إسلام ويب

الحروب الصليبيةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من سنن الله الكونية جعل الأعداء للرسل وأتباعهم، ولقد أوذي أنبياء بني إسرائيل غاية الأذى من قومهم، واستمرت عداوة اليهود والنصارى حتى طالت المسلمين، فقد حشد الصليبيون جحافلهم بمباركة رهبانية لحرب الإسلام والمسلمين غير مرة، ولا تزال الحروب الصليبية قائمة حتى اليوم، ولا بد لردعهم من اتحاد القادة والشعوب، والتجهز والإعداد لحرب صليبية طويلة الأمد.

    1.   

    سنة الله في وجود أعداء الرسل

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، فاختار الله له عصبة صدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فكتب الله لهم علو الدرجة في الدنيا والآخرة، وحقق لهم أهدافهم ومرادهم، وحببهم إلى خلقه، وجعل له أعداء من شرار خلقه، خذلهم الله تعالى وسلطهم على أنفسهم بعداوة الله ورسوله، ولا يضرون الله ورسوله شيئاً.

    وهي سنة ثابتة بينها الله في كتابه، فقد أخبر أنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد جعل الله له عدواً؛ ولذا قال في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] .

    فأولئك قيضهم الله لعداوة الله وأنبيائه، وملأ قلوبهم بذلك، بحيث لو راجعوا أفكارهم لما استطاعوا أن يغيروا مواقفهم، قلوبهم ملأى بالعداوة لله ورسوله، وقد أصم الله آذانهم عن سماع الحق، وأعمى أبصارهم عنه، فلذلك كانوا شر الخلق عند الله، كما قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، صرفهم الله عن طريق الحق، لم يرهم في هذه الحياة إلا طريق الغي؛ ولهذا قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

    أعداء محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه

    ومن سنة الله سبحانه وتعالى أن يستمر هذا الفرقان بين أولياء الله وأعدائه إلى يوم القيامة، فلا بد أن يبقى على آثار أولئك الصفوة، الذين اختارهم الله لتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته، من يقتفي آثارهم، ويترسم خطاهم، ويتبعهم في المنهج الذي سلكوه، ولا بد أن يبقى كذلك على وجه هذه الأرض قوم آخرون، يختارون سلوك طريق أعداء الله ورسوله، ويتبعون آثارهم، ويترسمون خطاهم، لا بد أن يبقى في كل جيل من الأجيال من هم أمثال أبي جهل عمرو بن هشام ، و عتبة بن ربيعة ، و شيبة بن ربيعة ، و زمعة بن الأسود ، لا بد أن يبقى أمثالهم في كل زمان وفي كل مكان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين سراجاً على هذه الأرض كلها، يبلغ ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا بيت مدر إلا دخله.

    وبذلك لا بد أن يبقى له أعداء، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهودة، كيوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، ويوم خيبر، ويوم الأحزاب، وغيرها من الأيام، وإنما تتفاوت الأيام بتفاوت رجالها؛ فلذلك لا يمكن أن يضيق المؤمنون باعاً بوجود عداوة مستمرة، فهم يعلمون أنها سنة كونية ثابتة، ولا يمكن أن يضيقوا باعاً كذلك بعداوة الذين ذكر الله عداوتهم في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على طائفتين أوتوا الكتاب قبلنا، فقد فضلهم الله على العالمين، وأرسل إليهم الرسل، وأقام عليهم الحجة بالآيات البينات.

    أعداء موسى عليه السلام

    اليهود عليهم لعائن الله أقام الله عليهم الحجة بتفضيلهم على العالمين أجمعين، وبما آتاهم من التوراة، التي تضمنت علم الأولين والآخرين، وقد كتبها الله بيمينه في الألواح لـموسى .

    واختار طائفةً منهم للشهادة عليها، فاختار سبعين رجلاً منهم خرجوا معه إلى الطور، حتى سلمه الله الألواح وهم ينظرون، فلم يتأثروا بهذا المشهد، وإن كانوا خيرة بني إسرائيل، إلا أنهم مع ذلك كانوا يهزؤون بنبي الله موسى ، فلما فعلوا نتق الله الطور فرفعه فوق رؤوسهم كالظلة، وأخذتهم الرجفة، فاشتد ذلك على موسى وحده، وقال عندما أخذت أصحابه تلك الرجفة الشديدة: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

    وبين أن ذلك إنما كان من فعل السفهاء من قومه، ولهذا قال: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف:155].

    فرد الله العذاب بدعاء موسى وضراعته إلى الله سبحانه وتعالى، بعد أن أمرهم بالسجود لله وأن يقولوا: حطة، أي: مغفرة، فلم يسجدوا على جباههم، بل سجدوا على الشق الأيمن من الجباه وهم ينظرون بأعينهم إلى الجبل من الخوف، وضرب الله عليهم بذلك الذلة والمسكنة والصغار إلى يوم القيامة، ولم يستطيعوا أن يقولوا ما أمرهم الله بقوله وهو: حطة، بل قالوا: شعرة، وفي حبل، وهم يقصدون حنطة بذلك، فلذلك لم يرض الله عنهم، بل رد عنهم العذاب بشفاعة نبيه موسى وكليمه عليه السلام، ثم بعد هذا آذوا موسى بأنواع الأذى، فما تركوا أذىً يمكن أن يوجهوه إلى هذا النبي الكريم الذي أكرمه الله برسالاته وبكلامه إلا وجهوه إليه، حتى ألجؤوه إلى أن يقول لهم كلامه المؤثر البليغ الذي حكاه الله في كتابه: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].

    ثم بعد هذا شاهدوا من المعجزات الشيء الكثير، فمن أول ما شاهدوه من المعجزات ما كان قبل خروجهم من مصر عندما أتاهم موسى لينقذهم الله به من الويلات والهوان، فرأوه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء منيرة من غير سوء، ورأوه يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى فيقبضها فتعود عصاً كما كانت في سيرتها الأولى، ورأوه يتجاسر على أعتى عتاة الأرض وأطغى طغاتها، فيكلمه بكلام الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وهو يعلم أن جنده الذين معه هم بنو إسرائيل أهل الذلة والمسكنة، لكن موسى لا يثق بأولئك الجند، وإنما يثق بوعد الله وحده.

    ولذلك حين أمره الله أن يخرج بهم بالليل من مصر خرج بهم جميعاً وأعينهم في أخبيتهم خوفاً من فرعون وجنوده، فلما رأوا البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. فضرب موسى البحر بعصاه بأمر الله فشق لهم طريقاً في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا تخشى، فمروا منها مسرعين، ثم اتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوا البحر أمر الله البحر فالتقمهم، والتطم عليهم فلم تبق منهم باقية، وبعد أن خرجوا من هذا البحر وشاهدوا مصارع أعدائهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فما كان منهم إلا أن تمنوا الرجوع إلى الكفر فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138].

    وبعد ذلك لما فرض الله عليهم دخول أريحا قالوا لـموسى : َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات الجيل الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة في أيام فرعون ، وأولئك لا يصلحون للجهاد ولا يستطيعون تحمل هذه الأعباء الجسيمة، فلما مات أولئك، ونشأ شباب قد تربوا في ظل الشظف والتيه استطاع أولئك الجهاد في سبيل الله، فهم الذين أدوا الحق الذي افترض الله عليهم.

    معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم من بعد موسى

    ثم بعد موت موسى أخرج الله فيهم عدداً من الأنبياء، ولم تكن معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم بعد موسى أحسن حالاً من معاملتهم لـموسى عليه السلام، يقتلون فريقاً ويكذبون فريقاً، وقد أهدوا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام لبغي من بغاياهم، وقتلوا عدداً كبيراً من أنبياء الله، ومع ذلك فأنبياء الله صابرون محتسبون، ما ضعفوا وما استكانوا، بل كان دعاؤهم لله سبحانه وتعالى عمدتهم في الأمر، كما قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:146-148].

    هؤلاء القوم كانوا ألأم الناس مع رب العالمين، الملك الديان، الذي: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، أكرمهم بأنواع الإكرام، ومع ذلك اتخذوا آياته ورسله هزواً، ولم يزدادوا بأية آية من آيات الله إلا كفراناً وطغياناً، وقد خلقهم الله للشر، فجعلهم أذىً يؤذي به في هذه الأرض، كما خلق السرطانات والأوبئة، وغيرها من الأدواء، لقد خلق الله اليهود لذلك.

    عداوة بني إسرائيل لعيسى بن مريم وأمه

    ثم كان منهم بعد هذا أن شاهدوا ما حصل لـمريم ابنة عمران عليها السلام، عندما بشرتها الملائكة بروح الله وكلمته، وأخبرها الله سبحانه وتعالى بما أعد لـعيسى من الفضل، فإنه يكلم الناس في المهد وكهلاً، وقد علمه الله التوراة والإنجيل والكتاب، وفضله على أهل زمانه، وعلمه كثيراً من الغيوب والعلوم، وأطلعه على ما يكنه بنو إسرائيل في بيوتهم، وما يعدونه لأنفسهم من الطعام، وبعد ذلك كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهي أمور يقف دونها العلم، لا يمكن أن يصل إليها.

    وعندما جاءت مريم تحمله وقد شاهدت المعجزات الغريبة، عندما أمرت بهز جذع نخلة ميتة، هزتها فتساقط عليها الرطب وعادت النخلة كهيئتها عندما تكون أكمل نخلة في حملها، وجرى من تحتها سري من الماء العذب، ثم جاءت به تحمله وقد ختم الله على لسانها لا تستطيع الكلام، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل في المحراب فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا[مريم:28-29]، فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه في الأرض، ونظر إليهم وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع هذا الكلام إلا زكريا عليه السلام، هربوا جميعاً، ثم بعد ذلك شاهدوا من عيسى العجائب.

    حتى إن الحواريين قالوا له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:112]، فأصروا على ذلك: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا[المائدة:113]، وبعد ذلك أنزل الله المائدة، بعد أن أخذ عليهم العهد أن من كفر بعد هذا يعذبه الله عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فتعهد الله لهم إذا كفروا بعد هذه المعجزة الظاهرة بعذاب لا يعذبه أحداً من العالمين، فكانت المائدة تأتي في وقت الضحى تحملها الملائكة تتنزل من السماء إلى الأرض، لا يطلب أحدٌ نوعاً من أنواع الطعام ولا نوعاً من الفاكهة إلا وجده فيها، فإذا شبعوا جميعاً رفعها الملائكة وهم ينظرون حتى تتوارى في السماء، ثم تأتي من الغد أربعين يوماً، فقامت بها الحجة على النصارى، فمن كفر منهم بعد هذه الحجة، فإن الله يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

    ثم بعد هذا تمالؤوا مع اليهود على نبي الله وروحه عيسى عليه السلام وأرادوا قتله وصلبه فشبه لهم ورفعه الله إليه.

    1.   

    عداوة أهل الكتاب لنبي الإسلام

    واستمرت عداوتهم بعد هذا لأنبياء الله بتحريف الكتب المنزلة وتبديلها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فتذكروا سابق عهدهم، فأعلنوا الحرب والعداء على هذا النبي، الذي قد أخذ عليهم العهد بمتابعته ومبايعته، فما من نبي من أنبياء الله إلا أخذ الله عليه الميثاق إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعه هو وأهل ملته: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81]، والإصر: هو أشد ما أخذ أحد على أحد، قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:81-83].

    المؤمنون بنبي الإسلام من النصارى

    فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمن به من الطائفتين قبله إلا عدد يسير من النصارى، دعاهم دينهم والتزامهم إلى تصديقه، وأولئك كانوا إذا سمعوا الوحي المنزل إليه: يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[الإسراء:107-109]، وهم الأحبار الذين كانوا في الأديرة يتعبدون، وينقطعون عن شأن الدنيا وأهلها، وهم قليل، لكنهم الذين قالوا: إنا نصارى، أما من سواهم من النصارى فلم يقولوا ذلك ولم يصدق عليهم، ولهذا قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ[المائدة:82-84].

    فأولئك هم الذين لم يشملهم سخط الله ومقته حين حل على أهل الأرض، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان).

    فهؤلاء القوم وحدهم هم الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تشتد عداوتهم للمؤمنين، وكان منهم بحيرى الراهب الذي كان ببصرى، وقد علم من قراءته في الكتب السابقة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء وفد أهل مكة للتجارة نزلوا تحت شجرة هنالك، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طفلاً لم يبلغ الحلم بعد فعرفه، وقام إليه يقبل رجليه، وأمر عمه أبا طالب أن يرجع به عن الشام، فإنه يخاف اليهود عليه لأنهم يحسدونه.

    وعندما سأله الملأ من قريش: بماذا عرفته؟ قال: ألا ترون أنه إذا سار في الهجير تظله سحابة بينه وبين السماء، فلما كان وقت الهجير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج في حاجة تظله سحابة بينه وبين السماء، فرأى ذلك الملأ من قريش، فرجع به أبو طالب من الشام إلى مكة.

    وكذلك من هؤلاء الذين صدقوه من النصارى، من الذين قالوا إنا نصارى: ورقة بن نوفل الذي شهد البعثة، فآمن وصدق وقال: ( هذا الناموس الأكبر الذي أنزله الله على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).

    ومنهم أيضاً: زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وكان قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن، فشهد أول البعثة فرأى تعذيب المؤمنين، فكان يمر على بلال وهو يعذب ويجر في الرمضاء، فيقول له: أحد أحد يا بلال .

    وكذلك من هؤلاء: عدد يسير من نصارى جزيرة العرب، الذين كانوا يتحنثون في الأديرة، فقامت عليهم الحجة بالقرآن فأسلموا.

    المؤمنون والمكذبون بنبي الإسلام من اليهود

    أما اليهود فقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو آمن من اليهود كلها نحو عشرة أو عشرين لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة، بل آمن به عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد شهد الله له بالإيمان في القرآن، فقال تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ[الأحقاف:10]، وكان أعلم يهود المدينة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج إليه عبد الله بن سلام ، قال: ( فأتيته وهو بقباء، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب، فدرت وراء ظهره لأرى خاتم النبوة، فشعر بي فأرخى الرداء عن كتفه حتى رأيت خاتم النبوة، فأكببت عليه أقبله، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تردوا الجنة بسلام)، فأسلم عبد الله بن سلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين بذاته هو، وكان حجة على اليهود بالمدينة، فإنهم عندما أنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، أخفى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام من وراء ستر، فدعاهم فقال: (ما منزلة ابن سلام فيكم؟ فقالوا: عالمنا وابن عالمنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن صدقني فيما أقول أتتبعونني؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فكشف ابن سلام الستر فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وأنه النبي الذي أخذ عليكم العهد في التوراة أن تتبعوه، وأمرهم أن يخرجوا التوراة، فأقام عليهم الحجة بها، فكانوا قوماً بهتاً فأنكروا وكذبوا.

    المكذبون بنبي الإسلام من النصارى

    ثم كان من النصارى كذلك إعراض وتكذيب، فمنهم نصارى نجران، الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون مجادلته، فلما أتوه أنزل الله آيات من سورة آل عمران فيهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليهم المباهلة: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[آل عمران:61]، فتجاسروا على ذلك، ثم إن صاحب رأيهم دعاهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمهلهم عشيتهم حتى يتشاوروا فيما بينهم، فلما تشاوروا قال لهم صاحب رأيهم: لقد علمتم ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، وإنكم لتعلمون إنه لنبي، ولكن تعالوا نعرض عليه الجزية، فإن قبلها أديناها ولم نفتضح، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية أن يؤدوا إليه أربعة آلاف حلة، وأربعة دراهم عن كل حالم، وأخبرهم أنه سيرسل معهم رجلاً من أمته أميناً جد أمين، فبات الناس يخوضون من سيكون هذا الرجل الأمين؟ وما تمنى عمر أثرة في الدنيا قبل تلك الليلة، لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمانة لذلك الرجل الذي يخرج معهم.

    وأنتم تعلمون عظم الأمانة في الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له).

    فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر دعا أبا عبيدة عامر بن الجراح الفهري فأخرجه معهم، فكان أمين هذه الأمة.

    ثم بعد ذلك بقي نصارى العرب على عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمروا على هذا حتى بعد الفتح، فعندما فتحت بلاد تغلب أنفوا من الجزية لأنهم عرب، وقالوا لأمير المؤمنين عمر : لا تعاملنا معاملة الفرس والروم فإنما نحن من أبناء جلدتكم، فنؤدي إليك الزكاة كما يؤديها المسلمون. فقبل منهم عمر ذلك صلحاً، والجزية يجوز أن يصالح بها الإمام على جزء منها أو على أكثر منها، وتغلب صالحهم عمر على الجزية، فاستمروا يدفعونها، ولكن بقوا مع ذلك على ملتهم المحرفة المبدلة، حتى إن شاعرهم الأخطل يقول:

    ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح

    ولست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لحم الأضاحي

    ولكني سأشربها صبوحا وأرقد عند منبلج الصباح

    وهذا هزء بالصلاة، وقد بين الله ذلك في سورة المائدة، فقد بين الله فيها كثيراً من مخازي اليهود والنصارى، وقد قال الله فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ[المائدة:57-58].

    وهؤلاء قد أخزاهم الله سبحانه وتعالى بما أنزل في هذه السورة من الآيات البينات، وبين كفرهم وضلالهم وبطلان ما هم عليه، فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[المائدة:17].

    وقال فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ[المائدة:73-75].

    وقال فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ[المائدة:72].

    وقال فيهم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81].

    1.   

    حسن معاملة نبي الإسلام والمسلمين لأهل الكتاب

    لقد أقام الله على أهل الكتاب الحجة بفتح المسلمين لبلادهم، وبمعاملتهم المعاملة الحسنة، فإن الله سبحانه وتعالى أرسل هذه الأمة مبشرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم مبشرين).

    فهذه الأمة أهل بشارة يهدون إلى طريق الجنة، وأهل رحمة يتراحمون فيما بينهم ويرحمون أهل الأرض، ولذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس، فهم الذين يرعون الكبار والصغار، واليتامى والضعفة، وهم الذين لا يقتلون النساء ولا الرهبان ولا رجال الدين، ولا يقتلون من النساء إلا من قاتلت، وهم الذين يتحملون التبعات من أجل إنقاذ ذوي الذمة، ويقاتلون دونهم، ويحمون لهم أعراضهم وأموالهم، وهم الذين يعاملونهم أحسن معاملة عرفها أهل الأرض قط، فما عرف في ملة من الملل، ولا أمة من الأمم من المسامحة وحسن العشرة ما عرف في هذه الأمة، ولذلك فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم على ما حصل من عداوة اليهود والنصارى له وأذاهم له صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس رحمة، فعندما ذكر له أن صبياً من اليهود من سكان المدينة يجود بنفسه بحال الموت ذهب إليه مع عدد من أصحابه يعودونه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاه وجده يجود بنفسه، فقال له: ( قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرفع الولد رأسه إلى أبيه يستأمره، فقال له أبوه: قل ما أمرك به أبو القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ومات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص وأصحابه: خذوا صاحبكم. فأخذوه وغسلوه، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنه بالبقيع، وقال: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

    وكان صلى الله عليه وسلم يعودهم في أحزانهم، ويزورهم في مسراتهم، وكان يعاملهم أحسن معاملة، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم ما دعوه قط إلى وليمة إلا أجاب، ولقد أجاب دعوة يهودي على خبزة ناسة وإهالة سنخة، خبزة ناسة، أي: كسرة قد يبست. وإهالة سنخة، أي: زبدة قد تغير لونها فاصفرت، كل ذلك من حسن خلقه وتواضعه.

    وكذلك في حسن تعامله مع النصارى وإكرامه لهم، وأمره بضيافتهم ثلاثاً، كل ذلك من حسن تعامله.

    وعندما سحره لبيد بن الأعصم وبناته وأطلعه الله على مكان ذلك السحر لم يرد أن يؤذيهم بأي أذى، فقالت له عائشة في ذلك فقال: ( أما أنا فقد شفاني ربي )، ولم يرد أن يؤذي اليهود بأذى، مع أنهم هم الذين سحروه وآذوه.

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى امرأة من السبي منهم تبحث عن ولدها، وهي تجري بين السبي تبحث عن رضيعها، رحمها رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة شديدة.

    إن هذا الحال من الرحمة هو الذي أورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة.

    1.   

    الحملات الصليبية على الإسلام والمسلمين

    غزوة مؤتة

    إن نصارى الشام من الروم لما غزاهم المسلمون في غزوة مؤتة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتألبوا ومن معهم من العرب، فجمعوا مائة وعشرين ألفاً أو أكثر، وكان المسلمون إذ ذاك في ثلاثة آلاف فقط، اشتد القتال شدة عظيمة، فأراد بعض المؤمنين أن ينحازوا وأن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون المدد، فقال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا قوم! إن هؤلاء الروم لا يؤمنون بشيء مما معهم، وإنكم قد آمنتم وصدقتم بما معكم، وإنا والله لا نقاتلهم بعدد ولا عدة، وإنما نقاتلهم بإيماننا.

    فلذلك قاتلهم المسلمون فكانت الدائرة على الكفار، وانحاز المسلمون بعد أن قتل أمراؤهم، وكانوا أول من يتقدم للقاء الله عز وجل، فكان أمراء المؤمنين في مقدمة الصف أمام رعاياهم وأمام جيوشهم، فتقدم زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل حتى قتل وفاز بالشهادة في سبيل الله، وتقدم بعده جعفر بن أبي طالب فقطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فأكب عليها حتى استشهد في سبيل الله، وتقدم عبد الله بن رواحة كذلك حتى قتل واستشهد في سبيل الله، ثم أخذ زيد بن أرقم اللواء، ثم قال: إني لم أرد أن أقودكم فاصطلحوا على رجل منكم، فاتفق الناس على خالد بن الوليد ، فقاد المعركة حتى نجح فيها، وغير استراتيجية المعركة، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، والساق قلباً والقلب مقدمة، فظن الروم أن المسلمين قد قدم عليهم مدد عظيم فانهزموا، فهزم الله عدوه، وهذا يدلنا على أن النصر إنما هو مع الصبر، وإنما هو مع الإيمان والصدق؛ لأن النصر إنما هو من عند الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[آل عمران:126]، فليس النصر من تلقاء السلاح، ولا من تلقاء القنابل والصواريخ والدبابات والطائرات، وإنما هو من عند الله عز وجل ينصر من يشاء، ولذلك قال في كتابه: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:40].

    معركة اليرموك

    ثم بعد هذا لما غزا المسلمون الشام، وقد عقد أبو بكر رضي الله عنه عشرة ألوية لقتال الروم، فعقد لواء لـشرحبيل بن حسنة ، ولواء لـيزيد بن أبي سفيان ، ولواء لـعمرو بن سعيد ، ولواء لـخالد بن الوليد ، ولواء لـعمرو بن العاص ، ولواء لـهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وألوية أخر، حتى كمل عشرة ألوية إلى الشام، وأمرهم إذا اجتمعوا أن يكون أبو عبيدة إمامهم وقائدهم، وإذا افترقوا فكل صاحب لواء أمير من معه، فقاتلوا ففتح الله عليهم الشام، فلما كان يوم اليرموك، واجتمعت قوى الروم وجاءهم المدد من الصليبيين من كل مكان، فاجتمع منهم ربع مليون، مائتان وخمسون ألفاً في صعيد واحد، فقد أتوا بكل كبريائهم، فلما رآهم رجل من المسلمين وهو عند خالد بن الوليد قال: ما أكثر الروم اليوم! فقال له خالد: بل ما أقلهم وأذلهم، ما يسرني لو كانوا أقل من هذا العدد، بل أود لو كان معهم مثلهم، إننا لا نقاتلهم إلا بإيماننا. فتقدم خالد بن الوليد ، فقتل الله من الروم في تلك الموقعة مائة وسبعين ألفاً، وأسر منهم من أسر، ولم تقم لهم في الشام بعدها قائمة إلى أن جاءت الحروب الصليبية.

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيما أثر عنه أنهم سيستمر عداؤهم للمسلمين، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120]، ولقول الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[البقرة:217].

    فهدفهم واحد بينه الله في كتابه لا يختلف فيه اثنان، وهو الردة عن الإسلام، هذا هدف اليهود والنصارى في حربهم على هذه الأمة: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا[البقرة:217]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120].

    تحرير بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما ذكرت فيما أثر عنه أنه قال: (إني لا أخشى عليكم فارس فإنما هي نطحة أو نطحتان، ولكن أخشى عليكم الروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلفه آخر).

    ولذلك فعندما هزمت مقاتلتهم في الشام استمر أهل الدين منهم ببيت المقدس وقد أغلقوا عليهم الحصن وسور المدينة، وعرضوا على المسلمين أن يأتيهم أمير المؤمنين حتى يسلموه مفاتيح بيت المقدس، فقد وجدوا في كتابهم أنها لا يستلمها إلا رجل اسمه عمر بن الخطاب هو الخليفة الثاني لنبي الأميين، لنبي آخر الزمان، وقد رأوا أماراته ووصفه، فأرسل أبو عبيدة بذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأرسل إليه: إني قادم إليك، فخرج عمر من المدينة في وقت القيظ وشدة الحر، على بعير له، ليس معه إلا مولاه، فكانا يتعاقبان يركب عمر ويقود مولاه، ويركب المولى ويقود عمر ، وهو يلبس مرقعته ويتقلد سيفه، وليس له من الزاد إلا سويق يشرب عليه، فإذا بقي شيء منه أكله. هذا زاد أمير المؤمنين في غزوته لفتح بيت المقدس، فلما قدم أمير المؤمنين إلى الشام استقبله أبو عبيدة ومن معه، فأتوه بملابس جديدة من أحسن ملابس الروم، وجاءوا ببغل فاره ليركبه، فلما لبس عمر تلك الملابس وركب البغل نشط به البغل فتحرك، فلم يعجب ذلك عمر ، وقال: إنه يرقص ما هو إلا شيطان، فنزل عنه عمر ونادى ببعيره وبمرقعته فلبس مرقعته واقتاد بعيره، فلما رآه النصارى وقد أشرفوا على حصن المدينة أشاروا إليه بأناملهم، وقالوا: هذا عمر الذي ننتظره.

    فكتب لهم عمر كتاباً، فيه إقرارهم في كنائسهم، وأن لهم ذمة المسلمين، وأن تحفظ دماؤهم وأموالهم وأعراضهم ما أقاموا على ذلك، ورعى لهم الحق الذي لهم، وكتب عليهم الجزية يسلمونها للمسلمين في كل عام، والضيافة ثلاثة أيام لكل من يمر بهم من المسلمين، وأخذ منهم مفاتيح بيت المقدس، ولم يجعل لهم فيه نصيباً، وفي ذلك الوقت أسس أمير المؤمنين بناء المسجد الأقصى، وقد كان هذا المسجد ثاني مسجد أقيم في الأرض، فأول مسجد في الأرض المسجد الحرام، وبعده المسجد الأقصى وبينهما أربعون سنة، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلما أراد عمر بناءه سأل كعب الأحبار ، وكان من أحبار أهل الكتاب المتقنين للكتب السابقة، قال: أين أبني المسجد؟ فأشار إليه إلى مكان خلف الصخرة، لتكون الصخرة بينه وبين الكعبة، فقال: هذه بقية من دينك السابق، إن القبلة إلى الصخرة قد نسخت، فجعل الصخرة وراء المسجد لتكون قبلته خالصة إلى الكعبة.

    حال الصليبيين في الدولة الأموية

    ثم قفل عمر راجعاً، ولم يتزود إلا بسويق من شعير كما تزود به في قدومه، وبقي نصارى الشام على ما هم عليه مطمئنين تحت هذه الدولة الإسلامية، وقد لقوا من حسن المعاملة والاحترام ما لم يلقوه تحت دولة البيزنطيين القيصرية، فلذلك أسلم كثير من رهبانهم وقادتهم، حتى إنه في أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أرسل إليه واليه على بلد من البلدان بكتاب يقول فيه: إن بيت المال قد أفلس فأهل الكتاب قد أسلموا، فطلب عمر الكتاب وكتب تحته: أما بعد: فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً. ففرح عمر رحمه الله بإسلام أهل الكتاب مع ما كان لذلك من الأثر على بيت المال.

    ثم بعد هذا استمرت عداوتهم في خارج تلك الرقعة، فكانوا يأتون من بلاد الروم التي تسمى الآن بتركيا في حملات متنوعة، وكان ملكهم هنالك يتهدد المسلمين، وعندما ضرب عبد الملك بن مروان أول عملة للمسلمين وكتب فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله غاض ذلك ملك الروم، فقد كان المسلمون يتعاملون بعملة الروم، وهم كما تعلمون من زمان يتأثرون بالاقتصاد ويهتمون به، فلذلك يريدون أن تبقى عملتهم هي العملة الصعبة التي يتعامل بها الناس، فاشتدت على الروم هذه العملة الجديدة لما سيكون لذلك من التأثير السلبي على اقتصادهم، فكتب ملكهم إلى أمير المؤمنين عبد الملك يتهدده ويتوعده، فأرسل إليه عبد الملك رجلاً من علماء المسلمين من التابعين، وهو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري سيد أهل العراق، وكان من كبار أئمة التابعين في العلم والتقوى والورع، فأتاهم وبين لهم عزة الإسلام وقوة أهله، وذكر لهم أن بينهم وبين المسلمين عهداً يلزمهم الوفاء به.

    المعتصم العباسي وفتح عمورية

    وصرخت أسيرة مسلمة في بلاد الروم (وامعتصماه) فجاء من حدث المعتصم بذلك، فلما سمع ذلك، وكان إذ ذاك يشرب ماءً بارداً ختم عليه، وعزم أن يتجهز من وقته ذلك في شهر صفر لغزو عمورية حتى يستخلص تلك الفتاة المسلمة.

    فجهز في ذلك الوقت سبعين ألفاً، وجاءه المنجمون يدُعُّونه عن الخروج، فيزعمون أن ذلك الوقت ليس وقت غزو في صفر، وأنه قد طلع الكوكب المذنب، وأن ذلك إنما هو لزوال دولة، فخسأهم الخليفة وبين لهم بطلان ما هم عليه، وأنه إنما يأخذ بالكتاب الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تهديم وتحطيم لكل ما مع أولئك المنجمين، وهذا القرآن لم يترك لمنجم ولا كاهن ولا عراف أية مقالة، بل قد أبطل كل ما كان عليه أولئك، ومحض الحق لله وحده، فخرج غازياً إلى هذه المدينة، وكانت في قديم الزمان معروفة بالمنعة والقوة، ولم يكن أحد يجرؤ على غزوها من الملوك.

    فلما أتاها أغلقوا الحصن وأرسلوا إليه الرسل يخبرونه بأن عندهم في الحصن غذاء سبعين سنة، وأن معهم من الماء ما يحتاجون إليه ولن يفتحوا الحصن أبدا فلا يحتاجون إلى قتال، فبات الخليفة في قيام الليل وهو يفكر في مكيدة يصل بها إلى تلك الفتاة المسلمة حتى يستنقذها، فألهمه الله أن يحفر تحت الحصن، وكان الحصن على جبل، فأمر الجيش أن يحفروا في الجبل، فحفروا، ثم ملأه من المتفجرات، ثم أوقد عليها النار فانفلقت قسمين، وكان لها برجان عظيمان فسقط كل برج على صاحبه، فكان يوماً مشهوداً قال فيه أبو تمام قصيدته البائية المشهورة:

    السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

    والعلم في صحف الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب

    إلى أن قال فيها:

    يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفلاً معسولة الحلب

    فالشمس طالعة من ذا وقد وجبت والشمس واجبة من ذا ولم تجب

    صبح من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب

    لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على بان بأهل ولم تغرب على عزب

    رمى بك الله برجيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب

    فكانت موقعة عظيمة، وأبلغ وصف فيها قول أبي تمام في هذه القصيدة:

    إن كان بين ليالي الدهر من رحم موصولة أو زمام غير مقتضب

    فبين أيامك اللائي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب

    فكانت هذه المعركة مذكرة للروم الصليبيين بالمعارك السابقة، وردت كيدهم فترة.

    الحملات الصليبية إبان ضعف الدولة العباسية وجهود سيف الدولة البطولية

    لما ضعفت الدولة العباسية، وتقسم أمراؤها وقادتها البلدان الشامية، طمع الروم والصليبيون في غزو بلاد المسلمين، فجاءت الحملات الصليبية المشهورة التي بدأت من آخن في شمال ألمانيا، وكان يدعمها إذ ذاك ملوك فرنسا وبريطانيا، وقد جمع لها رجال الكنائس من أنواع الأموال والعدة الشيء الكثير، فجاءت الحملة الأولى فتصدى لها سيف الدولة ابن حمدان ، وقد كان أجداده من بني تغلب فأسلموا وحسن إسلامهم، وهذا يدلنا على عظمة هذا الدين، فمن كان أجداده من أعداء الدين إذا أسلم هو أصبح من قادة أهل الدين ومن أنصاره، فقاتلهم سيف الدولة قتالاً عظيماً، وكان لهم بالمرصاد كلما غزوا رد غزوهم، حتى إنه غزاهم في دارهم، ولذلك وصف أبو الطيب المتنبي بعض غزواته فيهم في قصيدة له، يقول فيها:

    عواذل ذات الخالفي حواسد وإن ضجيع الخوض مني لماجد

    يصد يداً عن ثوبها وهو قادر ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد

    إلى أن يقول فيها:

    فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ولكن سيف الدولة اليوم واحد

    فأنت حسام الدين والله ضارب وأنت لواء الدين والله عاقد

    وأنت أبو الهيجاء بن حمدان يا بنه تشابه مولود كريم ووالد

    وحمدان حمدون وحمدون حارث وحارث لقمان ولقمان راشد

    أولئك أنياب الخلافة كلها وسائر أملاك البلاد الزوائد

    أحبك يا شمس الزمان وبدره وإن لامني فيك السهى والفراقد

    إلى أن يقول فيها في وصف الرماح، يقول فيها:

    شننت بها الغارات حتى تركتها وجفن الذي خلف الفرنجة ساهد

    فلم يبق إلا من حماها من الضبا لما شفتيها والسدي النواهد

    تبكي عليهن البطاريق في الدجى وهن لدينا ملقيات كواسد

    وكذلك غزوا في الحملة الثانية، فاستقبلهم سيف الدولة والمقاتلون معه بالثغر الذي يسمى بالحبس، فقاتلهم كذلك حتى هزمهم الله على يديه، وكانت هزيمة مشهودة، وقد وصفها أبو الطيب أيضاً بقوله في قصيدته التي مطلعها:

    على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

    وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

    يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الملوك الخضارم

    إلى أن يقول فيها:

    تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم

    هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعرف أي الساقيين الغمائم

    سقتها الغمام الغر قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم

    وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم

    وكذلك في قصيدته القافية لما جاء رسول ملك الروم يريد الصلح بعد الحملة الثانية من الحملات الصليبية، قال أبو الطيب قصيدته المشهورة التي مطلعها:

    لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحب ما لم يبق مني وما بقي

    إلى أن يقول:

    نودعهم والبين فينا كأنه قنا بن أبي الهيجاء في قلب فيلق

    قواضٍ مواضٍ نسج داود عندها إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق

    هوادٍ لأملاك الجيوش كأنها تخير أرواح الكماة وتنتقي

    تقد إليهم كل درع وجوشن وتطوي إليهم كل قاع وسملق

    إلى أن يقول فيها:

    رأى ملك الروم ارتياحك للندى فقام مقام المجتدي المتملق

    وكاتب من أرض بعيد مرامها قريب على خيل حواليك سبق

    وقد سار منها كل سير رسوله فما سار إلا فوق هام مفلق

    وكنت إذا كاتبته قبل هذه كتبت إليه في قذال الدمستق

    وبعد ذلك كانت الحملة الثالثة، وقد حصل فيها للروم بعض الانتصار على بعض جيوش سيف الدولة ، فأسروا ابن عمه أبا فراس الحمداني ، وكان من أبطاله وقادته، لكن مع ذلك قتل ابن ملكهم، وهرب هو فتاب وأصبح رجلاً من رجال الدين ودخل الكنيسة يلبس المسوح، وفيها قال أبو الطيب داليته المشهورة التي يقول فيها:

    لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة سيف الدولة الطعن في العدا

    إلى أن يقول فيها في وصف ملك الروم، يقول:

    ويمشي به العكاز في الدير تائبا وما كان يرضى مشي أبلق أجردا

    فأصبح يمشي به العكاز مثل رجال الدين.

    توالي الحملات الصليبية واحتلال بيت المقدس

    ثم بعد هذا توالت حملات الصليبيين، وضعف في وجههم قادة المسلمين آنذاك فحصل التمالؤ معهم، وعندما حصلت الحرب بين المسلمين وبين ملوكهم استطاع حينئذٍ الروم الصليبيون أن يستفيدوا من هذا الخلاف الحاصل، فكانوا ينصرون بعضهم على حساب بعض، ويؤازرونهم على ذلك، وعندما جاءوا إلى الإسكندرية وإلى دمياط كان ملوك الشام يرغبون إليه بمساعدته على ملوك مصر، فسلموا إليهم الساحل الشامي بما فيه، فسلموا إليهم صيدا وعكا وعسقلان وغير ذلك من بلدان الشام، فبنى بها الروم الصليبيون إمارتهم في الشام وكانت أول استقرار لهم هنالك، ثم جاء بعدها سقوط البلدان الأخرى كسقوط بعض بلدان الأندلس التي أصبحت فقيدة سليبة اليوم، لا يذكرها ذاكر، ولا يزورها زائر إلا إذا كان سائحاً، على ما كان بها من حضارة المسلمين وعلو شأنهم، وعلو دينهم.

    فتح صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس وتحريره من الصليبيين

    ثم بعد هذا اشتدت عزيمة الصليبيين -في حال ضعف المسلمين- على احتلال بيت المقدس فاحتلوه، ولما دخلوا بيت المقدس وصف الذين حضروا ذلك الدخول فذكروا أشياء مروعة مرعبة، فقد قتلوا في يوم واحد أربعمائة ألف إنسان ذبحاً بالسكاكين، وسرت الدماء في سكك هذه المدينة المقدسة، وامتلأ المسجد الأقصى بالجثث والقتلى من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة، فلما كثرت الجثث أقدم ملك الروم على إحراق جثث المسلمين، حتى إن المؤرخين من الروم قالوا: شتان بين يوم دخول أمير المؤمنين إلى بيت المقدس وبين يوم دخول ملك الصليبيين إلى بيت المقدس، ومكثوا يعيثون في الأرض فساداً خمساً وتسعين سنة، حتى حرك الله همة صلاح الدين الأيوبي ملك مصر وكان رجلاً صالحاً.

    من الغرائب أن هذا الرجل وهو من الأكراد ذهب به أبوه من حران في العراق وهو طفل صغير فمر به بـالموصل، فجلس فترة يسيرة بكتاب هنالك فحفظ القرآن، فلما جاء به إلى مصر كان يخدم العبيديين الذين هم من الروافض، وهم من ألد أعداء المسلمين، قتلوا العلماء وسلموا البلاد إلى الكفار، وقد كان ملكهم يدعي الألوهية نسأل الله السلامة والعافية، فكان صلاح الدين من خدمهم إذ ذاك وقادتهم، ثم بعد هذا غير الله حاله وهداه، فألغى دولة العبيديين بكلية وأقام على أنقاضها دولة سنية، وكان يحدث بالحديث في جامع العبيديين وهو الجامع الأزهر، فحدث طلاب الحديث بالحديث المسلسل بالابتسامة، فلم يبتسم فرغبوا إليه أن يبتسم لهم ليستمر لهم تسلسل الحديث بالابتسامة، فقال: إني لأستحيي من الله أن أبتسم وبيت المقدس بيد الصليبيين.

    ثم هيأ المسلمين للغزو، فخرج إلى دمشق، ومنها سير الجيوش إلى بيت المقدس حتى استنقذه من الصليبيين، ويوم دخله نهى أن يقتل أحد من الروم مقفياً، ونهى أن يدفف على جريح منهم، وأكرم رجال دينهم، وزودهم بالزاد، وخيرهم بين أن يبقوا أهل ذمة للمسلمين، وبين أن يرجعوا إلى ديارهم، فمن بقي منهم بقي مكرماً لا يتعرض له في دينه ما لم يخالف الشروط المشروطة عليه، ومن خرج أعطاه ما يتزود به وأمنه حتى يصل إلى داره.

    الحملات الصليبية في عهد الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية

    ثم بعد هذا استمرت حملات الصليبيين تتعرض لكل عمل إسلامي وكل دولة إسلامية قامت، فكان قتالهم مع بني عثمان في القسطنطينية وهي عاصمة الروم الصليبيين إذ ذاك، فغزاها محمد الفاتح وكان أبوه قد رأى في النوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بولد من أهل الجنة، فاعتنى بولده هذا وحفظه القرآن صغيراً ورباه تربية الصالحين، وعندما سار إلى القسطنطينية لفتحها، وكان الأمراء دائماً يحرصون على غزوها فلا يقيض لهم فتحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: ( تفتح القسطنطينية وهي مدينة هرقل ، فلنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه ).

    وهي إسطنبول الآن، فلما غزاها محمد الفاتح بجيشه فتحها الله عليه، وقال هو في ذلك: والله ما فتحنا القسطنطينية بأسيافنا ولكن فتحناها بدعائنا. ولما دخل كنيستها الكبرى أياصوفيا التي أصبحت مسجداً عظيماً، أمر العلماء وهم معه في مقدمة الجيش أن يصلي به منهم من لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر منذ بلغ، فلم يجد أحداً منهم يقر بذلك، فتقدم بهم هو فصلى وقال: أما إنه لموقف لم أكن أريد أن أخبر به أحداً، لكن الموقف أملاه، فهو منذ بلغ لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في المسجد جماعة.

    فهذا النوع من القادة هم الذين تفتح لهم الأمصار، وهم الذين يشرفهم الله بهذا التشريف العظيم منذ بلغ ما فاتته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في المسجد أبداً، فأم الناس وصلى بهم.

    ثم بعد ذلك استمرت الحروب مع الصليبيين في شرق أوروبا فكانت غزوات بني السلطان بايزيد وهم العثمانيون في شرق أوروبا، وفتح الله عليهم كثيراً من أمصارها وبلدانها، فلما ضعفت دولة بني عثمان، وأقبلوا على زخرف هذه الحياة الدنيا عادت السنة الكونية: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ [الأنفال:19].

    فعادت السنة الكونية وأصبحت جيوشهم تنهزم أمام الصليبيين، ومن غرائب ما حصل ما حصل في أدرنه، وما حصل في البوسنة، فإن جيوش الصليبيين ظفروا بجيش المسلمين فغرقوا جميع بواخرهم في وقت واحد، جميع الأسطول العثماني غرقه النصارى الصليبيون في وقت واحد، وكذلك ذبحوا على شاطئ نهر في البوسنة ثمانية آلاف مسلم بالسكاكين، ولذلك قال أحمد شوقي قصيدته المشهورة التي يرثي بها تلك البلاد، ويقول فيها:

    يا أخت أندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والإسلام

    الاستعمار الصليبي لبلدان المسلمين

    ثم بعد هذا أخذ الصليبيون منهجاً جديداً ألا وهو غزو البلدان الإسلامية، وغزو المسلمين في عقر دارهم، فكان الاستعمار المقيت الذي لم يكن استعماراً عسكرياً فحسب، بل كان غزواً فكرياً، وغزواً ثقافياً، وغزواً دينياً، وبذلك أقاموا هذه المستعمرات التي سموها تركة الرجل المريض ويقصدون به الخلافة العثمانية، فقسموا بلاد الإسلام فيما بينهم ونهبوا خيراتها بطريقة عجيبة، ويعجب الإنسان إذا رأى آثار الفرنسيين المستعمرين في هذه البلاد التي نحن فيها، إذا رأى كيف أخذوا الحديد من جبل تصاديف فقد حفروا فيه حفرة عميقة تقتضي أن لا ينتفع أحد بعدهم بشيء من الحديد من ذلك المكان، والذي زار مدينة زويلاك يرى هذا الأثر العجيب جداً، فإنهم أرادوا أن ينتهبوا هذه الخيرات في أسرع وقت، وأن لا ينتفع أحد بعدهم بشيء منها.

    وكذلك الحال عندما أتوا إلى الجنوب، فأرادوا أن يفرقوا بين المسلمين من الأفارقة والمسلمين من العرب والبرابرة، فأول ما بدءوا به من ذلك أن قاتلوا المحاظر الإسلامية الأفريقية، فقتلوا علماءها، وشردوا طلابها، وأحرقوا مخطوطاتها وكتبها بأزبال البقر، وهذا مثبت في وثائقهم إلى اليوم، ففي بعض الوثائق الموجودة اليوم أنهم وجدوا في ولاية كيدماغ وحدها ثمان وأربعين محظرة تعليمية للأفارقة وحدهم، فشردوا أهلها ونكلوا بهم غاية التنكيل ما بين من قتلوه ومن وضعوه في السجن، وأحرقوا مخطوطاتهم وكتبهم بأزبال الأبقار، ثم بعد ذلك أخذوا أولاد المسلمين يعلمونهم في مدارسهم ليكون ذلك توطيناً لحضارة النصارى الصليبيين في بلاد المسلمين، ونظير ما حصل هنا حصل في كل مكان آخر من بلاد المسلمين التي دخلوها.

    1.   

    الحملة المعاصرة للصليبيين ومراحلها

    مساعدة الصليبيين لطغاة الحكام من المسلمين ضد رعاياهم

    ثم بعد هذا جاءت الحملة المعاصرة للصليبيين، وهذه الحملة قد كانت بدايتها في مساعدتهم لبعض طغاة الحكام من المسلمين ضد رعاياهم العزل، فقد بطشوا برعاياهم ونكلوا بهم غاية النكال، ويمكنكم أن تلاحظوا الفرق الشاسع بين رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة التي تطلب ولدها بالسبي، وبين رحمة أحد الحكام العرب عندما أخذ مدينة بكاملها من شعبه فصب عليها الغازات السامة، وأخذ النساء فجعلهن في قفص، وجعل أولادهن الرضع في قفص آخر والنساء ينظرن إلى الأولاد، والأولاد يتضاغون من الجوع والعطش حتى مات الأولاد وأمهاتهم ينظرن إليهم.

    التخطيط والتنفيذ للحروب ضد المسلمين

    ثم بعد هذا كانت حرب الخليج، وتعرفون أنها جميعاً بتخطيط وتنفيذ من النصارى، فليس للمسلمين فيها أي دخل، فما حصل كله من تخطيط النصارى وتنفيذ أوامرهم، وهم الذين أمروا به وهيئوا له الأسباب، ثم هم الذين ضربوا منشآت العراق وحطموا خيراته، ثم ها هم اليوم يغزونه على غير سبب، ولا يريدون بذلك إلا تحطيم كل قوة لدى المسلمين، يريدون التخلص من كل ما لدى المسلمين من قوة، وقد أعلن طاغيتهم في حربه على أفغانستان أنها بداية حرب صليبية، حتى لو تراجع عن هذا فهو يقتنع به ويعتقده، فالحرب اليوم التي يسمونها حرباً على الإرهاب هي حرب صليبية جديدة، ولكنها في هذه المرة قد كشفت القناع قناع الحياء عن وجهها بالكلية، ومن أجل ذلك فإنهم لا يستأذنون بلداً من البلدان الإسلامية على ما يدخلون فيهم من الجيوش والقواعد، وقد صرح بذلك أحد وزراء خارجية العرب، فقال: نعم نحن عندنا القواعد الأمريكية، لكنها عن غير ملكنا لا نستطيع أن نخرجها، وكان شجاعاً فيما قال صادقاً فيه.

    المقصود بالحروب الصليبية والقصد منها

    هذه الحرب التي تدق طبولها اليوم وتجمع لها الجيش تجوس خلال الديار، إنما هي حرب صليبية يقصد بها تحطيم ما بقي من قوة هذه الأمة، وكثير من أبناء هذه الأمة يتفرجون على الأخبار، ويستمعون إلى التقارير ثم ينتظرون ويترقبون.

    وهذا الحال حال قادة المسلمين إلا من رحم ربك، فموقفهم هو الترقب والانتظار، وإذا اجتمعوا لاتخاذ موقف لم يجرءوا على موقف يوافق قناعاتهم، ومن تكلم منهم بذلك الموقف كان منفرداً لا يوافقه أحد على قوله، وكل هذا؛ لأن الجيوش قد دخلت في القلوب قبل أن تدخل البلدان، ولهذا تجدون البون الشاسع بين مواقف القادة ومواقف الشعوب، والواقع أن الجميع قادة وشعوباً مستهدفون، وأن القادة يعلمون أن هذه الحرب متجهة إليهم أيضاً، وسيتأثرون بها غاية التأثر.

    فهذه الحرب ليست فقط موجهة للشعوب أو إلى بلد من البلدان، ليست موجهة للعراق، ولا إلى البلاد الخليجية النفطية، بل هي موجهة إلى هذه الأمة بكاملها، ولذلك بدأ تقسيم هذه الأمة وتقسيم خيراتها وتعيين الحكام الذي سيحكمونها، بدأ كل ذلك يعد ويخطط له في أروقة البيت الأبيض وغيره من بيوت الشر، ثم بعد هذا تعلمون أن هذه الجيوش التي تغزو الآن البلاد الإسلامية لا يمكن أبداً أن تخرج من تلقاء أنفسها بقرار سياسي، ولا يمكن أن تخرج إلا بجهاد في سبيل الله.

    1.   

    سبل مواجهة الغزو الصليبي

    اتحاد القادة والشعوب

    على القادة والشعوب أن يعلموا ذلك وأن لا يكتموه عن أنفسهم، وأن يعلموا المثل السائر: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وأن يعلموا أنه إذا احتلت العراق وقسمت، فليست جاراتها ولا غيرها من البلاد الإسلامية والعربية بمنأى عن مصيرها، فالجميع سيجري عليه حكم واحد وأنتم تعرفون المثل الفقهي: وضرب لواحدة ضرب لبقيتهن، كما قال خليل رحمه الله، فإذا ضربت دولة واحدة من هذه الدول، فضربها ضرب لبقيتهن أيضا.

    ولذلك لا بد أن يتحد القادة وشعوبهم، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو، وأن يعودوا إلى الله وأن يتوبوا إليه من ذنوبهم، وأن يقبلوا على هذا الدين الذي به عزوا، وبه ارتفع شأنهم، وإذا حصل ذلك فليبشر الجميع بأن النصر آت لا محالة.

    أما إذا بقي التخاذل الذي نراه، وبقيت النفرة بين الشعوب والقادة وبقي التواكل، وأهل كل دولة إنما يحامون عن أرضهم وأنفسهم، فليعلم الجميع أنها حينئذٍ حرب دينية من جهة واحدة، أي: من جهة الصليبيين وحدهم، أما المسلمون فليست دينية من عندهم من الجانب الذي يليهم منها، وهذا خطر عظيم يقتضي أن يعبد القادة قبل الشعوب وأن يذل الجميع، لا بد أن يدرك المسلمون أن عليهم -وهم في مثل هذا الوقت- أن يتذكروا لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرهم ماذا سيعمل؟ وأنتم تعلمون ما عمل في أيامه السالفات، وأنه لن يذل ولن يتمسكن، بل سيقاتل في سبيل الله فينصره الله.

    التجهز والإعداد لحرب صليبية طويلة الأمد

    لا بد أن يتذكروا ما قاله عبد الله بن رواحة يوم مؤتة، وأن يتذكروا ما قاله خالد بن الوليد يوم اليرموك، لا بد أن يتجهز المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لحرب صليبية طويلة الأمد، وأن يعلموا أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن هذه الشعوب بكاملها لا خير فيها إذا لم يكن فيها دين ولا عزة، وأنه إذا قامت بالحق لله عز وجل فإن الله تعهد لها بالنصر، فقد قال الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].

    وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].

    وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106].

    وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

    فلا بد أن يحقق الله وعده فإن الله لا يخلف الميعاد، ولكن لا بد أن نعلم أن لله حكماً بالغةً في مثل هذه الأحداث ألا وهي الامتحان والتمحيص، فلا بد أن يتمايز الناس على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر لا إيمان فيه، لا بد أن يقع هذا التمايز، وإنما يقع بمثل هذه الحروب والبلايا العظيمة.

    نصرة المسلمين بكل ما نستطيع

    وعلينا أن نستعد جميعاً لنصرة الله ورسوله والدفاع عن ديننا، وأن ننصر إخواننا المسلمين بكل ما نستطيع، وبالأخص في الدعاء فأنتم في أيام أنجى الله فيها موسى وأغرق فيها فرعون وجنوده، وللصائم دعوة لا ترد، فاجتهدوا في الدعاء، فإن الله سبحانه وتعالى أيدكم بجند عظيم ألا وهو الدعاء يصطرع في السماء مع البلاء، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وهو عبادة لله سبحانه وتعالى وجهاد في سبيله، فارفعوا أيدي الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليرد كيد الكافرين في نحروهم، وليردهم صاغرين كما عودكم من قبل.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767943173