إسلام ويب

الحروب الصليبيةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من سنن الله الكونية جعل الأعداء للرسل وأتباعهم، ولقد أوذي أنبياء بني إسرائيل غاية الأذى من قومهم، واستمرت عداوة اليهود والنصارى حتى طالت المسلمين، فقد حشد الصليبيون جحافلهم بمباركة رهبانية لحرب الإسلام والمسلمين غير مرة، ولا تزال الحروب الصليبية قائمة حتى اليوم، ولا بد لردعهم من اتحاد القادة والشعوب، والتجهز والإعداد لحرب صليبية طويلة الأمد.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، فاختار الله له عصبة صدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فكتب الله لهم علو الدرجة في الدنيا والآخرة، وحقق لهم أهدافهم ومرادهم، وحببهم إلى خلقه، وجعل له أعداء من شرار خلقه، خذلهم الله تعالى وسلطهم على أنفسهم بعداوة الله ورسوله، ولا يضرون الله ورسوله شيئاً.

    وهي سنة ثابتة بينها الله في كتابه، فقد أخبر أنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد جعل الله له عدواً؛ ولذا قال في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] .

    فأولئك قيضهم الله لعداوة الله وأنبيائه، وملأ قلوبهم بذلك، بحيث لو راجعوا أفكارهم لما استطاعوا أن يغيروا مواقفهم، قلوبهم ملأى بالعداوة لله ورسوله، وقد أصم الله آذانهم عن سماع الحق، وأعمى أبصارهم عنه، فلذلك كانوا شر الخلق عند الله، كما قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، صرفهم الله عن طريق الحق، لم يرهم في هذه الحياة إلا طريق الغي؛ ولهذا قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

    أعداء محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه

    ومن سنة الله سبحانه وتعالى أن يستمر هذا الفرقان بين أولياء الله وأعدائه إلى يوم القيامة، فلا بد أن يبقى على آثار أولئك الصفوة، الذين اختارهم الله لتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته، من يقتفي آثارهم، ويترسم خطاهم، ويتبعهم في المنهج الذي سلكوه، ولا بد أن يبقى كذلك على وجه هذه الأرض قوم آخرون، يختارون سلوك طريق أعداء الله ورسوله، ويتبعون آثارهم، ويترسمون خطاهم، لا بد أن يبقى في كل جيل من الأجيال من هم أمثال أبي جهل عمرو بن هشام ، و عتبة بن ربيعة ، و شيبة بن ربيعة ، و زمعة بن الأسود ، لا بد أن يبقى أمثالهم في كل زمان وفي كل مكان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين سراجاً على هذه الأرض كلها، يبلغ ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا بيت مدر إلا دخله.

    وبذلك لا بد أن يبقى له أعداء، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهودة، كيوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، ويوم خيبر، ويوم الأحزاب، وغيرها من الأيام، وإنما تتفاوت الأيام بتفاوت رجالها؛ فلذلك لا يمكن أن يضيق المؤمنون باعاً بوجود عداوة مستمرة، فهم يعلمون أنها سنة كونية ثابتة، ولا يمكن أن يضيقوا باعاً كذلك بعداوة الذين ذكر الله عداوتهم في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على طائفتين أوتوا الكتاب قبلنا، فقد فضلهم الله على العالمين، وأرسل إليهم الرسل، وأقام عليهم الحجة بالآيات البينات.

    أعداء موسى عليه السلام

    اليهود عليهم لعائن الله أقام الله عليهم الحجة بتفضيلهم على العالمين أجمعين، وبما آتاهم من التوراة، التي تضمنت علم الأولين والآخرين، وقد كتبها الله بيمينه في الألواح لـموسى .

    واختار طائفةً منهم للشهادة عليها، فاختار سبعين رجلاً منهم خرجوا معه إلى الطور، حتى سلمه الله الألواح وهم ينظرون، فلم يتأثروا بهذا المشهد، وإن كانوا خيرة بني إسرائيل، إلا أنهم مع ذلك كانوا يهزؤون بنبي الله موسى ، فلما فعلوا نتق الله الطور فرفعه فوق رؤوسهم كالظلة، وأخذتهم الرجفة، فاشتد ذلك على موسى وحده، وقال عندما أخذت أصحابه تلك الرجفة الشديدة: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

    وبين أن ذلك إنما كان من فعل السفهاء من قومه، ولهذا قال: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف:155].

    فرد الله العذاب بدعاء موسى وضراعته إلى الله سبحانه وتعالى، بعد أن أمرهم بالسجود لله وأن يقولوا: حطة، أي: مغفرة، فلم يسجدوا على جباههم، بل سجدوا على الشق الأيمن من الجباه وهم ينظرون بأعينهم إلى الجبل من الخوف، وضرب الله عليهم بذلك الذلة والمسكنة والصغار إلى يوم القيامة، ولم يستطيعوا أن يقولوا ما أمرهم الله بقوله وهو: حطة، بل قالوا: شعرة، وفي حبل، وهم يقصدون حنطة بذلك، فلذلك لم يرض الله عنهم، بل رد عنهم العذاب بشفاعة نبيه موسى وكليمه عليه السلام، ثم بعد هذا آذوا موسى بأنواع الأذى، فما تركوا أذىً يمكن أن يوجهوه إلى هذا النبي الكريم الذي أكرمه الله برسالاته وبكلامه إلا وجهوه إليه، حتى ألجؤوه إلى أن يقول لهم كلامه المؤثر البليغ الذي حكاه الله في كتابه: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].

    ثم بعد هذا شاهدوا من المعجزات الشيء الكثير، فمن أول ما شاهدوه من المعجزات ما كان قبل خروجهم من مصر عندما أتاهم موسى لينقذهم الله به من الويلات والهوان، فرأوه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء منيرة من غير سوء، ورأوه يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى فيقبضها فتعود عصاً كما كانت في سيرتها الأولى، ورأوه يتجاسر على أعتى عتاة الأرض وأطغى طغاتها، فيكلمه بكلام الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وهو يعلم أن جنده الذين معه هم بنو إسرائيل أهل الذلة والمسكنة، لكن موسى لا يثق بأولئك الجند، وإنما يثق بوعد الله وحده.

    ولذلك حين أمره الله أن يخرج بهم بالليل من مصر خرج بهم جميعاً وأعينهم في أخبيتهم خوفاً من فرعون وجنوده، فلما رأوا البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. فضرب موسى البحر بعصاه بأمر الله فشق لهم طريقاً في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا تخشى، فمروا منها مسرعين، ثم اتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوا البحر أمر الله البحر فالتقمهم، والتطم عليهم فلم تبق منهم باقية، وبعد أن خرجوا من هذا البحر وشاهدوا مصارع أعدائهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فما كان منهم إلا أن تمنوا الرجوع إلى الكفر فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138].

    وبعد ذلك لما فرض الله عليهم دخول أريحا قالوا لـموسى : َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات الجيل الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة في أيام فرعون ، وأولئك لا يصلحون للجهاد ولا يستطيعون تحمل هذه الأعباء الجسيمة، فلما مات أولئك، ونشأ شباب قد تربوا في ظل الشظف والتيه استطاع أولئك الجهاد في سبيل الله، فهم الذين أدوا الحق الذي افترض الله عليهم.

    معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم من بعد موسى

    ثم بعد موت موسى أخرج الله فيهم عدداً من الأنبياء، ولم تكن معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم بعد موسى أحسن حالاً من معاملتهم لـموسى عليه السلام، يقتلون فريقاً ويكذبون فريقاً، وقد أهدوا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام لبغي من بغاياهم، وقتلوا عدداً كبيراً من أنبياء الله، ومع ذلك فأنبياء الله صابرون محتسبون، ما ضعفوا وما استكانوا، بل كان دعاؤهم لله سبحانه وتعالى عمدتهم في الأمر، كما قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:146-148].

    هؤلاء القوم كانوا ألأم الناس مع رب العالمين، الملك الديان، الذي: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، أكرمهم بأنواع الإكرام، ومع ذلك اتخذوا آياته ورسله هزواً، ولم يزدادوا بأية آية من آيات الله إلا كفراناً وطغياناً، وقد خلقهم الله للشر، فجعلهم أذىً يؤذي به في هذه الأرض، كما خلق السرطانات والأوبئة، وغيرها من الأدواء، لقد خلق الله اليهود لذلك.

    عداوة بني إسرائيل لعيسى بن مريم وأمه

    ثم كان منهم بعد هذا أن شاهدوا ما حصل لـمريم ابنة عمران عليها السلام، عندما بشرتها الملائكة بروح الله وكلمته، وأخبرها الله سبحانه وتعالى بما أعد لـعيسى من الفضل، فإنه يكلم الناس في المهد وكهلاً، وقد علمه الله التوراة والإنجيل والكتاب، وفضله على أهل زمانه، وعلمه كثيراً من الغيوب والعلوم، وأطلعه على ما يكنه بنو إسرائيل في بيوتهم، وما يعدونه لأنفسهم من الطعام، وبعد ذلك كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهي أمور يقف دونها العلم، لا يمكن أن يصل إليها.

    وعندما جاءت مريم تحمله وقد شاهدت المعجزات الغريبة، عندما أمرت بهز جذع نخلة ميتة، هزتها فتساقط عليها الرطب وعادت النخلة كهيئتها عندما تكون أكمل نخلة في حملها، وجرى من تحتها سري من الماء العذب، ثم جاءت به تحمله وقد ختم الله على لسانها لا تستطيع الكلام، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل في المحراب فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا[مريم:28-29]، فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه في الأرض، ونظر إليهم وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع هذا الكلام إلا زكريا عليه السلام، هربوا جميعاً، ثم بعد ذلك شاهدوا من عيسى العجائب.

    حتى إن الحواريين قالوا له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:112]، فأصروا على ذلك: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا[المائدة:113]، وبعد ذلك أنزل الله المائدة، بعد أن أخذ عليهم العهد أن من كفر بعد هذا يعذبه الله عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فتعهد الله لهم إذا كفروا بعد هذه المعجزة الظاهرة بعذاب لا يعذبه أحداً من العالمين، فكانت المائدة تأتي في وقت الضحى تحملها الملائكة تتنزل من السماء إلى الأرض، لا يطلب أحدٌ نوعاً من أنواع الطعام ولا نوعاً من الفاكهة إلا وجده فيها، فإذا شبعوا جميعاً رفعها الملائكة وهم ينظرون حتى تتوارى في السماء، ثم تأتي من الغد أربعين يوماً، فقامت بها الحجة على النصارى، فمن كفر منهم بعد هذه الحجة، فإن الله يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

    ثم بعد هذا تمالؤوا مع اليهود على نبي الله وروحه عيسى عليه السلام وأرادوا قتله وصلبه فشبه لهم ورفعه الله إليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088464548

    عدد مرات الحفظ

    776885369