بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن المؤمنين جميعًا يؤمنون بأن أعمالهم ستعرض على الله سبحانه وتعالى وتوزن في موازين القسط يوم القيامة، ولن يظلم أحد منهم شيئًا، وأن الله سبحانه وتعالى خاطبهم فقال: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، لكن يحتاج المؤمن في انتظار العرض على الله سبحانه وتعالى ووزن أعماله صالحها وطالحها أن يستحضر في هذه الحياة ما أوجه الربح والخسارة وما مقياس ذلك؛ لأن نعم الله سبحانه وتعالى سابغة لا يمكن أن تعد ولا أن تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، ولأن تكاليفه سبحانه وتعالى تنقسم إلى أوامر يجب أداؤها وإلى نواهٍ يجب الحذر منها واجتنابها، فاحتاج الإنسان إذن إلى أن يضع لنفسه ميزانًا يقوم به عمله لئلا يكون من الخاسرين والفرصة مواتية أمامه لإصلاح وضعه وللرجوع عن حاله إذا كان فاسدًا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فيحتاج المسلم إذاً إلى تقويم مسيرته في حياته هذه، حتى يعلم هل هو على صواب أو هو على خطأ؟ فإن كان على صواب فليحمد الله وليسأله الثبات، وإن كان على خطأ فيحاول الإصلاح قبل أن يفوت الأوان، وليجتهد في تدارك ما بقي، فإن من الحكم الخالدة: إن عمرًا ضيع أوله لجدير أن يخسر آخره، ولا شك أنه ما من أحد منا يرضى عن تعامله مع الله، فما منا أحد إلا وهو يعلم أنه من المقصرين المفرطين، لكن تتفاوت أوجه التقصير وأوجه النقص في عملنا، فنحتاج إذاً إلى تذاكرها، والتدبر فيها، فلعل بعضنا يجد وجه النقص فيه فيحاول استدراكه قبل أن يفوت الأوان، ويجد آخر وجهًا آخر للنقص لم يكن مقصرًا في الوجه الأول الذي قصر فيه غيره، فلذلك احتجنا إلى مدارسة هذا الموضوع.
وأول ما نبدأ به هو التنبيه إلى أن الناس جميعًا ينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فقط: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، لا ثالث لهذين القسمين، فلا يمكن الحياد، لكن كل واحد من القسمين على درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163].
فمن السعداء من يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، فهم يصلون إلى درجة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ومن السعداء من يكون دون ذلك إلى أن يكون من أصحاب اليمين، (وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فمنهم من يبدأ أولًا في النار ثم يخرج منها بإيمانه فيدخل الجنة بعد ذلك، وأولئك يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم من لا يرى النار إلا تحلة القسم ثم يذهب به إلى الجنة، ومنهم من يمكث فيها مئات السنين، ومنهم من يمكث فيها آلاف السنين، ومنهم من يمكث ملايين السنين، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم يخرج منها من أراد الله به الخير فينقل إلى جنات النعيم، وكذلك لأهل الشقاء دركات متباينة، فلا شك أن أهل النفاق هم أسفل أهل النار فيها يوم القيامة: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، ثم أهل الشرك على تفاوت دركاتهم، فمن أكمل جوانب الشرك نسأل الله السلامة والعافية يستحق الخلود الأبدي السرمدي في النار، وفوقه من وقع في جانب من جوانب الشرك ونجا من بعض الجوانب.
ثم فوق ذلك العصاة من المؤمنين على تفاوت أكيانهم، فمنهم أصحاب الكبائر الموبقات، كأصحاب قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، فأولئك توبقهم سيئاتهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية، ثم فوق ذلك أصحاب الكبائر الأخرى التي هي دون الموبقات، وأقلهم شأنًا أصحاب اللمم الذين يطهرون بالنار، ثم يعادون بعد ذلك إلى الجنة.
علينا أن نعلم أن الميزان الذي تقاس فيه الأعمال بمقاييس الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]، هو ميزان حقيقي له كفتان ولسان، إما أن ترجح فيه كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات، وإما أن يقع التساوي، فأول وزنة توضع في الميزان هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده سبحانه وتعالى، فهذا أول ما يوضع في كفة الحسنات، لأنه إذا لم يحصل فلا نفع فيما سواه، ولذلك قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
وقد صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! (إن عبد الله بن جدعان كان يطعم اليتيم والفقير والمسكين والضيف وابن السبيل، أفيغنيه ذلك عنه من الله شيئًا؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين؛ فلذلك لابد أن يستحضر الإنسان أن أول ما يوضع في كفة الحسنات هو الإيمان بالله، وأن أول ما يوضع في كفة السيئات هو الشرك بالله.
والإيمان بالله بين النبي صلى الله عليه وسلم أن له ستة أركان، فإذا خرم ركن منها تهاوت الأركان الباقية، فإن جبريل حين سأله عن الإيمان؟ قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )، فمن نقص إيمانه من أحد هذه الأركان تهاوت بقية الأركان لا يقبل إيمانه بالبقية، إلا إذا كان معذورًا بعذر خارجي، ثم بعد هذا في كفة السيئات أول ما يوضع فيها الشرك بالله، فهو أكبر الكبائر: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، والشرك بالله درجات كثيرة، فأعظمها: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، بأن تشرك غيره في العبادة، أن تصرف شيئًا من عبادتك لغير الله تعالى، فهذا أعظم أنواع الشرك.
ثم من أنواع الشرك الكبرى كذلك: دعوة غير الله، دعاؤه من دون الله، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]، وقال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].
وكذلك من هذا الشرك بالله سبحانه وتعالى: الشرك معه في التشريع، بأن يعتقد أحد أن أحدًا يحل أو يحرم أو يحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، فقد بين الله أن ذلك من الشرك فقال في محكم التنزيل: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21]، وقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40].
كذلك من أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وهو أن يحب الإنسان ندًا لله، يحبه كحب الله، بأن يطيع مخلوقًا في معصية الخالق، أو أن يخافه مثلما يخاف الله، أو أن يحبه مثلما يحب الله، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، وهذا الجانب بخصوصه لابد من التريث فيه؛ لأن إيماننا في كثير من الأحيان لا يصل إلى العواطف، فكثير من الناس إيمانهم وتعاملهم مع الله جاف، لا يتعلق بالمحبة، فلا يجدون تعلقًا بالله سبحانه وتعالى وأنسًا به، وتوكلًا عليه، واتصالًا به في كل الأحيان، بل يشغلون مكان الحب من عواطفهم بحب مخلوقات زائلة ذاهبة، والله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، فلابد أن نأطر أنفسنا أطرًا على محبة الله سبحانه وتعالى، والتعلق به والأنس به، ثم بعد ذلك أن نحب ما يحبه الله، فلابد أن نؤطر أنفسنا على محبة من يحبهم الله سبحانه وتعالى، وعلى محبة كل ما يحبه الله عز وجل، فإن ذلك من حب الله.
فمن حبك لله: أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتم إيمانك إلا إذا كان أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، ومن والدك وولدك والناس أجمعين، وكذلك حبك لكل رسل الله، وملائكته، فإذا أحببت الله حبًا شديدًا، وعرفت أنك قاصر عن عبادته التي يستحقها، فإن عليك أن تحب جبريل و ميكائيل؛ لأنهما يعبدان الله حق عبادته، ثم تحب الملائكة المقربين لحبهم لله وعبادتهم له؛ لأنهم يؤدون عملًا تعلم أنه حق وأنت عاجز عن أدائه، فلذلك تحب الملائكة وتحب أولياء الله من البشر كذلك؛ لأنهم والوا الله سبحانه وتعالى وأحبوه، فأحببتهم لحبهم لله سبحانه وتعالى، وتحب كذلك كل عمل يحبه الله، وتبغض كل عمل يبغضه الله، فلابد أن يكون الإيمان حبيبًا إليك، وأن يكون الفسق والكفر والعصيان بغيضًا عندك تكرهه غاية الكراهة، فبهذا تنال حلاوة الإيمان.
أن تقدر أن وقوعك في معصية لله هو مثل أن تربط في الحبال ويرمى بك في النار بعد أن أنقذك الله منها، فتكره الكفر والمعصية كما تكره أن يرمى بك في النار، وأن تحب الإنسان لا تحبه إلا لله، لا طمعًا ولا رغبًا ولا رهبًا ولا نسبًا، إنما تحبه لأنه يحب الله فقط، فبهذا تنال حلاوة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
ثم لابد أن تكره كل عمل يؤدي إلى سخط الله سبحانه تعالى حتى لو كان واقعًا منك فتكون مختفيًا به تكرهه، فالمؤمن ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (من سرته حسنته وساءته سيئته)، فلابد أن تسرك حسنتك وأن تسوءك سيئتك حتى يتكامل لديك الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].
ثم بعد هذا تأتي إلى جانب الشروط، وأول ما يوضع في الميزان بعد التوحيد: حقوق الآدميين فهي عظيمة؛ لأن الفقراء إليها محتاجون، وحقوق الله هو سبحانه غني عنها لا يحتاج إلى شيء منها، فلذلك لابد أن يبدأ بحقوق المخلوقين أولًا، فأمن الناس عليك وأولاهم بحسن العلاقة رسول الله صل الله عليه وسلم المبلغ عن الله، ثم من بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منتهاه، ثم بعد ذلك والداك، فأمك أحق الناس بحسن صحابتك، ثم بعدها أبوك ثم أدناك أدناك بعد ذلك، فلابد حينئذٍ من مراجعة صلة الرحم ليتحقق الإنسان من هذا الجانب من كفة الحسنات، ومن كفة السيئات أيضًا، فإن قطيعة الرحم عظيمة في الميزان، وهي الجانب الثاني بعد التوحيد، فإن الله تعالى يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24]، وكذلك قال: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فلابد من الحفاظ على حقوق الآدميين.
وتذكر أنك ستحشر إلى الله سبحانه وتعالى حافيًا عاريًا أغرلا ليس معك إلا عملك، ولابد حينئذٍ أن تقضي الحقوق في هذه الحياة قبل أن لا يكون دينار ولا درهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( تعافوا الحدود بينكم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم )، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء الحقوق إلى مستحقيها قبل أن يخاصموه بين يدي الملك العدل الذي لا يظلم عنده أحد، فإذا أحس الإنسان أنه في هذا الجانب مقصر فعليه أن يبادر البدار البدار، قبل أن يحلقه الموت، وعليه حقوق للآدميين، ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه النقطة تنبيهًا عظيمًا، حين سئل عن الشهادة في سبيل الله هل تكفر الذنوب؟ فقال: (نعم، ثم دعا السائل فقال: إلا الدين فإن جبريل قاله آنفًا)، فحقوق الآدميين وديونهم لا تكفرها الشهادة في سبيل الله، مع أن الشهاد في سبيل الله هي أعظم امتحان يمتحن به الإنسان في الحياة أن يقدم نفسه لله سبحانه وتعالى، ويغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، كل ذنب كان اقترفه، ويزوج من سبعين من الحور العين، لكن مع هذا فإن الدين وحقوق الآدميين لا تقضي عليها الشهادة في سبيل الله، بل لابد أن يحاسب عليها، لكن الله يقضي الديون عمن شاء من عباده تكرمة له يوم القيامة.
ثم بعد هذا تأتي يا أخي إلى جانب الأوامر ستجد أن آكد الأوامر الصلاة، فهذه الفرائض الخمس لابد أن تحافظ عليها غاية المحافظة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حفظهن وحافظ عليهن، حفظ دينه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظهن ولم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه )، فلابد من الحفاظ على هؤلاء الصلوات الخمس وإتقانهن وأدائهن على الوجه الأكمل الأمثل، فذلك درجة من درجات الميزان، إذا لم توضع فيها الصلاة فستكون حينئذٍ ذات مكان كبير شاغل لا يسده غيرها.
فحافظ يا أخي على أن تكون في كفة حسناتك الصلوات الخمس كاملة ليست منقوصة بأي نقص من أنواع النقص، واجتهد يا أخي في أن ترقع كل شيء فاتك منها بالنوافل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول لملائكته يوم القيامة إذا وجدوا خللًا في صلاة العبد: ( انظروا، هل لعبدي من نفل، فيتمم له فرضه )، فلذلك حاول يا أخي بكل جد واجتهاد أن تحافظ على خمس صلوات، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، هؤلاء العمال الولاة والحكام، أهم أعمالهم ليس جمع الأصوات، ولا قسمة الإسعافات، ولا ضبط الحالة المدنية، ولا ضبط الأمن في بلادهم، بل أهم شيء يشتغلون فيه الصلاة، إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لمن سواها أضيع وأضيع.
فهي أمانة الله عندك، وهي العهد الذي بينك وبين الشرك والكفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وقال: ( حد ما بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، فلذلك لابد أن نحرص على أدائها غاية الحرص، ونحن نعلم أن كثيرًا منا يحب الصلاة، ويحب أداءها، لكنه يقصر في كثير من أمورها، فقليل منا من يعتني بخشوعها، وقليل منا من يعتني بالحضور فيها من أولها إلى آخرها، وكثير منا الذين يتغافلون عن أدائها في الجماعة في المسجد، وكثير منا ينامون عن بعض الصلوات، وبالأخص صلاة المنافقين، صلاة الفجر، فكثير هم أولئك الذين ينامون ولا يستيقظون حتى تطلع الشمس أو تكاد، فينظرونها خارج وقتها أو عند نهايته، وأولئك لا شك سيجدون حفرة عظيمة وهوة كبيرة في كفة الحسنات يوم القيامة.
فلذلك لابد أن تبادر يا أخي لسد هذه الهوة العظيمة التي يصعب سدها، وأن تحافظ على صلواتك كما أمرك الله بذلك، وأن تعلم أنها عمود الإسلام، وأنها عماد الدين، فهي الصلة بينك وبين الله سبحانه وتعالى، وإذا أديتها كاملة فهي تكفير لكثير مما تقع فيه من المحظورات، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبًا منكسرًا، فقال: ( يا رسول الله: لقيت امرأة في الطريق فأصبت منها كل ما يصيب الرجل من امرأته إلا أني لم أزنِ بها، فقال: أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، فقال: اذهب فقد غفر لك )، فهذه الصلاة تكفر كثيرًا من السيئات، من النظرات، من الكلمات، من خلجات النفوس، من السماع، وإنما تكفره الصلاة إذا كانت متكاملة إذا كانت بطهارتها وسواكها وحضورها وخشوعها، والاستواء في الصف، فإن الإنسان إذا توضأ تخرج الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظافره، وإذا غسل وجهه تناثرت الخطايا حتى تخرج من أهداب عينيه، أو من أشفارها، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، وإذا تمضمض خرجت من بين أسنانه، وأضراسه، وإذا غسل يديه تساقطت سيئاته مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل رجليه تساقطت سيئاته وتحاتت مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم بعد ذلك تكون خطاه إلى المسجد، كل خطوة تكتب له بها حسنة وتمحى بها عنه سيئة، وترفع له بها درجة، ويكون انتظار الصلاة بعد الصلاة كذلك تكفيرًا عظيمًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
فيا أيها الذين يتذكرون ما فرطوا فيه بجنب الله، ويخشون مما مضى من سيئاتهم، يا أيها النادمون المقبلون على الله سبحانه وتعالى! اعلموا أن الحل هو في هذا المسجد، هو أن تذهبوا إلى المساجد في ثلث الليل، وأن تطهروا عند أول الوقت، وأن تجيبوا منادي الله إذا سمعتم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأن تنتظروا الصلاة بعد الصلاة، وأن تحبسوا جوارحكم عن المعصية في مساجد الله.
ثم بعد هذا تأتي الدعائم الأخرى تباعًا، فالزكاة أخت الصلاة، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن الزكاة أخت الصلاة، فوالله لأقاتلن من فرق بينهما، والله تعالى يقول في كتابه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7]، ويقول في كتابه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر، ليس بها عرجاء ولا عقصاء، لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، تضربه بأخفافها وأظلافها، وتنهشه بأسنانها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه آخرها أعيد عليه أولها حتى يقضى بين الناس، وما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا أحمي عليها في نار جنهم، ثم تجدف أشداقه بالمجاديف فلا يوضع دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم )، فلذلك لابد أن نحافظ على أداء الزكاة، وأن نعلم أن كل سلامى منا كل يوم تطلع فيه الشمس عليه صدقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس).
فعلينا عباد الله أن نؤدي حق الله المتعلق بالمال، وأن نحذر من الانتقاص منه، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141]، فعلى الإنسان أن يجعل الزكاة مثل الصلاة، ينتظر زوال الشمس لصلاة الظهر، وينظر إلى الظل، ويبادر إلى الصلاة في أول وقتها، فكذلك الزكاة ينتظر أول وقتها عندما يدور الحول فيبادر لأدائها قبل أن يتأخر عليه الحول عليه فيموت وذمته عامرة، فإن الزكاة أيضًا إذا لم تؤدّ كانت هوة عظيمة في كفة الحسنات يوم القيامة.
فعلى الإنسان إذا كان ينتقص شيئًا منها أن يعلم أنه دين عظيم، وهوة سحيقة، فعليه أن يبادر لسدها قبل أن يفوت الأوان.
ثم بعد ذلك صيام شهر رمضان، فإن الله سبحانه وتعالى يقول كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزِي به، يترك طعامه وشرابه ولذته من أجلي )، فإن الله سبحانه وتعالى يجزي به جزاءً غير محصور، ولذلك لابد أن نحافظ على الصيام الذي يفرط فيه كثير منا، فإن كثيرًا من الناس يقصرون في صيام رمضان لأتفه الأسباب وأدناها، وإذا كان أحدهم يشكو حرقة في معدته أو صداعًا في رأسه، أو كان أصيب فيما مضى من عمره بلسع حية أو غير ذلك، فكثيراً ما يتذرع بذلك لترك الصيام، ولا يعلم هذا المسكين أن ذلك يقتضي هوة هائلة في كفة الحسنات يوم القيامة، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء ما عليه من الصيام، وأن يعلم أنه حق الله المحض: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ثم بعد ذلك حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، فإن الله تعالى يقول: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس! حجوا قبل أن لا تحجوا، قالوا: وما زال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أجناب أوديتها فلا يصل إلى البيت أحد)، وأخرج أبو داود في السنن وفي إسناد ضعف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليبادر، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة)، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء الحج إذا وجد إليه سبيلاً، والسبيل هو الزاد والراحلة، والسبيل السابلة، أي: الأمن على النفس والمال، فإذا وجد الإنسان فرصة لذلك فعليه أن يبادر إليه، وأن لا يتلهى بالأماني، ولنتذكر قول الشاعر محمد بن سيدي رحمه الله، عندما عزم على الحج، فأراد الناس تأخيره عنه فقال:
تجلد جهد نفسك للفراق وكفكف غرب سافحة المآق
وواصل من عزيمك ما يوازي مُترّات المهندة الرقاق
ونكب عن مقال أخي الهوينا وعنها فهي كاسدة الصفاق
وعن باكٍ وباكية أراقا دموعًا ليس واكفها براقِ
إلى البيت العتيق بنص إحدى عتاق الكوم أو أحدِ العتاق
أجادت خلف غاربها بناء يدا صفو المراتع والمساق
صفا نفسي الصفا ومِنىً مُناها وبالجَمَرات قلبي ذو احتراق
فعلى الإنسان أن يبادر وأن يتذكر ما قاله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على المنبر، فقد قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هؤلاء الأمصار فلينظروا من فيهم ممن استطاع الحج فلم يحج فليفرضوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. وليتذكر قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على المنبر: من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانياً؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97].
ثم بعد هذا ينقلب الإنسان إلى جانب التروك، فلينظر إلى ما حرمه الله من الموبقات وكبائر الإثم والفواحش، فليعرضها على نفسه وما كان تاركًا منها فليحمد الله على تركه، ولينوِ أنه ما تركه عجزًا، وإنما تركه لوجه الله امتثالًا لأمره، فإن أكثركم ولله الحمد أو كلكم لم يشرب الخمر قط، ولكن كثيرًا منكم ما خطر بباله يومًا من الأيام أنه ترك شرب الخمر ابتغاء مرضاة الله، وامتثالًا لأمره، بل لأنه لم يرَ الخمر ولم يكن ببلاده ولله الحمد.
فلذلك لابد أن ننوي، أننا نترك هذه الكبائر اجتنابًا لما حرم الله علينا، وطاعة لربنا سبحانه وتعالى، فاستخبارنا لذلك يزيد الأجر بأضعاف مضاعفة، كذلك يعرض الإنسان نفسه على الكبائر الأخرى التي دون هذه الموبقات، فلينظر إلى كل ما توعد الله عليه بنار أو رتب عليه عقوبة دنيوية أو ورد لفاعله اللعن، فليعلم أنه كبيرة من الكبائر، وليحاول التخلص منه مطلقًا.
ثم بعد هذا على الإنسان أن يرجع إلى الأوامر الأخرى العامة، سواء منها ما تعلق بالبدن، أو ما تعلق بالمال أو ما تعلق بالجيران، أو ما تعلق بحقوق الأمة، فليعرضها على نفسه جميعًا وليبادر إليها، فهي وزنة أخرى توضع في كفة الحسنات يوم القيامة، ثم إذا أكمل الإنسان ذلك ورأى أنه قد احتوى على أكثر الواجبات أو أدى ما تذكر أن الله أوجب عليه، فليجتهد اجتهادًا عظيمًا في تكميل ذلك بالسنن، فإن الشيطان يحرص إذا أدينا الواجبات أن يختلس منها ما استطاع.
فإذا أدينا الصلاة يحاول الشيطان أن ينتقص منها شيئًا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الالتفات في الصلاة: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم )، فالشيطان يحاول الاختلاس، وقد لا تشعر أنت بما استجرك إليه من الأعمال حتى في الشرك، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، فلذلك لابد أن تحرص حرصاً شديدًا على التكميل؛ لأنك تعلم أن ثمّ جانبًا قد ذهب به الشيطان، وأن ثم جانبًا ليس بالقليل أيضًا قد ذهبت به النفس الأمارة بالسوء، وأن ثم جانبًا آخر قد يبطله الرياء أو التسميع أو الكبر، ورؤية الفضل على الغير، إلى آخره من أمراض النفوس.
فلذلك حاول أن تكمل بما استطعت من السنن ولتحرص عليها ولتعلم أنها لحاء الفريضة، وأن العود إذا انتزع لحاؤه وقشر فسرعان ما يموت وينوي، فلذلك بادر لئن تلبد على فرائضك من السنن لتكون وقاية لها، ثم اعرض المكروهات على نفسك، فإن كنت واقعًا في بعض المكروهات فاعلم أن ذلك من نقص إيمانك بالله؛ لأن تمام إيمانك بالله يقتضي أن تكره كل ما يكرهه الله، وهذا ذكرناه من قبل، فلذلك حاول يا أخي أن تتخلص من كل المكروهات.
وإن كثيرًا من الناس يغترهم الشيطان، فينظرون إلى المسألة فيرضون من أنفسهم بأن تكون محل خلاف بين العلماء، فإذا رأوا أن المسألة محل خلاف استهانوا بها واستسهلوها، وهذا ما تجدونه كثيرًا لدى كثير من المدخنين، وكثير من الذين يتساهلون في بعض الصفقات الربوية، أو التي فيها احتيال على الربا، يقولون: أليست المسألة محل خلاف بين العلماء؟ يكفي هذا، ومثل ذلك الذين يستبيحون سماع الأغاني المحرمة، أو يستبيحون بعض الأمور التي يختلف الناس في حكمها، أين هذا من الحذر من الوقوع في المكروه، والوقوع في خلاف الأولى، إن الإيمان الذي هو أحب شيء لديك ينتقص بمثل هذه الأمور، وأنت تريد أن تكون سليمًا معافى، أليس الإنسان الذي لم يبتلَ بمرض أقوى من الذي ابتلي بمرض ثم أخذ العلاج، إن الحكماء يقولون:
فما دنس ترجو زوال سواده كثوب جديد لم يزل قط أبيضا
فلذلك عليك يا أخي أن تحرص على السلامة غاية الحرص، ولتعلم أن الأمر يرجع إليك أنت حتى لو قال الناس وقالوا، فاستفتِ قلبك، إنك سيخلو بك ربك ويكلمك كفاحًا دون ترجمان، ويبسط عليك كنفه، وحينئذٍ لا يغني عنك من الله شيئًا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، فاجتهد يا أخي في نجاتك بين يدي الله، ولا يغرنك خلاف الناس في الأمر، أو استهانتهم له، كما أنه يلزم ألا تغتر بكثرة الهالكين في هذه الأمور، فإن الذين يتجاسرون على معصية الله سبحانه وتعالى يعلمهم الشيطان، ويوحي إليهم كثيرًا من الحجج ليجادلوا بها، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
فالشيطان يلقي الحجج على ألسنة الناس يريد بها إيقاعهم في معصية الله سبحانه وتعالى، وإنهم سيندمون إذا رأوا الشيطان ناكصًا على عقبيه عندما يرى ملائكة الله سبحانه وتعالى، فحينئذٍ يذهب عنهم كل المعاذير التي كانوا يعتذرون بها في الحياة الدنيا كما قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]، فبلاغة الإنسان وفصاحته ولدده وخصامه، كله يختم عليه، فيختم على لسانه وتتكلم جوارحه، وتشهد عليه بشرته وأطرافه وأصابعه، وشعره وعضلاته بكل ما عمل بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فلذلك عليك يا أخي أن تحرص على السلامة، ثم بعد هذا احرص أيضًا على الربح فإنك إذا سلمت ونجوت من عذاب الله، فلا يكفي أن تكون في أقل درجة من درجات الجنة:
ولم أرَ من عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام
احرص يا أخي على الفردوس الأعلى من الجنة، احرص على رؤية الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، احرص على أن يكون سقف منزلك في الجنة عرش الرحمن، إن الفردوس الأعلى من الجنة سقفه عرش الرحمن سبحانه وتعالى، احرص على مجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيين، فهو الجار والدار، احرص يا أخي على أن لا تكون من الذين يرضون بالأدنى، ويستبدلونه بالذي هو خير، فإذا حرصت على ذلك كنت من الرابحين؛ لأنك ستعلم أن الناس في تنافس وسباق، ولو أنك بين لك أن أقصى الكمال هو الشخصية المتكاملة للمسلم التي وصفها الله في كتابه، ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ووجدت أنك أنت مقصر، ستجد أن السابقين الذين استكملوا أوجه هذه الشخصية، قد سبقوا بمسافات شاسعة، وأنت لا ترضى أن يكونوا أدنى منك جوارًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا أقرب إليه منك.
فلذلك بادر يا أخي غاية البدار، واعلم أن فضل الله لا يغيض، وأن الباب مفتوح للتسابق حتى تطلع الشمس من مغربها، أو تغرغر عند الموت، فلذلك اجتهد كل الاجتهاد في أن تكون من الباكرين الممسين الذين يبادرون للأعمال الصالحة ويجتهدون فيها حتى يربحوا ذلك الربح الذي ما له حدود.
واعلم يا أخي أن الذين يبادرون إلى ذلك الربح لا يمكن أن يتصوروا جزاءهم ولا أن يعدوه بوجه من الوجوه، فأنت الآن يمكن أن تتصور المضاعفة في كفة الحسنات، لكن لا يمكن أن تتصور الجزاء، فالله تعالى يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه عن ربه عز وجل أنه يقول: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، فلا يمكن أن يوصف لك ما هنالك، فإذا أحسست بذلك فاجتهد كل الاجتهاد للوصول إليه، واعلم أن كل تأخر يؤخرك عنه هو الرزية التي ما بعدها رزية، تذكر يا أخي قول العلامة عبد الله بن محمود رحمة الله عليه عندما خرج من المدينة في رجوعه من الحج:
بان الرسول وبانت عنك طيبته إن الأحبة والأوطان أعداء
فإنه يقول: إن الأحبة والأوطان الذين جعلوه يترك المدينة ويخرج منها ويرجع إلى هذه البلاد بعد حجته أعداء له؛ لأنهم حملوه على فراق المدينة، فكيف بالجنة، إذا كان هذا في أمر دنيوي فكيف بجنات النعيم.
فلذلك اعلم أن كل ما يؤخرك عن الجنة طرفة عين، أو ينقص من درجتك فيها، هو رزية عظيمة وبلاء كبير جدًا، ولا تقس نفسك بالذين يريدون فقط أن ينجوا من النار، وأن يدخلوا عند أعتاب الجنة وأقل شيء فيها، فلا يكفي ذلك إلا من كان لا يعلم سعة عطاء الله، ومن كان لا يعلم التفاوت العظيم بين درجاتهم، ولتتذكر يا أخي ما بينه الله في سورة الرحمن، وما بينه في سورة الواقعة، من التفاوت العظيم بين منازل أهل الجنة، فإنك إذا تذكرت ذلك علمت أن من رضي بالدرجة الدنيا مغبون غبنًا عظيمًا، فكيف بمن لم يصل إليها!
إن عليك يا أخي أن تعلم أن هذه الشخصية المتكاملة للمسلم قد يصبها تشويه، فكثير من الناس يعلم أن صورة الإنسان خلق في أحسن تقويم، له عينان وأذنان، ومنخران وشفتان، ويدان، ورجلان، وصورته متكاملة، فإذا قطعت يده من المنكب كان ناقصًا، إذا قطعت رجله الأخرى من خلاف كان ذا نقص كبير، إذا قطع يداه ورجلاه، كان ذا نقص أعظم، إذا فقد مع ذلك سمعه وبصره كان ذا نقص أعظم، إذا فقد عقله كان كالبهائم، ولتعلم يا أخي أن شخصية المسلم كذلك.
فتوحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به هو الحياة وهو رأس المال، ثم بعد ذلك طاعاته وعباداته هي مثل الجوارح، وذلك أبلغ وأولى من قول ابن الرومي :
وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد
فاعلم أن كل شيء ينقص من أعمالك وطاعاتك هو مثل جارحة نقصت من بدنك، فتكون شخصيتك الإسلامية ناقصة إذا لم تكن مثلًا مشاركًا في الدعوة، أو لم تكن مشاركًا في الجهاد، أو لم تكن مبادرًا إلى المساجد، أو لم تكن من أصحاب الصيام في الهواجر، أو لم تكن من أصحاب القيام في الليالي المظلمة والدياجي، أو لم تكن من أصحاب المبادرة في الصدقات وخدمة الناس، أو حتى لم تكن من الذين يميطون الأذى عن الطريق.
فهذه شعب الإيمان إذا نقصت شعبة فكأنما فقدت عينًا أو أذنًا أو رجلًا أو يدًا، وانتقصت شخصيتك الإسلامية، فبادر يا أخي لتكون شخصيتك متكاملة، واعلم أن نتيجة ذلك عظيمة جدًا، وأنك إذا جئت بشخصية كاملة وبقلب سليم يوم القيامة، فإنه إنما ينتظرك مجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في رضى الله الأكبر الذي لا سخط بعده.
واعلم كذلك يا أخي أن كل نقص في جانب من الجوانب يصعب تكميله من الجانب الآخر، ألا ترون أن من ذهب بصره يصعب عليه التفاهم مع الناس عن طريق الإشارة أو عن طريق السمع المجرد، ألا ترون أن من قطعت يداه يصعب عليه تناول الأمور عن طريق رجليه أو عن طريق أي جزء من أجزاء بدنه، فكذلك يا أخي لا تغتر بنصوص الوعد والوعيد التي تأتي في بعض الأعمال إذا كنت مقصرًا في جانب آخر، فلا تظن أنك إذا كنت كل يوم تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة وكنت مع ذلك مقصرًا في الصلاة، أو تقع في بعض المحرمات أن ذلك كافٍ لك، بل اعلم أن نصوص الوعد والوعيد كلها مقيدة.
الأجر العظيم على العمل اليسير إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود به من عمل ذلك مع بقية الأعمال الأخرى، وأكمل إيمانه، ولا يقصد بذلك من عمل هذا مع التقصير فيما هو آكد منه وأعظم، واعلم يا أخي أن من مداخل الشيطان عليك أن يشغلك بالمفضول عن الفاضل، وأن يحاول أن يجترك إلى أمر تظن أنت أنه خير لك، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الخير فيما هنالك، إنك أنت لا يمكن أن تكون محلًا للتقويم والوزن، بل كل ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فما جعله الله فريضة أو ركنًا من أركان الإسلام فاعلم أنه أعظم وأكبر مما تظن أنت في نفسك أنه أجر عظيم.
واعلم يا أخي أن مدار الأمر في ذلك كله على إخلاصك لله سبحانه وتعالى وحسن تعاملك معه، فإن ذلك مما يعينك على استكمال الجوانب، واعلم أن للجنة هذه الأبواب المنصوصة، فكل باب ينادى منه أهل عمله، ففيها باب الصلاة يدخل منه من كانت الصلاة غالبة عليه، بأن كان محبًا لها في كل أوقاته، ومن الناس من يكون كذلك فتكون الصلاة غالبة عليه لا يحب شيئًا كحبه للصلاة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال )، (وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة)، فهذه الصلاة أمرها عظيم جدًا، وقد حببت إلى عدد من الصالحين، فكانوا يحبونها حبًا شديدًا، مثلما نحب نحن شهوات الدنيا وملذاتها.
فهذا ثابت البناني رحمه الله كان يقول في دعائه في السجود: اللهم إن كنت آتيت أحدًا من عبادك الصالحين الصلاة في قبره فأعطنيها، فسئل عن ذلك؟ فقال: إني لا أجد راحة في شيء من أمور الدنيا إلا في الصلاة وهو يريد راحة القبر، فاحرص يا أخي على أن تكون من المحبين لهذه الصلاة، فإن الله سبحانه وتعالى يظل في ظله يوم لا ظل إلا ظله من كان قلبه معلقًا بالمساجد، إذا خرج من المسجد يتذكر متى يحين الوقت للرجوع إليه، ينتظر الأذان قبل أن يحين وقته، متأهبًا متهيئًا لأنه ذاق طعم الصلاة، وأحس بأنها مناجاة للملك الديان، وتقريب عند بابه.
وتتذكرون قول الإمام عبد الحق الأشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولمنزله معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجابًا، ولا خفض أودية ولا رفع شعابًا، فأولئك الذين فتح الله أمامهم الأبواب، خروا لمناجاته على وجوههم فعفروا له جباههم وأكفهم، ووضعوا أشرف ما في أبدانهم بخفض الأعالي وارتفاع الأسافل على الأرض إجلالًا لوجه الله الكريم، وتقربًا إليه سبحانه وتعالى، فأنسوا به، وذاقوا طعم مناجاته، وتقربوا إليه بهذا العمل الذي يحبه، فأدناهم وتقرب إليهم، فإنه سبحانه وتعالى يقول: (ومن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
ثم بعد ذلك اجتهد يا أخي في أن تحرص على أن تكون من الذين يدخلون أو ينادى بأسمائهم من باب الصدقة، فهو باب عظيم من أبواب الجنة، والناس يستظلون بظل صدقاتهم يوم القيامة، فمن مستقل أو مستكثر، فاحرص على أن تكون من أولئك المشاركين في هذا الباب العظيم، الذين يقرضون الله قرضًا حسنًا فيضاعفه لهم أضعافًا كثيرة، والله يقبض ويبسط، فاجتهد أن تكون من المبادرين لنداء الله، عندما سمعت قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245]، فبادر كل المبادرة لأن تكون من الذين يقرضون الله قرضًا حسنًا.
ثم بعد ذلك احرص على أن تكون من أصحاب باب الريان، وهو باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلن يدخل منه أحد، باب عظيم من أبواب الجنة، اجتهد على أن تكون من أهله.
ثم اجتهد يا أخي واحرص كل الحرص على أن تكون من أهل باب الجهاد في سبيل الله، وذلك بمشاركتك في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فأنت تحب الله وتحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحب هذا الدين، وهي الأمور الثلاثة التي تسأل عنها في قبرك، تسأل ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فاجتهد في أن تكون من المخلصين لربك ولنبيك ولهذا الدين الذي تنتمي إليه، وأن تكون من الساعين لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه بما تستطيع، فإن استطعت الجهاد بالنفس فبها ونعمت، وإن لم تستطع، فإذا استطعت الجهاد بالمال فبها ونعمت، فإن لم تستطع فكن مناصرًا بلسانك، فإن لم تستطع فبدعائك، وهكذا فالجهاد درجات عظيمة، وهو أربع عشرة درجة.
أربع منها لجهاد النفس، وهي جهادها على تعلم ما أمر الله به، ثم جهادها على العمل بما تعلمته، ثم جهادتها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم جهادها على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله، واثنتان لجهاد الشيطان، جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات، وأربع لجهاد المنافقين، وهي جهادهم بالقلب، وجهادهم باللسان، وجهادهم بالمال، وجهادهم باليد، وأربع لجهاد المشركين، وهي جهادهم بالقلب، وجهادهم باللسان، وجهادهم بالمال، وجهادهم باليد، فتلك أربع عشرة درجة من درجات الجهاد، فاحرص يا أخي على أن تكملها إن استطعت، فإن لم تستطع فافعل منها ما استطعت.
ثم بعد ذلك احرص على تمام بقية أبواب الجنة، وأن تكون من المشاركين في كل طاعة، الذين لا يمكن أن يذكر الله سبحانه وتعالى في ذكر إلا كانوا من أهل ذلك الذكر، فالذاكرون الله كثيرًا والذاكرات هم المبادرون إلى ذكره عند أمره وعند نهيه وذكره باللسان، وذكره بالقلب، وذكره بالعبادة كلها، فكل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر.
واحرص يا أخي على أن تكون في عداد أولئك الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، إن من حرص على هذا يتحقق له أمران، أحدهما: عدم أمن مكر الله، فإن من حرص على ذلك فإن معناه أنه يخاف مكر الله سبحانه وتعالى، ويخاف سرعة أخذه الوبيل ومحقه السريع، فلذلك هو يخاف الله خوفًا شديدًا، ومن هنا لا يمكن أن يتعدى ولا أن يقع فيما يعلم أن عقوبته عظيمة جدًا، فإن من تمام معرفتك لله سبحانه وتعالى أن تستشعر أخذه الوبيل وعقابه الشديد، وأن تحذر ذلك كل الحذر، فإذا عرضت لك معصية من معاصي الله كنت من المعرضين عنها الزاهدين فيها، إذا عرضت عليك مخالفة ولو كانت ذات مكسب مادي، في هذه الحياة كنت من الزاهدين فيها المعرضين عنها، إذا خلوت بشيء من محارم الله لم تكن من المنتهكين، فإن ذلك هو الذين يأمن الإنسان به مكر الله، أما الذي إذا عرض عليه شيء من محارم الله، وجد نفسه سريعة إليه منقادة إليه، وإذا عرض بين يديه شيء من طاعاته، وجد نفسه مثبطة له متأخرة، فليحذر أن تكون كفة سيئاته راجحة على كفة حسناته يوم القيامة، والذي يجد نفسه إذا خلت بمحارم الله سريعة إلى انتهاكها والوقوع فيها، وإذا وقع في معصية لم يجد نفسه سريعة إلى الأوب والإنابة والتوبة إلى الله، فليحذر أن تكون كفة سيئاته راجحة يوم القيامة.
إن على الإنسان إذا استزله الشيطان في معصية من معاصي الله سرعة الأوبة والرجوع، مبادرًا إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، يستشعر نداء الله، إذ يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ[الزمر:53-54]، ثم بعد هذا أن لا يقنط من رحمة الله، فمع الخوف من مكر الله سبحانه وتعالى كذلك لابد أن يحذر الإنسان من القنوط من رحمته، فإن من وقع في ذنب من الذنوب ثم أناب وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله يتوب عليه، والله تعالى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة:104]، ويقول في محكم التنزيل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ[النساء:17-18].
فلذلك لابد أن تبادر يا أخي إلى التوبة، وأن تكون من سريعي الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، الذين ينيبون في كل لحظة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، وقد صرح بذلك عن نفسه، فقال: ( إني أستغفرك الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )، فلذلك علينا جميعًا أن نتوب إلى الله كما أمرنا بذلك في قوله: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، فإذا تاب الإنسان وعرف أنه قد ندم على ما فرط فيه في جنب الله، لا يريد بذلك جزاءً ولا شكورًا دنيويًا، وإنما يريد به ابتغاء مرضاة الله وخوفًا من عقابه، وإقبالًا عليه، فإن الله يخفف عنه ثقل السيئات الذي كان يحول بينه وبين الإسراع في الطاعات، فحينئذٍ يجد في نفسه خفة للطاعة وتنقاد جوارحه لها، فكلما ازداد الإنسان إيمانًا ويقينًا، كلما سهلت عليه العبادة وخفت عليه.
ولذلك قال الله تعالى في شأن الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة:45]، فمن كان من الخاشعين تسهل عليه الصلاة وتهون عليه ويستريح بها، ويذوق طعمها، ويذوق بها لذة المناجاة ويقبل بها على الله سبحانه وتعالى، ويتمنى أنها لم تنتهِ ولم تنقضِ بعد، ولذلك فإن أحد المذكورين بالصلاة في هذه البلاد، وفي هذه البلاد الإفريقية وهو الشيخ أحمد بومبا رحمه الله لما أجلاه النصارى من السنغال إلى موريتانيا، كان على بعير يقود به قائد، فكان كلما مر برقعة من الأرض بيضاء، أناخ راحلته وقال: ما أحسن هذه الرقعة فجدير بالله أن يسجد له فيها، فيحرم ويصلي ركعتين، وكان طويل الصلاة جدًا، فاشتكى رفقاؤه الذين أمرهم النصارى بمرافقته، فاشتكوا من طول صلاته، ومن تأخره، وقد مكث مدة طويلة في مسافة يسيرة، لأنه كلما رأى رقعة من الأرض قال: ما أحسنها جدير بالله أن يسجد له فيها، فيحرم ويصلي، وكان يذوق طعم الصلاة.
فلذلك لا بد يا عباد الله أن نحرص على أن نتذوق طعم العبادة كلها، وأن نحرص على أن نكون من المبادرين إليها، وأن لا نكون من المتأخرين الذين يأتون في آخر الركب، وأنتم الآن خصكم الله سبحانه وتعالى بنعمة جسيمة قلّ من يستشعرها منكم ألا وهي أنكم تعيشون في زمان قبل الفتح، فهذا الدين غريب الآن كغربته الأولى، فالملتزم به كالقابض على الجمر، يؤذيه أقاربه، تطرق إليه الألسنة، يتكلم الناس في التزامه، يتهمونه في اعتقاده، يتهمونه في نيته، يتكلمون فيه بكل أنواع الكلام، فهي غربة شديدة مثل الغربة في صدر الإسلام، والذين يعملون فيها، ويؤدون فيها ما شرع الله سبحانه وتعالى أجورهم مضاعفة عظيمة كما قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فحالكم الآن يقتضي أن تبادروا إلى الأعمال الصالحة في هذا الوقت، الذي أدبر الناس فيه عن الطاعات، وأن تكونوا من المقبلين على الله في الوقت الذي زهد فيه كثير من الناس في الدين، فقد أصبح كثير من أبناء هذا الزمان يظنون أنهم في غنى عن دين الله، ولا يحتاجون إليه أصلًا في شيء من أمور حياتهم، وهذه الغربة قد ضربت بعطن بين أظهركم.
فبادروا رحمكم الله سبحانه وتعالى لئن تكونوا من المتمسكين بالدين الآخذين بالكتاب بقوة، الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، فأولئك هم الذين ينور الله وجوههم، ويعينهم على سلوكهم، وتضاعف لهم أعمالهم كما يتصدق به الواحد منهم ولو كان مدًا من شعير أو نصيفًا يوزن بجبل أحد ذهبًا في وقت الرخاء وقوة الدين.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الربح العظيم هنالك عندما توضع الأعمال في الميزان، لا يمكن أن يحصل إلا بعد ترقب وتهيؤ، فلحظة الوزن لابد أن يهتز فيها كيان الإنسان، وأن يستشعر الخطر، حتى لو كان من الشهداء ومن الصديقين ومن الصالحين، لابد أن يخاف وقت الوزن خوفًا شديدًا.
ومن الغريب أن الإنسان عندما يجيز سؤال الملكين في القبر يرى مقعده من الجنة، لكن مع هذا عند الوزن ينسى ذلك، فيخاف خوفًا شديدًا، ومثل ذلك عندما تعرض الصحائف فيأخذ بعض الناس كتابه بيمينه، وبعضهم كتابه بشماله، فخوف شديد يحصل حينئذٍ، ورعب عظيم عند الناس، فإن الناس حتى لو رأوا مقاعدهم من الجنة من قبل ينسون ذلك، فهم في خوف شديد في ذلك الوقت، كل إنسان منهم يخاف أن يعطى كتابه بشماله.
فلذلك اعلموا رحمني الله وإياكم أنكم حتى لو ازدادت استقامتكم على الصراط لابد أن يبقى الإنسان يعيش بين الخوف والرجاء، فقلبه متعلق بتلك الدرجات العلى، وعمله قاصر لا محالة وهو يتذكر أنه يريد منافسة أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، و سعد و عمار و مصعب .. وغيرهم من السابقين الأولين، وهو يعلم ما فيه من القصور والضعف، ويعلم أن كثيرًا من الناس يلومونه على كثير من الأعمال، فلذلك عليكم جميعًا أن تنظروا إلى رضا الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر