إسلام ويب

الجبهات الخمسللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلي الإنسان بأربعة أعداء: الشيطان الذي يجند ما يستطيع من المخلوقات لغواية الإنسان، والنفس الأمارة بالسوء التي لا بد من تهذيبها بالعلم والعمل والدعوة والصبر، ورفقاء السوء الذين لا بد من مناصحتهم وهجرهم وتجنبهم، والدنيا التي يجب الحذر من الاغترار بها.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فقد ذكرنا أن ابن آدم في هذه الحياة قد فتح عليه خمس جبهات؛ أما الجبهة الأولى فجبهة الشيطان التي قال الله فيها: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، وهذه الآية فيها الخبر الذي حظه التطبيق وهو قوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، ولا يتخذ الإنسان الشيطان عدواً إلا في ثلاثة أمور:

    الأمر الأول: أن لا يطيع له أمراً وأن لا يتبع خطواته.

    والأمر الثاني: أن يحذر من مكايده غاية الحذر.

    والأمر الثالث: أن ينقص جنوده ما استطاع؛ فكل من دعا إلى الله فاهتدى على يديه إنسان فأكثر فقد حقق عداوته لإبليس؛ لأنه نقص جنوده، وأنت لا تستطيع أن تقتل إبليس؛ لأن الله ضمن له البقاء في هذه الدنيا؛ فقال: إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ[الأعراف:15]، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ[الحجر:38]، ولا تستطيع أن ... لأنه هو يراك هو وقبيله من حيث لا تراهم، ولا يضره الشتم والسب؛ فقد لعنه الله؛ فكيف تحقق عداوتك له إذاً؟! إنما هي بهذه الأمور الثلاثة؛ فلذلك لا بد أن تحرص على تحقيق العداوة لإبليس بهذه الأمور الثلاثة وأن تعلم أنك لو اهتدى على يديك إنسان واحد من جنود إبليس فقد حققت له العداوة؛ لأن من قاتل ملكاً فأسر من جنوده وقتل فقد حقق العداوة له، وجنود إبليس إنما يؤسرون بضمهم إلى جند الله، فإذا اهتدى على يدك جند من جنود إبليس فضممته إلى جند الله فذلك أبلغ مما لو قتلته أو أسرته.

    ثم هذه الجبهة كما ذكرنا لها جندان:

    جنود إبليس في عداوته للإنسان

    جند الشهوات، وقد قسمنا الشهوات إلى قسمين: شهوات حسية وشهوات معنوية، وذكرنا ما يترتب على اتباعهما.

    ثم جند الشبهات، وقد قسمنا الشبهات إلى قسمين: شبهات في التعامل مع الله وشبهات في التعامل مع الناس، ثم قسمنا الشبهات في التعامل مع الله إلى قسمين، إلى: شبهات عقدية وشبهات تعبدية.

    ثم نصل الآن إلى الشبهات في التعامل مع الناس، وهي قسمان كذلك:

    القسم الأول: ما يتعلق بخلطة الناس؛ وذلك بأن يلقي الشيطان الشبهة للإنسان بأنه إذا خالط الناس ونفعهم فإنه بذلك سيضر نفسه، ومن هنا يعتزل هو الناس والناس بحاجة إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )، والنبي صلى الله عليه وسلم خالط الناس طيلة عمره ولم يعتزلهم، فهذه شبهة في التعامل مع الناس.

    والشبهة الثانية هي شبهة في العزلة، وهي أن يدخل الشيطان على الإنسان من الجهة المقابلة الأخرى؛ فيأمره بالإيغال في خلطة الناس حتى يخالط منهم كل من هب ودب، وبذلك يضيع وقته ويضيع على الآخرين أوقاتهم؛ فلا هو اشتغل بما يعنيه فيكون محسناً للإسلام، ولا هو نفع الآخرين فتكون خلطته في الطاعة والتعاون على البر والتقوى.

    وهاتان الشبهتان كثيراً ما يبتلى بهما أهل العلم والعبادة؛ فالشبهة الأولى يبتلى بها أهل العبادة، والشبهة الثانية يبتلى بها أهل العلم.

    فإذاً لا بد من مخالطة الناس بقدر الحذر، ولا بد من أن يدعهم الإنسان إلا من خير، وإذا خالطهم فإنما يخالطهم بخير، ويكون صادقاً في خلطته وفي عزلته.

    وهنا سأحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود رحمه الله عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاب عن القاضي علي بن ممو عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حسن العسقلاني عن إبراهيم التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك عن عبد الأول بن عيسى السجزي عن عبد الرحمن بن محمد الداودي عن عبد الله بن أحمد السرخسي عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ) وإنما ذلك عند فساد الناس؛ فبهذا نعلم أن الشبهة في خلطة الناس إما أن تذهب بالإنسان إلى العزلة وإما أن تذهب به إلى الإيغال في الخلطة، وكل ذلك مذموم، وحد الوسط والاعتدال هو الحد المطلوب.

    مكافحة الإنسان للشيطان

    ثم بعد هذا نصل إلى كفاح هذين الجندين، كفاح جند الشهوة وجند الشبهة، ولا يكافح هذان الجندان إلا بجند عظيم من جنود الله؛ أما الشهوة فلا تكافح إلا بالصبر؛ فلا بد أن نتعود على الصبر، والصبر ثوابه عظيم فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:109-111]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]؛ فإذاً عرفتم ثواب الصبر، وقد قال أهل العلم: الصبر على ثلاثة أقسام، وهي شعب الصبر الثلاثة: صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله وصبر على قضاء الله وقدره؛ فلا بد أن نتحقق بالصبر.

    والإنسان بطبعه خلق عجولاً ويشق عليه أن يصبر، لكن ذلك إنما يتم بمعالجة النفس.

    والصبر أصل كل خير؛ فالصبر على الطاعة هو الذي ينزل الإنسان الدرجات العلى، والصبر عن المعصية هو الذي يتغلب به الإنسان على شهوته، والصبر على قضاء الله وقدره هو الذي يكتب به الإنسان صبوراً؛ فيستحق بذلك أجر الذين بين الله أجرهم في قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:155-157]، وقد صح عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قرأ هذه الآية: نعم العلاوة ونعم الرفدان! فالرفدان عظيمان والعلاوة بينهما عظيمة كذلك؛ فلذلك لا تغلب الشهوة إلا بالصبر.

    أما الجند الثاني من جنود الله فهو اليقين، وبه تغلب الشبهة، والشبهة لا تنكسر إلا أمام اليقين، واليقين أن ينطلق الإنسان من الدليل، وأن ينطلق من البرهان وألا يتكلم إلا على ثبت، فإن كلام الإنسان عن جهل مظنة للوقوع فيما يخالف الله، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم الكبائر عند الله، وكذلك فإن الله حذر من العمل على غير علم؛ فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36]، وقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، وهذا يقتضي من الإنسان أن يحرص على الثبت، وقد قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وأمر سبحانه بالتثبت في نقل الأخبار وتلقيها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، فلذلك إذا صحب الإنسان اليقين في كل أمر لم يضره وساوس الشيطان؛ ولهذا يقول الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض المبطلين وأراد أن يسوق إليه بعض شبه الجهمية فقال:

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

    صلى الله عليه وسلم.

    فلذلك لا بد من الانطلاق في اليقين في كل أمر؛ فأنت يا أخي تعلم ما قال ابن عاشر رحمه الله: الحكم في الشرع خطاب ربنا. فانطلق لخطاب الله، وانطلق منه في كل الأمور؛ فهو حجتك وبرهانك، لا تتصرف إلا على ثبت ولا تنطلق إلا من دليل، وإذا أخبرت بأي خبر فتأنى حتى تتثبت من ذلك الأمر، وهكذا؛ وبهذا تكون صاحب يقين، وتزول عنك الوساوس كلها والأوهام.

    إن كثيراً من الناس يصابون بالوساوس في الطهارة، والعقيدة، والصلاة وغير ذلك؛ بسبب عدم تثبتهم وعدم أخذهم باليقين، لكن إذا تثبت الإنسان وأخذ باليقين؛ زال عنه ذلك بالكلية.

    إذاً هذا جند إبليس إذا جمع الإنسان له بين الصبر واليقين؛ انهزم أمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]. حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088543474

    عدد مرات الحفظ

    777231491