلفة، يعلمون أن من باع دينه الذي تربى عليه وورثه عن آبائه وأجداده بهذه الدراهم القليلة، فمعناه أنه لا يوثق بولائه للدين الجديد الذي يراد أن يدخل فيه، أو على الأقل أن يساعد على انتشاره وانتصاره.
ومن المعلوم أن لدينا قاعدة شرعية فيما يتعلق بالتعامل مع أصحاب العقوق، فمن عق والديه من الناس لا يمكن أن يثق أحد بصداقته؛ لأن أولى الناس ببره وصداقته هو أبوه وأمه، فإذا قطع والديه وأساء إليهما، لا يثق أحد بصداقته ولا ببره، كما قال محمد بن مولود رحمه الله تعالى:
لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق
فكذلك هؤلاء إنما امتحنهم الله تعالى بهذا، والذين يبذلون لهم هذا المال بذلهم في النهاية ضائع، ولكن سيكون فقط وبالاً على الذين ينخدعون به، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:36-37]، فإذاً الحكمة واضحة هي: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37].
من صنوف هذا الكيد الذي يكيده أعداء الإسلام له في عصرنا هذا، أن أعداء الإسلام قطعوا أشواطاً في التخطيط والاطلاع على أوضاع المسلمين، دعتهم إلى أن يعرفوا مراكز التأثير ومراكز الثقل في المجتمع، فاستطاعوا أن ينقبوا عن مفاتيحه وعن أماكن القيادة فيه، فوصلوا إليها ببساطة في وقت غفلة المسلمين، فكان التأثير بالغاً، وكان التأثر أيضاً بالغاً في نفوس المسلمين بهذه المفاتيح التي وصل إليها أعداؤهم.
فمن هذه المفاتيح قضايا الحكم، فإن أعداء دين الله تعالى عندما ضعفت دولة المسلمين خططوا لإسقاط خلافة المسلمين التي كانت باقية رمزاً من الرموز، على الأقل تقرر قانوناً شرعياً وتحكم شرع الله تعالى في كثير من الأمور، فركزوا على هذه الخلافة وسموها: الرجل المريض، وحاولوا إسقاطها عن طريق التعاون بين يهود الدونمة وبين الكنيسة، التي سعت سعيها لحث أولاد الذين ماتوا في الحروب الصليبية لأخذ الثأر من المسلمين، فحصل ما حصل وكانت بداية المعركة في شرق أوروبا الذي فتحه العثمانيون وأدخلوهم في الدين.
ومعلومة تلك المعارك التي حصلت في مقدونيا وفي ألبانيا وفي بلغاريا، وفي غيرها التي كان المسلمون فيها بمثابة الأغنام التي تساق إلى الذبح وهي لا تشعر بذلك، فالغنم إذا فرت من شخص فإنه يضع لها قدحاً فيه قليل من بقايا الطعام ليأخذها ويذبحها، وهي تنخدع بهذا دائماً كلما تكررت التجربة.
فكذلك جاء هؤلاء الملاعين إلى المسلمين من هذا الوجه، فبذلوا لهم القليل من الأزواد حتى وصلوا إلى استرقاقهم في عقر دارهم، وذبحوهم ذبح الشياه، وكانت المعارك في شرق أوروبا في ذلك الوقت على حين غفلة من المسلمين وتقطع بالوشائج بينهم، فلم يعلم بها إلا قلة من الناس.
ثم جاء دور سقوط الخلافة واستيلاء الكافرين على أرض المسلمين وتغلبهم على أطرافها، وتقسيمهم لميراث الرجل المريض كما يسمونه، فاستولت هذه الدول الكافرة على بلاد المسلمين وأخذت كل خيراتها واستغلتها.
ومع ذلك فإنهم يعلمون أن بقاءهم الدائم شبه مستحيل لما في النفوس من محبة الحرية والتخلص من أغلال المستعمرين، فأرادوا أن يرشحوا بديلاً، يرسخ مفاهيمهم وقيمهم، فأخذوا نخبة من أولاد المجتمع، وركزوا على أولاد الأسر العريقة أو على الذين لا خلاق لهم فربوهم تربية خاصة، واصطنعوهم على أعينهم وبأيديهم، فلما أجبروا على الخروج من بلاد الإسلام أقاموا مؤسسات دربوا هذه الفئة من الناس على تسييرها فكان الاستقلال الزائف، وكانت هذه الأحكام المخالفة للاستعمار بديلاً عنه، فانشغل الناس بفرحة الاستقلال الزائف عن فرحة بديله إلى أن فات الأوان، فات أوان المطالبة بإرجاع القوس إلى بارها، وإرجاع الأمور إلى نصابها، فتمكن هؤلاء الثلة الذين اصطنعهم المستعمرون وربوهم، وضربوا بينهم وبين دين المجتمع وأخلاقه وعاداته سياجاً حصيناً، وأشبعوهم بثقافة المجتمع المستعمر ودينه وكل مقومات حياته، حتى امتلأت قلوبهم من ذلك ولم يبقَ فيها محل لشيء آخر، فتجدون الشخص منهم يوصف بأنه مثقف فلا تجد لديه رغبة في أن يزداد من علم الله الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه مثقف، وليس بحاجة إلى ما لدى الدراويش والضعفاء والفقراء، فهو غني بما لديه من ثقافة، هذه الثقافة ما هي؟ هذه ثقافة الكفر، هذه الثقافة هي ثقافة المستعمر، فلذلك الذي يستغني به عن تراثه وعن دينه وما لدى مجتمعه ما هو إلا سلاح أعدائه، سلحوه به ليضربوا به أفراد هذا المجتمع من الداخل، فأصبح لا ينظر إلا بعين المجتمع المستعمر، وأصبحت موازينه موفقة لموازين المستعمر، فكل ما كان حسناً عند المستعمرين يصبح حسناً عند هؤلاء الخلفاء الذين خلفوهم وراءهم، على حد قول الشاعر:
كلانا ناظر قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني
فهم صورة مصغرة من المستعمرين مع أن الأصل والصورة بينهما فرق شاسع، فالصورة ميتة مستقرة غير متحركة، والأصل يتحرك وهو حي يتصرف.
لقد أوتي بنيان المسلمين من الأساس، وبدأ التركيز على تغيير المناهج الدراسية وإحداث مؤسسات تعليمة مخالفة لما كان مألوفاً لدى المجتمع حتى في الطريقة، كان ممكناً أن يأتي المستعمر فيفتح محاظر على نفس النمط الذي كان موجوداً للتعليم، ولكن هذه المحاظر يدرس فيها خلاف الذي كان مألوفاً من الناس، ولكن لو كان الأمر كذلك لما وجدت هذه المحاظر إلا ثلة قليلة من أبناء هذا المجتمع، فأرادوا بديلاً مخالفاً للطريقة مخالفاً للمنهج، موافقاً لما لديهم هم، فنقلوه وأتوا به، فأتوا بمدارسهم النظامية التي وضعوا لها مناهج معينة، تضمن أن الشخص في عز شبابه وفي وقت الإنتاج من عمره، ينشغل بدراسة أمور قد لا تفيده في حياته.
فإذا لوحظ أن المواد المختارة للدراسة في الفترة الذهبية من عمر الإنسان، فعمر الإنسان فترته الذهبية في الاستيعاب هي ما بين الثالثة عشرة من عمره إلى السنة الثلاثين، هذه الفترة هي الذهبية في الاستيعاب والفهم والحفظ والإدراك في حياة الشباب، هذه الفترة تملأ بالمقررات الدراسية، وهذه الفترة من السنة السابعة إلى السنة الرابعة والعشرين، فيصاغ الشخص صياغة معينة، وتمتلئ خواطره وذاكرته بمعلومات عن أمور قد يكون بعضها نافعاً مفيداً لبعض الناس، ولكنها لا يمكن أن تعتبر نافعة لجميع الناس.
فهل يتصور أن المقررات في بعض العلوم الدنيوية التي هي مفروضة في المدارس على جميع أولاد المسلمين سينتفع بها جميع الذين يدرسون في المدارس؟ وهل يتوقع أن الذين يتخرجون من جميع المدارس الابتدائية ويصلون إلى المدارس الإعدادية، أو يتخرجون من الإعدادية ويصلون إلى المدارس الثانوية، كلهم بحاجة إلى الأمور التي درسوها في العلوم الدنيا؟ مثلاً: بعض المقررات التي يحتاج إليها المجتمع فعلاً، ولكنها ينبغي أن تختار لنخبة معينة، وألا تكون لكل الناس، مثل: بعض القوانين الفيزيائية، بعض العلوم التي يحتاج إليها بعض الناس، فعلاً المجتمع بحاجة إليها، ولكن ليس كل المجتمع.
فكثير من أولاد المجتمع غير مؤهل لاستيعاب هذه العلوم، فتأخذ كثيراً من وقته في غير طائل، لو درس مقابلها علوماً أخرى نافعة لأفادته، ولكنه جعل في بوتقة واحدة مع غيره، وفرضت عليهم هذه المناهج المعينة، التي فيها ما لا يفيد أصلاً، مثل: الفلسفة، ومثل الآداب غير الإسلامية، ومثل: التاريخ الأوروبي الذي يدرس، ومثل القانون الوضعي الذي يدرسونه في الجامعات، ومثل كثير من النظريات الاقتصادية المخالفة للشرع، ومثل أيضاً تاريخ الفكر السياسي والاقتصاد السياسي، وكثير من العلوم وكثير من العبارات، مثل أيضاً مصطلحات القانونية والمؤسسات الدولية، وكثير من المواد التي يدرسها أولادنا لسنا بحاجة إليها أصلاً، وإنما هي شغل شاغل يشغلون أولادنا عما يفيدهم وما يفيدنا.
فلذلك لو كان المسلمون واعيين لهذه المكيدة لغيروا المناهج بما يتلاءم مع الحاجة، ولوضعوا مدارس متخصصة لهذه العلوم الدنيوية، ويختار لها نخبة يمكن أن تقوم بحاجة المجتمع في هذا المجال، ووضعوا لجميع الناس ما يحتاجون إليه جميعاً، وأفادوهم ثقافة عامة في الأمور الأخرى، ولا يمكن أن تكون المقررات المدروسة من غير التخصص الذي يريد أن يتخصص فيه عقبةً شاغلةً دون التخصص في مجاله الذي يدرسه، وكذلك هذا مجال واحد من مجالات هذه المكيدة.
أقف على هذا وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر