بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد ذكرنا أن ابن آدم في هذه الحياة قد فتح عليه خمس جبهات؛ أما الجبهة الأولى فجبهة الشيطان التي قال الله فيها: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، وهذه الآية فيها الخبر الذي حظه التطبيق وهو قوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، ولا يتخذ الإنسان الشيطان عدواً إلا في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن لا يطيع له أمراً وأن لا يتبع خطواته.
والأمر الثاني: أن يحذر من مكايده غاية الحذر.
والأمر الثالث: أن ينقص جنوده ما استطاع؛ فكل من دعا إلى الله فاهتدى على يديه إنسان فأكثر فقد حقق عداوته لإبليس؛ لأنه نقص جنوده، وأنت لا تستطيع أن تقتل إبليس؛ لأن الله ضمن له البقاء في هذه الدنيا؛ فقال: إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ[الأعراف:15]، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ[الحجر:38]، ولا تستطيع أن ... لأنه هو يراك هو وقبيله من حيث لا تراهم، ولا يضره الشتم والسب؛ فقد لعنه الله؛ فكيف تحقق عداوتك له إذاً؟! إنما هي بهذه الأمور الثلاثة؛ فلذلك لا بد أن تحرص على تحقيق العداوة لإبليس بهذه الأمور الثلاثة وأن تعلم أنك لو اهتدى على يديك إنسان واحد من جنود إبليس فقد حققت له العداوة؛ لأن من قاتل ملكاً فأسر من جنوده وقتل فقد حقق العداوة له، وجنود إبليس إنما يؤسرون بضمهم إلى جند الله، فإذا اهتدى على يدك جند من جنود إبليس فضممته إلى جند الله فذلك أبلغ مما لو قتلته أو أسرته.
ثم هذه الجبهة كما ذكرنا لها جندان:
جند الشهوات، وقد قسمنا الشهوات إلى قسمين: شهوات حسية وشهوات معنوية، وذكرنا ما يترتب على اتباعهما.
ثم جند الشبهات، وقد قسمنا الشبهات إلى قسمين: شبهات في التعامل مع الله وشبهات في التعامل مع الناس، ثم قسمنا الشبهات في التعامل مع الله إلى قسمين، إلى: شبهات عقدية وشبهات تعبدية.
ثم نصل الآن إلى الشبهات في التعامل مع الناس، وهي قسمان كذلك:
القسم الأول: ما يتعلق بخلطة الناس؛ وذلك بأن يلقي الشيطان الشبهة للإنسان بأنه إذا خالط الناس ونفعهم فإنه بذلك سيضر نفسه، ومن هنا يعتزل هو الناس والناس بحاجة إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )، والنبي صلى الله عليه وسلم خالط الناس طيلة عمره ولم يعتزلهم، فهذه شبهة في التعامل مع الناس.
والشبهة الثانية هي شبهة في العزلة، وهي أن يدخل الشيطان على الإنسان من الجهة المقابلة الأخرى؛ فيأمره بالإيغال في خلطة الناس حتى يخالط منهم كل من هب ودب، وبذلك يضيع وقته ويضيع على الآخرين أوقاتهم؛ فلا هو اشتغل بما يعنيه فيكون محسناً للإسلام، ولا هو نفع الآخرين فتكون خلطته في الطاعة والتعاون على البر والتقوى.
وهاتان الشبهتان كثيراً ما يبتلى بهما أهل العلم والعبادة؛ فالشبهة الأولى يبتلى بها أهل العبادة، والشبهة الثانية يبتلى بها أهل العلم.
فإذاً لا بد من مخالطة الناس بقدر الحذر، ولا بد من أن يدعهم الإنسان إلا من خير، وإذا خالطهم فإنما يخالطهم بخير، ويكون صادقاً في خلطته وفي عزلته.
وهنا سأحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود رحمه الله عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاب عن القاضي علي بن ممو عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حسن العسقلاني عن إبراهيم التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك عن عبد الأول بن عيسى السجزي عن عبد الرحمن بن محمد الداودي عن عبد الله بن أحمد السرخسي عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ) وإنما ذلك عند فساد الناس؛ فبهذا نعلم أن الشبهة في خلطة الناس إما أن تذهب بالإنسان إلى العزلة وإما أن تذهب به إلى الإيغال في الخلطة، وكل ذلك مذموم، وحد الوسط والاعتدال هو الحد المطلوب.
ثم بعد هذا نصل إلى كفاح هذين الجندين، كفاح جند الشهوة وجند الشبهة، ولا يكافح هذان الجندان إلا بجند عظيم من جنود الله؛ أما الشهوة فلا تكافح إلا بالصبر؛ فلا بد أن نتعود على الصبر، والصبر ثوابه عظيم فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:109-111]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]؛ فإذاً عرفتم ثواب الصبر، وقد قال أهل العلم: الصبر على ثلاثة أقسام، وهي شعب الصبر الثلاثة: صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله وصبر على قضاء الله وقدره؛ فلا بد أن نتحقق بالصبر.
والإنسان بطبعه خلق عجولاً ويشق عليه أن يصبر، لكن ذلك إنما يتم بمعالجة النفس.
والصبر أصل كل خير؛ فالصبر على الطاعة هو الذي ينزل الإنسان الدرجات العلى، والصبر عن المعصية هو الذي يتغلب به الإنسان على شهوته، والصبر على قضاء الله وقدره هو الذي يكتب به الإنسان صبوراً؛ فيستحق بذلك أجر الذين بين الله أجرهم في قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:155-157]، وقد صح عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قرأ هذه الآية: نعم العلاوة ونعم الرفدان! فالرفدان عظيمان والعلاوة بينهما عظيمة كذلك؛ فلذلك لا تغلب الشهوة إلا بالصبر.
أما الجند الثاني من جنود الله فهو اليقين، وبه تغلب الشبهة، والشبهة لا تنكسر إلا أمام اليقين، واليقين أن ينطلق الإنسان من الدليل، وأن ينطلق من البرهان وألا يتكلم إلا على ثبت، فإن كلام الإنسان عن جهل مظنة للوقوع فيما يخالف الله، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم الكبائر عند الله، وكذلك فإن الله حذر من العمل على غير علم؛ فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36]، وقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، وهذا يقتضي من الإنسان أن يحرص على الثبت، وقد قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وأمر سبحانه بالتثبت في نقل الأخبار وتلقيها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، فلذلك إذا صحب الإنسان اليقين في كل أمر لم يضره وساوس الشيطان؛ ولهذا يقول الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض المبطلين وأراد أن يسوق إليه بعض شبه الجهمية فقال:
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم.
فلذلك لا بد من الانطلاق في اليقين في كل أمر؛ فأنت يا أخي تعلم ما قال ابن عاشر رحمه الله: الحكم في الشرع خطاب ربنا. فانطلق لخطاب الله، وانطلق منه في كل الأمور؛ فهو حجتك وبرهانك، لا تتصرف إلا على ثبت ولا تنطلق إلا من دليل، وإذا أخبرت بأي خبر فتأنى حتى تتثبت من ذلك الأمر، وهكذا؛ وبهذا تكون صاحب يقين، وتزول عنك الوساوس كلها والأوهام.
إن كثيراً من الناس يصابون بالوساوس في الطهارة، والعقيدة، والصلاة وغير ذلك؛ بسبب عدم تثبتهم وعدم أخذهم باليقين، لكن إذا تثبت الإنسان وأخذ باليقين؛ زال عنه ذلك بالكلية.
إذاً هذا جند إبليس إذا جمع الإنسان له بين الصبر واليقين؛ انهزم أمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]. حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
أما الجبهة الثانية؛ فهي: النفس الأمارة بالسوء، وهي من أخطر الجبهات؛ لأنها أقرب الجبهات إليك؛ فهي بين جنبيك وتسعى بك دائماً للركون إلى الراحة والإخلاد إلى عدم العمل؛ فلذلك لا بد أن تجاهد نفسك، ولا بد أن تضعها في قفص الاتهام، ولا بد أن تتهمها على كسلها وعدم خدمتها، وإذا لم تتعرف إلى نفسك وتقم معها بالجد والمجاهدة حتى تستقيم فستكون كالدابة الحرون الشرود، إذا أحست بلجام أو بردعة نفرت، أما إذا ذللت نفسك للطاعة وجعلتها في كل أمر تنقاد للأمر وفي كل نهي تفر منه؛ فإنها حينئذ ستكون مستجيبة لك، تقودك إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وتسعى للازدياد من الخير في كل الأوقات، وهذه النفس من لم يجاهدها لم يذق حلاوة الجهاد، فإن من أعظم الجهاد جهاد النفس، وقد ذكر أهل العلم أن جهاد النفس على أربع درجات:
الدرجة الأولى: جهادها على تعلم ما أمر الله به، وهذه المرتبة يفرط فيها كثير من الناس، فكثير منهم علمه والداه في الصغر دون تكلف منه هو وعناء، ثم ترك هو بعد ذلك جهاد نفسه على التعلم، وهذا خطأ جسم عظيم؛ فالتعلم ليس له وقت يكون فيه قبيحاً مذموماً، فما من وقت إلا والتعلم فيه حميد؛ ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه؛ فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به؛ قال: تعلمه أفضل من العمل به، وقال الشافعي رحمه الله: العلم أفضل من صلاة النافلة.
فلذلك لا بد أن تعبد الله بطلب العلم حتى لو كنت كبير السن، ولو كنت عالماً فيمكن أن تجد في وقت الطلب إخلاصاً لله فتسمع شيئاً قد سمعته من قبل ولكنك سمعته مع نقص في النية أو في الإخلاص، وبذلك تثاب عليه من جديد، وتكون قد جاهدت نفسك، وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذهب إلى مسجدي هذا لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان مجاهداً في سبيل الله )، وأخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً )؛ فيكون حينئذ قد جاهد في سبيل الله ورجع غانماً؛ لأنه جاهد نفسه على التعلم، والتعلم -يا أخي!- لا تشبع منه بوجه من الوجوه.
فالوقت الذي تظن فيه أنك قد أحرزت هذا العلم امتحن فيه نفسك بالجلوس إلى أي متحدث في العلم، فستجد بعض النقاط والإشارات التي تدلك على أمور من العلم لم تصل إليها بعد؛ ولذلك قال ابن ... رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهو المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وقال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلاهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ولذلك فإن علي بن داود -أبوه الإمام داود الظاهري - كان من العلماء الأذكياء، وكان من أذكى أهل زمانه في خراسان؛ فجلس يوماً للتعليم فأحسن التدريس غاية الإحسان، وكان بمجلسه سبعون صاحب طيلسان - أي: سبعون عالماً من العلماء الكبار - فأحسن الدرس غاية الإحسان؛ فاقترب منه شيخ كبير مرقع الثياب، يلبس الخلق؛ فلما دنا منه ظنه حجاماً يسأل عن حكم فقال له: أحسنت يا فتى؛ فاسأل عما بدا لك! فقال: لا أسألك إلا عن الحجامة، ذلك ازدراء للشيخ لما رأى من هيئته الرثة؛ فاستعاذ الشيخ بالله من الشيطان الرجيم وحمد الله وأثنى عليه، وبدأ بالكلام عن الحجامة؛ فذكر تعريفها في اللغة، ووزنها، وصيغتها الصرفية، وتاريخها، ومن أول من حجم، وذكر مواضع الحجامة في البدن، وذكر ما تذهبه من الأمراض، وحدث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة وجمع بين المتعارض منها؛ فذكر حديث: ( كسب الحجام خبيث )، وحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه فأعطاه صاعاً من تمر )، فوفق بين الحديثين، ثم ذكر الرخص في الحجامة، والحجامة هل تنقض الوضوء أم لا، وهل يحل للمحرم أن يحتجم، وهل يحل للصائم أن يحتجم، وهل تبطل الحجامة الصوم، ونوّع في هذا وأتى بعلم عجيب؛ فجعل الشيخ يتعظ من ذلك فأمسك بيده يبكي وقال: لقد أفدت وأجدت -أيها الشيخ!- فمن أين أتيت؟! قال: ما أنا إلا عبد من عباد الله، ولكني رأيت حسن درسك فخشيت عليك العجب، فأردت أن أنبهك إلى ذلك وأستودعك الله، وخرج ولم يعد بعد ذلك.
فلهذا يحتاج الإنسان دائماً إلى أن يعلم أن الله تعالى يقول في كتابه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[يوسف:76]، فيمكن أن يرزق الإنسان في علم ويرزق غيره في علم آخر، ولا مانع أن يعلم هو ما لا يعلمه غيره، ويعلم الغير أيضاً ما لا يعلمه هو، وقد صح في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( تماريت أنا و الحر بن قيس بن حصن في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه؛ فقلت: هو الخضر ؛ فأنكر ذلك الحر بن قيس ، فإذا أنا بـأبي بن كعب فقمت إليه فسألته؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى كان في ملأ من بني إسرائيل فأتاه سائل فقال: من أعلم أهل الأرض؟ فقال موسى : أنا؛ فعتب الله على موسى إن لم يرد العلم إليه؛ فقال: بلى، عبدنا الخضر ؛ فطلب موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية )، وذلك في قصة موسى الطويلة في الصحيحين، وقد قصها الله علينا في سورة الكهف.
ومن المعلوم أن موسى أفضل وأعلم من الخضر ، ولكن الله عتب على موسى ، فعلمه مسائل لم يكن يتقنها على لسان الخضر ، فذكر له ثلاثة أمور قد مرت بحياة موسى من قبل ولم يستشعرها:
الأمر الأول: أن الخضر قتل الصبي؛ وذلك لحكمة علم بها بالوحي ولم يعلمها موسى فأنكر عليه موسى ذلك، وهنا لم يجبه الخضر لأن موسى من قبل قد قتل نفساً لم يؤمر بقتلها؛ فكان هذا تنبيهاً على تصرف تصرفه موسى من قبل، وهي أنه وكز الرجل فقضى عليه.
وقبل هذا كان قد ركب معه السفينة فخرقها الخضر وهي في الماء، فلامه موسى على ذلك فلم يجبه الخضر وذلك تنبيه لـموسى إلى أنه قد ألقي التابوت في البحر فلم يغرق، ولم ينتبه لذلك موسى ، ثم الثانية قتله للغلام وذلك تنبيه على قتله للرجل حين وكزه. والثالثة: إصلاحه للجدار الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة دون أن يأخذ عليه أجراً؛ وقد سقى موسى للمرأتين اللتين رآهما من وراء الناس ولم يأخذ على ذلك أجراً؛ فكان هذا تنبيهاً له على تلك القصة أيضاً، فهي ثلاث قصص كل واحدة منها قد حصلت لــموسى من قبل ولم ينتبه لها؛ فدل هذا على سعة علم، وأن المخلوق مهما كان فإنه يبقى قاصراً ناقصاً، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85].
ثم بعد هذا جهاد النفس على العمل بما تعلمت؛ فالمرتبة الأولى هي: جهادها على التعلم، أي: على تعلم ما أمر الله بتعلمه، ثم المرتبة الثانية: جهادها على العلم بما تعلمت، فهذا العلم سلاح ذو حدين إذا لم يعمل به الإنسان كان حجة عليه لا له؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه كتاب الله أن لا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي. وفي رواية أخرى أخرجها أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت؛ فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه فيما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ )؛ فلذلك لا بد أن نعمل بما تعلمنا؛ فكل من سمع مسألة واحدة ولم يعمل بها كانت في كفة السيئات يوم القيامة، فلذلك لا بد أن نبادر بما تعلمنا، ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل؛ ولذلك يقول الشيخ محمد عالي رحمه الله:
العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحر أن يذهب
والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة
ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها
والعلماء يقولون: العلم شجرة والعبادة ثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها.
فلذلك لا بد أن نجاهد أنفسنا على العمل بما تعلمنا.
ثم بعد هذا المرتبة الثالثة من جهاد النفس، هي جهادها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به؛ فهذه الدعوة صفة الله سبحانه وتعالى؛ فقد قال الله تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221]، وهي صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله في وصفه: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها إذ قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن الدعوة سبيلهم؛ فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، فأخبر أنها أحسن الأقوال إذ قال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].
فلا بد يا أخي! أن تكون مشاركاً فيها وأن تكون من أهلها؛ فأنت قد اؤتمنت على الدين الذي بلغك إياه محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تدعو إليه، وكيف ترضى أن تكون مؤتمناً بأمانة عظيمة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها ولم يحملنها، ومع ذلك اؤتمنت أنت عليها فتفرط وتقصر في أدائها؟! وأنتم تعلمون أن هذا الحي مذكر لكم بهذه الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليكم أن يبلغ الشاهد منكم الغائب، وأشهد الله عليكم بذلك، فلا بد يا أخي! أن تكون داعياً إلى الله.
وهي فرض عين في حق من له أهل يطيعونه أو في حق من له أولاد، أو في حق من له جيران يمكن أن يسمعوا منه؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، وقد أخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم؟ فليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو لأعاجلنهم العقوبة، قالوا: ومن تعني يا رسول الله؟ قال: الأشعريين، فلم يبت الأشعريون بعد إلا على تعليم )؛ فلذلك يا أخي! إذا كان لك أهل أو لك ولد أو لك جيران أو لك من يسمع منك؛ فامتثل أمر الله وبادر بحق الدعوة الواجب عليك، أن تنقذه من النار، أن تبلغه ما بلغك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذاً فرض عين من الدعوة.
ثم بعد ذلك هي فرض عين على من احتيج إليها، من احتيج إليها بأن كان يعلم علماً لا يعلمه غيره أو كان في بلد أهله لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر أو شهد هو المنكر ورآه؛ فهي فرض عين عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )، أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ثم بعد ذلك هي فرض كفاية على الأمة؛ يجب عليها أن يكون فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ[النساء:135]، وقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[آل عمران:104]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَهمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].
إذاً لا بد من جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان واقتنع به وعمل به؛ فلا فائدة في قناعة لا يصحبها عمل، ومن كان من قبيلة فإنه لا شك يسعى لرفعة تلك القبيلة، ومن كان من حزب فإنه لا شك يسعى لرفعة ذلك الحزب وزيادة أفراده؛ فأنت يا أخي! قد اقتنعت بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق ما جاء به فكيف لا تحرص على زيادة أفراد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ثم بعد هذا المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس هي جهادها على الصبر حتى تلقى الله، وهذا هو الإحسان، ويعني: جهاد النفس على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله؛ فأنت اليوم سالك لطريق هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته؛ فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وأنت يا أخي! تسلك طريقاً هو مثل الصراط تماماً، أنت فيه على خطر، إذا ملت ذات اليمين فوقعت في المبالغة والإفراط؛ فأنت على خطر، وإذا ملت ذات الشمال فوقعت في التفريط والتقصير فأنت على خطر، وإذا بالغت بالخوف حتى أيست من نعمة الله؛ فأنت على خطر، وإذا بالغت في الرجاء حتى أمنت مكر الله؛ فأنت على خطر، فلذلك لا بد للسالك لطريق الإحسان أن يصبر وأن يكون كالقابض على الجمر، وأن يكون كالعاض على السنة بنواجذه؛ لئلا يفتن عنها، فلذلك إذا جمعت هذه المراتب الأربع فالحمد لله قد انتصرت على نفسك.
ولذلك فإن الله جمع هذه المراتب الأربع في سورة العصر التي قال فيها الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3]، وهذا تعلم ما أمر الله به، يقول الأخضري رحمه الله: أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه، وكيف لك تصحيح الإيمان؟ بالعلم، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا به؛ فإذاً لا بد في المرحلة الأولى؛ وهي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:3]، ثم المرحلة الثانية وهي قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[العصر:3]، ثم المرحلة الثالثة قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[العصر:3] وهذه الدعوة، ثم المرحلة الرابعة قوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3] وهو الصبر على هذا الطريق، وهي كذلك وصية لقمان لابنه التي تقرءونها؛ فأنتم تقرءون قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، أليس هذا تعليماً؟! فهذا التعليم، ثم قال بعدها: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ[لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ[لقمان:17] وهذه الدعوة، ثم قال بعدها: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[لقمان:17] وهذا الصبر على هذا الطريق؛ فإذاً لا بد من الجمع بين هذه المراتب الأربع لتنتصر على نفسك وهي جبهة خطيرة كما قلنا.
ثم الجبهة الثالثة: جبهة إخوان السوء، والإنسان في سيره في هذه الحياة مبتلى بخلطة الناس، والناس الذين تخالطهم على ثلاثة أقسام:
أخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمور الدين، فأنت تحس من نفسك في بعض الأوقات الكسل، وفي بعضها النعاس، وفي بعضها المرض، وفي بعضها الجوع وتتأثر به، وفي بعضها الغفلة.. وهكذا.
فأنت محتاج إلى من يؤازرك ويعينك، فهذا الأخ الذي يعينك على أمور الدين إذا رأيته ذكرت الله سبحانه وتعالى، وإذا رآك في التقصير نصحك صادقاً، وإذا رآك جهلت أمراً سألته فأجابك بمقتضى الدليل، وإذا لقيته لم يفسد وقتك في غير طائل، بل كان كلامه دالاً على الله؛ فهذا الأخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً؛ ولذلك قال ابن عطاء الله الأسكندراني : لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله. (لا تصحب) لا في حضر ولا سفر ولا في أي وقت (من لا ينهضك حاله) فالشخص الذي هو دونك في العمل الصالح وهو متعلق بك؛ فأنت الذي تنفعه في تذكيره ووعظه، لا تصحبه فهو كل عليك، واصحب الذي ينهضك حاله فهو ينافسك، وهو صاحب همة عالية، ينافسك في الطاعات، ويبتدر معك السواري بإقام الصلاة، يبتدر معك إجابة المنادي -كما قال ابن مسعود : رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد- ويبتدر معك الجهاد في سبيل الله، ويبتدر معك الدعوة إلى الله، يخاف أن تسبقه في أي شيء؛ فهذا الذي ينبغي أن تصحبه لأنه تنهضك عزيمته فتنافسه في الخير، فقد أمر الله بهذه المنافسة إذ قال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، فمن ليس من أهل الهمم؛ إذا صحبته إما أن يثبطك أو أن يعديك ويقصر بك.
فلذلك لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله، وإذا كان المقال لا يدل على الله؛ فإنه يصرف عنه لأن الله تعالى يقول: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]؛ وإذا كان الكلام لا يدل على الله فلا خير فيه.
فإذاً هذا الصديق الأول وهو الذي إذا وجده الإنسان ينبغي أن يشد عليه يديه، وهو نادر قليل، بل من أندر النوادر أن يجد الإنسان صديقاً يدله على الله، فيذكره إذا غفل، ويرشده إذا قصر، ويعينه إذا احتاج؛ فهو أحسن الرفقاء وأصدقهم، وقد قال ابن مالك رحمه الله:
ورفعهن ظاهر نزر ومتاعاً اعقب فعلاً فكثيراً ثبت
فلن ترى في الناس من رفيق أولى به الفضل من الصديق
رضي الله عنه وأرضاه.
ثم بعد هذا نوع ثان من الناس هو مثل الدواء، تحتاج إليه بعض الأحيان دون بعض؛ وهذا الأخ حاول أن تستعف عنه وأن لا ترفع إليه كل حوائجك، فالدواء هل يشربه الإنسان وهو غير محتاج إليه؟ الدواء لا يشربه إلا المحتاج إليه، وطعمه مرير في أغلب الأحيان، فكذلك الأخ الذي يعينك على أمور الدنيا الذي ترفع إليه حوائجك الدنيوية هو مثل الدواء، تحتاج إليه في بعض الأحيان دون بعض، واسأل الله العافية، ولذلك قال الأفوه الأودي في أبياته التي سأل عنها معاوية رضي الله عنه فأجابه بها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما:
بلوت الناس قرناً بعد قرن فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد وقعاً وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طراً فما طعم أمر من السؤال
فسؤال الناس طعمه مرير؛ لأن اليد السفلى مذمومة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، فاليد السفلى هي السائلة؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال، وحرمه إلا على ثلاثة؛ فقال: ( لا تحل المسألة إلا لثلاثة )، وقال أيضاً في الحديث الآخر: ( لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي )؛ فلذلك لا بد أن تستغني عن إخوانك الذين يعينونك على أمور الدنيا ما استطعت، ولكن مع ذلك إذا احتجت فلا بأس أن ترفع إلى ذي المروءة كما قال الحكيم:
فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ثم الأخ الثالث الذي تخالطه هو أخ كالداء، الذي تشقى به زماناً ويؤلمك ويتعبك، لا هو نافع لك في أمور الدين، ولا هو نافع لك في أمور الدنيا، إنما يعديك ببعض فيروسات ضعف الإيمان التي يحملها، ويضرك بما تسمع منه من الكلام الذي لا خير فيه، وبما ترى منه من الأفعال التي لا خير فيها؛ فما فائدة خلطة هذا النوع من الناس؟! هذا النوع من الناس عليك يا أخي! ألا تجالسه، وإذا مررت به أن تتذكر قول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان:72]، وتقلل منه غاية التقلل، فهذا النوع من الإخوان هم الأعداء يوم القيامة، كما قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، وكما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29]، وقد قال العلامة محمد عالي رحمه الله:
الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا
ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا
وكم أخ لست محتاج له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا
فهؤلاء الإخوان لا بد من مجاهدتهم، وهي ليست بمجرد الهروب منهم فحسب، بل محاولة التأثير عليهم، وجرهم إلى الخير، فما منا أحد إلا وهو يعرف بعض الأصدقاء من هذا القبيل، فعليك يا أخي! أن تحاول جرهم إلى الالتزام، وأن تحاول جرهم إلى الهداية، وأن تتذكر ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين في غزوة خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي رضي الله عنه: ( فوالذي نفس محمد بيده! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، وكثير منا له كثير من الأصدقاء والإخوان الذين يراهم يقصرون في الطاعات، ويفرطون في كثير من الفرص ويقعون في المعاصي في بعض الأحيان، لكنه لم تقو شخصيته يوماً من الأيام أن يكون حائلاً بينهم وبين النار، لم تقو شخصيته يوماً من الأيام أن يقوم بوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها فيما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يتساقط فيها، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار )، فهذه وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاحرص يا أخي! على أصدقائك الذين تعرفهم أن تكون سبيلاً لهدايتهم، فلا يغني أن تكفئ عنهم وأنت تذهب إلى إنجاء نفسك دون أن تنجيهم؛ فالعرب قديماً يقولون:
لا يسلم ابن حرة زميلة حتى يموت أو يرى سبيله
ويقول أحدهم أيضاً:
إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
فحاول يا أخي! أن تهدي أولئك وأن تحول بينهم وبين المعصية بأية وسيلة تستطيعها، ولا تنهزم يا أخي! فلديك كثير من وسائل الدعوة، وإن كثيراً منا يظن أن وسيلة الدعوة هي اللسان فقط، وهذا غلط فاحش! وقد كنت ممن ابتلي بذلك وما أبرئ نفسي، لكني رأيت عجباً! في مرة من المرات كنا في المدينة ...
ومنها كذلك النصيحة في الخلوة، فيا أخي! كم من إنسان كلم في الملأ فأخذته العزة بالإثم، وكم من إنسان كلمه من لا يحسن الكلام فاستطال عليه بلسانه فكان ذلك إلى الفضيحة أقرب منه إلى النصيحة، لكن كم من إنسان خلا به مؤمن صادق فباسطه حتى أحس بقربه منه وكلمه بكلام من القلب إلى القلب؛ فنصحه وذكره بالله ووعظه فيما بين يديه؛ فكان ذلك سبب هدايته، فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الخلفاء الراشدين المهديين، كان في شبابه من أكثر الشباب غنى وإسرافاً؛ فكان إذا مر من طريق من طرق المدينة عرف أنه مر من ذلك الطريق من حسن طيبه؛ ولذلك كان يقول:
إن الأحامرة الثلاثة أفسدت مالي وكنت بهن صباً مولعا
لراحة واللحم السمين وأطلي بالزعفران فلن أزال مردعا
وكان له مغن ينشد بين يديه أبياتاً مشهورة يقول فيها:
حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
أتاه المشيب على حبها وكان كبيراً فما يقلع
فكان ذلك يعجب عمر بن عبد العزيز غاية الإعجاب، فبينما هو بالخناصرة إذ مر به شيخ كبير السن فأمسك بيده، فحدثه قليلاً حتى اطمأن إليه، فقال: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول. فهزت هذه الكلمة الصادقة كيان عمر بن عبد العزيز وكانت سبب إيمانه وهدايته، وليست هداية عمر بن عبد العزيز هداية إنسان واحد، بل هي هداية لأمة بكاملها؛ ولذلك قال الناس بعد هذا لما تولى عمر الخلافة: (أمنت الضأن الذئاب!) فقد كان الذئب يمر على الضأن فلا يعتدي عليها لانتشار العدل، وحصل هذا أيضاً في زمان محمد المهدي كما قال الشاعر:
تلقى الأمان على حياض محمد تولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف ولا بهذا سورة تهدى الرعية ما استقام الريس
فالرئيس إذا اهتدى سيهتدي من وراءه جميعاً؛ ولذلك قال عطاء بن حيوة رحمه الله وهو أحد أئمة التابعين: السلطان كالسوق؛ يجلب إليها ما يروج فيها. فإذا كان السلطان عدلاً فسينتظم شأن الناس بالعدل، وإذا كان فاجراً؛ فسيفشو الفجور في الناس، وهذا التأثر غريب جداً، فقد قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في التمهيد: الناس على دين ملوكهم، وعندما أقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على جمع القرآن وتدوينه في المصاحف؛ أقبل الناس على القرآن فأصبح سادة الأمصار هم القراء، فسادة الأمصار في عصر عثمان هم القراء الذين يحفظون القرآن، فلما كان زمن الوليد بن عبد الملك وأقبل الناس على العمارة والبنيان.. أقبل الوليد على العمارة والبنيان فأصبح سادة الناس التجار، الذين يبنون البيوت والقباب ويزخرفونها بالزخارف، فلما كان أيام المنصور وأقبل الناس على العلم.. أقبل المنصور على العلم فأقبل الناس على العلم من جديد؛ فكان العلماء سادة الأمصار؛ فهذا مالك كان سيد المدينة بلا منازع، يقول فيه عبد الملك بن المعلل :
يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان
شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
فإذاً الناس على دين ملوكهم.
فلذلك يا أخي! قد تكون الكلمة الواحدة مؤثرة تأثيراً بالغاً يهتز لها الكيان؛ فإذا سمعها الإنسان الآن صحبها ووعاها قلبه، فإذا اضطجع على فراشه يتقلب يميناً وشمالاً، تذكر تلك الكلمة فمنعته نومه وراحته، وكانت ذات أثر بالغ في حياته، فجعل منها مفتاحاً يلج به باب الاستقامة والهداية؛ ولذلك فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان في طريقه في بعض أزقة الكوفة فمر بصبيان يلعبون فقال أحد الصبيان: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، فقال أبو حنيفة : والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب! فما نام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً، ثم بعد هذا كان له جار يهودي وكان يشرب الخمر فيسكر في الليل فيغني ويضرب العود ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطاً ولم يك نسبتي في آل عمرو
فبينما أبو حنيفة في صلاته ليلة إذ فقد صوت اليهودي، فلما صلى الفجر طرق الباب عليه فكلم أهله فقال: ما فعل فلان؟ قالوا: ذهب به الشرط؛ فذهب أبو حنيفة إليه حتى أخرجه ووضع يده على منكبه وهو يقول: أضعناك يا فتى.. أضعناك يا فتى! فأسلم اليهودي من حسن تعامل أبي حنيفة .
فلذلك قد يكون الإنسان بحسن تعامله وحسن أسوته وقدوته مؤثراً تأثيراً بالغاً، فاحرصوا رحمني الله وإياكم على استغلال هذه الوسائل السهلة الميسورة في تبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إلى سبيل الحق.
ثم بعد هذا اعلموا أن الجبهة الرابعة من هذه الجبهات الخمس هي جبهة النعم؛ فنعمة الله سبحانه وتعالى السابغة العظيمة ابتلاء وامتحان، كما قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله: محنة السراء أشد من محنة الضراء.
الامتحان بالسراء أشد من الامتحان بالضراء، لأن الضراء كثيراً ما تكون سبباً للانكسار، وكثير من الناس تكون الضراء سبباً للجوئه إلى الله، إلا من فجر وفسق كما قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:43]، أما نعمة السراء فكثيراً ما تكون سبباً للطغيان كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وكما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27]؛ لذلك فإن الناس في النعم على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين يعرفون النعمة بزوالها لا بوجودها، فما دام أحدهم آمناً في سربه معافى في بدنه، لا يشكو مرضاً عضالاً ولا ألماً؛ فلا يحس بهذه النعمة.
أنتم هنا إخواني! قد خصكم الله بنعمة عظيمة، أنتم هنا آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين؛ حقق الله لكم وعده وهزم الأحزاب وحده، وأتى بكم تسلكون طريق محمد صلى الله عليه وسلم وتجتمعون في المشاعر معلنين كلمة التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد لك والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وقد خلفتم وراءكم أقواماً ليسوا أضعف منكم أبداناً، ولا أنتم أكثر منهم أموالاً ولا أنتم أفرض منهم؛ ومع ذلك لم يهدهم الله إلى هذا المكان، منهم من شغله بالطغيان، ومنهم من شغله بالمعصية، ومنهم من شغله بحب الدنيا العاجلة، ومنهم من شغله بالغفلة والتسويف وطول الأمل، ومنهم من شغله بالفقر والإعدام، ومنهم من شغله بالمرض، وقد هداكم الله ويسر لكم وحملكم بما سخر لكم حتى جمعكم في هذا المكان المبارك، أليست هذه نعمة جسيمة عظيمة؟! وأنتم ترجون من الله فوقها؛ ترجون أن تجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة يوم القيامة، وتسألون الله ذلك.
فهذه النعم الجسيمة العظيمة من الناس من لا يستشعرها إلا بعد فواتها وزوالها، فكثير من الناس يقويه الله سبحانه وتعالى ويبسط عليه من الأرزاق ومع ذلك لا يشعر بهذه النعمة؛ فهو دائماً ينظر إلى فلان الآخر الذي هو أغنى منه ويريد أن يتدارك به قبل أن يفوته؛ فهو يزيد من حطب هذه الدنيا، وكلما ازداد حطبها ازداد لهبها، لا ينظر إلى الفقراء والمعدمين وإنما ينظر إلى الأغنياء الذين هم فوقه في المال فيريد أن يتدارك بهم، ألستم ترون كثيراً من الناس كذلك؟ كثير من الناس همه ومبتغاه طيلة عمره جمع هذه الدنيا وتكديسها ليتركها للورثة من بعده، وهو بذلك لا يستشعر نعمة الله عليه، لا يستشعر الصحة والفراغ.
وأنتم جميعاً -يا إخواني- إذا سول لأحدكم الشيطان أن فلاناً من الناس أغنى منه فليتذكر من دونه، ليتذكر أن الله أغناه هو بالإيمان، ليتذكر أن الله أغناه بمحبة الآخرة وإيثارها على الحياة الدنيا.
أخرج البخاري في الصحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أقواماً و عمرو جالس.. ) أي: عمرو بن تغلب (
قال عمرو : ما أود لو أن لي بها حمر النعم ) كان عمرو فقيراً من فقراء المهاجرين، لا يملك شيئاً إلا طمرين عليه، لكن مع ذلك شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان، هل تعرفون شهادة أكبر من هذه؟! ما الدكتوراه؟! وما الشهادات كلها؟! فهي شهادة عظيمة جسيمة، يقول فيها الرسول الكريم الصادق المصدوق: ( وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم عمرو بن تغلب ).
إن هذا الإيمان الذي جعل الله في قلوبكم خير من كل الشهادات، وخير من كل الغنى الذي يتنافس فيه الناس، تذكروا يا إخواني! نعمة الله عليكم بالجوارح، تذكروا نعمة الله بالعقل، تذكروا نعمة الله بالهداية، تذكروا نعمة الله إذ لم يجعلكم من إخوان القردة والخنازير، ولم يجعلكم من الأمم السالفة، جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، نعم عظيمة جسيمة يغفل عنها كثير من الناس، كثير من الناس لم يشكر لله يوماً من الأيام بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشكر لله يوماً من الأيام نعمة القرآن، ولم يشكر لله يوماً من الأيام نعمة أن جعله من خير أمة أخرجت للناس، هذه نعم جسيمة يا عباد الله! جدير بنا أن نشكرها لله، جدير بنا أن نعترف بها لله، وأن نبوء له بها؛ ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ).
فالنوع الأول من الناس إذاً لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا أمسك أحدهم في المستشفى وأجريت له الفحوص؛ فقال له الطبيب: عذراً يا أخي! أنت مصاب بمرض عضال؛ بسرطان في الكبد أو بسرطان في الدم أو بقصور في عضلة القلب.. أو نحو ذلك؛ شعر بأنه كان في نعمة وقد زايلته وفارقته ولم يحس بها، وإذا ابتلي في ماله أو أهله شعر أنه كان في نعمة لكنه لم يستشعرها حتى ذهبت، فهذا النوع من الناس هل انتفع بشيء من هذه النعمة؟ لم ينتفع بها، وما يسركم أن تكونوا مثل هذا النوع من الناس.
النوع الثاني: يعرفون النعمة بوجودها، لكنهم يفخرون بها ويتسورون بها على عباد الله.
كثير من الأغنياء يعرفون أنهم متميزون وأنهم من الدرجة الأولى لا من الدرجة الثانية، وأنهم من عيار أربعة وعشرين! أو أن التيار الكهربائي الذي لديهم مائتان وعشرون وتيار بني آدم مائة وعشرة فقط!
وبيت ملك كأن الله صيره مسكاً وقد صير الله الورى طينا
كما قال ابن زيدون .
فهم يفخرون على عباد الله، ويفخرون بأنسابهم وأحسابهم وبما آتاهم الله من الأموال، وبذلك عرفوا النعمة بوجودها، لكنها لم تفدهم لأنهم اتخذوها في غير ما صنعت له، فهذا اللباس الذي أنعم الله به عليك لماذا أنعم الله به عليك؟ لتستر به ما أوجب الله عليك ستره، فتذكر هذه النعمة وقل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي كساني ما أستر به عورتي وأتجمل به بحياتي )، ولا تفخر به على عباد الله وتتسور به عليهم، وهذا المال الذي آتاك الله لماذا آتاك الله إياه؟ لتكف به نفسك عن الآخرين وتشتري به نفسك من عذاب الله، ولتقدم منه لنفسك قبل الوقت الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، الوقت الذي ليس فيه بيع ولا خلة؛ فلذلك لا تتسور به ولا تفخر، بل اتخذه ذخراً عند الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الذين يفخرون بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم مغبونون في النعمة؛ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ[النحل:83] وحالهم حال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ[القصص:78].
النوع الثالث: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم - ما شاء الله - وسع الله عليهم في الأموال والأولاد والأهلين، فهم يهدبون هذه الدنيا فلا تبقى فيها حلوة خضرة إلا كانوا من المبادرين إليها، وكل ما اشتهيت اشتريت، فهؤلاء يتفننون في السيارات الفارهة والبيوت المزخرفة والملابس الموشية، وأنواع ما في هذه الدنيا من الزخارف والشهوات، وبذلك يغفلون عن من وهبهم هذه النعمة؛ فهم لم يستفيدوا من هذه النعمة شيئاً، وحال هؤلاء كحال الأعراب الذين نعى الله عليهم ذلك في قوله: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ[الفتح:11]، وقد حذرنا الله من هذا النوع إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[المنافقون:9]، فهم خاسرون فعلاً! ما ربحوا في صفقاتهم، آتاهم الله النعمة ووسع عليهم بأنواعها ومع ذلك لم يستغلوها فيما ينجيهم بين يدي الله.
فلذلك لا بد يا إخواني! من الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن نحرص على أن يكون ما في أيدينا من النعم كله يستغل لمرضاة الله، علماً كان أو مالاً أو جاهاً أو حسباً أو نسباً، لا بد أن يستغل الإنسان كل نعمة أنعم الله بها عليه في مرضاة الله وفي نصرة دينه، وإذا لم يفعل فهو المغبون.
عباد الله! إن هذا النوع من الناس الذين لا يستغلون النعمة في مرضاة الله ابتلوا بهذه النعمة فكانت عدواً لهم في هذه الحياة، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].
النوع الرابع من أنواع الناس في النعمة: الذين يعرفون النعمة بوجودها ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ويستغلونها في مرضاة الله، لا في التمتع بشهوات هذه الدنيا ولذاتها، وهؤلاء هم الشاكرون وهم أقل عباد الله، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، وقد عرف العلامة محمد مولود الأحمد باد رحمه الله الشكر إذ قال:
الشكر صرف العبد ما أولاه مولاه من نعماه في رضاه
أي أن يصرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه في طاعته سبحانه وتعالى والتقرب إليه؛ فلذلك لا بد أن نجتهد عباد الله في أن تكون هذه الجبهة المفتوحة علينا بنعم الله جبهة مأمونة الجانب.
ثم الجبهة الخامسة يا عباد الله! هي هذه الحياة الدنيا؛ فهي دار الغرور، يغتر فيها الإنسان فيظن أن بعد اليوم غداً، وأن بعد هذا الشهر شهراً آخر، وأن بعد هذا العام عاماً آخر، ويا رب حاج لن يحج بعد عامه هذا! يا رب صائم رمضان لن يصومه! ويا رب قائمه لن يقومه! وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الجمعة:8].
فلذلك لا بد -يا عبد الله- أن تتذكر أن الفرص قد لا تتكرر ولا تعود، وأن هذه الدنيا دار الغرور، وأن الذين يغترون بها سيستمرون على ذلك، وجودهم وكل لحظة تمر منها هي عمر كامل، تطوى صحائفه ويختم عليها بالطابع ولا تفتح إلا عند العرض على الله، عندما تتطاير الصحف في وجهك وأن تبصر، تذكروا يا عباد الله قول أقضى القضاة الماوردي رحمه الله:
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس
فليفعلن بوجهك الغض البلاء فعل الظلام بصورة الشمس
فهذا الوجه الناظر الطري الشاب لن يبقى كذلك؛ فإما أن يهرم فيتغير، وإما أن تعاجله المنية قبل ذلك وسيكون مسرحاً للحوادث في الحياة، وسيكون مرتعاً للدود في الممات.
إن وجهك هذا يا أخي! الناظر الطري ينبغي أن تقصيه عن النار، فقد قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ[الزمر:24]، علينا عباد الله أن نتذكر وصف الله تعالى للنار إذ قال: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ[المدثر:29] أي: تسلخ الوجوه والأجساد كلها؛ فتذهب بظاهرها، نسأل الله السلامة والعافية!
إذاً هذه الدار ليست دار قرار، والذي يطلب فيها البقاء والخلود مغرور، فقد قال الله لخير أهلها: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ[الزمر:30-31].
لذلك لا بد أن نحذر من غوائل هذه الحياة الدنيا وأن نتخذها عدواً، ثم إذا نجحنا -عباد الله- في اتقاء ما فيها من الزخارف والشهوات، وتذكرنا نصيحة الناصح الأمين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ قال فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا؛ فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل )، إذا فعلنا ذلك وقمنا بما نصحنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فسننجو من هذه الجبهة الفاتنة.
بهذا عرفتم أن الإنسان فتح عليه خمس جبهات في وقت واحد، وأن انتصاره عليها لا يكون إلا بجهد عظيم؛ فاجتهدوا -رحمني الله وإياكم- في النجاة من هذه الجبهات، وتذكروا قول العلامة المختار بن بونا رحمه الله:
للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر
ولله فضل لا يزال ورحمة ومن وتوفيق وعفو لمن وزر
إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر