بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا معشر الإخوان! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأفتتح كلامي هذا إليكم بالشكر لنادي مصعب بن عمير في إتاحته هذه الفرصة للالتقاء بكم والتحدث إليكم، وأشكر للأخ المقدم أيضاً تقديمه وإشرافه، إلا أنه وجزاه الله خيراً قد أسرف في تقديمه فنستغفر الله لنا وله.
هذا الموضوع الذي سنتكلم عنه اليوم وهو العلمانية موضوع كبير جداً ومتشعب، وألف فيه الكثير من الرسائل العلمية، واندرج فيه الكثير من الأبحاث في خلال القرون الماضية، وقد كان مثار جدل واسع في القرون السابقة، ولذلك سيقتصر حديثنا فيه حول محاور معدودة، والرجاء أن يتم بحث بعض الموضوعات الأخرى المتصلة به في لقاءات بكم إن شاء الله تعالى.
فالمحاور التي نعرض لها هي أولاً: تعريف العلمانية، ونبذة مختصرة عن تاريخها.
والمحور الثاني: هو أسباب ظهور العلمانية.
والمحور الثالث: هو مظاهر العلمانية.
والمحور الرابع: هو آثار العلمانية، فلنبدأ أولاً بالمحور الأول: الذي هو محور التعريف:
هذه الكلمة (العلمانية) كلمة خارجة عن القياس اللغوي؛ لأن هذه المادة العين واللام والميم والنون، لا توجد هكذا في لسان العرب، والذي يبدو أن المتأخرين قد أفرطوا في النسبة فصاروا إذا نسبوا إلى الثلاثي، استحقروه فزادوه حرفاً من قبل أنفسهم، فلذلك نسمع كلمة روحاني وعقلاني وعلماني، والأصل في النسبة أن يقال علمي وروحي وعقلي.. إلى آخره؛ لأن النسبة إنما يؤتى لها بياء مشددة كياء الكرسي، ولا تحتاج إلى حرف زائد على تلك الياء.
وهذه النسبة إذا كانت للعلم فإنها من باب التجوز البعيد، وذلك أنها تطلق الآن على التيار اللاديني، فالناس قسمان: تيار ديني على مختلف مشاربه، فالأديان منها سماوي منزل من عند الله تعالى، ومنها مبتكر وضعي وضعه البشر لأنفسهم، وما يقابل الأديان هو التيار العلماني، الذي يطلق عليه علماني، بمعنى: لا ديني.
وهذا التيار موجود من عهد نبينا نوح عليه السلام، فلذلك إذا تكلمنا عن هذا التيار لا نتكلم عنه على أنه فرقة معينة، أو على أنه نظرية محدثة، بل نتكلم عن تيار مواز للتيار الديني ومقابل له، وبهذا لا يحتاج تعريفه إلى كثير من البحث؛ لأن الشخص إذا عرف الضد تبين له ضده، وبضدها تتميز الأشياء.
فالناس قد انحرفوا عن المنهج الذي ارتضاه لهم خالقهم، والذي جاء به الرسل من عند الله تعالى، وكان أول ما وصل إلينا من أخبار انحرافهم ما كان في أيام نوح على نبينا وعليه السلام، عندما عبد الناس أصناماً اتخذوها من دون الله تعالى، فأرسل الله نبينا نوحاً عليه السلام لمكافحة هذه الظاهرة السيئة، التي دبت في صفوف المجتمع البشري.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه في كثير من آياته قصة نذارة نوح لأصحابه، وما لبث فيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى صابراً محتسبا، ومختلف الوسائل والأساليب التي اتخذها في دعوته إلى الله تعالى، فكان هؤلاء الذين دعاهم نوح ولم يستجيبوا له من هذا التيار، أو هم نواة هذا التيار اللاديني، وتطور هذا التيار إلى أن أخذ مجرىً جديداً في عهد نبينا إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس في أيامه لا يؤمنون إلا بما يشاهدونه بالماديات، ولذلك عبدوا الأصنام والحجارة التي اتخذوها من دون الله، فجاء إبراهيم ليغير هذا المنحى الذي سلكوه وليبرهن لهم من خلال عقولهم أن هذا المنهج الذي سلكوه غير صواب.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه مجادلة إبراهيم لأصحابه، وأوضح تفصيل لذلك هو ما ورد في سورة الأنعام حيث يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي[الأنعام:74-80]، فهذه المحاجة التي جادل بها إبراهيم قومه أكبر دليل على تعقل إبراهيم لهذه الجدلية الواقعة.
فقومه لا يقتنعون إلا بما يرونه فقال: إذا كنتم لا تؤمنون إلا بما ترونه وبما هو محسوس، فلماذا لا تعبدون ما هو خير من هذه الحجارة التي نحتموها من قبل أنفسكم، فلننظر إلى هذا العالم الذي نحن فيه إلى هذه المجموعة التي نعيش فيها فلنعبد ما هو أنفع وأكبر وأشهر من هذه الحجارة، فلنبدأ أولاً بهذا الكوكب، فلما غاب الكوكب، قالوا: لا، قال: لا، هذا قد غاب، ونحن لا نؤمن إذا إلا بما نراه، فقالوا: إنه سيطلع من الغد، فقال: إذاً آمنتم بالغيب ! آمنتم بما لا ترونه !.
ثم أقام عليهم الحجة مرة أخرى بالقمر، ثم أقام عليهم الحجة ثالثة بالشمس، وهكذا اضمحلت نظرية هؤلاء القوم الذين لم يكونوا يؤمنون إلا بما يرونه، فتلك حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه.
استمر هذا التيار في كل عصر من العصور يأخذ منحاً جديداً، ويسلك مسلكاً مغايراً للذي كان عليه من قبل، إلى أن اشتهر وتبلور في عصرنا الحديث، وبداية ظهوره كمذهب مستقل كانت في القرون الوسطى في أوروبا، وذلك أن أسبابه قد تظافرت وتوافرت في تلك البيئة الفاسدة فبدأ هذا التيار كمذهب مستقل.
وتعريفاته تختلف باختلاف الجهة التي يركز عليها الباحث في التعريف، فمثلاً: نجد دائرة المعارف البريطانية تعرف العلمانية بأنها: حركة اجتماعية تهدف إلى صرف نظر الناس واهتمامهم عن الآخرة، وصرف اهتمامهم إلى الدنيا التي يعيشون فيها فقط، هذا هو تعريف دائرة المعارف البريطانية العلمانية.
ونجد صاحب قاموس العالم الجديد يعرف العلمانية بأنها: التيار المضاد للدين الذي يعادي كل ما يمت للإيمان والعبادة بصلة، وهذا التعريف الأخير أشمل من الأول؛ لأن التعريف الأول إنما هو تعريف للمادية بصفة عامة، وهذا التعريف الأخير يتركز على اهتمامات وأهداف هذا التيار العلماني.
في هذه العصور عندما تبلور هذا التيار اشتق له هذا الاسم العلمانية من العلم، وذلك أن الصراع الحاد الذي حصل في أوروبا بين رجال الدين وبين رجال العلم الباحثين في العلوم الطبيعية قد وصل في تطوره إلى عداء شديد، فكان رجال الدين والمتشبثون بهم من رجال السلطة يرون أن ما ليس في الكتب المقدسة غير صحيح وغير علمي، وكان رجال العلم والباحثون فيه يرون أن ما لا يستقيم للتجربة لا يعد علماً ولا ينسب إلى العلم، فحصل هذا الشقاق واتسعت هذه الشقة بين هذين التيارين المتعارضين، فكان المتشبثون بالعلم يرون أن ما لا يصلح لتجربة لا يسمى علماً ولا يستحق ذلك، وأنتم تعلمون أن وسائل العلم ذات الأهمية ثلاثة أقسام: وحي وعقل وتجربة:
فالوحي هو المنزل من عند الله تعالى، وهو أهم هذه الوسائل للعلم؛ لأنه يكشف لنا عما نستطيع الوصول إليه بعقولنا وتجاربنا، ويكشف لنا عما لا نستطيع الوصول إليه كذلك.
فإذاً الوحي هو أهم وسائل العلم.
الدرجة الثانية: العقل، والعقل هو هذا النور الذي متع الله به البشر واختارهم به من بين خلقه، وبه تدرك النفوس الأمور الضرورية والنظرية بواسطة اطلاعها على الضرورية.
هذا العقل أيضاً وسيلة علم، إلا أنه لا بد أن يكون منطلقاً من ثوابت وأسس يبني عليها المقدمات لتنتج نتائج بتلك النتائج يتوصل إلى العلم المطلوب، فالأمور التي لا يجد لها البشر مبادئاً لا يمكن للعقل أن يتدخل فيها.
فمثلاً: إذا نظرنا إلى صفة القدم أو ما نسميه الأزل هذا الآن لا دخل للعقل فيه؛ لأن العقل بدأ من ولادة الإنسان والقدم والأزل سابق على ولادة الإنسان، والعقل لا يبدأ إلا من حيث بدأ صنفه وجنسه الذين هم البشر، فمثلاً: هو جارحة من جوارح الإنسان، العين الآن لا تدرك إلا المبصرات، والسمع لا يدرك إلا المسموعات، والأنف لا يدرك إلا المشمومات، فكذلك العقل جارحة من هذه الجوارح، له ميدانه المتخصص ولا يدرك إلا ما كان داخل هذا الإطار.
الوسيلة الثالثة من وسائل العلم: هي التجربة، والتجربة هي التكرار حتى يستقيم الأمر على هيئة واحدة، وأصل ذلك أن الشخص إذا سولت له نفسه معلومة معينة، فإن هذه المعلومة قبل أن يجربها وقبل أن يدرك صحتها تسمى فرضاً علمياً، الفرض العلمي معناه الافتراض المتعلق بظاهرة عليمة.
فإذا جربها تجريباً أولياً وكانت نسبة النجاح فيها فوق20% فإنها تسمى نظرية علمية، والنظرية معناه القابلة للمناقشة، فإذا زادت تجربتها في النجاح عن 50% ، فإن الناس اصطلحوا على تسميتها بالحقيقة العلمية.
والحقيقة العلمية معناها ما وصل إلى حد اليقين أو الظن الغالب، والحقيقة أن الفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية أمر صعب لا يتصل إليه أكثر الناس بعقولهم ولا بتجاربهم، ذلك أن الشخص إذا أراد أن يحكم على أمر ما بأنه خرج من طور النظرية إلى طور الحقيقة، فإن هذا يحتاج إلى كثير من البراهين والتأني بالحكم، فلذلك كانت التجربة أدنى وسائل العلم، ومع هذا التدني وأن للعلم وسائل أقوى من التجربة، فإن المدعين للعلم والمتبجحين به من علماء الغرب رأوا أن التجربة هي الوسيلة الوحيدة للعلم فما ليس تجريبياً لا يعتبرونه علماً، وهذا هو الذي طبقوه في منهاجهم التجريبي المعروف المنهاج التجريبي الذي سلكوه.
فكل ما سار مع هذا المنهاج وأمكن تجربته سموه علماً، وما ليس كذلك رفضوه وقالوا: هذا غير علمي، ومع ذلك يعلمون أن هناك حقائق كثيرة من متعلق العلم، إلا أن العلم لم يكشف حقيقتها، فهذه يعتذرون عنها بأن العلم ما زال في أطوار التقدم وأنه يمكن أن يكشف عنها العلم في الأزمنة المتلاحقة القادمة.
فمثلاً عملية النوم -وهي أبسط شيء- الذي هو الموت الأصغر وهو ركود المخ، هذه لا تفسير لها في العلم الحديث فلم يصل العلم الحديث إلى تفسير لها، ومع ذلك لا يعترف العلماء بأن العلم قاصر عنها بل ينسبون القصور إلى أنفسهم ويقولون: سيكشف عنها العلم في يوم ما وهكذا في كثير من الظواهر الكونية الأخرى.
أبعدنا الحديث هنا، ولكن الغرض من إبعاده هو بيان سبب تسمية ما ليس كنسياً، أو ما ليس دينيا في أوروبا في العصور الوسطى بالعلماني معناه الذي يصلح لتجربة فيدرك بالحواس أو بوسائل تؤدي للإدراك بالحواس، مثلاً: موجات الصوت، والموجات المغناطيسية والكهربائية هذه لا تدرك بالحس الطبيعي، ولكن تدرك بوسائل راجعة إلى الحس فلذلك أدخلوها العلم.
أما ما يتعلق بما وراء الطبيعة وما يتعلق بخلق الإنسان مثلاً، فهذه أمور غير علمية عندنا؛ لأنها غير خاضعة للتجربة فلذلك جعلوا الديانة من حيث هي والأوامر السماوية النازلة من عند الله تعالى من حيث هي، والأخلاق والقيم التي تعارف الناس عليها فيما بينهم، جعلوا كل هذا غير علمي، وصفوه بأنه غير علمي، فسموا الأول الذي يخضع لتجربة بالعلمانية، وسموا الثاني بالديني أو بالموروث أو بأسماء أخرى.
أسباب ظهور هذا المذهب في أوروبا وتبلوره كمذهب مستقل -مع أننا ذكرنا أن تاريخه قديم جداً- متعددة، منها:
غطرسة رجال الكنيسة والطغيان الذي حصل منهم، ذلك أن أوروبا في العصور الوسطى كان الناس فيها طبقات معينة، فمنها: الحكام، ورجال الدين، والشرفاء، والعمال، العمال هم الأرقاء المستعبدون، فهذه كانت طبقات الناس في أوروبا في تلك العصور.
فأي مجتمع تسود فيه الطبقية دائماً تكثر فيه الثغرات والصراعات الحادة، وكانت أوروبا في ذلك الوقت تحادها بلاد دخلها الفتح الإسلامي، وتغلغل فيها العلم الشرعي، وتنور الناس فيها بنور الهداية الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
فكان الناس من حبهم للعلم يستطلعون ويبحثون عما يدور حولهم، فكانت الأفكار الوافدة من البلاد الإسلامية وبالأخص من البلاد التي فتحت من أوروبا، مثل: أوروبا الشرقية، ومثل جنوب أوروبا من الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، كانت العلوم الإسلامية التي تفد من هذه البلدان إلى أوروبا تنظر إليها الكنيسة على أنها خروج عن ملتها ومروق على الدين، وتعامل الذين يتحدثون عنها أو يترجمون بعضها بالقتل والتشريد.
مكثت الكنيسة هكذا فترة من الفترات، وقد كانت تاريخها هكذا دائماً تحارب كل نظرية لا تنبثق من عقول وأدمغت رجال الدين الباباوات والكردينالات والقسيسين.
فكان الباحثون الذين يتطلعون إلى العلم يصارعون الكنيسة ويبحثون عن مصادر للعلم غير المصادر الموجودة في الكتب المقدسة، فكان كلما أنتج شخص نظرية علمية، سواءً كانت نظرية اجتماعية أو نظرية اقتصادية، أو قانوناً كونياً أخذته الكنيسة وعرضته لمحاكم التفتيش، وحكمت عليه بما يستحق عند رجال الكنيسة، فمثلاً: منهم من أحرق، ومنهم من قتل، ومنهم من حكم عليه بالسجن مدى الحياة.. وهكذا.
فكون هذا الطغيان والانحراف الشديد في رجال الكنيسة لدى الباحثين العلميين عقدة كانت سبب المفاصلة والخصام الذي دام قروناً من الزمن مع رجال الكنيسة، وقام هؤلاء باستحداث تيار معاد للكنيسة، وهذا التيار أخذ النظرية اللادينية، وإنكار كل ما يمت للدين بصلة، ولم يزل في صراع مع الكنيسة إلى أن قامت الثورة الفرنسية، وكانت فرنسا في ذلك الوقت هي المؤهلة لخوض هذا الصراع مع الكنيسة لعدة أسباب منها:
قرب فرنسا نسبياً من البلدان الإسلامية التي جاء منها أصل التفكير وأصل العلم.
ثانياً: بعد فرنسا عن مكان الكنيسة في روما، فكانت فرنسا من أبعد البلدان الأوروبية عن السيطرة المباشرة للكنيسة، فقامت فيها هذه الثورة العلمانية التي ارتكزت على آراء المفكرين اللادينيين، وعلى أفكار أولئك الذين يعادون كل ما يمت للدين بصلة.
وحذا حذوا فرنسا في ثورتها مختلف البلدان الأوروبية، فانتشر هذا المذهب وتبلور لهذه الأسباب، وأوجز الآن هذه الأسباب التي مررت عليها في هذا العرض:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة مما كون عقدة لدى المجتمع.
ثانياً: وقوف رجال الكنيسة ضد ما يريده الشعب، وضد ما تريده الطبقات المسحوقة من الناس التي كانت لها الغلبة في ثورة فرنسا.
الأمر الثالث: أن كل ثورة ما نشأت في مجتمع إلا ولا بد أن تنسف ما كان قبلها، وأن تبحث عن جديد، وكانت فرنسا حينئذٍ خاضعة للتعاليم الكنسية، فجاءت الثورة لتنسف تلك المفاهيم.
فإذا هذه هي أهم أسباب ظهور هذا المذهب وانتشاره في أوروبا، وكانت الثورة الفرنسية الخادمة الأساسية لهذا المذهب وانتشر عنها.
وقد نحى هذا المذهب مناحي متعددة وهي التي أعبر عنها بمظاهر العلمانية، فهذه المظاهر منها ما يتعلق بميدان السياسة، ومنها ما يتعلق بميدان الاقتصاد، ومنها ما يتعلق بميدان الاجتماع، ومنها ما يتعلق بميدان القضاء، وغير هذا من المظاهر الكثيرة، فمثلاً: في مجال السياسة كان أصل هذه الفكرة العلمانية: الفصل بين الدين والدولة، كان هذا المبدأ منطلق هذه الدعوة، وكثير من الناس يغلط في تعريف العلمانية، فيعرفها بهذا المبدئ الوحيد من مبادئها، فيقول: العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وهذا خطأ فالعلمانية هي فصل الدين عن الحياة عموماً كما سبق أن بيناه فيما مضى من هذا العرب.
ففي مجال الحكم كانت الأحكام الزمانية مواكبة وخادمة للأحكام الروحية في المجتمعات الغربية، وهذا في الأصل موروث عن الشرائع السماوية، وذلك أن الدين الذي تأتي به الرسل من عند الله تعالى يفرض على عباد الله الانصياع لأوامر الله تعالى والطاعة لرسله ولخلفائهم من بعدهم، وهؤلاء الرسل وخلفاؤهم يقودون الناس لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ويقودونهم إلى مرضات الله عز وجل وإلى ما يريده منه خالقهم جل وعلا.
ولذلك كان كثير من أنبياء بني إسرائيل قادة لأممهم، فمثلاً: يوسف على نبينا وعليه السلام كان عزيز مصر، و موسى هو الذي أخرج بني إسرائيل من مصر وداود كان ملكا وسليمان بن داود أشهر ملوكهم على الإطلاق وهكذا.
فكانت السلطة في ذلك الوقت سلطة موحدة، سلطة دينية دنيوية، وهذا هو ما يجب أن يكون، وهو الذي كانت عليه الديانات السماوية.
وهذا الاستمرار في توحيد السلطة بجانبيها الديني والدنيوي كان له أثر في انتشار المسيحية، واستغراقها لأوروبا بكاملها، إلا أن اليهود قد سعوا بمكرهم إلى التفرقة بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، وذلك ليتسنى لهم الدخول والحضور في مجالس التنفيذ في البلاد التي يقطنون فيها، ذلك أنهم دائماً مستضعفون في الأرض، فحاولوا أن يوجدوا شرخاً يفرق بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، فلذلك أعلنوا مبدأهم الشهير: (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فبهذا المبدأ الخطير انقسمت السلطة بين قوم يسمون برجال الدين، وهم أصحاب الزعامة الروحية، وقوم يسمون بالملوك ورجال السلطة وهؤلاء بأيديهم السلطة الدنيوية.
وانتشر هذا المذهب واستمر إلى أن صار رجال الدين لا يملكون من الأمر إلا إجراء عقود النكاح، وإقامة الطقوس والعبادات داخل أسوار الكنائس، وكانت باقي الأمور تحت أيدي أصحاب السلطة الزمانية الدنيوية.
ونحن الآن في ما مضى من كلامنا إنما نتكلم عن العلمانية خارج المجتمع الإسلامي، أما المجتمع الإسلامي فقد استمرت السلطة فيه موحدة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو قائد المؤمنين في دينهم ودنياهم، فلما نقله الله إلى دار الكرامة تولى الخلافة في الدين والدنيا من تولاها من أصحابه، فقام بالأمر أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ،ثم علي ، وهكذا استمرت الخلافة سلطة دينية ودنيوية، ولذلك يعرفها الفقهاء بأنها: نيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، سياسة الدنيا به أي: بالدين، فهذا هو تعريف الخلافة عند الفقهاء.
وقد يتولى السلطة في فترة من الفترات من تلاحظ عليه ملاحظات في دينه، إلا أنه لا يصل إلى حد الانفصال عن السلطة الدنيوية، بل يعتبر الخليفة قائد المسلمين في دينهم ودنياهم، وهو الذي يقيم له حجهم، وهو الذي يقودهم في غزوهم، وهو الذي يصلي بهم الجمعة، ويخطب فيهم، وهو الذي يخطب فيهم في الأعياد، ويصلي بهم الاستسقاء وغير ذلك من الشعائر.
استمر الأمر على هذا المنوال إلى أن كان أواخر عهد الخلافة العثمانية عندما تغلب الغربيون، وبدءوا ببث جيوشهم الداخلية والخارجية في البلدان الإسلامية الشرقية، فحينئذٍ استطاعوا أن يدخلوا في المجتمعات الإسلامية هذا التيار الخطير الذي أدى إلى التقليص من سلطة المسلمين، وأدى إلى شل دولتهم بالمفاصلة التي حصلت بين القيادة الدينية والقيادة الدنيوية.
وأبرز ما حصل من ذلك ما حصل في تركيا عندما أقامت ثورة مصطفى كمال أتاتورك الذي أجهز على ما بقي من موروث الخلافة الإسلامية، وقضى على كل ما كان في تركيا من مظاهر الإسلام، حتى منع الأذان باللغة العربية، وحتى تدخل للناس في كل أمورهم الدقيقة والجليلة، ففرض عليهم لباساً معيناً، وفرض عليهم نوعاً من المطاعم والمشارب، وفرض عليهم معاملات معينة وأنواعاً من التحايا، وأنواعاً من الأمور التي لم يكونوا يعرفونها، وما ذلك إلا ليغير كل ما كان لديهم من مورث إسلامي.
فمن ذلك الوقت دخل هذا التيار إلى المجتمعات الإسلامية، من الجهة الإسلامية، فبعد سقوط الخلافة تشرذمت البلاد الإسلامية، وكان في كل قطعة من الأرض دويلة صغيرة، يحكمها من لا يصلح للخلافة على أصغر الأمور، ولا يصلح ليتولى أدنى أمر من أمور الشرع، فبذلك تجسد الانفصال بين السلطة الدينية والدنيوية.
وأنتم تعلمون أن الإمامة قسمان: إمامة كبرى، وإمامة صغرى، فالإمامة الكبرى: هي قيادة المسلمين لصالح دينهم ودنياهم.
والإمامة الصغرى: هي إمامة في الصلاة فقط، والإمامة الصغرى يشترط لها كثير من الشروط، فما بال الإمامة الكبرى، فمن لا يصلح للإمامة الصغرى كيف يصلح للإمامة الكبرى!؟
فهؤلاء الذين يتلقبون بأئمة المسلمين ويقودونهم في أمورهم، لا يصلح أحد منهم لإمامة المسلمين في أي صلاة من صلواتهم فرضاً كانت أو نافلة، فكيف يصلح لإمامتهم الكبرى وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذا الإطار انتشر هذا المذهب في سائر البلدان الإسلامية، وتلقفه الناس وتلقوه على أنه غنيمة، وذلك بسبب انبهارهم بما رأوه من تقدم تكنولوجي ومدني وحضاري في أوروبا، فرأوا أن كل ما يأتي من أوروبا هو المنشود وهو التقدم وهو التمدن وهو الرفاه، فكانوا يستقبلون كلما يفد من أوروبا على أنه مثل الوارد من الجنة، أو على أنه أكبر من قيم البشر، فلا يناقش ولا ينظر إليه بعين النقد، وإنما يأخذ على التسليم، ويتشرب كما لو نزل من السماء.
فأخذ الناس هذا المذهب وساروا عليه وانقسموا فيه انقسامين، وهذا الانقسام أيضاً موروث عن أوروبا، فالناس في العلمانية تياران: علمانية متشددة متطرفة، وعلمانية متوسطة.
فالعلمانية المتوسطة: هي الرأسمالية، التي تسمح بممارسة الشعائر داخل الكنائس والمعابد، هذه يسمونها العلمانية المتوسطة.
أما العلمانية المتطرفة المتشددة: فهي التي تمنع كل ما يمت للدين بصلة، سواءً كان داخل المعابد والكنائس والمساجد أو كان في المظاهر العامة في حياة الناس.
فهذا التيار الأول العلمانية المتوسطة هو الذي كان يسلكه الحكام في أوروبا وفي العالم الغربي قبل العصر الذي نعيشه الآن، الذي هو النظام العالمي الجديد.
وأما العلمانية المتشددة فهي التي يسلكها أصحاب الأنظمة الشرقية في الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو.
فهذه الأنظمة لا تترك للدين أي سلطة، سواءً كانت داخل المعابد أو خارجها، أما النظام الرأس المالي فيسمح بممارسة الشعائر والطقوس داخل المعابد، وكذلك في البلدان الإسلامية نقل هذا التيار وترجم حرفياً، فكان من العلمانيين في بلاد الإسلام من هم متوسطون ومن هم متشددون.
فلذلك نرى في كثير من البلدان الإسلامية حكاماً يمنعون كثيراً من الممارسات الدينية، حتى في داخل المعابد، مثلما ذكرت لكم عن مصطفى كمال أتاتورك الذي منع الأذان باللغة العربية، وفرض الناس على زي معين، وكذلك مثلاً ما حصل في تونس في فترة من الفترات، عندما فرض على النساء الزي الكاشف، الذي منع من الحجاب الإسلامي، وفرض على الرجال الزي الإفرنجي الذي استحسن في أوروبا.
والتيار الثاني موجود في كثير من البلدان الأخرى يسمح بممارسة الشعائر داخل المعابد فقط ولا يسمح بتدخل الدين في غير ذلك، اللهم إلا ما كان في الأحوال الشخصية التي تسمح أوروبا بمثلها، مثل عقود النكاح داخل الكنائس، وقسمة التركة عن طريق كردينالات.
فهذه الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية يسمح بها في البلدان الإسلامية على أن تكون تحت السلطة الدينية، كما يسمح بها في أوروبا على أن تكون تحت سلطة الكنيسة، فقط هو محاكات وترجمة.
ولما جاءت هذه العلمانية إلى البلدان الإسلامية وتمكنت من السلطة والسيطرة فيها، كان لذلك أثره في بقية مظاهر العلمانية الأخرى، فنبدأ منها مثلاً بالحكم القضاء:
كان الناس يحكمون بما أنزل الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما استنتجه الفقهاء المجتهدون من المسلمين من فقه مستخرج من الكتاب والسنة، إلى أن جاءت ثورة مصطفى كمال أتاتورك وتشرذمت بلاد المسلمين، ففشا فيها هذا القانون الوضعي، الذي كان لكل دولة فيه قانون يسمى بسمها، فكان مثلاً القانون المصري، القانوي السوري.. إلى آخره.
كانت القوانين في البلدان الإسلامية قوانين مترجمة عن القوانين المغربية، وكان القانون الفرنسي قانون نابليون هو الأساس فيها وهو المرجع الأول لجميع القوانين المعمول بها في البلدان الإسلامية، وزيد عليها ما يتعلق بالأعراف والتقاليد الموروثة عن الأمم التي قد تغيرت قيمها بسبب دخولها في الإسلام، فأراد الناس أن يرجعوا قروناً متعددة حتى يأخذوا ويستبقوا قيماً سابقة على دخولهم في الإسلام، فمثلاً في مصر يبحث عن الحضارة الفرعونية، وفرعون هالك من آلاف السنين ويبحث مثلاً في الهند عن التقاليد الهندية القديمة جداً، السابقة على دخول الإسلام، ويبحث كذلك في العراق عن الحضارة الآشورية السابقة لدخول الإسلام في تركيا، حتى السابقة لدولة الفرس التي فتحها الإسلام.
فهذا الموروث القديم الذي يبحث الناس عنه، إنما يريدون به أن تكون لكل بلد صبغة تميزه ويختص بها في قانون حكمه عن البلدان الأخرى، وذلك لتتم القطيعة ويتم الفصل بين هذه الدول التي كان يجمعها دين واحد وكانت تحت إمارة أمير واحد، وكانت تغزو صفاً واحدا، وتصلي خلف إمام واحد.
أراد لها هؤلاء أن تتشرذم وتتقطع حتى تكون كل دولة منها ذات حكم مختصٍ بها، وذات دين يحكمها تختص تلك الدولة به.
فالأصل يستقى من القوانين الغربية ثم يضاف إليه ما يضاف من التقاليد والأعراف السابقة بدخول الإسلام لتلك البلدان.
ولذلك نجد في كل بلد إجبار نخبة أبناء المسلمين في ذلك البلد على دراسة القانون الوضعي، والتخصص فيه، وإنشاء المحاكم الوضعية التي تحكم بنظام وقانون لم يعرف لدى أهل تلك البلدة، وليس من وضع رجالهم ومفكريهم، ولا من موروثهم الذي ورثوه عن آبائهم، وإنما هو استعمار اجبروا عليه بالإكراه والقهر، لا يريدونه من تلقاء أنفسهم ولا يوافق قيمهم وأخلاقهم، ولا يوافق موروثهم الذي ورثوه عن آبائهم.
هذا من جهة القضاء أما إذا ذهبنا إلى مظهر آخر من مظاهر العلمانية، وهو المظهر التربوي نجد أن التربية من الضروريات الثلاث التي يحتاج إليها كل شخص، التعليم هو ثالث الضروريات التي يحتاج إليها كل شخص كما هو معلوم في حياة الناس.
فالتعليم لا يستغنى عنه في أي حقبة من حقب العمر، فهو من المهد إلى اللحد، فإذا كان التعليم مستقيماً نافعاً ملائماً لحاجات الناس كان مفيداً وجنى الناس ثمراته، أما إذا كان منحرفاً لا يمت لحياة الناس بصلة، يترجم حياة وهدي ودل قوم آخرين، فإنه سيكون له أبلغ الأثر العكسي في حياة الناس وفسادهم.
فلذلك ركز هذا التيار العلماني على التربية، فوضعت المناهج التي تدرس لأولاد المسلمين موافقة للمناهج التي تدرس لأولاد الأوروبيين، فلم يكن الاهتمام فيها بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بالعلوم الشرعية ولا بالأخلاق الإسلامية والقيم الفاضلة، وإنما كان التركيز فيها على أمور يهتم بها الغربيون، فلذلك نجد المناهج التعليمية في مختلف مراحل التعليم من الروضة إلى المدارس الابتدائية، إلى المدارس الاعدادية، إلى المدارس الثانوية، إلى الجامعات لا يوجد فيها منهاج موافق للمنهاج الإسلامي الذي يجب أن يعلمه أولاد المسلمين.
بل يركز فيها على الموجود الذي يدرس في أوروبا، وكان لهذا أخطر الأثر في تربية أولاد المسلمين على هذا المنهاج المنحرف، فيتخرجون حاملي شهادات عليا، وتكون لهم مراكز مضمونة في التوظيف وفي العمل، وهم مع ذلك لا يحفظون آية من كتاب الله ولا حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف أحد منهم حكماً من أحكام صلاته ولا من أحكام طهارته، ويكون هو المؤهل لتولي المناصب وقيادة الأمة، وهو مع هذا في أشد الجهالة بقيم الأمة وبموروثها وأخلاقها وبما هي محتاجة إليه.
هذا في المظهر الثالث من مظاهر العلمانية في المجال التربوي.
أما لو ذهبنا إلى المجال الاجتماعي، فإننا نجد أنه قد تأثر أيضا ًتأثراً بالغا بهذا المنهج العلماني الخطير، ففي البلدان الإسلامية نجد عادات الناس وأخلاقهم قد تغيرت وتأثرت بهذا المنهج، فصارت عقود النكاح مثلاً والمناسبات الاجتماعية الأخرى يحدث فيها الكثير من البدع والمحرمات والمخالفات التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاربتها.
وفي معاملات الناس وفي علاقاتهم الاجتماعية فيما بينهم نجد التأثر الواضح بهذا المنهج، فمثلاً: تحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله، هذه هي تحية الإسلام التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يحيي بعضهم بعضاً بها، وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أي الإسلام أفضل؟ فقال: ( تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، هذه هي تحية المسلمين التي يتعارفون بها فيما بينهم.
الآن في داخل المجتمعات الإسلامية في كثير من الأحيان، أصبح الكلام قبل السلام، وأصبحت التحية مخالفة لهذه التحية، فأصبح الناس لا دينيين فيما يتعلق بالتحية والالتقاء، فلذلك نجد الشخص القادم من سفر يلقى حبيباً له فيكلمه بتحية مخالفة لهذه التحية، وقد يجلس معه فترة طويلة ولا يحييه بهذه التحية أبداً.
وكذلك اذا اتصل شخص اتصالا هاتفياً بحبيب له مسلم، فإنه لا يحييه بهذه التحية التي هي أشرف ما يبتدئ به الكلام، بل يحييه بتحية أخرى غير تحية الله تعالى.
كذلك في تعامل الناس فيما بينهم، فالقيم الدينية التي جاء بها الإسلام منها رحمة الصغير وتوقير الكبير، ( لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها ).
هذه القيمة الاجتماعية العالية التي ركز عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غيرها هذا التيار العلماني في كثير من البيئات في المجتمع الإسلامي، فأصبحت معاملات الناس فيما بينهم على أنهم انقطعت بينهم وشائج الرحمة والصلة، وانقطع بينهم معنى التوقير والإكبار، فالصغير لا يحترم الكبير والكبير لا يرحم الصغير.
وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الوالد والوالدة فبر الوالدين قيمة إسلامية كبيرة، ركز الله عليها في كتابه في كثير من الآيات، فقال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36] وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، فعطفها في كتابه مرتين على الإيمان بالله وتوحيده، مع ذلك نجد كثيراً من أولاد المسلمين الذين تربوا هذه التربية العلمانية، ودرسوا في هذه المدارس التي اختطت لها مناهج علمانية لا يعاملون آباءهم وأمهاتهم بهذا التعامل الذي أرشدهم الله إليه، فنجد عندهم من الغلظة والجفاء وسوء الأدب في كثير من الأحيان ما الله به عليم.
وكذلك في توقير أهل العلم، فأهل العلم أرشد الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى توقيرهم، وعظمهم الله عز وجل في كتابه في كثير من الآيات، فاستشهدهم أعظم شهادة بعد شهادته تعالى فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18].
وكذلك قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، فلم تعد هذه الدرجات معتبرة في كثير من المجتمعات الإسلامية.
فأصبح الناس يتعاملون كما يتعاملون مع الآلات، أصبح تعاملاً آلياً، والناس يسيرون كما تسير الماكنات لا رحمة بينها ولا توقير وتعاملها تحكمه النظرية العملية.
وبهذا تخبو شعلة الإيمان المتقدة في القلوب التي يطالب المسلمون دائماً بتعاهدها وتجديدها، وهي التي بها تميزوا عن غيرهم، هذه الشعلة الإيمانية المتحركة التي تصلهم بإذن الله تعالى وتدعوهم إلى توحيده والعمل لنشر دينه.
أعدى ما يعاديها وأخطر أمراضها هو هذا المرض الذي تخبو به فتصير رماداً في قلوب أصحابها، وبذلك تَنبتُّ الصلات والوشائج التي ربطها الإسلام، وتنفصل الأخوة العظيمة التي أكدها الله تعالى وأكدها رسوله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين.
كذلك من مظاهر العلمانية ما يتعلق بنشاط الناس الاقتصادي، وهذا مظهر عظيم من المظاهر الإيمانية المظهر في المجال الاقتصادي.
فالاقتصاد كغيره من المجالات محكوم بنصوص شرعية، فالله تعالى له حكم في كل نازلة كبيرة كانت أو صغيرة، هذا الحكم مبين في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما إن يكون واضحاً يطلع عليه جميع الناس، وإما أن يكون خفياً يستنبطه الذين يستنبطونه منهم، ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، إذا جاءهم أمر من الأمن: أي من الظروف العادية، فالأمن يعبر به عن الظروف العادية عن حياة الناس التي يعيشونها في الظروف المعتادة، أو الخوف: الخوف يعبر به عن الظروف الاستثنائية مثل الحرب والكوارث والمصائب هذه هي ظروف الخوف.
والأمر الذي يعرض من حيث هو لا بد أن يكون من الظروف الاعتيادية، أو من الظروف الاستثنائية، فعبر عن الأول بقوله تعالى: (من الأمن)، وعبر عن الثاني بقوله تعالى: (أو الخوف) هؤلاء أذاعوا به: معناه عرضوه للتصويت، الناس فيه سواسية، وهذا المنهج مخطئ ولا يؤدي إلى الصواب، فلذلك أرشد الله وبين المنهج المستقيم الذي يجب سلوكه عندما يأتي أمر من الأمن أو الخوف، فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، لو ردوه إلى الرسول: ردوا إليه ما دام حياً والرد إلى سنته بعد موته، وإلى أولي الأمر منهم وهم العلماء المتبعون لرسول صلى الله عليه وسلم في هديه ودله، لعلمه الذين يستنبطونه منهم: ولم يقل لعلموه جميعاً بل قصر علمه على المستنبطين الذين أعطاهم الله عز وجل القدرة على الاستنباط والاستخراج للأحكام التي لم تتضح من النص.
فمن هذه الجوانب التي لله تعالى فيها حكم الجانب الاقتصادي الذي ينظم علاقات الناس فيما يتعلق بالاقتصاد، والجانب المالي أيضاً الذي ينظم علاقات الناس في الأموال، وقد ورد كثير من النصوص القرآنية والحديثية المنظمة لعلاقات الناس فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، وفيما يتعلق بالجانب المالي، فتجدون النصوص القرآنية المتعلقة بالمال كثيرة، فمثلاً نصوص الزكاة الواجبة في القرآن كثيرة من الحض عليها، ومدح المخرجين لها، وذكر مصارفها، هذه أمور منصوصة في الكتاب.
كذلك الزكاة غير الواجبة وهي الصدقات: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[المعارج:24-25].. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[الأنعام:141]، إلى آخره، هذه حقوق مبينة في كتاب الله.
كذلك فيما يتعلق بالاقتصاد نجد كثيراً من النصوص الحديثية المتعلقة بالاقتصاد، والنصوص الحديثية المتعلقة بالمال، فمثلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الناس شركاء في ثلاثة: في الماء، والنار، والملح )، هذا الآن منظم لجهة من العلاقة الاقتصادية بين الناس، وكذلك أحاديث الربا مثل حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد ).
هذا الآن منظم لجهة من الجهات الاقتصادية المهمة، وكذلك نصوص الربا في القرآن في ست آيات من كتاب الله، والأحاديث الواردة في الربا كثيرة، والبيوع التي نها عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمانية وخمسون نوعاً من أنواع البيوع، كل هذا منظم بنصوص شرعية، مع ذلك نجد الآن في المجتمع الإسلامي عزوفاً عن هذه النصوص، وعزوفاً عن متعلقاتها، فكأن الاقتصاد وكل إلى آراء الناس، فلذلك نجد الشاب المسلم الذي يدرس الاقتصاد يعرف من نظريات الاقتصاديين الغربيين ما لا يعرف من الآيات والأحاديث المتعلقة بالاقتصاد، فمثلاً: يحفظ الكثير من آراء ريمون بار وغيره من كبار الاقتصاديين الغربيين، ومع ذلك لا يحفظ حديثاً واحداً متعلقاً بأي جانب من جوانب الاقتصاد، ولا يطلع على المسائل الفقهية الدقيقة التي استخرجها الفقهاء ونظموها في كتبهم، والتي سار الناس عليها واستغنوا بها عن غيرها من التنظيرات والتنظيمات خلال أربعة عشر قرناً، لم يحتاجوا خلالها إلى أي تنظير جديد، ولم يقعوا في أي مشكلة اقتصادية، ولا في أي تضخم يحوجهم إلى غيرهم.
لم يحتاجوا خلال هذه القرون الأربعة عشر إلى صندوق النقد الدولي، ولا إلى المنظمات الصليبية التي تعين المستضعفين، لم يحتاجوا خلالها إلى الحجر على الرشداء، ولا على انتزاع أموال الناس من أيديهم، بل كان الناس فيها يعملون بمقتضى هذه النصوص وهم بخير وعافية، فلما جاءت هذه الأنظمة الجائرة الكافرة صرفت الناس عن هذا المنهج السليم الذي كانوا عليه، فوقعوا فيما تشاهدونه من الأزمات والمصائب.
هذا من بعض مظاهر النظام العلماني في المجتمع.
أما أسباب فشو هذا النظام داخل المجتمع الإسلامي، فمنها:
الانحراف والابتعاد عن منهج الله تعالى الذي شرعه لعباده، هذا المنهج الكامل الشامل الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا بينها، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم[النحل:44]، وكما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ[النحل:89]، وكما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في كثير من الأحاديث: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ).
فهذا المنهج المتكامل عندما انحرف الناس عنه، وأولعوا بالمستورد من الأنظمة الغربية وقعوا فيما هم فيه من المشاكل، هذا هو السبب الأساسي والأصلي للوقوع في هذا المنهج الخبيث المستورد.
من أسبابه كذلك: الانبهار بالعالم الغربي، وهذا الانبهار لا حدود له في المجتمعات الإسلامية، ذلك أن الناس الآن إذا أراد الشخص أن يخطب أمامهم في أي قضية نجد كثيراً من الخطباء عندما يستشهد لأمر يقول: وهذا داخل في حقوق الإنسان، أو الإنسانية تدعو إلى كذا، أو يستشهد بالإعلام العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الثورة الفرنسية، فمثلاً: صارت الآن القيمة الإسلامية منسوخة منبوذة ظهرياً، وأخذ هذا النظام على أنه هو المنزل من عند الله تعالى، وهو الذي يصلح للسعي بالبشرية إلى تقدمها ورفاهها، صار هو المحكم في كل شيء، فلذلك قال كثير من الكتاب الإسلاميين والمفكرين: (إن الإنسان هو معبود القرن العشرين)، فالقرن الذي نحن فيه قرن الإنسانية.
صارت الإنسانية هي أكبر قيم هذا العصر، لذلك صار الناس إذا أرادوا أن يغضوا من أي أمر، قالوا: هذا غير إنساني حتى لو كان هذا الأمر من الحقوق التي أوجبها الله تعالى، فمثلاً: الوالد إذا أدب ولده تأديباً شرعياً موافقاً للنصوص قالوا: هذا غير إنساني، إذا منع بنته من الخروج سافرة في الأوقات المنكرة، كان هذا غير إنساني مخالفاً لحقوق الإنسان.
إذا منع زوجته من سفر غير شرعي تريد أن تسافره قالوا: هذا غير إنساني، فصار الإنسان إذاً هو المعبود، وصارت الإنسانية هي دين هذا العصر الذي نحن فيه.
لم يقولوا هذا إلا اقتداءً بالغربيين وأتماراً بأوامرهم؛ لأن الإنسان حقوقه مشتركة، ليست حقوق الإنسان مختصة بالفئة المولى عليها مثل النساء والأولاد، الحقوق الإنسان يشترك فيها الآباء والأبناء، حقوق الإنسان يشترك فيها الرجل والمرأة.
ولذلك نجد أن قضية تحرير المرأة صارت من أهم وسائل الغزو العلماني للمجتمعات الإسلامية، فلذلك ركز عليها العلمانيون الأوائل، وما زالت الآن هي الشغل الشاغل لديهم، ذلك أن أوروبا كما ذكرنا في العصور الوسطى كانت الكنيسة تسيء إليها، والتعليم الكنسي فيه احتقار وهضم لحقوق المرأة، ففي الكتاب المقدس عندهم أن الشخص إذا رأى امرأة تمر بين يديه فلا يتصور أنها إنسان، ولا أنها حيوان بهيمي، بل يتصور أنها شيطان، هذا في الكتاب المقدس لدى النصارى.
من هذا المنطلق انطلقوا في احتقارهم للمرأة واستعبادهم لها وانتزاعهم لحقوقها، ونحن في الإسلام لا نقع في هذه المشكلة، فليس في كتابنا القرآن -وها هو بين أيدينا- أن المرأة شيطان، والسنة المطهرة ها هي بين أيدينا ليس فيها أن المرأة شيطان، بل فيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وقف في الناس يخطبهم في حجة الوداع، فذكرهم بالله عز وجل وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم فيوشك أن يكون آخر عهده بهم هذا، قال: ( واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان لديكم، وإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن الضلع أضعف ما في الإنسان، فإذا ذهبت تقيمه انكسر وإن استمتعت به استمتعت به على عوج ).
فكانت وصية رسول الله صلى عليه وسلم خيراً تمثل هذه القيمة الإسلامية التي قدر الإسلام بها المرأة وحقوقها، فإذاً لا تجد المرأة مشكلة في المجتمع الإسلامي العامل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تحتاج إلى تحرير إذاً، ولا تحتاج إلى حقوق، ولا تحتاج إلى وزارة لشئون المرأة، شئون المرأة مثل شئون الرجل، كلاهما مسلم مكلف يخدم دينه يسعى لخدمة مجتمعه بما يرشده إليه دينه، يتعامل مع غيره تعامل الرحمة والتعامل والتكافل، المنصوص شرعا في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21].
من هذا المنطلق يتم التعامل بين الرجال والنساء في المجتمع الإسلامي، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تحرير للمرأة، ولا إلى قضية توضع لها على المنابر يتكلم فيها الناس، وتوضع لها وزارة ويوضع لها ممثلات في البرلمان وأمور متعلقة بالمرأة، المرأة مثل الرجل لا فرق بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالحقوق العامة في الإسلامي.
الفرق بين المرأة والرجل إنما هو فرق فسيولوجي راجع للخلقة، وهذا الفرق انبنت عليه أحكام شرعية، فمثلاً: المرأة لديها نواقص معينة هذه النواقص معتبرة شرعاً وشرعت لها أحكام، كذلك المرأة لها خصائص فشرعت لها أحكام شرفت بها لم تعط للرجل.
والرجل له أحكام أيضاً تختص به، وله طاقات وقدرات لا تستطيع المرأة القيام بها، فشرعت له أحكام تتناسب مع طاقاته، والإسلام دين العدل، فالتكليف فيه تكليف بحسب الطاقة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، فكل شخص مكلف ومسئول بقدر طاقته، فليست مسئولية القوي كمسئولية الضعيف، فلذلك الضعيف معذور في الجهاد في سبيل الله. يقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[النور:61]، هذا في الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإيمان.
كذلك القوي عليه مسئولية أكبر من مسئولية الضعيف في كثير من الأمور الأخرى، والغني مثلاً مسئوليته أكبر من مسئولية الفقير، فيما يتعلق بالتعامل الإسلامي، الإسلام فرض على الأغنياء حقوقاً في أموالهم لم يفرضها على الفقراء، وأنشأ في نفوسهم بذلك الفرض مسئولية يشعرون بها عما يحدث في هذا المجتمع، ويشعرون بأنهم مسئولون أكثر من غيرهم عن رفاهية وصلاح أحوال هؤلاء الناس الذين يشاهدونهم صباح مساء.
فالغني القائم بأمر الله تعالى المتربي تربية شرعية يكون مثل عثمان بن عفان مثلاً، الذي كل ما جاءت أزمة تستدعي المال كان عثمان حاضراً عندها وتجهز ليكون فائزاً بالسباق؛ وليكون أوفر المسلمين حضاً فيما يدفعه لله تعالى قرضا ًرابحاً، وكذلك عبد الرحمن بن عوف، وكذلك أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام، هم الذين مثلوه في أخلاقهم وفي سلوكياتهم وفي تعاملهم.
إذا نظرنا إلى ذلك المجتمع الذي كان يعيش فيه هؤلاء لم نجد هذه المشاكل التي يعاني منها الناس في المجتمعات التي انحرفت عن هذا المنهج.
كان هذا ما يتعلق ببعض مظاهر العلمانية.
أما ما يتعلق بآثار العلمانية:
فالعلمانية لها آثار كثيرة، منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي، ولنبدأ بالإيجابي أولاً، وهذا الإيجابي إنما هو في المجتمعات غير المسلمة، وإلا فالمجتمعات لا يكون لأي دعوة فيها لا تدعو بكتاب الله تعالى أي ثمرة وأي إيجابية.
فمن إيجابيات العلمانية في العالم الغربي:
أن أوروبا كانت ترزح - كما ذكرنا- تحت وطأة رجال الكنيسة الذين تعمهم القسوة والشدة وعدم مراعاة حقوق الناس والإقطاعية، وكانت الأسر الحاكمة فيها أيضاً تتوارث هذه القسوة والفظاظة والغلظة، وكانت الطبقات الضعيفة من الناس مسحوقة مستعمرة، فلما جاءت العلمانية إليها بعثت فيها هذه الثورة الجديدة التي دعت إلى تساوي الناس وفكهم من ربقة الكنيسة، فهذا يعد من إيجابيات العلمانية.
أما ما يتعلق بسلبيات العلمانية في المجتمعات الكافرة فهي كثيرة، منها: الانحلال الخلقي الذي يسود المجتمعات العلمانية عموماً، ومنها: الصراع المفتعل بين القيم الموروثة والعلم الذي لا يمكن أن يكون بينه وبين الديانة والأخلاق السامية أي تغاير ولا تضاد، فالعلم إنما هو خادم للدين وخادم للخلق الحميد فلا يمكن أن يتعارض معه، أما لو كان العلم يثقل كفة الصراع المعادي للدين والمعادي للأخلاق فهذا غير علم، بل هو لا شك جهالة، ولن يكون له أي فائدة ولا ثمرة.
كذلك من الآثار السيئة للتيار العلماني في المجتمعات غير المسلمة: انبتار الروابط الأسرية والروابط الاجتماعية بين الناس، فالناس قديماً كانت تفشو فيهم ما يسمونه بالمحافظة، أي: روابط أسرية وقيم معينة تتوارثها الأسر فتولد عندهم أخلاقيات معينة ذات فائدة، فلما جاء التيار العلماني قضى على هذه الأخلاقيات كما قضى على كل موروث سابق، وهذا مع الأسف قد سرى إلى المجتمعات الإسلامية.
كذلك من آثار العلمانية السيئة: تساوي الناس عقلائهم ومجانينهم ومعتوهيهم وعلمائهم وجهالهم فيما يتعلق بالأمور العامة، فأصبح التصويت يستوي فيه أعقل الناس وأدنى الناس عقلاً، والأصل أن الأمور العامة التي يقصد بها مصلحة المجتمع لا يمكن أن يتكلم فيها إلا من يعرف المصالح ويفرق بين المصالح والمفاسد، ويعلم الثمرات التي تنتج عن كل نظرية أو عن كل سلوك، فالجاهل الذي لا يفرق بين الصواب والخطأ والمعتوه الذي لا يميز بين الصواب والخطأ لا يمكن أن يؤخذ رأيه في الأمور العامة، التي هي مصيرية بالنسبة للشعوب، فلهذا كانت النظرية التي يسمونها النظرية الديموقراطية يستوي فيها أصوات الجاهل والعالم، وأعقل الناس هو والمجنون كلهم سواء أمام التصويت في الحقوق العامة ومصالح الناس، وهذا أشد ضرر وأكبره على المجتمعات؛ وذلك أن المجتمع أكثره دائماً من السلبيين، ومن أهل النقص العقلي أو النقص الخلقي الذين لا يراعون إلا مصالح أنفسهم، ولا تتسع آفاقهم للمستقبل ولا لمصالح الناس، فلا ينظرون إلا إلى مصلحتهم الفردية أو مصلحة الوقت التي يعيشونه، فإذا كان هؤلاء لهم الأغلبية في التصويت فإن المجتمع سيكون متراجعاً إلى الوراء دائما؛ لأنه يكون عند عقول أدنى طبقة فيه، وعند علم أدنى طبقة فيه، فيكون المجتمع لا ينظر إليه على المستوى الأعلى، بل ينظر إليه على المستوى الأسفل.
أما إذا قاده الكاملون فيما يتعلق بالعقل والعلم، فإن المجتمع حينئذٍ سيسمو وسيكون عند عقول أولئك الكاملين، وعند علم أولئك، وبذلك يتقدم ويبقى في تقدم مطرد مستمر.
أما آثار العلمانية في المجتمع الإسلامي فلا تكاد تنحصر وأهمها، كما ذكرنا:
الانحراف عن منهج الله عز وجل الذي شرعه لسلوك البشر في الحكم، حيث حكمت جميع البلدان الإسلامية بغير ما أنزل الله، وحكامها الذين يحكمونها أكثرهم يدعي أنه يؤمن بالله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كيف تدعي أنك تؤمن بالله وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنت لا تحكم بما أنزل الله؟ ليس لهم عذر، بعضهم يعيش خمساً وعشرين سنة وهو حاكم لبلد من البلدان الإسلامية شعبه مسلمٌ 95% ، ومع ذلك لم يحكم فيه يوماً واحداً بحكم شرعي! لم تسول له نفسه يوماً واحداً أن يحكم بما أنزل الله، لم تسول له نفسه يوماً واحداً أن ينظر في قضية بمعيار الشرع، أو أن يسأل أهل الذكر، لم تسول له نفسه هذا.
هذا الآن إذا نظرنا إليه بالمنظار الشرعي المعتدل العادل فإنه لا يحكم عليه إلا بالكفر الصريح المخرج من الملة؛ لأن الشخص إذا نادَّ الله تعالى وحاده في عباده، وحكم فيهم بغير ما أنزل الله، وصرفهم عن المنهج الذي اختاره لهم خالقهم، لا يمكن أبداً أن يحكم عليه إلا بالكفر الصريح، فقد جعل نفسه شريكا لله تعالى في التشريع، جعل نفسه مشرعاً دون الله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[الشورى:21].
كذلك من آثارها في المجتمعات الإسلامية: فشو الدعوات اللادينية بين أولاد المسلمين، فبدأت في المجتمعات الإسلامية الحركات المنحرفة، والمذاهب الهدامة تنتشر حتى أصبح ما نسبته 40% في عصور الستينات منتمين إلى هذه الحركات الهدامة في البلدان الإسلامية من شباب المسلمين، وهذا مرض خطير جداً عضال؛ لأن النشأ والشباب هم الذين يحملون الشعلة، وهم الذين ينبغي أن يضعوا على أعناقهم مسئولية هذه الرسالة وتحمل الدعوة إلى المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذي حمله سلف هذه الأمة وأدوه خير تأدية، فإذا انحرف هؤلاء الشباب ولم يبق على هذا المنهج إلا بعض الكبار، فهذا منذر بالخطر، ومشعر بالانقطاع والعياذ بالله تعالى.
كذلك من آثارها في المجتمعات الإسلامية: انبتار الشخصية الإسلامية، فمثلاً في العصور الإسلامية الأولى كانت تقع الخلافات وحروب بين المسلمين وينقسم المسلمون في بعض الأحيان إلى دول، فمثلاً: كانت توجد دولة في العراق تحت إمرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودولة في الشام تحت إمرة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وبعد ذلك كانت توجد الدولة العباسية في العراق والحجاز واليمن ومصر، وكانت توجد الدولة الأموية في الأندلس، لكن مع كل هذا لم تقع القطيعة بين المسلمين، بل كانت جنسية المسلمين واحدة، كان المسلم يسافر من قرطبة وهي آخر معاقل المسلمين في الجهة الغربية إلى ما وراء النهر من بلاد المشرق، ومع ذلك لا يحتاج إلى جواز سفر، لا يحتاج إلى جنسية لا يسأل من أي بلد هو، ما هذا إلا لتوحد المسلمين فيما بينهم، وأن هذا الدين هو المنظار المقدم لديهم المستوعب لكل الجنسيات، والمستوعب لكل الأجناس والألسنة والأوصاف، فلما دخل التيار العلماني إلى بلاد المسلمين انقطعت هذه الصلات فأصبح الناس يبحثون عن بديل، فجاءت القوميات والوطنيات والدعوات العرقية، وحتى اللغات أصبح لها أثر، وبذلك انبتر التواصل بين المسلمين، فأصبح المسلم في بلاد إسلامية سجيناً في سجن ضيق وهو بلده الذي يعيش فيه أو ينتمي إليه، فإذا خرج منه أصبح خروجه غير نظامي إلا بحبل من الله وحبل من الناس، يحتاج إلى تأشيرة سفر يحتاج إلى جواز يحتاج إلى إذن، وفي كل ذلك من التضييق ما لا يعلمه إلا الله.
كذلك من آثارها: إلغاء حكم الإسلام في التعامل مع غير المسلمين، فمثلاً الشرع القيم جاء منظماً لعلاقات الناس فيما بينهم عموماً، فكان فيه ما ينظم علاقات المسلمين فيما بينهم وفيه ما ينظم علاقات المسلمين مع غيرهم، العلاقات الدولية، القانون الدولي العام في الإسلام منظم، الرسول صلى الله عليه وسلم عقد معاهدات مع الكفار، أعلن الحرب على قوم، أعلن السلم مع قوم، بدأ بمهاجمة قوم، أنذر قوماً آخرين، كتب الرسائل إلى الملوك، كل هذا ينظم علاقات المسلمين مع غير المسلمين، أخذ الجزية من قوم.
هذه الأنظمة الآن أصبحت ممحوة من القاموس الإسلامي المعمول به في الدول الإسلامية، أصبح الناس الآن لا يعلمون أن للإسلام حكماً في التعامل مع الدول الكافرة، في تعامل المسلمين مع الدول الكافرة، أصبحت الأعراف الدبلوماسية والأنظمة الوضعية هي الحاكمة فيما يتعلق بالنظام الدولي العام، أصبح الناس لا يشعرون بأن في هذه القضية حكماً للإسلام أصلا.
وكذلك من الآثار السيئة في المجتمع الإسلامي للتيار العلماني: تقبل أولاد المسلمين واستجابتهم لكل ناعق مهما كانت دعوته، فلا نجد داعياً يدعو إلى شر إلا وجدنا له أتباعاً يقومون معه ويؤازرونه، وهذا مبدأ خطير جداً؛ لأن المسلمين عودهم رسولهم صلى الله عليه وسلم وعودهم كتابهم القرآن على التثبت والتبين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[النمل:64]، الآن هذا المعيار نتيجة للتدخل العلماني كاد يضمحل في نفوس كثير من الناس، ولم يعد منظوراً إليه مقدماً على كل الأمور.
كذلك من الآثار السيئة للعلمانية: أن كثيراً من عوام المسلمين يوافق العلمانيين في كثير من الأمور ولا يشعر بأنه يوافقهم، فمثلاً ننظر إلى مجتمعنا هذا الذي نعيش فيه، هذا المجتمع الموريتاني، نجد فيه كثيراً من الناس في بعض الأحيان من أهل العلم والصلاح، لكن مع ذلك إذا سألته عن تطبيق الشريعة، يقول الشريعة مطبقة، لا يعلم بأن الشريعة إلا أداء الصلوات الخمس في الجماعة، أداء الزكاة، لا يشعر بأمر آخر، لا يشعر بمسئولية لنفسه عن هذا الدين الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة في أعناقنا جميعاً.
لا يستشعر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، اخترط أبو بكر سيفه من غمده فقال: أينقص هذا الدين وأنا حي! لا يمكن هذا، لا ينقص هذا الدين وأنا حي.
هذا الآن لا يشعر به من الناس إلا قلة قليلة، ولذلك تجدون العاملين للإسلام والداعين إليه والمرشحين له كبديل ومنهج للسلوك العام وللنظام العام قلة يعدون بالأصابع في كل مجتمع من المجتمعات.
كثير من الناس ينظر إليهم على أنهم أتوا ببدعة وأنهم يأتون بما يخالف ما ورثوه عن آبائهم، وأنهم يأتون بالدين الجديد، ولذلك تجد في الصحافة من يقول: الإسلام المسيس أو الإسلام المتسيس، أو عبارات من هذا القبيل.
هذه العبارات لا يقصد بها إلا التشويه، وإلا فالإسلام نفسه دعوة سياسية، دعوة ثقافية، دعوة اجتماعية، دعوة اقتصادية، شامل لكل المجالات، ليس هناك مجال ممنوع على الإسلام محضور عليه.
هؤلاء الذين يزعمون حصر نشاط الإسلام حصر نشاط المسلمين حصر نشاط الداعين إلى الله في مجالات معينة، كيف يمنعونها على المسلمين ويبيحونها لأنفسهم؟ هذا العلماني يتكلم في كل موضوع! يتكلم في الاقتصاد يتكلم في الاجتماع، يتكلم في السياسة العامة، ولكن إذا أراد شخص إسلامي أن يتكلم في هذا الموضوع فلا، هذ إسلامي، الإسلام محصور في المسجد!
هذا الآن يبيحه لنفسه ويمنعه على غيره هذا غاية التحكم، وغاية انتفاء العدل، هذا من الآثار السيئة للعلمانية في المجتمع المسلم عموماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر