بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن مفهوم الشباب مفهوم يختلف باختلاف إطلاقه؛ فقد يرد ويقصد به سن معينة يمر بها الإنسان في تكوينه، وهي المدرجة في المرحلة السابعة من المراحل التي بين الله تعالى في كتابه في خلق الإنسان؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان تسع مراحل يمر بها؛ وهي المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
فهي تسع مراحل؛ السابعة منها هي قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، والمقصود بها تنامي الإنسان بعد ميلاده إلى أن يبدأ ضعيفاً ثم يقوى، ثم يضعف الضعف المقرون بالشيبة، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثامنة وهي الموت، ثم تأتي المرحلة التاسعة، وهي البعث بعد الموت.
إن هذه المرحلة من حياة الإنسان تبدأ في حال الضعف، وتشهد واقعه الأول الذي هو خروج من الظلمات؛ التي هي: ظلمات الرحم، والبطن، ثم بعد ذلك دخول إلى هذه الدنيا التي فيها الأنوار والظلمات، ثم يمكث الإنسان أطوار التربية فيها، وبعد ذلك ينتقل إلى مدة عمره إلى أن يصل إلى ارتفاع الشباب وقوته، وهذه المرحلة هي مرحلة الخصوبة في حياة الإنسان، فهي التي يصلح فيها للتلقي عن الله سبحانه وتعالى، والتعلم والفهم؛ لأن هذا العقل بفطرته، وبخلق الله تعالى له يستعد للتلقي والقبول في بداية الشباب، وإذا بلغ شخص من العمر عتياً؛ فإن إمداد عقله سيضعف؛ وذلك إمداد عقل الفطرة، ويبقى يعوض له بعقل التجربة الذي يكتسبه مع طول العمر، ومع ما مر عليه من التجارب، لكن العقل الفطري يتوقف إذا بلغ أشده من العمر؛ وهو أربعون سنة، وهذه نهاية عمر الشباب، وهي التي يرسل الله عليها الرسل.
فالله سبحانه وتعالى عندما قص علينا قصة موسى ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة، وعندما قص علينا قصة يوسف ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة, والرسول صلى الله عليه وسلم بعث حين أكمل أربعين سنة، وهذه القاعدة لم يشذ عنها إلا نوادر قلة؛ فـعيسى عليه السلام أخبر الله أنه آتاه الحكم والكتاب صبياً، وقد تكلم في المهد، وأخبر عن ذلك في قوله: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:30-32].
وكذلك يحيى عليه السلام أخبر الله سبحانه وتعالى في امتنانه على أبيه زكريا حين سأل الله الذرية الصالحة، أخبر عنه أنه يؤتيه الكتاب والحكم وهو في صباه؛ لكن القاعدة العامة: أن الرسل إنما يبعثون على إكمال الأشد، وذلك إذا أتموا أربعين سنة.
أما ما قبل الأربعين فهي فترة الخصوبة في عمر الإنسان، ووقت الاستفادة والتلقي، وهو وقت عظيم جداً وخطر؛ لأنه سلاح ذو حدين، إما أن يصرف في المنجاة الدائمة الخالدة الباقية، وإما أن يصرف في الهلاك والبوار الذي يشب عليه، ويشيب عليه، ويستمر إلى القبر.
وتذكرون قصة صالح بن عبد القدوس حين دخل على المهدي الخليفة؛ فذكر أنه تائب من الزندقة، فقبل المهدي توبته واستتابه بين أيدي الناس، فأشهر توبته، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم انصرف راجعاً فدعاه، فقال: أنشدني قصيدتك السريعية السينية، فظن أن الخليفة معجب بقصيدته فأنشده إياها، فما وصل إلى قوله فيها:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
قال: حكم الشيخ على نفسه، يا حرسي اقطعوا رأسه؛ فالشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه، لكن الشاب يمكن أن يتغير، ويمكن أن يستفيد في تربيته، وينتفع في الأطوار التي تمر عليه؛ ولهذا شرعت التربية في هذه المرحلة، والعرب يقولون: العوان لا تعلم الخمرة، والعوان معناه: غير الفارض، وغير البكر التي قد ذهبت أسنانها من النعم، فهذه يلحق بها ما كان يشبهها من بني آدم؛ فالمرأة العجوز لا تعلم الخمرة معناه: هيئة لي الخمار على رأسها، وستر رأسها بالخمار؛ لأنها قد جربت ذلك، والمقصود في المثل أن من كبرت سنه على وجه معين يصعب تغييره عن ما ألف وما تعود.
ومن هذا المنطلق نعلم أن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا إلا شباباً في أغلب الأحيان، ومن النادر أن يكون فيهم الشيوخ الكبار، انظروا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأوا تراجمهم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لثمانية آلاف وخمسمائة منهم، ليس فيهم كبير سن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجموعة معدودة على الأصابع، منها قوم مخضرمون عاشوا ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، لكن الكبار الشيوخ قلة جداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي كان جسمه جسم شيخ كبير، وعقله عقل شاب ثقف متأدب؛ ولهذا قال يوم بدر حين خرج إلى البراز؛ فبارز عتبة بن ربيعة حتى قتل كل واحد منهما الآخر، وأطن عتبة ساقه، وحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما وضع بين يديه وهو يجود بنفسه، قال: يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نبزى محمد ولما نقاتل دونه ونناضل
فنسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولقي الله وهو عنه راض، وكان من شهداء بدر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وكذلك قلة من الأنصار من كبار السن، هم الذين أسلموا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم: عمرو بن الجموح الذي كان أولاده يحتالون عليه، ويشوهون عليه صنمه؛ لعل الله أن يهديه إلى الإسلام، وكان سيد قومه، وكان شديدًا على المسلمين في بداية العهد، ولكن أولاده وزوجته ما زالوا يحتالون عليه حتى هداه الله إلى الإسلام؛ فجاء يوم أحد، وقد ندم على ما فاته من الجهاد في سبيل الله، وكان رجلاً أعرج؛ فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بعرجته إلى القتال؛ فقال: (إن الله قد عذرك)، فالله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]، ( فقال: يا رسول الله! إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة )؛ فقتل يوم أحد ولقي الله وهو عنه راض، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره، ودفن هو و عبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وكانا من الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام، حين وقف عليهم فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
هؤلاء الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلبهم من الشباب الذين ليس لهم تلك المكانة في قومهم، وليست لهم تلك المنزلة المرموقة في الملأ المقدم، ولا في الأغنياء، ولا في قادة القبائل، وإنما هم أفراد لا يؤبه لهم، لا يفتقدون إذا غابوا، ولا يقام إليهم إذا شهدوا، وهؤلاء هم الذين استطاعوا أن ينتصروا على أهوائهم، وآثروا الآخرة على الأولى؛ فقدموا أنفسهم قرباناً إلى الله سبحانه وتعالى، وصدقوا في بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، وسلكوا طريق من سبقهم.
فـنوح عليه السلام يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن مجادلة قومه له أنهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، وكذلك أخبرنا الله تعالى عن موسى فقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]، وكذلك يخبرنا عن أصحاب الكهف الذين تقرأ قصتهم في مقدمة سورة الكهف؛ هذه السورة التي هي عصمة من الدجال ، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].
وكذلك لم تشهد المدينة في بداية هذه الدعوة انتشار النفاق في أوساط الشباب، وإنما كان الشباب هم الذين يطلعون على أخبار المنافقين، ويكافحون مخططاتهم، فها هو زيد بن أرقم كان يتيماً تربى في حجر رجل غني من بني عمه، وكان ربيبه زوج أمه، وأحسن إليه، وسد له مسد أبيه، ولكنه آثر الله ورسوله عليه؛ فكان رديفه ذات ليلة، فسمعه يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعها هذا الولد الصغير، سمعتها أذناه، ووعاها قلبه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال لهذا الرجل الذي هو ربيبه: (والله إنك لأمن رجل علي، ولكني آثرت الله ورسوله، ووالله لأبلغن ما سمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، جاء الرجل يعتذر ويحلف لقد كذب عليه الولد، وشهد له الناس بأنه هو الصادق، وأن الولد الكاذب، فجاء جبريل من فوق سبع سموات فشهد بصدق زيد بن أرقم؛ فحك رسول الله أذنه وقال: أذن واعية).
كذلك كان منهم فتى صغير حدث له عم كبير من سادة قومه، وهو أبو عفك وكان ضريراً أعمى، فكان إذا خلا بنفسه في الليل ولم يحضره إلا أقاربه، ذكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الهجاء الذي يهجوهم به ابن الأشرف وجماعته من اليهود، فردده هذا المنافق؛ فسمع ذلك هذا الشاب من قريبه هذا، فلم يتحمل سماعه فقام إلى سيف ووضعه في سرته، واضطجع عليه حتى قتله، وأنشد أبياته التي يقول فيها:
أبا عفك خذها على كبر السن
هؤلاء هم الذين لم تثقل كواهلهم أعباء هذه الدنيا ولا مشاغلها، ولم يتحملوا كثيراً من المسئوليات؛ فاستطاعوا أن يؤثروا الآخرة على الأولى، ولم تتعلق قلوبهم بمصالح هذه الدنيا الفانية، صلحوا لأن يستقبلوا عن الله سبحانه وتعالى، وأن يتفهموا كلامه، ولم تنطو قلوبهم على الغل والحسد.
فكثير من الناس أولئك الذين إذا سمعوا الحق أعرضوا عنه ونفروا، ولا يستطيعون سماعه ولا تحمله، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51].
هؤلاء لا يتحملون سماع الحق، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله في سورة الأعلى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:10-13]؛ فالأشقى: هو الذي لا يستطيع أن يتحمل سماع الذكرى، ولا يستفيد منها.
وقوم آخرون يسمعونها، ولكنها تباشر آذانهم، ولا تباشر قلوبهم، لا تحملها الآذان إلى القلوب؛ فتكون حجة عليهم، وهؤلاء هم المنافقون، يحضرونها بأبدانهم وتفر منها قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].
وهناك قوم آخرون يفصلون في الاستفادة واستماع الذكرى؛ فيسمعونها من بعض الناس دون بعض، يعجبهم بعض الأشخاص فيسمعون منهم، ولا يعجبهم آخرون فيعرضون عنهم، وهؤلاء لم يزنوا الأمور بميزانها الشرعي؛ والميزان الشرعي: أن ينظر إلى القول، لا إلى القائل، والعبرة بالفكرة لا بلاغة قائلها؛ فمن قال حقاً أخذ منه حتى ولو كان إبليس عليه لعنة الله؛ فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي هريرة رضي الله عنه: (صدقك وهو كذوب)، وهو الشيطان؛ فالعبرة حينئذٍ بالحق، فهو الذي تعرف به الرجال؛ ولا يعرف الحق بالرجال؛ ولهذا فإن المشركين حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:31-32].
لهذا فإن كبار السن الذين يستفيدون من واقع معين يعيشونه لا يريدون أن يتغير ذلك الواقع، يريدون أن تبقى الأمور على هيئتها، وأنتم تذكرون المثل الحساني الذي يضربه الناس للحمير في بداية الربيع، فإنهم يسألون الله ألا يطول النبات حتى يقتصر نفعه عليهم، وما هؤلاء ببعيد من ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حجرت واسعاً، رحمة الله وسعت كل شيء)، الجنة عرضها السموات والأرض؛ فلذلك نجد أن هذا المفهوم للشباب راجع تحديده إلى السن، وينتهي عند اكتمال الأربعين.
لدينا مفهوم للشباب آخر، وهو أوسع من الذي سبق، وهو: مفهوم النشاط، والتقبل من الآخرين، والتحرر من أوضاع المجتمع، وما هو فيه، وذلك بقوة الشخصية المتجددة، والشجاعة في الحق.
هذا المفهوم يشمل الشيوخ والشباب، وهو المقصود في الشباب، إذ ليس المقصود في الشباب مجرد هذه السن؛ فكثير من المعرضين عن الحق، والذين يشتغلون باتباع أهوائهم، واتباع شياطينهم يكونون في هذه السن؛ في سن الشباب؛ ولذلك يقول بعض الناس: ابن العشرين لا عقل ولا دين، ويصفونه بأوصاف أخرى؛ لكن المهم أن هذا النشاط، وهذه الجراءة والشجاعة، وتحمل المسئولية هو المطلوب، سواء حصل في صغار السن أو في كبارها؛ فهو الذي يمكن صاحبه من تحمل المسئولية، فكثير من كبار السن يمكن أن يراهن عليهم على أنهم من الشباب؛ ولذلك تجدون نشاطهم في طلب الحق، وعدم انشغالهم بأمور الدنيا، ومسارعتهم إلى العدل، واطراحهم لكثير من الحظوظ النفسية، وأخذهم بالإنصاف من أنفسهم، وعدم الانتصاف لها كأنهم شباب، فيجلسون بين الناس متواضعين، ويسارعون إلى الخير أنى وجدوه، ويقبلون الرجوع إليه إذا سمعوه؛ فهؤلاء وإن كانوا كبار السن، إلا أننا نعدهم من الشباب، ويصدق فيهم قول أبي الطيب المتنبي :
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا كثير إذا اشتدوا قليل إذا عدوا
فهؤلاء يمكن أن يراهن على قيامهم بالحق ونصرتهم له، حتى ولو بلغوا من العمر عتياً، ولو عاشوا ما عاشوا على ما هم فيه؛ فإن عطاء الله سبحانه وتعالى غير محظور، ولا تختص به فئة من الناس؛ ولكن هؤلاء الذين تحرروا من هذا الواقع، ووصلوا إلى هذا المستوى نظن بهم الخير، ولا نحتاج كثيراً إلى إتعاب أنفسنا في توعيتهم في واقعهم وما هم فيه؛ فهؤلاء قد جمعوا بين عقل التجربة وحرية الفكر، وقوة الشخصية والشجاعة.
أما الشباب صغار السن الذين ما زالوا يمكن أن يتفيئوا مع الريح أينما فاءت هم الذين يحرص عليهم، وينبهون إلى خطورة هذه المرحلة التي من أعمارهم، فإن العمر جميعاً يسأل عنه يوم القيامة سؤالاً واحداً، والشباب وحده يسأل عنه سؤالاً آخر.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)، هذه أربعة أمور: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة) -أي: لا يغير وطأته- حتى يجيب عن السؤال عنها أربعتها، وفيها السؤال عن المال من وجهين: من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وفيها السؤال عن العمر من وجهين: عن العمر عموماً، وعن الشباب بخصوصه، وهذا يدلنا على خطورة هذه المرحلة وعظم المسئوليات فيها؛ فهي مرحلة النشاط والعطاء، وهي التي يقول فيها الحكيم:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فمن لم يستغلها في الوجه الصحيح كانت نكالاً عليه ووبالاً؛ لأنه سيندم إذا فارقها؛ فعندما يصل به العمر إلى مستوى الكبر الذي وصفه الفرزدق بقوله:
اسمع أحدثك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر وقلة الزاد إذا الزاد حضر
إذا وصل شخص إلى هذا المستوى يندم على ما فرط فيما مضى من عمره؛ ولذلك يقول كثير منهم:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
ويقول الآخر:
ليت شباباً بوع فاشتريت
إذاً لا بد من تنبيه الشباب الذين ما زالوا في هذه المرحلة من العمر إلى أن يستغلوا هذه الأيام الخاليات؛ حتى يكونوا يوم القيامة من الذين يقال لهم على رءوس الأشهاد: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وألا يكونوا من الذين يقال لهم على رءوس الأشهاد: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
علينا أن نستغل هذه الأيام التي تمضي؛ فالوقت هو رأس المال، وهو الذي إذا فات لا يعوض، ولا يمكن أن يعاد، ليس مثل الشريط الذي إذا انتهى استطاع الشخص أن يعيده ويبدأ به من بدايته، إنما هذا الوقت إذا مضى فقد ذهب بما فيه؛ فكل يوم عندما تغرب شمسه يختم على عمله؛ ولهذا يقول الحكماء: أمس الدابر أمره لا يعود، قد ذهب بما فيه، ويأتي وقت جديد فيه خطاب آخر؛ ولهذا قال المواق رحمه الله تعالى: حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره، وأنت لم تؤد حق الله فيه؟ كل وقت أياً كان يمر.
لاحظوا أنها اللحظة الواحدة أو الثانية الواحدة، كثير من الناس يعد بالسنوات، وهؤلاء هم المغرورون الذين لا يلاحظون ما أقرب الآخرة من الدنيا، وما أقرب الموت من الحياة، لا يلاحظون أنه ما بين أن يكونوا جماداً لا حراك فيه وبين استقرارهم في حياتهم هذه إلا أن يؤذن لملك الموت فينتزع هذه الروح، ويدعوها فلا يمكن أن تتأخر لحظة عين، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2]؛ فحينئذٍ لا يمكن أن يتأخر الأجل ولا أن يتقدم؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:99-111] .
إن الشباب المسلم في واقعنا هذا ينقسم إلى أقسام، ويتنوع إلى أنواع:
فمنه شباب اختارهم لأن يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يكونوا من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد عد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شاباً نشأ في عبادة الله، فالشاب الذي نشأ في طاعة الله تعالى، ولم يشتغل بسفاسف الأمور فضلاً عن المعاصي؛ فإن هذا من الذين اختارهم الله لأن يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث يقال لهم يوم القيامة: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين.
هؤلاء الشباب أدركوا مسئوليتهم في هذا الواقع الذي هم فيه؛ فبدءوا من نشأتهم الأولى عندما اعتنى بهم ذوو الأهالة والدين من الوالدين، فربوهم أحسن تربية، وعلموهم ما يجب عليهم تعلمه في صباهم، وجعلوا لهم رصيداً مغلقاً من الحسنات وهم صغار. بخلاف بعض ذوي الدنيا والمتهافتين عليها، والمشتغلين بها الذين يفتحون حسابات في البنوك لأولادهم، ويضعون لهم فيها أموالاً، حتى إذا بلغوا وجدوا أرصدتهم متحركة في البنوك فهؤلاء اشتغلوا بالدنيا؛ لكن الرشداء من ذوي الآخرة الذين يؤثرون الآخرة على الأولى يضعون لأولادهم رصيداً من الحسنات قبل بلوغهم؛ فيجدون حسابات مفتوحة للحسنات.
لاحظوا ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مر بفج الروحاء، فلقي ركباً، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المسلمون، فقالوا: ومن أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة طفلاً في خرقة، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر)، قال ابن العربي رحمه الله تعالى: الصواب أن الصبي والولي مأموران مأجوران؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (نعم)؛ فأثبت أن للصبي حجاً، ثم قال بعد ذلك: (ولك أجر)، فعطف، والعطف يقتضي المغايرة؛ فأجر المرأة غير أجر الصبي.
ولذلك فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، يدل على أمرين:
أحدهما: صادر من الرسول صلى الله عليه وسلم للأولياء، والثاني: صادر من الأولياء للصبيان؛ فهما أمران، وعلى كل واحد منهما يترتب الثواب، ويترتب على تركه العقاب.
هؤلاء الشباب أدركوا مسئولياتهم في صباهم فانشغلوا بما يعنيهم، وحين آمنوا واقتنعوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوا الله تعالى به تأهبوا وهبوا، وكشفوا عن سواعدهم، وشمروا للقيام بهذا الحق؛ فلهم غزوات في مشارق الأرض ومغاربها لا تجف عاماً، يحاولون نصرة الحق بألسنتهم وبأيديهم، وبأموالهم وبفكرهم، وبما أوتوا، لا يحول بينهم وبين ذلك المشاغل ولا هموم هذه الدنيا، ولا محاولات الرفاه فيها، ولا الحرص على المستقبل الذي يلهي كثيراً من الناس، هؤلاء هم الذين يستعدون إذا حانت مواجهة أن يقولوا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، تخففوا من الدنيا، وتقللوا منها، وحملوا أزوادهم على أعناقهم إلى بارئهم، واستعدوا للقائه، وعلموا أنهم الذين يؤمل بهم، وتعقد عليهم الآمال، وعليهم أن يكونوا خير خلف لخير سلف، وأن يحملوا هذه الأمانة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم في أعناقهم، وأسفوا على أنهم لم يكونوا مثل أولاد عفراء الذين تنافسوا في قتل أبي جهل يوم بدر؛ فأرادوا أن يدركوهم إذا استطاعوا؛ فحاولوا أن يقدموا التضحيات الضخام التي إن لم تدرك سعي أولئك فعلى الأقل يعذر بها صاحبها؛ فتكون مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، هؤلاء هم الرعيل الأول، سواء تأخروا أو تقدموا، وفي سعيهم فليتنافس المتنافسون.
ثمة عجينة أخرى من الشباب قد انشغلت ببعض أكارع الإيمان، واشتغلت ببعض الأعمال التي فيها خير، ولكنها غفلت عن البدء بالأهم فالأهم، وشغلت بالمفضول عن الفاضل، وهؤلاء وإن كانوا خيراً من الذين لم يرفعوا بذلك رأساً؛ إلا أنهم قد خدعهم الشيطان ببعض حبائله وخداعه؛ فالشيطان إذا عجز أن يصرف الشخص عن الطاعة صرفه عن بعض الطاعة إلى بعض؛ فيصرفه عن الواجب إلى المندوب، ثم يصرفه عن بعض المندوبات إلى ما هو دونه وأقل منه شأناً وأقل أجراً، وهذه من حيله ومكائده، هؤلاء غفلوا عن واقعهم، ولم يدركوا ما فيه أمتهم؛ فلم يستجيبوا للأمانة التي في أعناقهم إلا بجزء يسير من وقتهم، صرفوه إما في تعلم، وإما في عبادة مختصة بهم، ونسوا أن هذا الحظ اليسير ينبغي أن يتركوه للشيوخ الكبار الذين قد بلغوا سن العجز، ولم يستطيعوا أن يكونوا في مقدمة الركب، ولا في مستوى التضحية المطلوبة، هؤلاء أصابهم ما يمكن أن نسميه بمرض الشيخوخة المبكرة؛ فانكفئوا على أنفسهم وتعبدوا بعض التعبدات، وقرءوا بعض الأذكار، وانكفئوا على بعض المندوبات؛ ولكنهم تركوا الاشتغال بما هو أعظم من هذا من تحمل الأمانات والمسئوليات التي ما زالوا قادرين على تحملها وأدائها.
وثمة طائفة أخرى دون هؤلاء انشغلوا في التنافس في هذه الدنيا كأنهم من أجلها خلقوا، وغفلوا عن الحكمة التي خاطبهم الله تعالى بها في كتابه، في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]؛ فوجدوا أن قناعتهم تقتضي منهم أن يبذلوا وقتهم من الصباح الباكر بكور الطير إلى أن يحجب الظلام عنهم أعمالهم في جمع حطام الدنيا، والتنافس على الدراهم والدنانير، وغفلوا عما عدا ذلك، هؤلاء في انغماسهم في هذه الدنيا، وانشغالهم بوحلها قد خدعوا عن أعمالهم؛ فيوشك أن يندموا عليها، وأن يأسفوا على ما فرطوا في جنب الله، وانشغالهم فيها لا يمكن أن يزيد أرزاقهم شيئاً؛ لأن أرزاقهم محددة.
ولذلك يقول الحكيم:
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك
فالرزق لا يمكن أن يكتب لشخص منه إلا ما كتب له وهو جنين في بطن أمه عندما نفخ فيه الروح؛ فإذا بذل وقته كله، وجميع ما يستطيع من الحيل؛ فلا يمكن أن يزداد رزقه.
كم رأينا من الذين استعبدتهم الدنيا، وشغلوا بجمعها، ولكن الله صرف منها رزقهم؛ فلم يكتب لهم منها إلا تعبها، ولم ينالوا نصيباً من زهرتها، ورأينا آخرين حين اشتغلوا بها وجمعوها وأحرزوا منها غنية عندما وصلوا إلى هذا المستوى خرجوا منها ونقلوا إلى المقابر، ووضعوا بين الجنادل، وهؤلاء يقول فيهم محمد مولود بن أحمد قال رحمه الله تعالى:
فبينما هو دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاق
ويقول ابن مالك رحمه الله تعالى:
ولو في الملا رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء
كفى بالفنا قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها طراً وطراء
كأن الورى والموت نسي وارءهم ذوات الأذى قد حازهن أباء
كذلك نجد طائفة أخرى من الشباب المسلم إنما هي مسلمة بأسمائها وأنسابها؛ فإذا سألت أحداً منهم عن نسبه رفع لك فيه حتى يصل إلى أبي بكر أو عمر أو علي أو سعد بن أبي وقاص أو أنس بن مالك ؛ لكن هيهات، وشتان بين أعمال هؤلاء وأعمال من ينتسبون إليهم؛ فهؤلاء الذين ينتسبون إلى أولئك الأسلاف الصالحين العلماء الحكماء، المجاهدين المضحين بئس ما خلفوهم، فهم مسلمون بمجرد الأسماء، أي: أنهم ولدوا في أرض المسلمين، وينتسبون إلى آباء وأمهات من المسلمين؛ لكن حين ننظر إلى أعمالهم لا نجدها تطابق شيئاً من هدي الإسلام؛ لا في عقائدهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم، ولا في أعمالهم، ولا في اهتمامهم بأمر المسلمين، ولا في تحملهم لهذه الأمانة العظيمة التي ائتمنهم الله عليها؛ بل يصبحون ويمسون، ولا يزدادون من الله إلا بعداً.
تمضي السنوات على السنوات، ولم يزدادوا علماً، ولم يزدادوا تقوى ولا عملاً؛ فإذا لقيت أحدهم- وقد لقيته قبل سنتين أو ثلاث - تجده بحسب الظاهر والمنظر كأنه ما زال يروح بين قدميه في المكان الذي تركته فيه، والواقع أنه قد تدهور ورجع القهقرى بمسافات شاسعة لا يدركها، ولا تدركها أنت إذا نظرت إليه؛ فمن روح في مكانه لا يزال إيمانه ينتقص ويقل حتى يتغشى، وحتى يزول من قلبه، وتتراكم الفتن على قلبه فيسود، ويمسي كالكوز مسوداً مجخياً.
هؤلاء الشباب ضاعت أعمارهم فلا هم اشتغلوا بالدنيا وحطامها كسابقيهم، ولا هم اشتغلوا بالدين وخدمته كالرعيل الأول الذين ذكرناهم؛ بل تعبر هذه الفرصة الذهبية من أعمارهم وقد ضاعت سدى؛ فإذا بلغوا أربعين سنة جاء أحدهم وقد ندم كأنه ولد الآن، أو كأنه الآن كلف وبلغ، فيبدأ يسأل العلماء عن من كان يفرط في الصلوات، ومن كان لا يغتسل من الجنابات، ومن كان لا يتطهر ولا يتوضأ، ومن فرط في بر والديه حتى ماتا، ومن فرط فأخذ المال من غير حله ووضعه في غير محله، ومن وقع في الفواحش والكبائر والإثم، يأتي يسأل في هذا الوقت! يا بني! قد تأخر سؤالك عن وقته، جئت بعد أن ضعفت وكبرت، وزالت الفرصة التي كانت متاحة أمامك.
وهؤلاء مع الأسف كثير من الناس لا يرثي لحالهم، ولا يطلع على ما هم فيه من ضياع، وبذلك لا يرحمهم؛ بل ينظر إليهم على أنهم همج، أو خلق خلقوا للعبث؛ فلذلك لا يعلق بهم أمل، ولا يراهن عليهم، فهم غثاء كهذا الجراد المنتشر، يسيرون في هذه الدنيا ثقلاً على أهلها وكلاً عليهم، لا يزيدون إنتاجاً دنيوياً، ولا يزيدون صلاحاً أخروياً، وهم بذلك ثقل على الأرض، وعبء عليها؛ فالأرض تشكوهم إلى الله بالصباح والمساء، وملائكة السماء عندما تعرض عليهم أعمالهم يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
هذا التقسيم هو واقع شبابنا في عصرنا هذا.
أما الآمال والتطلعات أو الآفاق فعلمها عند الله تعالى، ولكن البوادر التي نراها أن أولئك الذين أدركوا حكمة مجيئهم إلى هذه الدنيا، وعرفوا لماذا خلقوا، ودخلوا بداية الطريق جادين فيه، مدركين لأبعاده ومشقاته، ويعلمون أنه محفوف بالمكاره، ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، أدركوا هذا وعلموه، واستطاعوا أن يتغلبوا على شهواتهم، وبدءوا حياتهم من بدايتها في مرضاة الله سبحانه وتعالى هم أكثر -ولله الحمد- بكثير، ولا يزالون يزدادون؛ فلا شك أن المراقب لحال هذه الساحة الإسلامية في مختلف البلدان؛ يجد أن زيادة الالتزام في الشباب والشابات من المسلمين مطردة، يومياً، يشاهدها في الجامعات وفي المدارس، ويجد أن جماعة المسجد التي تصلي فيه نسبة (70%) منها من الشباب الذين هم دون سن الأربعين.
وفي كثير من الأحيان تكون النسبة أكثر من هذا بكثير؛ فأنا أذكر أن رجلاً مهندساً أخبرني أن أباه- وكان يعيش في الجزائر - خرج ذات مساء فرآه خارجاً؛ فقال: إلى أين تخرج؟ فقال: يا بني! أخرج إلى المسجد، فقال: أين هو؟ فقال: قريب من بيتنا، وأخذ بيده فأراه المسجد، وليس فيه إلا ذلك الشيخ، وتسعة من زملائه كبار السن؛ فقال المهندس: يا أبت! إذا متم أنتم العشرة فسيهدم هذا المسجد ويجعل ساحة عمومية؛ لأنه لا يصلي فيه أحد غير هؤلاء الكهول العشرة، فقال: يا بني! إني لأرى أنه سيمتلئ من الشباب حتى يصل إلى بيتنا هذا، فيقول الولد: مكثت عشر سنين، فصارت الصفوف تصل إلى بيتنا، فاضطررنا لأن نبيع البيت، وأن نجعله توسعة للمسجد، فتوسع به المسجد، ونظرت فإذا الذين يصلون فيه لم يزدد عدد الشيوخ عن العشرة الذين أخبرني أبي عنهم، وكل البقية من الشباب.
وكذلك إذا ذهبت في أي مكان من أنحاء العالم، ومن أصقاعه في دور الكفر، وفي دار الإسلام، تجد أن الذين يحملون أعباء هذا الدين وينقلونه، ويضحون في سبيل الله سبحانه وتعالى أكثرهم من هؤلاء الشباب، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، ويقول سبحانه وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41].
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة، وسكت )؛ فهذه المبشرات التي أخبر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يخالج قلوبنا شك في وقوعها، ولكننا نعلم أنها مشروطة، وأنها لا يمكن أن تتحقق إلا لقوم حققوا هذه الشروط في أنفسهم، وتحلوا بما شرط الله في كتابه؛ فإذا وجدنا قوماً تحققت فيهم هذه الصفات، علمنا بقرب وفاء الوعد، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، هؤلاء المتصفون بهذه الصفات هم الذين يمكن الله لهم في الأرض، وهم الذين يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونه لا يشركون به شيئاً.
كم تلاحظون وأنتم هنا في ثغر من ثغور الإسلام، وصقع من أصقاعه، خلال هذه السنوات من الشباب المقبلين على الله سبحانه وتعالى، الذين ما بذل فيهم أهلوهم ولا ذووهم كثيراً من العناية، ولا كثيراً من التربية؛ بل جاءت هدايتهم أمراً من عند الله سبحانه وتعالى، وقد أنزل الله تعالى قوائم ولوائح من فوق عرشه فيها أسماء أشخاص ارتضاهم لأن ينصروا دينه، ولأن يكونوا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت هذه اللوائح موقعة من عند رب العالمين لا خيار فيها لبني آدم، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].
وصنف آخرون جعل الله في سبيلهم العوائق فمنعهم عن سلوك هذا الطريق، لم يرتض الله تعالى خدمتهم لدينه، لم يهيئ نفسياتهم لأن يكونوا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم، وكما تعلمون لو أن أي مؤسسة طلبت عمالاً فإنها ستختار المتقدمين لها، وتدرس ملفاتهم وتمتحنهم، وتقيم لهم المقابلات والمسابقات، وأشرف عمل يقوم به الإنسان هو خدمة دين الله سبحانه وتعالى، ورعاية هذه الأمانة العظيمة التي هي بيعة مع الله، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]؛ لذلك لا يمكن أن يوظف في هذا المجال، وفي هذه الصفقة، وفي هذه البيعة عوام الناس وجمهورهم، وإنما يختار لها وينقى؛ فالذين يلتحقون بهذا الركب قد اختارهم الله اختياراً لا معقب له، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
والآخرون وضع في وجوههم العراقيل والعقبات، فتارة بالشكوك، وتارة بالأهواء، وتارة بالشبهات، وتارة بالشهوات، فصرفوا عن سبيل الله، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وفيهم يقول الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، لم يرتض الله تعالى خدمتهم لدينه؛ فلذلك شغلهم بأنفسهم، أو شغلهم بدنياهم، أو شغلهم بالشهوات أو شغلهم بالشبهات، فصرفهم عن خدمة دين الله، بينما لو حسبوا وحاسبوا أنفسهم لوجدوا أن الوقت الذي يمضيه أحدهم في طريقه إلى المسجد، وفي رجعته منه، أو وهو جالس في المسجد يستمع الذكر، أو وهو قائم يصلي أو يدعو، أو يكثر سواد المسلمين، أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، أو يربي أولاده تربية صالحة، أو يأتي ببديل صالح في أي مجال من المجالات؛ لا يأخذ لهم من الوقت إلا الشيء اليسير القليل، ولا يمكن إلا أن ينالوا منه الأرباح الطائلة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120-121].
كثير من الناس إذا صلى به إمام سلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأطال في ركوعه وسجوده، وتجوز في قيامه وجلوسه، وقرأ من كتاب الله ما يلين القلوب، وفيه هدى للمؤمنين، وفيه هدى للمتقين، وكان تدبره مدعاة لأن تكون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكان ذكراً لله سبحانه وتعالى ولذكر الله أكبر؛ يستطيل تلك الصلاة وتصعب عليه وتثقل، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، الوقت الذي يمضيه في ذهابه إلى المسجد معدود لديه بالثواني، ولا يستطيع أن يتحمله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( بشر المشائين في صُدَف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ).
وكذلك يقل أن تجد شخصاً جالساً في المسجد من صلاة العصر إلى صلاة المغرب ينتظر الصلاة بعد الصلاة، مع أن هذا هو الرباط الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط )، ويقول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل قلبه معلق بالمساجد ).
كذلك تجد كثيراً من الناس يأتي ويغلب الشيطان حتى يشهد صلاة الجماعة فيصليها أربعاً أو ثلاثاً أو اثنتين؛ ولكنه لا يتحمل الجلوس لحظة ليسمع حديثاً، أو آية، أو محاضرة، أو ذكراً، قد ينتفع بها، فهذه المواعظ والذكر يكتب الله تعالى بها الانتفاع لبعض الناس؛ فهي بمثابة أدوية تتلقاها فئام من الناس فيها أمراض متباينة؛ لكن بعض الناس ينتفع بهذه الجملة، وبعضهم تمر على أذنيه ولم ينتفع بها، وتأتي التي بعدها فينتفع بها، فهم جميعاً مهيئون للاستفادة، ولكن استفادتهم لن تكون في مكان واحد؛ بل يستفيد واحد بجملة، فيجد إيمانه قد اشرأب في قلبه، وثار دمه في عروقه، وشع النور في عينيه، وأقبل على الله سبحانه وتعالى في تلك اللحظة، وآخر- وهو مجالس له مماس له -لم يقشعر جلده، ولم تتهيأ نفسه من ذلك؛ لكنه سيحصل على ذلك في وقت آخر، وبكلمة أخرى؛ ولذلك فإن الذي يحضر لا يدري في أي وقت سيأتيه الانتفاع، ولا على أي لسان سيستفيد، ولا من أي كلمة سينتفع، فكثير من العقلاء يستفيدون من كلمات قد لا تصدر من علماء كبار، ولا من دعاة مفوهين، ولا من مجربين من أهل الخبرة، ولكن لربما كلمات تصدر من عوام الناس فينتفع بها كثير من الناس، حتى من أهل العلم.
وأنا أذكر أن أحد كبار علمائنا في هذه البلاد، وهو الشيخ عبد الله ولداداه رحمه الله تعالى حدثني بعض من حضر مجلسه أنه قال: إنه ما انتفع بموعظة كما انتفع بموعظة سمعها من عامل كان يعمل في النجارة والخشب؛ فطلب منه الشيخ أن يعمل له عموداً؛ فأتى به فإذا هو معوج؛ فقال له الشيخ: إن هذا العمود أعوج، فقال: يا شيخ! الدنيا كلها عوجاء، فانتفع الشيخ بهذه الموعظة انتفاعاً لم ينتفعه بكثير من المواعظ، واستفاد منها، وأصبح بعد ذلك يقول: قال فلان: الدنيا كلها معوجة، إذا جاءت أي مسألة علم أن الدنيا لا يمكن أن تستقيم، وأنها كما قال الحكيم:
بان الرجاء بها بان على غرر على شفا جرف جار على هار
فليس فيها شيء دائم، وهي عرض سيال، وكل ما فيها زائل، ولا يمكن أن تستقيم بحال، والذي يريد فيها أن تصفو له من الكدر والقذر. يكون كمتطلب في الماء جذوة نار، كما قال الحكيم:
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فلذلك يستفيد الشخص في كثير من الأحيان من بعض الكلمات التي تصدر، وهذا يكون بإقباله هو على الله، فاستفادة الشخص ليست راجعة إلى الكلام الصادر من المتكلم، وإنما لإقباله هو حين جاء بقلب سليم، حين جاء مقبلاً على الله تعالى متطهراً يجر خطاه إلى المسجد، ويحتسبها على الله، لا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت بها سيئة، وكتبت له بها حسنة، حتى يصل إلى المسجد؛ فلا يؤذي أحداً، ولا يفرق بين اثنين بغير إذنهما، ويقوم بالأدب الشرعي فيدخل يمينه قبل شماله، ويقول: (بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، ويصلي تحية المسجد، مقبلاً على الله، ثم بعد ذلك يجالس أهل الخير من الملائكة، ومن عمال المسجد، وينوي الاستفادة ممن سمع.
ولذلك ينبغي لداخل المسجد في أي وقت كان من ليل أو نهار أن ينوي المجاورة فيه؛ فالعبادة المتعلقة بالمكث في المسجد أربعة أقسام:
الأول: الصلاة، وهي في كل المساجد.
الثاني: الطواف، وهو مختص بمسجد مكة.
الثالث: الاعتكاف، وهو في كل المساجد على الراجح، وقيل: يختص بمسجد جمعة، أي: المسجد الذي تقام فيه الجمعة.
الرابع: المجاورة، وهي الجلوس في المسجد لمجاورة الملائكة، وعمار المسجد من أهل الذكر، الذين يستفيد الشخص من مجاورتهم، وإذا دعوا يمكن أن يشركهم في دعائه؛ لأن المؤمن علمه الله تعالى التعميم في دعائه؛ فيقول في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5-6]، ولا يقول: إياك أعبد، وإياك أستعين، اهدني الصراط المستقيم؛ بل يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، ليشمل ذلك كل عابد لله في السموات وفي الأرض؛ فيدخل نفسه معهم، وهكذا في دعائه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
إن هذه الآفاق التي ذكرنا بعض الإشارات إليها، مما يدلنا على قرب الوعد فيها وقرب تحققه أن جمهور هؤلاء الشباب يلاقون كثيراً من المضايقات؛ منها: مضايقات من قبل أولياء أمورهم؛ آبائهم وأمهاتهم، وأكثر من يتعرض لهذا الفتيات المسلمات الملتزمات، ثم بعض الشباب الملتزم، كذلك في بعض الأحيان، يتعرضون لمضايقات من الرأي العام، ومن سواد الناس الذين ينظرون إليهم نظرة ازدراء؛ وهي النظرة التي نظر بها الناس إلى أصحاب نوح الذين أسلموا معه، فأمروه أن يطردهم، وهي التي نظرت بها قريش إلى الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى الذي أنزل الله تعالى فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس:1-7].
لذلك فإن المبشرات التي نراها بحول الله سبحانه وتعالى وقوته مشجعة للشباب على الاستمرار في هذا الطريق، وما عليهم إلا أن يتماسكوا، وأن يرشد بعضهم بعضاً، وأن يأخذ بعضهم بأيدي بعض حتى يدلهم على هذا الصراط الذي سلكوه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )؛ فالشاب الذي نبذ السلبية وراء ظهره هو الذي إذا ذهب إلى المسجد فمر بأصحابه، وهم يلعبون، أو يمرحون أو يسرحون، حاول أن يخرج بهم جميعاً إلى المسجد، إن لم يستطع اختار منهم من يختاره؛ فلا يذهب إلى المسجد وحده؛ بل يحاول دائماً أن يكون مقتدى به، مؤتماً به؛ لأنه يسأل الله أن يجعله من أئمة المتقين؛ ولذلك لا يرضى بأن يكون صالحاً في نفسه غير مصلح لأمته؛ بل هذا شأن الكبار، والذين كثرت عليهم المسئوليات، وتعبوا، وذهبت أعمارهم، وأما الشباب ينبغي أن ينبذوا هذه السلبية من قواميسهم وأن يزيلوها؛ فما أكثر المنتمين إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، هم اليوم أكثر من ربع العالم، أكثر من مليار من البشر، ولكنه إذا نظر إليهم بمقتضى تحمل المسئولية كم عدد الذين يدعون إلى الله تعالى منهم؟ كم عدد الذين يجاهدون في سبيل الله؟ كم عدد الذين يصبرون على الإيذاء في سبيل الله من هؤلاء المليار، تجد أنهم قليل جداً؛ ولذلك يقول أحد الشعراء:
ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار
فهذه الحشود الكثيرة مشكلتها السلبية، أي أن كل شخص منها إنما يحاول الاعتناء بنفسه فقط، ولو أنهم زالت عنهم هذه السلبية وكانوا إيجابيين في تصرفهم وسلوكهم لأمكن أن يهدي الله بهم خلقاً كثيراً، وأن يقيم بهم الحجة، وأن يتواصلوا، فكثير من الناس جاهزون للالتحاق بالركب؛ ولكنهم لبس عليهم بعض الناس، وحال بينهم وبين هذا الطريق بعض الشهوات وبعض الشبهات البسيطة، وإزالتها مقتضية لجهد، وهو أولى ما يبذل، وأولى ما يصرف فيه الوقت.
فحاول يا أخي أن يهدي الله بك رجالاً، وأن تقدم أعمالهم في ميزان حسناتك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر