بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بنى شأن السموات والأرض على العدل، فبه قامت السموات والأرض، وقد اتصف به جل شأنه فهو الحكم العدل، وأمر به فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا[الأنعام:152] وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر به كما أمره الله بذلك، فقد أمره هو وأصحابه بالعدل حتى مع من ناوأهم وعاداهم في ذات الله، فقال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8].
وركائز هذا العدل واضحة في التشريع كله، فإن الله سبحانه وتعالى بنى الكون جميعاً -أي: جميع المخلوقات- على الازدواجية، فالله تعالى هو الفرد الصمد، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، لكن كل من عداه وكل من دونه من الخلائق مبني على الازدواجية.
فقد جعل الله الزمن منقسماً إلى ليل ونهار، فالليل له آية والنهار له آية، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة؛ وذلك لأن الازدواجية إذا حصل فيها التكافؤ المطلق لم يمكن حصول العدل؛ لأنه لا بد من السبق في الترتيب، ولو كان الليل ذا آية غير ممحوة لكان سبق النهار عليه ظلماً وحيفاً، فلذلك احتيج إلى جانب من التفضيل في هذا الواقع، وكذلك في الخلائق جعل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الذكر مديراً للبيت وصاحب القوامة فيه، وصاحب القرار، وجعل الأنثى تابعة له في البيت، ولو كانا ندّين في البيت لحصل فيه التنازع والتناقض، كما قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا[الأنبياء:22].
وقسم كذلك الأملاك على هذه القسمة، فقد خلق للبشر ما في الأرض جميعاً، كما قال تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[البقرة:29]، وقسمه بين صنفي البشر، بين الذكور والإناث، وجعل ما في الأرض جميعاً ينقسم إلى نوعين: إلى ماديات ومعنويات، والمعنويات أشرف من الماديات، فلذلك خص الذكور من البشر بأشرف ما في المعنويات وهو القوامة والإمامة، وخص الإناث من البشر بأشرف ما في الماديات وهو الذهب والحرير، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه جعل في إحدى يديه ذهباً وفي الأخرى حريراً، فقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ).
وهذا يقتضي العدل والمساواة بين الصنفين فيما يتعلق بحيازة ما خلق لهما مما في الأرض، وكذلك جعل النبات أيضاً مثل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الحيوان كذلك مثل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الخلائق جميعاً على هذه الازدواجية.
وقد شرع من التشريعات ما يضمن هذا العدل والإنصاف ويقطع الظلم ويمنعه، فكل تشريع جاء من عند الله تعالى فإنما هو لمصلحة البشر، فلو كفر الناس جميعاً وضلوا ولم يعبدوا الله تعالى لم يضره ذلك شيئاً، ولو آمنوا جميعاً وانقادوا لحكمه وأمره لم ينفعه ذلك شيئاً؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ).
وقد تولى الله سبحانه وتعالى تشريع ما لا تصل إليه العقول، فشرع العقود للبشر ونظم لهم علاقاتهم بربهم بالعبادات، فهذه العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، والصدقة وقراءة القرآن والذكر وغيرها من أنواع الطاعات، كلها لمصلحة ابن آدم، وهي مجال للتنافس، فما لا منجاة دونه هو الفرائض العينية، وما فيه منجاة ولكن فيه زيادة فضل وربح جعله الله مجالاً للتنافس، وقال: فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148].
فالفرائض العينية لا بد من أدائها وهي مطلوبة من الجميع، وما زاد على ذلك من الفرائض الكفائية ومن السنن والمندوبات مطلوب من الجميع أن ينافس فيها، وأن يبادر إليها، ومن المعلوم أن من نجح في الامتحان ونال السبق لن يكون جزاؤه بمقتضى العدل جزاء من كان في آخرة القائمة ومن تأخر في أداء مهماته، وأن من نقص من فرائضه وقصر فيها فإنه يستحق العقوبة بمقتضى العدل، ولكن الله سبحانه وتعالى هو العفو الرءوف الرحيم، فيغفر لمن شاء من عباده حقوقه المتمحضة ويعذب بها من شاء، فمن عفا عنه فبفضله ومن عذبه فبعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وكذلك قسم الأرزاق على حسب حكمته السابقة، فالذي يعلم أنه إذا جعل تحت يده من المال والأهل والأولاد شيء لن يطغى به أعطاه ذلك، ومن علم أن الحكمة في طغيانه أصلاً امتحنه بما يطغيه، ومن علم أن الأصلح له ألا ينال ذرية أصلاً جعله عقيماً، ومن علم أن المصلحة أن ينال نوعاً واحداً من أنواع الذرية من الذكور أو الإناث يسر له ذلك، ومنعه ما سواه، كما قال الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50].
وفي الرزق يقول في نفس السورة قبل هذا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27]، فيجعل بعض الناس غنياً كي يمتحنه بالغنى، ويجعل بعض الناس فقيراً كي يمتحنه بالفقر، وفي بعض الأحيان يكون الشخص الواحد عرضةً للامتحان بالغنى في بعض الأوقات وبالفقر في بعض الأوقات فيكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، أو العكس، وكل ذلك من عدله وحكمته وامتحانه؛ لأنه الأعلم بالمصلحة وبمآلات الأمور.
والعقود التي شرعها هي كلها داخلة في تشريع العدل، فلولا هذه العقود لكان من يريد شيئاً ويرغب فيه من الأقوياء وليس تحت يده أخذه بالغصب والإكراه، ولكان من يرغب في شيء وليس تحت يده وهو من الضعفاء لاحتال عليه بالسرقة أو غيرها، فلذلك شرع الله العقود لتنظم علاقات الناس بعدل وإنصاف، فإذا رأيت شيئاً أنت محتاج إليه وراغب فيه فإن الله جعل لك وجهاً لتملكه بقضية عقد صحيح، إما عقد بيع أو عقد إجارة أو عقد نكاح، وكلها عقود منظمة للعلاقات فيما بين العباد.
وهي من عدل الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
منها: عقود معاوضات، الطرفان فيها مشاركان، كل يدفع ما تحت يده وما خصه الله به.
ومنها: عقود تبرعات ينال بها الإنسان المنزلة والمكانة ويرتفع بها قدره في الدنيا والآخرة، فـ ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، وتزيده رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى وإيثاراً للدار الآخرة على الأولى.
ومنها: عقود توثقات؛ لأن المعاوض قد لا يكون تحت يده ما يكافئ رغبته وطلبه، فإذا رغب في سيارة لدى إنسان وليس لديه ما يشتريها به، أو رغب في شيء لدى إنسان وليس لديه ما يشتريه به، فإن الله جعل له ذمة وهي وعاء مقدر مع الإنسان يحوي ما يمكن أن تعجز عنه ذات يده حالاً، ولكنه يستطيع توفيره في المستقبل.
ولكن هذه الذمة راجعة إلى أمانة الإنسان والثقة به، والناس متفاوتون في هذا، فمنهم من هو موثوق به، آتاه الله ورعاً وخوفا ًمن الله سبحانه وتعالى يقتضي ثقة الناس به، فإذا تعاملوا معه علموا أنه لن يكذب ولن ينقض العهد، ولن يمنع الحق فيثقون به ويتعاملون معه على أساس هذه الثقة.
ومنهم من هو خرب الذمة، جرب في التعامل فكان تعامله سيئاً، ولم يكن وفياً، ولا صدوقاً في تعامله، ولكن مع ذلك هو محتاج، وهذا القسم الثاني يحتاج إلى تقوية لذمته فلذلك شرع الله عقود التوثقات لتقوية ذمم هذا النوع من الناس، وكذلك من كان من الناس مجهولاً غير معروف في التعامل ليس له سابقة في السوق، أو ليس من أهل البلد، أو لم تعامله بالدينار والدرهم فتحتاج إلى تقوية لذمته، فجعل الله تعالى عقود التوثقات مدعاة لحصول الثقة به، إما بالرهن وإما بالكفالة وإما بالضمان، وكلها عقود تحقق هذا المقصود.
ولذلك فحصول هذه العقود بأنواعها المختلفة وتوسعها لتشمل كل مجالات الحياة هو من تمام العدل.
وكذلك من عدل الله سبحانه وتعالى: أن علم أن البشر لا يستطيعون جميعاً قيادة شئونهم، فلا يمكن أن يكون شعب مثلاً: فيه مليون مواطن أو مليونان أو ثلاثة، وكل إنسان منه رئيس أو كل إنسان منه وزير، أو كل إنسان منه وال أو حاكم؛ لأن هذا من المستحيلات، فلا بد أن يكون له إدارة؛ لأن مصالحه مشتركة وأملاكه مشتركة، فلا بد أن يتولى الأمر بعض هذا الشعب دون بعض.
ولذلك كان من عدله جل جلاله أن بين لنا الشروط التي إذا اتصف بها إنسان استحق أن ينال مقاليد الأمور، وإذا اختلت في إنسان استحق ألا يلي شيئاً من مقاليد الأمور.
وبين كذلك ما عليه من الواجبات وما له من الحقوق، فبين أن من ولاه الله أمر المسلمين فإنه يجب عليه رعاية العدل فيما بينهم، فهو بمثابة أبِ الأسرة، ووالد الأسرة يجب عليه العدل في شئونها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـبشير بن سعد عندما جاء بولده النعمان ليشهده على أنه قد نحله حديقته قال: ( أكل ولدك نحلت مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على زور )، وقال: ( اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم ).
فلا بد من العدل بين الأولاد، والوالد لا بد من مراعاته لحقوق الأولاد جميعاً ولعدله فيما بينهم، وكذلك رب الأسرة لا بد من العدل أيضاً بين جميع أفرادها، إذا كان له زوجتان فلا بد من العدل بينهما.
وقد أمر الله بذلك، وبين أن العدل المطلق صعب جداً: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ[النساء:129].
فالعدل المأمور به ليس هو المذكور هنا الذي يعجز الإنسان عنه؛ لأن الله لا يأمر الإنسان إلا بما يطيق، فميل القلب ليس داخلاً في العدل المأمور به؛ لأنه أمر فطري لا يستطيع الإنسان التحكم فيه، لكن العدل فيما يتعلق بالنفقة والقسمة في المبيت وغير ذلك، عدل مقدور عليه ويستطيعه الإنسان، وهو مكلف به ويجب عليه القيام به.
وكذلك العدل في الجيران، وبيان أن الأقرب أحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : ( الجار أحق بسقبه -وفي رواية- بصقبه )، أي: بمن بقربه، وقال: ( جار الدار أحق بدار الجار )، ولما سئل عن أحق الجيران حقاً قال: ( أقربهم باباً )، فهذا عدل أيضاً لأن له مرجحاً، فالذي هو أقرب باباً إليك له مرجح؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق واحد ).
فالجار المسلم له مرجح وهو إسلامه، فيستحق به زيادة في مقابل ذلك الحق.
وولي الأمر يجب عليه القيام بالعدل بين رعيته جميعاً، فيجعلهم بمثابة أولاده ويعدل بينهم، فلا يخص إلا بمخصص ولا يرجح إلا بمرجح، وهذا الذي تستقيم عليه الرعية وتنتظم عليه شئونها، وتلتئم عليه القلوب، وإذا خالف ذلك فحصلت الأثرة وتقريب بعض الناس دون بعض، وإعطاؤهم من الحق ما منعه الآخرون، فلا يمكن أن يستقيم أمر الرعية، بل يؤدي ذلك إلى الفتنة وإلى شهر السيوف بين الناس، وإلى حصول التخالف بين القلوب، وكل ذلك مقيت شرعاً ومذموم، فالشرع حث على الوحدة ولم يأت نبي قط إلا بالحث عليها، كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13]، فالتفرقة لم يأت نبي قط إلا بالنهي عنها ومدافعتها.
وهذا العدل يقتضي المساواة في الفرص وإتاحتها للجميع، فمثلاً من الأمور التي تتعهد بها الدول عادة وتقوم برعايتها للمواطنين: ضمان الحريات، أي: حرية التنقل وحرية التملك وحرية التعبير، وهذه لا بد من رعايتها ومساواة الجميع فيها، فكل مواطن مسلماً كان أو كافراً، براً كان أو فاجراً، له حرية التملك، فيمكن أن يملك داره، يمكن أن يملك أملاكه، وله الحق في الملك الخاص الذي ملكه الله سبحانه وتعالى إياه، وقد قسم الله الأرزاق بين المسلمين والكافرين، والأبرار والفاجرين، وجعل الجميع يملك ما جعل الله تحت يديه.
وكذلك حرية التعبير، فقد جعل الله في الجميع عقولاً ركبها وجعلها متفاوتة، وكل له مستوىً من العقل والتفكير، قد يكون فيه مصلحة، وقد يؤخذ منه نفع حتى لو كان كافراً، فلذلك له الحق في التعبير عن رأيه وعقله وما أداه إليه عقله، لكن لنا الحق ايضاً في أن نأخذ منه وأن نرد.
فحرية التعبير في مقابلها أيضاً حرية الأخذ والرد، فللإنسان أن يعبر عن رأيه مطلقاً صواباً كان أو خطأ، لكن للمتلقي والسامع الحرية أيضاً في أن يرد ما كان مردوداً منه، وأن يقبل ما كان صواباً، كما قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعرض آراء أهل الجاهلية وأقوالهم فقال: ( اعرضوا عليّ رقاكم )، أي: رقى الجاهلية، فما كان منها موافقاً للشرع أقره، وما كان مخالفاً للشرع رده.
وكذلك كان يستمع إلى أشعارهم، فيقبل منها ما كان مقبولاً، ويرد ما كان مردوداً، وقد استنشد شعر أمية بن أبي الصلت وسمعه فأقر أكثره.
وكذلك كان أصحابه الذين تربوا على منهجه يفعلون، فهذا عثمان رضي الله عنه لما أنشد قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فلما أنشد الشطر الأول، قال: صدق، فلما أنشد الشطر الثاني قال: كذب، فأخذ المقبول ورد المردود.
وكذلك في أفكار الناس، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أفكار الكفرة فيما يتعلق بمصالح الدنيا، ففكرة الخندق هي من أفكار فارس، وقد كان ملوكهم يفعلونها وقد أخبره سلمان بذلك فقال: كنا بفارس إذا خفنا خندقنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة. وكذلك اتخاذ الخاتم، فقد ثبت في الصحيح ( أنه ذكر له عن النصارى حين أرسل إليهم كتاباً إلى الروم أنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ).
وكذلك المنبر الذي هو في الأصل من فكرة الحبشة، وقد انتشر في العرب وعرف فيما بينهم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبراً من أعواد الغابة وصنعه له مولىً لامرأة من الأنصار، وكان من أهل الحبشة يعرف صناعة المنابر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل المنبر وذكر أن منبره على حوضه وأنه على ترعة من ترع الجنة، وقال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، ونوه بشأن هذا المنبر، وكان أصحابه رضي الله عنهم ينوهون من شأنه من بعد، واتخذ الناس المنابر للجمعة وللخطب وللتعليم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( أن الأعراب كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لم يعرفوه؛ لأنه بين أصحابه يلبس مثلما يلبسون، ويجلس كما يجلسون، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك دكة تجلس عليها حتى يعرفك الناس، فأذن لنا في ذلك فبنيناها من الطوب )، بنوا له دكة يجلس عليها من الطوب، أي: بمثابة الكرسي يجلس عليها صلى الله عليه وسلم حتى يرتفع ليراه الناس، وقد كان يرتفع على المنبر للتعليم، فصلى على المنبر يركع عليه ويسجد ويجلس ليرى الناس صلاته، وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وهكذا فهذه الأفكار لولا التعبير عنها ووجودها لما أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يسمع من أهل الجاهلية ولما أتاه عتبة بن ربيعة يعرض عليه أفكار قريش، سمع منه فلما انتهى قال: ( اسمع أبا الوليد )، وكذلك لما أتاه الوليد بن المغيرة سمع منه أيضاً وناقشه، وكذلك لما أتاه نصارى نجران ناقشهم أيضاً، وأنزل الله عليه في ذلك آيات من سورة آل عمران عندما أقام عليهم الحجة، فلم يقبلوا الرجوع إلى دينه، أنزل الله عليه آية المباهلة فدعاهم للمباهلة، فلم يقبلوا واجتمعوا فيما بينهم وقال لهم صاحب الرأي: لقد علمتم ما باهل قوم قط نبياً إلا هلكوا، ولقد علمتم إنه لنبي، فرضوا بالجزية ورجعوا.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستشير جميع الناس ويسمع منهم، وإذا أعجبه الرأي أخذ به حتى لو كان ذلك الرأي صادراً من امرأة أو من صبي أو نحو ذلك، فقد سمع رأي أم سلمة وعدل إليه يوم الحديبية، وكذلك أخذ برأي بريرة فيما يتعلق بقضية الإفك وهكذا.
وكان صلى الله عليه وسلم يضمن للناس التعبير عن آرائهم، فكل من أتاه يستمع إليه ولو كان عدواً له وخصماً، كما حصل لـسهيل بن عمرو لما جاء يعقد معه صلح الحديبية، وكما حصل لـعروة بن مسعود عندما أتاه، وكما حصل قبله لـبديل بن ورقاء لما أتاه، بل إن أعداءه الذين جاءوا لا يريدون الصلح، بل يريدون فرض آرائهم سمع منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كـعامر بن الطفيل و أربد ، فقد أتياه وخاصماه فقال له عامر : ( لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وابنا قيلة، فلما خرجا من عنده، قال: اللهم اكف عامراً و أربد بما شئت )، فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة ابن سلول، وأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله، فلم يرجعا إلى أهلما بعدما دعا عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حرية التنقل فإن الله سبحانه وتعالى أمر البشر بالتنقل في مناكب الأرض فقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك:15]، وهذا ضمان لحريات الناس في التنقل والارتحال، والعرب قد عرفوا أن الاستقرار في مكان ما قد يكون مضيعة للإنسان، وأن التنقل قد يكون فيه قضاء لبعض حوائجهم كما قال الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف الخلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
فالأرض هيأها الله سبحانه وتعالى وجعل فيها مسالك وطرقاً، فأي إنسانٍ ضاق عليه مكان أو ضاق عليه العيش في مكان فله في مكان آخر منأىً، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أثر ذلك فقال: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً[النساء:100].
ومن واجباته أيضاً ضمان المساواة فيما تقوم به الدولة من الخدمات، كالتعليم والصحة ورعاية الأمن والأمان، وتوفير الضروريات التي لا يستطيع المواطنون توفيرها لأنفسهم، فكل هذا من واجبات أولياء الأمور، ولما وضعوا أيديهم على المال العام الذي يملكه الجميع وجب عليهم أن يؤدوا منه الحق للجميع، وهذا الحق مقدم على ما سواه، فحق التعليم حق لجميع المواطنين ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً فيجب أن يكون له الأولوية في بيت مالهم، وأن يصرف على تعليمهم من بيت مالهم، وكذلك الصحة والعلاج فهو حق لجميع المواطنين أيضاً، ويجب أن يصرف عليهم من مالهم المشترك الذي هو بيت المال وموارد الدولة، وكذلك الأمن والأمان وتوفيره للجميع، حيث يأمن الإنسان على نفسه وأهله وماله، ويكون قادراً على التفكير وتدبير ما تحت يده والعيش الكريم، فتلك أمور مما تتعهد به الدولة وترعاه، ولا يمكن أن يوكل ذلك إلى الأسر أو إلى القبائل أو إلى المجتمعات، فهذه أمور لا يستطيعها إلا من كان ذا سلطان عام، ومن جعل الله يده نافذةً على أموال المجتمع، وهو الذي يستطيع توفير الأمن والأمان والتعليم والصحة، ولا تستطيع ذلك قبيلة ولا أسرة ولا عائلة، فلهذا كان من واجبات الدولة، ولا بد من العدل والمساواة فيه والإنصاف.
ومثل ذلك أيضاً: المساواة في أخذ الحقوق، فإن المجتمع حتى لو صلحت قيادته وكانت كـعمر بن عبد العزيز أو كـعمر بن الخطاب فإنه مع ذلك لا بد أن يبقى فيه كثير من المخالفات، فنحن نعلم أنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع كثير من الناس في مخالفات، وأقيمت عليهم حدود، وفي زمان الخلفاء الراشدين المهديين كذلك وقع بعض الناس في مخالفات وأقيمت عليه حدود، وهكذا في الأزمنة كلها، فلا بد أن يقع الظلم ولا بد أن تقع المشكلات بين الناس، لكن الشرع أقام الحلول ورتبها، وبين الله سبحانه وتعالى الحل عند حصول البغي والظلم فقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].
وهذا يقتضي أن حصول الظلم مقتضٍ لتدخل الدولة لترفع الظلم عن كل مظلوم، فذلك من أولى أولوياتها وواجباتها، وإذا حصل الظلم من أي طرف، فلا بد أن تكون الدولة متعهدة برفع الظلم وإزالته، وقد ذكر ابن جرير الطبري في كتابه التبصير في العقائد أن إجماع المسلمين منعقد على أن الخليفة إذا ظلم إنساناً فعلى المسلمين جميعاً أن يقوموا معه حتى ينال النصفة من ظالمه، هذا إذا ظلمه الخليفة، أي: الحاكم العام أو الرئيس الأعلى فكيف بمن دونه؟!
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نوه بحلف الفضول الذي شهده بمكة وقال: ( لو دعيت به في الإسلام لأجبت )؛ لأن هذا الحلف كان يقتضي رفع الظلم ونفيه مطلقاً، ومنع حصوله، ومعالجته إذا حصل بإزالته.
ومن هنا فالإقرار على الظلم حتى لو لم يكن من صنيع الدولة، إذا لم تكن الدولة ظالمة، ولكن حصل الظلم تحت رايتها وتحت سلطانها، فإنها يجب عليها رفعه وإزالته بالكلية، ولا يمكن أن يقع التأخير في ذلك.
ومن هنا فالفقهاء ذكروا أولويات القاضي عندما ينصب قاضياً، فإنه لا بد أن ينظر أولاً في السجناء، فينظر من هو مسجون بحق، ومن هو مسجون بغير حق، فمن كان مسجوناً بغير حق فسجنه ولو لحظة واحدة مفسدة في الأرض، وظلم كبير وإفساد فيها، ومن كان مسجوناً بحق فلا بد أن ينظر هل تغيرت الظروف؟ وهل تقتضي تخفيفاً؟ هل تقتضي عفواً؟ هل أكمل مأموريته التي حكم عليه بها؟ وهكذا، حتى يزال ذلك الظلم؛ لأنه تقييد لحرية، ومن أولى الأولويات على السلطان ضمان حريات البشر.
وكذلك بعد هذا مال اليتامى والغيب والنظر فيه، وكذلك النظر فيما يتعلق بالشأن العام، كدعاوي الحسبة وهي الدعاوي المتعلقة بحق الله جل جلاله، كما يتعلق بالمساجد وإقامة الشعائر الدينية للناس، فهذه الدعوى فيها دعوى حسبة؛ لأنه ليس لإنسان فيها حق الاختصاص، فهي ملك عام لله جل جلاله، ولذلك لا بد من إصلاحها ورعايتها، وهي أول ما ينظر فيه القاضي بعدما ذكر من شأن السجناء وشأن مال اليتامى والغيب، ثم بعد ذلك ينظر في الأمر العام كدعاوي الحسبة.
ثم بعد ذلك ينظر في الدعاوي الفردية، أي: الدعاوي المدنية كدعوى مال بين إنسان وآخر، أو دعوى صداق أو دين أو نحو ذلك، فهذه آخر ما ينظر فيه القاضي من هذه الحقوق المرتبة كما يبينها الفقهاء؛ لأن العدل يقتضي البداءة بالأهم ثم الأهم، إلى أن ينتهي الإنسان إلى المهم، ثم بعد ذلك تنحل المشكلات بالتدريج والتقسيط ويزول الأثر، ولا يمكن أن يقع العدل إلا إذا حصلت الإرادة له، فالعدل قناعة لا بد فيها من إرادة، ومن ليست لديه إرادة العدل وقصده لا يمكن أن يكون عادلاً أصلاً، بل كثير من الناس يكون لديه نزعة الظلم التي هي متأصلة في كثير من أبناء البشر، ولا يريد العدل، فلذلك لا يسعى إليه أصلاً كما قال الحكيم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
وبعد الإرادة لا بد كذلك من معرفة أقل ما يجزئ من أحكام الشرع؛ لأن الشرع هو العدل، ولا يمكن أن يعرف ما هو عدل إلا من تلقاء الشرع المنزل، فلا بد من أن يصرف الحاكم جزءاً من وقته لتعلم أحكام الشرع، ولا يمكن أن يصل إلى مقام يستغني فيه عن تعلم أحكام الشريعة.
إن الخلفاء الراشدين المهديين لم يمضِ وقت عليهم إلا وهم يتعلمون ويزدادون من العلم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل موته بأيام لما جاءته مسألة تعدد الجدات وقف على المنبر، فسأل المسلمين من لديه علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، وكذلك في حجته لما جاءه السؤال عن ميراث المرأة من دية زوجها بأن النكاح ينقضي بالموت والدية لا تملك إلا بعد حصول الموت، فهل الدية مال للميت حتى تورث منه زوجته، أو هي مال لأولياء الدم يعطونه بعد نهاية موت القتيل وصاحبهم؟ فسأل أبو بكر الناس بالحج: من لديه علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة؟ فأتاه الضحاك رضي الله عنه وشهد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فورثها ) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بذلك.
وكذلك عمر رضي الله عنه لما أرسل إلى أبي موسى الأشعري فأتى فطرق عليه الباب ثلاثاً فلم يجبه فرجع، فعاتبه على ذلك فبين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وأراد عمر التأكد من الأمر؛ لأنه خشي أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتِ بشاهدين على ذلك، فجاء إلى الأنصار في مجلسهم فسألهم هل فيهم من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ؟ فقالوا: لا نرسل معك إلا أصغرنا، فأرسلوا معه الصغار منهم، فشهدوا لدى عمر بذلك فقال: أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـعمر لم يكن يتهم أبا موسى على ذلك، ولكن أراد التحقق؛ لأنه طالب علم يريد أن يتعلم حتى لو كان الخليفة الأعلى للمسلمين.
وكذلك عثمان رضي الله عنه لما أصدر مرسوماً بمنع التمتع بالعمرة إلى الحج، وخالفه بذلك علي رضي الله عنه، وكان علي يعلف نواضحه، أي: يهيئ العلف لنواضحه نفض يديه من العلف، وقال: ( لبيك اللهم عمرة متمتعاً بها إلى الحج، ورفع صوته بالإهلال فقيل له: أتخالف أمر أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إذا خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه فبين له أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ).
وهكذا جميع الأمراء من بعدهم، وقد أخرج مسلم في الصحيح: (أن بشر بن مروان كان يخطب على المنبر فلما بلغ الدعاء في الخطبة -أي خطبة الجمعة- رفع يديه، فقام إليه عمارة بن رؤيبة الأسلمي ، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قبح الله هاتين اليُديتين القصيريتين، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ما زاد على هكذا، ورفع أصبعه، فوقعت يدا بشر )، فلم يستطع أن يجادل ولا أن ينكر شيئاً من ذلك، مع أن الأصل أن الخطبة لا يتكلم فيها: (فمن حرك الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له)، لكن بما أن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أمراً ولو كان مجرد مكروه، لكن إن فعله الخطيب أو الإمام على المنبر فيقتضي إشاعة البدعة، فجاء لإنكارها بغلظة؛ لأن البدعة المغلظة لا تنكر إلا إنكاراً مغلظاً؛ لأنه لا يزيلها إلا ذلك، ونظير هذا كل فساد منتشر فإن الأصل في النصيحة كلها أن تكون في الخفاء، وأن تكون بين الإنسان ومن ينصحه فقط، لكن إذا كان الفساد مستشرياً منتشراً، وأعلنه الإنسان على الملأ، فلا بد من الإنكار عليه على الملأ.
ولذلك ثبت في الموطأ والصحيح أن مروان لما كان أميراً على المدينة عجل خطبة العيد قبل الصلاة، ومن المعلوم في السنة أن خطبة الجمعة قبل الصلاة، لكن خطبة العيدين تكون بعد الصلاة، فيصلي الإمام أولاً ثم يقف أمام الناس ويصف الصف ويكبر الإمام سبع تكبيرات بتكبيرة الإحرام، ويقرأ الفاتحة وسورة ثم يركع، فإذا أكمل تلك الركعة قام بتكبيرة ثم كبر بعدها خمس تكبيرات، فتكون التكبيرات ست في الركعة الثانية، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، فإذا سلم وقف فخطب و مروان كان في خطبته يتكلم في أمور السياسة التي لا تعجب الناس؛ لأنه يطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يعجل الخطبة قبل الصلاة؛ لئلا ينصرف الناس عنه؛ لأن الناس كانوا يشهدون معه الصلاة، فإذا تكلم في الصحابة انصرفوا، فأراد أن يعجل الخطبة فقام إليه أبو هريرة و أبو سعيد الخدري فاكتنفاه حتى أنزلاه على المنبر وقالا: متى غيرتم السنة؟ فقال: قد ترك ما قد علمتما، فقالا: ما علمنا خير مما جهلنا، فما زالا به حتى نزل على المنبر وصلى، ثم بعد ذلك خطب.
وكذلك فإن أبا هريرة رضي الله عنه لما سمع أن مروان أذن في بيع الصكوك من طعام الجاري، والجاري قرية من قرى الحجاز كان معاوية رضي الله عنه يوزع طعامها على الناس بدل العطاء، فكانت الأرزاق تأتي إلى بيت المال من المدينة فيوزعها مروان فيكتب لفلان كذا، ولفلان كذا، ويعطى الناس ذلك في صكوك أي في أوراق، فتبايع الناس فيها قبل القبض، فغضب أبو هريرة رضي الله عنه و أبو سعيد الخدري فأتيا إلى مروان فقالا: متى أحللتم الربا؟ فبيع الطعام قبل قبضه من الربا، فقال: عائذاً بالله من ذلك، فأرسل مروان الحرس ينتزعون الأوراق من كل من ليس اسمه على الورقة، وترد إلى صاحبها الأول؛ لأنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه.
وهكذا في تغييرهم لأمور الفساد وإنكارهم على أهل الظلم في ظلمهم العام المستشري، وكل ذلك من تحقيق العدل والإنصاف.
ولا شك أن العدل يبدأ من الأسرة، فالإنسان إذا كان عادلاً مع أفراد أسرته فإن ذلك مقتضٍ لبناء العدل، ولتأكيد هذا البناء، فيبدأ أولاً من الأسر، فإذا كان كل واحد منا يعامل أسرته بالعدل فلا يريد أن يكون من المطففين: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:2-3]، بل يؤدي الحق الذي عليه ويأخذ حقه بإنصافٍ، فإنه بذلك يحقق لبنة من بناء العدل، وإذا حصل ذلك في الأسر وفي الجيران وفي الشأن العام، ووصل إلى الحكام وإلى جميع أركان الدولة، فإن العدل سيعم وينتشر، وإذا عم وانتشر فإن كثيراً من الفساد والأمراض والغلاء، وغير ذلك من الأمور تزول بالكلية، ألا ترون أنه في أيام عمر بن عبد العزيز كان الذئب لا يعدو على الغنم؛ لأن العدل قد انتشر فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ونال الناس الأرزاق واستغنوا، فاستغنى الذئب عن أن يعتدي على الغنم، وحصل هذا أيضاً في أيام المهدي العباسي حتى قال فيه أحد الشعراء:
تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وذيب أطلس
لا ذي تخاف ولا بهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس
ولا ينافي هذا أنه في بعض الأحيان قد يقع بعض المشكلات التي هي امتحان وابتلاء أو رفع للدرجات، فإن الناس في أيام عمر رضي الله عنه نالوا العدل جميعاً وضرب الناس بعطن، لكن لما كثر العطاء وأصبح جميع أفراد المسلمين موظفين في الدولة يتقاضون راتباً من بيت المال، ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالرمادة وهي قحط شديد، فجاء أهل البوادي إلى عمر ، واجتمعوا حول المدينة، فكان ذلك مدعاة لتغيير السياسة ولتنظيم أمور الرعية من جديد، وذلك ليس من أجل انتشار الظلم ولا من أجل انتشار الجور، بل الناس يعيشون في أمن وأمان وطمأنينة، ولكن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بهذا رفعاً للدرجات، وأيضاً تهيئة لأنواع أخرى من أساليب الحكم التي نحن محتاجون إليها، فلو لم يحصل الخلاف بين الصحابة ولو لم تحصل المعارك التي قامت بينهم لما عرفنا نحن كيف نحقن الدماء بين المسلمين، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: (حكمة الله سبحانه وتعالى في يوم الجمل ويوم صفين وغيرهما من أيام الحروب بين الصحابة أن يعرف المسلمون كيف يتصرفون إذا حصلت المعارك فيما بينهم والخلافات)، فلو لم يحصل هذا بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما عرفنا الحكم أصلاً؛ لأن هذا غير مبوب عليه في الشرع، بل الشرع سد الطريق دون قتل المسلمين نهائياً وقال الله في ذلك: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ[النساء:92].
فعرفنا نحن أحكام الفئة الباغية، وعرفنا أحكام اعتداء بعض المسلمين على بعض؛ لأن علياً رضي الله عنه يوم الجمل نادى مناديه: ألا يتبع منهزم، وألا يدفف على جريح، وألا تسبى سبية، وألا تغنم غنيمة. أربعة أمور من الأحكام المهمة بين المسلمين:
أولاً: ألا يتبع منهزم، فكل من انهزم في معركة بين المسلمين فلا يتبع؛ لأن المقصود ليس إزهاق دمه، بل المقصود رده عن بدعته وفساده، فإذا هرب فذلك دليل على أنه قد انقضى ما كنا نطلب منه.
ثانياً: وألا يدفف على جريح، فمن جرح لا يجهز عليه ولا يقتل؛ لأن قتله اعتداء، وهو الآن واضع للسلاح وغير مقاتل، وإنما استبحنا قتاله لأنه قاتلنا.
ثالثاً: ألا تسبى سبية، فلا يمكن أن تسبى امرأة مسلمة، فالسبي إنما كان بسبب الكفر، أما بين المسلمين فلا يحل أبداً، ولا يمكن أن يستباح في وجه من الوجوه.
رابعاً: ألا تغنم غنيمة، فمنع رضي الله عنه أن يؤخذ أي شيء من مال من قتل، أو من هزم وهرب عن ماله، فكلف عدداً من أصحابه أن يجمعوا ما في المعسكر من الأموال فجمعوه، فكل مال جاء من يطلبه وأتى بشاهدين على أنه لمورثه سلمه إياه، وما عرف علي رضي الله عنه مستحقه وصاحبه حفظه له حتى جاء فسلمه له، كما في سيف طلحة ودرعه رضي الله عنهم، فقد سلمهما إلى أولاده.
فهذه يعرفها علي رضي الله عنه فلا يحتاج إلى إثبات فيها؛ لأن علياً يشهد بها، وعلم القاضي الذي حصل له في مجلس حكمه يجوز له الحكم به إجماعاً، وعلمه الذي سبق مجلس حكمه محل خلاف هل يجوز له الحكم به أم لا؟ فعند الحنفية يجوز له الحكم به، وعند الجمهور لا يجوز له الحكم بعلمه الذي حصل له قبل مجلس حكمه.
وهذا العدل يمكن أن نحققه في أنفسنا في القول مثلاً، فالإنسان يمكن أن ينتقد على إنسان، ويمكن أن يخالفه في الرأي، لكن إذا كانت المخالفة والانتقاد تقتضي إنكار كل ما لديه من الحق، فهذا ليس عدلاً أصلاً، بل لا بد أن يقر الإنسان مما لدى خصمه من الحق، وأن يقر له بما هو عليه من الصواب ثم بعد ذلك يذكر ما يخالفه فيه، وهذا مع الكافر فكيف بالمسلم؟ فالكافر يقر له بما معه من الصواب، كما قال الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46]، فيبدأ الإنسان أولاً بالمتفق عليه مع خصمه حتى لو كان كافراً، ثم بعد ذلك يذكر ما يميزه عن خصمه.
وهكذا فالذي إذا خاصم أي: كذب، وقال كلاماً لا يليق، فهذا منافق كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ).
فلا بد أن نعدل في أقوالنا، وأن نعلم أن النسبية لا بد من الأخذ بها، فلا يمكن أن يوجد إنسان بيننا الآن معصوم لا يخطئ أبداً، بل الجميع خطاءون ( وخير الخطائين التوابون )، وكل يؤخذ من قوله ويرد، وكل لا بد أن يقع في بعض الأخطاء ولا بد أن تخفى عليه بعض الأمور، ولذلك نعامله على هذا الأساس، فلا غلو ولا إفراط ولا تفريط.
فالغلو في الأشخاص ودعوى العصمة لهم وأخذ كل ما قالوه وكل ما فعلوه، والقناعة بكل ما لديهم بالكلية يعد من الغلو المذموم، والبشر لا يتعدى بهم طورهم، فلا معصوم في هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فقد خالف الصحابة أبا بكر في مسائل وخالفوا عمر في مسائل وخالفوا عثمان في مسائل، وخالفوا علياً في مسائل، حتى قال عبيدة السلماني -وهو من كبار التابعين- لـعلي رضي الله عنه في قضية بيع أمهات الأولاد قال: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، فابتسم علي رضي الله عنه وتركه على ذلك.
فلا بد من النظرية النسبية ومن تطبيقها على الناس جميعاً، فذلك من تمام العدل، فإذا كان الإنسان يعلم أن خصمه يخطئ ويصيب، ويقر له بصوابه ويستنكر خطأه فقط، فذلك من العدل.
ومن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن هذه الدرجة من العدل قليلة في النساء قال: ( يا معشر النساء! اتقين الله، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قيل: ولم؟ قال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط )، فهذا ينتشر في النساء بسبب اتباعهن للعواطف، فإذا أحسنت إلى أحداهن دهراً طويلاً لم ترد لها طلباً ولم تخالف لها أمراً، ثم رأت منك أمراً واحداً بعد ذلك قالت: (ما رأيت منك خيراً قط).
وكثيراً ما يحصل هذا أيضاً في الرجال في آخر الزمان.
أما العكس في دعوى أن الإنسان كامل والتعصب له وأخذ كل رأيه، وجعله سبباً للموالاة والمعاداة، كل ذلك منافٍ للعدل والإنصاف، فنحن نعلم أن أئمة الدين وعلماءنا ومشايخنا جميعاً هم من الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى حين ائتمنهم على الوحي وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، لكن لا يقتضي ذلك أنهم معصومون ولا أنهم لا يخطئون، بل هم يخطئون ويصيبون ويقرون بأخطائهم، ويردون على أنفسهم، فهذا مالك رحمه الله تعالى وهو من هو في جلالة علمه وقدره، رجع عن مائة وثمان وتسعين مسألة بين المدونة والعتبية، وأمر بمحو ثمان مسائل وهي المشهورة بالممحوات، ويرد عليه ابن القاسم في مسائل كثيرة ويخالفه فيها، و ابن القاسم هو الذي صحب مالكاً عشرين سنة، ويرد على ابن القاسم عدد من الأئمة بعده ويردون على مالك ، بل إن ابن العربي رحمه الله في القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس ، يذكر مالك فيه حديثا ً فيذكر أنه لم يجد العمل عليه أو نحو ذلك فيقول ابن العربي قلت: ثم ماذا؟ معناه أن الحديث صح فلا عبرة لنا بما سوى ذلك.
وكذلك فإن ابن رشد في البيان والتحصيل يأتي بالمتن -وهو مسألة من مسائل العتبية- عن مالك أو عن ابن القاسم أو غيرهما من أئمة المذهب، فيقول: هذه مسألة مظلمة وهي مسألة سوء، فينصرف عنها؛ لأنها مخالفة للدليل لديه أو أنها مخالفة للعدل، ولا يقتضي هذا طعناً في الأئمة ولا تجريحاً لهم، لكن يقتضي أنه يؤخذ من عملهم ويرد، وأن كل إنسان كذلك، وهذا ليس فيه طعن ولا نقص، بل قديماً قال الحكماء:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال الآخر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب
فكل يؤخذ من قوله ويرد، والمبالغة في الكلام منافية للعدل، فالإنسان الذي إذا وافق إنساناً في السياسة أو في المذهب أو في الطائفة أو في غير ذلك جعله معصوماً وجعل قوله مرضياً، ولا يعدل عنه بوجه من الوجوه، لا يمكن أن يكون عادلاً أبداً؛ لأنه سيجد كثيراً من الأخطاء في كلام مخالفه، ونحن نجد الشافعي رحمه الله يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، (رأيي صواب) أي عندي، ولو لم يكن صواباً عندي لما جاز لي الأخذ به، (يحتمل الخطأ) لأنه ليس منزلاً من عند الله، لم يأت به جبريل ، (رأي غيري خطأ)؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع صوابان في مسألة واحدة، ولو كان صواباً لأخذت به، (يحتمل الصواب) لأنه أيضاً ليس منزلاً، وإنما هو اجتهاد بشري يمكن أن يكون صواباً.
وعن البويطي رحمه الله قال: (لما ألف الشافعي كتابه ناولنيه فقال: خذ هذا الكتاب على خطأٍ كثير فيه، قلت: يا أبا عبد الله ! أصلحه لنا؟ قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً[النساء:82]، أبى الله العصمة إلا لكتابه).
وطالب العلم إذا كان لا يأخذ عن شيخٍ بمجرد أنه ينقم عليه مسألة أو يخالفه في مسألة، فلا يمكن أن يكون عادلاً أبداً، وهذا منافٍ للعدل، وكثيراً ما أخذ أئمتنا عن كثير من الذين يخالفونهم في مسائل كثيرة، فـالبخاري في الصحيح أتانا بأحاديث عبيد الله بن موسى وقد كان شيعياً، وخرج لـعمران بن حطان وكان خارجياً، وخرج لـهشام الدستوائي وقد رمي بالقدر، أي: قد كان ينسب إلى أنه قدري، ومع ذلك خرج لهم البخاري في الصحيح مع أن البخاري إمام أهل السنة ومن أشد الناس في مجال العقائد، لكن علم أن الذين يخالفونه ولو كان لديهم بعض الابتداع ولو كان لديهم خطأ، إذا كانوا يخافون الله ولا يتهمون بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتؤخذ أحاديثهم، التي يعرف أنها صدق وحق.
وكذلك عدد من الأئمة أخذوا عمن خالفهم، بل إن أبا حنيفة روى عن مالك ثلاثة عشر حديثاً، مع أنه يخالفه في مسائل كثيرة، و الشافعي روى أكثر علمه عن مالك مع أنه خالفه في مسائل كثيرة، و أحمد بن حنبل روى كثيراً عن الشافعي ، بل قال لصاحبه إسحاق بن راهويه لما أتيا إلى مكة وفيها سفيان بن عيينة وهو أعلى الناس إسناداً إذ ذاك، وهو يحدث عن عدد كبير من أئمة التابعين، فذهب إليه إسحاق بن راهويه ليروي الحديث عن سفيان مع أن حديث سفيان قد نقله الناس إلى الآثار وروي عنه، لكن وجده بنزول، فجاء فوجد سفيان يحدث، وقد عاش سفيان ثلاثاً وتسعين سنة، وكان في كل سنة يحج، فإذا رمى الجمرة سأل الله أن يعيده من قابل، فلما أكمل ثلاثاً وتسعين سنة، قال استحييت من ربي فلم يسأل الله فمات من ذلك العام، فجلس إسحاق بن راهويه إلى سفيان وذهب أحمد يبحث عن إسحاق فقال له: إن فاتك حديث سفيان بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا القرشي لم تجده - ويقصد بالقرشي الشافعي -، فجلس إليه وسمع منه وسمع أدلته ومجادلته حتى إنه حصل بينه وبين إسحاق مجادلة فيما يتعلق بإيجار بيوت مكة، وهل هي فتحت عنوة أو فتحت صلحاً؟ وناقشه الشافعي في ذلك حتى أقنعه.
فإذاً لا بد أن يكون طلبة العلم يحققون العدالة فيمن يأخذون عنه وفيمن يخالفونه، وفي الآراء التي يقتنعون بها، فإذا كان طالب العلم إذا اقتنع برجحان قول من أقوال في مسألة، أو قول من قولين في مسألة جعل ذلك مكاناً لأن يعادي ويوالي على أساسه، فهذا منافٍ للعدل والإنصاف.
وكذلك الدعاة الذين يسعون لقيادة الناس إلى ربهم وإدخالهم للجنة وهدايتهم إلى سواء الطريق هم أولى الناس بالعدالة والإنصاف والعدل، فلا بد أن ينصفوا من أنفسهم وأن يحترموا مخالفهم وأن يعلموا أن آراءهم التي لم ينزل بها الوحي ليست مقدسة قداسة الشرع والوحي المنزل، ولذلك فإن آراء كثير من الذين ينتسبون للإسلام ومن الذين هم إسلاميون قلباً وقالباً هي آراء اجتهادية جاءت من عند أنفسهم وليست مقدسة قداسة الشرع، بل فيها الخطأ وفيها الصواب، ويؤخذ منها ويرد، ولا بد أن يقروا بذلك وأن يعلموا أن آراءهم الاجتهادية قد يكون رأي غيرهم ممن ليس إسلامياً أصلاً، أي: ممن ليست مرجعيته إسلامية أصوب من آرائهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم قال في أمر الدنيا لما أمر بترك التأبير قال: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم )، فكيف بمن دونه من الناس؟ هذا رسول الله المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ولا بد من العدل في المجتمع كله، فنحن نعلم أن مجتمعنا هذا لم يحض من قبل في عصور طويلة بدولة مركزية، وإنما كانت فيه إمارات قبلية هي التي تسير شئونه وترعى أموره ولم يكن لها بيت مال عام، ودام الزمان على ذلك حقبة طويلة منذ سقطت دولة المرابطين إلى أن جاء المستعمر، فلم تقم في بلادنا دولة مركزية تحقق هذا العدل المنشود، فتربى هذا الشعب على الفوضى، وأول دولة عرفها شعبنا هي دولة المستعمر الكافر، فظنوا أن جميع الدول كذلك، وإلى الآن ما زالت عقلية الناس في التعامل مع الدولة أنها مثل النصارى، فيرون أن مالها حلال وأن من استطاع أن يأخذ منها شيئاً بأي وجه من الوجوه فله ذلك، ويرون أن مصالحها ليس عليهم رعايتها، وهذا لا شك منافٍ للعدل وهو من الفوضى ومن الأمور التي هي غير مقبولة بوجه من الوجوه، بل الغريب في الأمر أن كثيراً من العقلاء والرشداء الذين يقدمونهم ذويهم ويتصدرون المجالس يأتون مثلاً عن قناعة في مجال السياسة فيدعمون شخصاً معيناً، فإذا وعدهم موعداً أو أعطاهم وقتاً فلم يقابلهم فيه لانشغاله، أو طلبوا مبالغ فلم يجدوها انصرفوا 100% إلى الجهة الأخرى، وهذا منافٍ للعدل والإنصاف؛ لأنهم اقتنعوا بقناعة وجاءوا يريدون تحقيق قناعتهم، فكل هذا من آثار البداوة ومن آثار انعدام الدولة.
والغريب في الأمر أن كثيراً من الناس يظنون أن مال الدولة غير معصوم، وأن كل من ولي منه شيئاً فله الحق أن ينهب منه ما شاء وأن يتصرف فيه حيث شاء، وقد سمعت من رئيس الدولة الآن المنتخب كلمة عجيبة يقول: إنه ضرب مثلاً لمن خرج على هذا الشارع، فقطع خمسة وعشرين كيلو وهو رئيس أو وزير، فوجد قطيعاً من الأغنام لدى مواطن فسرق منه شاة وذبحها، فسيتحدث الناس من شرق البلاد إلى غربها أن فلاناً مع الأسف سارق ليس له ذمة، لكن إذا قطع خمسة وعشرين كيلو من مكانه إلى نواكشوط ودخل ونهب مليارات من ميزانية الدولة فلا يعتبره أحد سارقاً ولا يطعن فيه بوجه من الوجوه.
هذا المثال من رئيس الدولة وهو الذي أتى به، وهو واقعي لكن سببه أن الناس لم يقتنعوا بعد بمصداقية الدولة، كثير من الناس يظنون أنهم يتعاملون مع النصارى، وهذا منافٍ للواقع وللشرع، فمال المسلمين معصوم ويجب الحفاظ عليه، ويلزم أن ندرك جميعاً أن المال المشترك هو بمثابة مال الأيتام.
ومن مجالات العدل التي لا بد من التنبيه إليها: أن كثيراً من الناس ينظر إلى المرافق العمومية على أنها مجرد انتفاع آني، فينتفع هو بها ولا يبالي بمن سواه، فتجدون الناس يرمون الأوساخ في الطريق مع إن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجدون الناس الذين يميطون الأذى عن بيوتهم وعن مكاتبهم يرون الأوساخ في المسجد، ويأتون بها في أحذيتهم وملابسهم ويتركونها، فهذا المسجد أليس له احترام بيتك يا أخي؟ لماذا تنظف بيتك وتأتي بالأوساخ معك إلى المسجد؟
كذلك ما يحصل في كل الأملاك العمومية، فنجد أن الإنسان يأخذ منها حاجته ولا يبالي؛ لأنه لا يعول على الأجيال الآتية، ولا يرى في ذلك مصلحة مشتركة بين الجميع، مع أن اللازم أن نحرص جميعاً على أن نترك لمن وراءنا ما يحمدونا به:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
ونحن نعلم آثار المسلمين في الجامع الأموي وفي بيت المقدس وفي جامع قرطبة مثلاً، فما زالت مفخرة تاريخية إلى الآن، الآثار التي أنتجها المهندسون المسلمون في التاريخ ما زالت منقبةً ومفخرة للمسلمين إلى الآن ويمتدح بها العصور، ويتغنى الناس بأمجاد العصور الماضية، فمجرد موقف اتخذه هارون الرشيد فإنه يحدث الآن عزة في نفوسنا ونحن جالسون هنا، أو موقف اتخذه يعقوب بن المنصور لما كتب إلى ملك فرنسا كتابه، ما زالت هذه المواقف تشرفنا ونعتز بها في مجالسنا الآن رغم تطاول الزمان وبعده، فكل ذلك يقتضي أن من العدل حصول المصداقية للدول، وأن يسعى كل إنسانٍ منا لأن يترك وراءه ذكراً حسناً وأثراً طيباً، وأن يحافظ على ما تحت يده وما ولي، وأن يكون مشاركاً في الإصلاح.
فالإصلاح ليس من الرئيس وحده ولا من الوزير ولا من القائد أياً كان، فالإصلاح لا بد أن يكون برنامجاً مشتركاً يشترك فيه جميع الناس ويسعون له، ولذلك ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الاشتراك جميعاً في تحمل المسئولية، حتى كان أصحابه إذا نام أحدهم فكر في الأمر العام وهو نائم، فهذا عبد الله بن زيد بن عبد ربه ينام وهو يفكر كيف يجمع الناس على الصلاة، فالمدينة انتشرت وكثر سكانها في العهد النبوي، و بلال لم يؤذن بعد ولا يعرف الأذان فكيف يجتمع الناس، تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر قد ابتدأت الصلاة، وتعرفون أن من فاتته تكبيرة الإحرام فاته خير كثير وأجر عظيم، ففكر هو كيف يجمع الناس على الصلاة؟ ( فنام فمر عليه رجل في المنام وهو يحمل ناقوساً فساومه فيه، فقال: وما حاجتك إليه؟ قال: أريد أن آتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع به الناس على الصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ قال: وددت، فعلمه الأذان فألقاه عليه، فجاء هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر ما رأى فقال: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً )، فأذن به بلال فجاء عدد من الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبروا أنهم قد رأوا الأذان في المنام، وكان ذلك هو بداية مشروعية الأذان.
ومن هنا يعلم أن التفكير في الأمر العام والمصالح العامة للناس ينبغي أن يكون تفكيراً عاماً لدى جميع المواطنين، وأن يحصل لدى كل إنسان رغبة في أن يترك أثراً صالحاً وأن يترك بصمته، فمدة حياته محصورة يسيرة، وسيخرج من هذه الدنيا وينقل على الرقاب إلى الدار الآخرة، فإذا ترك أثراً حسناً وأبقى مجداً بعده، فإنه يثاب عليه في الآخرة ويبقي له ذكراً ودعاء في الحياة الدنيا.
وإدراك هذا هو من الوعي الذي لا بد من التنبيه عليه.
ومن الأمور التي لا بد منها فيما يتعلق بالعدل: ما يتعلق بغلاء الأسعار، فهو من مجالات العدل، فالتجار الذين يستوردون البضائع ويأتون بها لمصالح الناس، قد أحل الله لهم الربح، لكن إذا كانوا يتعسفون فيأخذون من الناس أكثر من الربح المعقول، ويغالون في الربح، فإن ذلك تجاوز وظلم وليس من العدل، بل العدل يقتضي أن يربح فعلاً، وأن يعوضوا كل خسائرهم، وأن يترك لهم هامشاً للربح، لكن المضاعفة أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن يليق هذا بالمجتمع، وينبغي أن يربأ تجارنا بأنفسهم عنه.
لكن في المقابل لا بد أن يقتنع المواطن والمشتري والمستهلك أن الإنسان الذي تعب واستورد يستحق الربح في مقابل تعبه، ولذلك بحث أهل العلم ما يتعلق بترخيص البضائع وزيادة في سعرها عما هو موجود في السوق، أو تخفيض سعرها عما هو موجود في السوق، فذكروا أن عمر رضي الله عنه قال: (بع كما يبيع الناس، أو فارتحل عن سوقنا)، وذلك حين رأى رجلاً يبيع بأخفض مما هو في السوق، و ابن رشد رحمه الله ذكر أن ذلك مختص بذلك الشخص إذا كان الشيء يسيراً يبيعه لإنسان بأقل من السعر المعروف فيكسر السعر، فيتضرر به الذين جلبوا، ولا ينتفع الناس بما باعه هو لأنه شيء يسير جداً.
يأتي أحدكم الآن وهو يلتمس الأجر، فيأتي ببضاعة نالها بدون ثمن ويذهب بها إلى السوق، فيبيعها بمرأىً ومسمع من المشترين والبائعين بأقل من الثمن المعروف في السوق بنصفه مثلاً، فيظن الناس أن البضاعة قد انخفض سعرها فيضر بالباعة ويدخل عليهم الضرر ولا ينفع المشترين شيئاً؛ لأنه باع بضاعة واحدة، فهذا النوع غير معقول، ولذلك ذكر هذا ابن رشد في البيان والتحصيل، وقد نظمه الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه فقال:
بحبس ما اشتريته في البلد للربح لاحتكار في البيع احدد
وأنت منه مطلقاً في توسعة ذي سعة ومعه في غير السعة
لا فرق في ذلك بين القوت وغيره في سائر الوقوت
وزارع وجالب من أرضه وجالب لقوته وعرضه
باعوا أو أمسكوا كما قد شاءوا وربنا يفعل ما يشاء
أما الذي احتيج إلى ذات يده باع بسعر وقته في بلده
وقل من أراد ترخيصاً بع كما يبيع الناس أو فارتفع
كما رواه مالك عن عمر بذلك قال بعض من تأخر
يمنع ترخيص القليل إن أضر بباعة الأسواق رفعاً للضرر
وصاحب البيان سام بالغلط من لام من سامح في البيع وحط
وقال بل مشكور أو مأجور وإنما يزجر من يجور
لكن الواقع أن العدل يقتضي مراعاة حق التاجر ومراعاة حق المستهلك معاً، فلا يمكن أن ننظر فقط إلى التعاطف مع المستهلكين لأننا مستهلكون لا ننتج، ولا يمكن أن نتعاطف فقط مع التاجر؛ لأنه استورد ما نحن بحاجة إليه، بل لا بد أن نكون من أهل العدل والإنصاف، فيترك للتاجر مجاله للربح، ولكن مع ذلك يحض التاجر على ألا يتجاوز في الربح نطاق المعقول، فالتجاوز في ذلك ليس من العدل ولا من الإنصاف.
نكتفي بما ذكرناه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر