بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبعد أن ذكرنا الآمال في حياة المؤمنين، نتطرق الآن إلى آلام المؤمنين والتي هي أيضاً من فضل الله بهم ورحمته؛ لأنه لو تتابع الخير وحده على الإنسان لكان عرضةً للطغيان، لو فتحت على الإنسان أبواب الحياة الدنيا، ومكن له فيها، وهيئ له فيها كل ما تتعلق به نفسه فسيطغى، كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]؛ فلذلك كان من حكمة الله تعالى ألا يعجل للمؤمنين ثوابهم في هذه الحياة الدنيا، فآلام المؤمنين أيضاً هي من فضل الله ورحمته بهم؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء وشكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء وصبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
وقال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
فما يأتيهم من البلاء في هذه الحياة الدنيا إنما هو تمحيص وتكثير وتطهير ورفع للدرجات، وهو كذلك معلم من معالم طريق الحق.
ولله تعالى في مصائب المؤمنين وآلامهم حكم كثيرة، فمن حكم الله فيها: أن يطرد بها الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يرتضي استمرارهم على طريق الحق، فطريق الحق موافق للفطرة محبوب إلى النفوس، موافق لمقتضى العقل، ولو عرفه الناس جميعاً ورأوه لتوقع منهم أن يسلكوه جميعاً، لكن الله يطرد عنه أقواماً، فمنهم من لا يسلك أصلاً من لا يريد، ومنهم من يريد ولكن لا يسلك، ومنهم من يسلك ولكن لا يصل، فيتساقطون، والمريدون السالكون الواصلون عددهم يسير قليل؛ فلذلك يطرد الله تعالى عن المحجة وعن طريق الحق من لا يرتضي خدمتهم للدين، وقد تعهد بذلك فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].
وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يطرد عن طريق الحق من علم الله أنه مطرود.
فأولئك هم المصروفون المطرودون عن طريق الحق، فلولا هذه النكبات والمصائب التي تصيب المؤمنين لسلك الناس جميعاً هذا الطريق، ولكن الله جعلها رصداً على الطريق، فيأتي الذين يغترون وهم الذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين فيدخلون هذا الطريق ويريدون الاستمرار على سلوكه، ولكنهم سرعان ما يصابون بهذه النكبات، أو يرونها قد أصابت غيرهم فيتراجعون على آثارهم، ويتقهقرون على أدبارهم، ويصرفهم الله تعالى عن طريق الحق، فلا يمكن أن يتقدموا.
وكذلك فإن من حكم الله فيها: أنها سبب لإيصال هذه الدعوة الإسلامية إلى أماكن وملأ لم تكن آليتها ووسائلها لتوصلها إليه، فالسالكون لطريق الأنبياء وأنصار الأنبياء دائماً ليسوا من الملأ، وليسوا من أهل الدنيا والأغنياء من ذوي الطول فيها، وإنما هم الضعفاء وهم عامة أتباع الرسل؛ ولذلك فإن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب فقال: ( أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فذكر هرقل : أنهم أتباع الرسل )؛ ولذلك قال الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83].
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].
فلذلك وسائلهم لا يمكن أن توصل دعوتهم إلى الملأ والمستكبرين، وليس لهم من الوسائل ما ينشرون به هذه الدعوة في العالم؛ فلذلك يحتاجون إلى أجنحة تطير بهذه الدعوة لتوصلها إلى الملأ، وهذه الأجنحة منها هذه النكبات التي تصيب المؤمنين، فهي التي يرفع الله بها هذا الخبر؛ لأن كل أمر تعلقت به النفوس، وكثر فيه القال والقيل لا بد أن يبحث عنه ذوو العقول، وإذا بحثوا عنه فسيعرفون الحق واضحاً ويرونه عياناً بياناً؛ ولذلك قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
كذلك من حكم الله فيها: أن هذه النكبات أيضاً هي معالم على طريق الحق، فنحن نسلك طريق الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا ضمان يمنعنا من الضلال، فطريق الحق سلوكه اليوم أمر اجتهادي، إذ ليس على وجه الأرض من البشر معصوم اليوم، والناس جميعاً يجتهدون فيخطئون ويصيبون ( وخير الخطائين التوابون )، فنحتاج إلى معالم على طريق الهدى، وهذه المعالم هي النكبات التي أصابت الأنبياء من قبلنا، والتسلية عنها أنها نكبات مباركة أصابت من هو خير منا، فأنتم لستم أكرم على الله من إبراهيم خليل الله، وتعرفون أنه قد رماه الأقربون في النار، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
ولستم أكرم على الله من موسى بن عمران الذي اتخذه الله كليماً وكلمه بكلامه، وتعلمون ما آذاه به فرعون وجنوده، وما آذاه به أيضاً قومه من بني إسرائيل، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].
ولستم أكرم على الله من عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو كلمة الله وروح منه، ومع ذلك آذاه بنو إسرائيل غاية الأذى، وغلت فيه طائفة منهم حتى زعموه ابن الله، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وفرطت فيه طائفة أخرى حتى زعموه كافراً ساحراً، وحاولوا قتله وصلبه، ورفعه الله إليه.
ولستم أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلائق جميعاً على الله إنسهم وجنهم، وقد أوذي في الله غاية الأذى، فكسرت رباعيته، ودخلت حلقة من حلقات المغفر في جبينه، وجحشت ركبته، وأوذي في أهل بيته، وقتل أصحابه، ووضع السلا بين كتفيه وهو ساجد لربه، وتعلمون أن هذه النكبات التي أصابت هؤلاء المصطفين الأخيار من عباد الله وأنبيائه وأصفيائه هي نكبات مباركة، فلو علمتم الآن أن على هذا المنبر مسماراً دخل في رجل نوح ، وفي رجل إبراهيم ، وفي رجل موسى ، وفي رجل عيسى وفي رجل محمد صلى الله عليه وسلم، وجرحهم جميعاً لتسابقتم إليه حتى يجرحكم كما جرحهم؛ لأنكم تعلمون أنه مسمار مبارك، أليس كذلك؟ بلى؛ فلذلك هذه النكبات التي تصيب المؤمنين على طريق الحق إنما هي نكبات مباركة أصابت من هو خير منهم، والمؤمن الآن هو حلقة واحدة من سلسلة طويلة فيها نوح ومن وراءه من الأنبياء، ومن على آثارهم من المخلصين، وكل نكبة أصابت حلقةً من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يسر ويفرح إذا أصابته نكبةً أصابت من هو خير منه؛ ولذلك فرح مالك بن أنس رحمه الله فرحاً شديداً لما ضرب على الحق، ورفع يديه إلى الله تعالى وقال: يا رب! أحمدك فقد ضربت على ما ضرب عليه ابن المنكدر ، وضربت على ما ضرب عليه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ولا خير فيمن لم يؤذ في هذا الأمر، فعرف مالك رحمه الله أن هذا المعلم من معالم الطريق يدل على أنه قد سلك طريق الحق؛ لأنه أوذي عليه؛ ولذلك قال الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195]، فهذه الصفات هي التي تعهد الله لأهلها بتكفير السيئات وبالجنات، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195] والمقصود هنا: أي صفة من هذه الصفات تحققت لأي إنسان، فمن النادر أن تجتمع كلها لإنسان واحد، لكن إذا تحققت واحدة منها لإنسان فقد تحقق له الوعد الذي وعد الله به.
كذلك فإن من حكمة الله سبحانه وتعالى في هذه النكبات: أنها أيضاً تقتضي جمع كلمة المؤمنين، واتفاقهم على الحق، فأنتم تعرفون أن أهل الإيمان إذا لم يحسوا بالتهديد، ولم يشعروا أن محجة الإسلام مهددة، وأن بيضته تشكو من كيد أعداء الدين، سيظلون مشتغلين في شئونهم وأمورهم، لا يجمعهم جامع واحد، لكن إذا أحسوا بتهديد بيضة الإسلام فلا بد أن تتحرك في نفوسهم الغيرة، ولا بد أن يضحي المضحون منهم، فيترك كثير منهم أعمالهم من أجل الدفاع عن بيضة الإسلام؛ ولهذا فإن هذه المضايق إذا دخلها الناس كثيراً ما تزيل الشحناء والبغضاء بينهم، فالبشر بطبيعتهم يقع بينهم الاحتكاك والخلاف، والتحاسد والتباغض، لكن إذا أحس الصادقون منهم أن الأمر يتعلق بالدين، وأن التهديد يتعلق ببيضته فسيزول عنهم ما في نفوسهم من الحسد والبغضاء، وستجتمع كلمتهم على قلب رجل واحد منهم؛ ولذلك قال الحكيم:
لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد
بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد
كذلك فإن من حكم الله فيها: أن الله تعالى يرفع بها أقواماً قد كتب الله لهم الدرجات العلى من الجنة، فلم يبلغوها بأعمالهم، فسلط الله عليهم هذه المحن والبلايا لينالوا بها تلك الدرجات، وكثير منهم قد ماتوا وانقطعت أعمالهم في هذه الدنيا، لكن تتسلط عليهم ألسنة الخلق بالأذى في سبيل الله، ويتهمون بأنواع التهم، فيوصفون بما وصف به من قبلهم من المخلصين، فيرفعهم الله بذلك درجات عُلى، وقد ماتوا وانقطعت أعمالهم.
وكذلك من حكم الله فيها: أنها أيضاً تقتضي اكتشاف المؤمنين لما لديهم من الطاقات والخبرات، فأنتم اليوم يمكن أن يكون من بينكم من هو أشجع من خالد بن الوليد ، ويمكن أن يكون من بينكم من هو أسخى من حاتم بن عبد الله الطائي ، لكن لم يعرض سبب من الأسباب يقتضي تضحيتكم حتى يكتشف كل إنسان منكم ما فيه من الخير وما فيه من المهارات؛ ولذلك تحتاجون إلى مثل هذه الأزمات والآلام في أمتكم حتى تتحرك عواطفكم لنصرة الدين؛ وحتى يظهر منكم من هم على شجاعة خالد بن الوليد ، ومن هم على جود حاتم بن عبد الله الطائي ، ويظهر منكم أهل التضحية والبذل والصدق، وحتى يكتشف أيضاً الأخفياء الأتقياء الذين يرفع بهم البلاء عن الأمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم )، فكثير من الضعفاء الذين يمشون على الأرض هوناً، وكل واحد منهم يلبس طمرين لا يؤبه به يدفع على الأبواب، لو أقسم على الله لأبره، والأمة محتاجة إليهم غاية الحاجة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لولا شيوخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صباً )، فأولئك الذين يرفع بهم العذاب عن هذه الأمة، والأمة محتاجة إلى دعائهم وجهدهم؛ ولذلك فإن قتيبة بن مسلم رحمه الله حوصر في غزوة من الغزوات، فتكاثر عليه أعداء الإسلام، وكان في جيش قليل من المسلمين، فلما حصره الكفار من كل جانب صاح في الجيش ينادي: أين محمد بن واسع ؟ قيل: وما حاجتك إليه؟ هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى الله، قال: تالله لإصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف. فـمحمد بن واسع رجل من فقراء المسلمين، ومن العباد الزهاد، من الذين ترجى إجابة دعواتهم، فـقتيبة يلجأ إليه، و قتيبة من أشجع قادة المسلمين وفرسانهم، ومع ذلك عند وقت الشدة يسأل عن هذا الرجل فيقول: أين محمد بن واسع ؟ فيقال: هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى الله، فقال: تالله لإصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف، فأولئك إنما يكتشفون في مثل هذه الآلام إذا وقعت فيها الأمة.
كذلك فإن من حكم الله تعالى في هذه الآلام: أنه يقيض فيها للدين من ينصره، فتكون القلوب حينئذ على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر ونفاق متمحض. وإذا جاءت هذه الفتن فهي تخليص وتنقية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، فالفتن فيها حصاد المنافقين؛ ولذلك لا ينبغي أن يكرهها أهل الإيمان؛ لأنها تميزهم.
فقد قوم الله تعالى غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر شيئاً عجيباً في تقويم غزوة أحد، وكنت أتابع تقويم الغزوات في بعض سور القرآن، فوجدت أمراً عجيباً في سورة آل عمران في تقويم غزوة أحد، وجدت أن الله تعالى يقول في تقويمها: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141]، فوقع في ذهني إشكال في فهم نكتة مجيء الجملة الاعتراضية هنا بين هذه الحكم، وهو قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، فقد فصل بهذه الجملة الاعتراضية بين الحكم المتعاطفة، فقد قال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ، جاءت الجملة الاعتراضية هنا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، فالأفعال المنصوبة متعاطفة، وهي الحكم التي من أجلها كانت معركة أحد، وكان ما حصل فيها، ففكرت في هذه الجملة الاعتراضية فقذف الله في روعي أن الإنسان إذا قرأ الحكمة السابقة وهي: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، قد يدور في خلده أن يقول: يسلطهم علينا يقتلوننا فهل هو يحبهم؟ يقول: أولئك ما يختلفوا وسلطهم علينا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فجاء الجواب: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]؛ فلذلك إذا مكن الله لهم فقتلوا بعض المؤمنين فليس ذلك محبةً للظالمين أبداً، ولا نصرةً لهم، وإنما هو ليتخذ الله من المؤمنين شهداء، وهذا أرفع المقامات وأعلاها، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].
فهذا التقويم الذي يقوم الله به هذه الغزوات مبين لنا أن كثيراً من الغزوات التي يقع فيها إخفاق ولا تقع فيها غنيمة ولا قتل مستحر في الكفار، ولا أسر فيهم، لها مع ذلك الأثر البالغ في تقوية الدين ونصرته، فليس المقصود الإثخان في الأرض، ولا إكثار القتل في الكفار، ولا سلب أموالهم وغنيمة نسائهم وأراضيهم، ليس هذا هدفاً للقتال، ولا هدفاً للجهاد في سبيل الله، إنما يقصد بالجهاد أحد أمرين:
الأمر الأول: تنقية المجاهدين أنفسهم وتطهيرهم، حتى يبيعون أنفسهم لله صادقين، فيتقبلهم الله سبحانه وتعالى، ويتخذ منهم شهداء، سواءً منهم من لقي مصرعه وقضى نحبه، ومن ينتظر ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله : ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ).
والأمر الثاني هو: الحيلولة بين الناس وبين قطع طريق هذه الدعوة، فالذين يقطعون طريق هذه الدعوة يتساقطون فتسير هي؛ ولهذا قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: لا يكون صد عن سبيل الله، ومن هنا فإن الدعوة ما دامت تسير، فلا يبالي أهلها بنباح الكلاب؛ ولذلك قال سيد قطب رحمه الله: القافلة تسير والكلاب تنبح، فلا يبالون بنباحها ما دامت القافلة تسير، لكن مع ذلك إذا وقف آخرون في وجهها فلا بد من منعهم من الحيلولة بين الناس والهداية؛ لأنهم بذلك قد حادوا الله، وقطعوا الطريق دون هداية عباد الله، فلا بد أن يزجروا عن ذلك، وأن يحال بينهم وبينه، وبهذا يعلم أن حكمة الله سبحانه وتعالى بالغة، وأن الآلام التي تصيب الأمة هي في ظاهرها آلام، لكن باطنها رحمة من عند الله سبحانه وتعالى وتقديس وتطهير، وفيها من الحكم والفضل الجزيل العظيم ما لا يخطر على بال أحد.
ولذلك لاحظوا أن أعظم مصيبة وأعظم ألم أصاب هذه الأمة هو موت صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تصاب هذه الأمة أبداً بألم ولا مصيبة أعظم من هذه، لكن مع ذلك كان فيها لهذه الأمة كثير من الحكم العظيمة، فلولا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعظم لما كان في هذه الأمة خلفاء راشدون مهديون؛ ولما نال أبو بكر مكانته في الإسلام، ولا عمر مكانته في الإسلام، ولا عثمان ولا علي ولا من جاء بعدهم من قادة هذه الأمة، ومن هنا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن يصيبها بهذه الرزايا والبلايا التي فيها الخير لها، ويدخر فيها لهذه الأمة من الفضل الجزيل ما لا يخطر على قلب أحد.
ولذلك فما يحصل في تاريخنا اليوم من التراجع في مد الإسلام، والاعتداء على أهله فيه خير جزيل وعظيم، وقد كنا في فترة مضت في السبعينيات هنا في هذه المدينة التي أنتم فيها كان إذ ذاك الناس والشباب بالخصوص كثير من الشيوخ ما لهم نزول إلى الساحة، ولا يعرفون ما يدور في خلد المثقفين والشباب، والشباب إذ ذاك إنما نقاشهم حول وحدانية الله تعالى ووجوده وأركان الإيمان وأصوله، ثم اقتنع الناس ولله الحمد، فلم يعد ذلك مطروحاً للنقاش أصلاً، وتغلبت الدعوة على هذه المشكلة، فتجاوزتها، فكان النقاش في فترة بعد ذلك في صلاحية الإسلام للتطبيق، هل الإسلام رجعية وتأخر؟ ثم بعد ذلك انهزم أصحاب هذه الجدليات والنظريات، وانتصرت الدعوة عليهم بإقبال الشباب والمثقفين من مختلف التخصصات، وحملة الشهادات العليا، ومحطمي الأرقام القياسية في كل جوانب الحياة هم الذين يملئون المساجد اليوم، لا تجدون أحداً ممن محطم الأرقام القياسية ومن حملة الشهادات العالية والتخصصات النادرة إلا وهو من أهل الخير المقتنعين بالدعوة؛ فلذلك حصل في هذه الفترات ما رأيتم من انتشار المساجد وملئها، وانتشار هذه الدعوة في كل مكان، ففي كل بيت من بيوت المسلمين اليوم يوجد كثير من الكتب الإسلامية التي لم تكن في هذا البيت من قبل، وكثير من الأشرطة التي فيها تعليم أمور الدين والتذكير به ولم تكن فيه من قبل، واهتمام كبير لدى كثير من الناس لم يكن لديهم من قبل، ومن الغريب أن الذين عاشوا في فترة ازدهار الإديولوجيات المخالفة للإسلام كالشيوعية والقوميات المختلفة، وقد كبروا اليوم وشابوا تراجع كثير منهم إلى دين الله، وبدءوا يبحثون عن زاوية أو عن نافذة أو باب يدخلون منه إلى هذه الدعوة، وأصبحوا يتمسكون بها من جديد. نعم قد يحصل لدى بعضهم أنه لا يريد أن يأتي من الباب الذي كان بينه وبينه عداوة، فيبحث عن باب آخر يدخل منه، لكن مع ذلك كثير منهم بعد أن شابوا عرفوا أن ما كانوا عليه هو من الضلال المبين الذي لا خير فيه، وبدءوا يبحثون عن الصلة بالله، وبدءوا يعمرون المساجد، ويبحثون عن أحكام الطهارة والصلاة، ويئوبون إلى الله سبحانه وتعالى.
وأعرف كثيراً من الذين كانوا من الغاوين الضالين في تلك العصور الماضية قضوا صلاةً ثلاثين سنة، أعرف عدداً منهم قضوا صلاة ثلاثين سنة، وبعضهم قضى صلاة ثماني عشرة سنة، وأعرف عدداً من الذين كانوا قد ضلوا في تلك المتاهات أيضاً استعادوا حفظ القرآن بعد أن نسوه، وعادوا يقومون الليل ويصومون النهار ولله الحمد، وخرج بعضهم من الربا وأحصى كل ما دخل ماله من الربا ومن الغلول ومن المال الحرام فخرج منه جميعاً، توبةً إلى الله تعالى. وأعرف كثيراً منهم جددوا عصم النكاح، وقد كانوا في فترة مضت لا يقتنعون بشيء ويشككون في كل شيء حتى الصلاة يظنونها تأخراً وانشغالاً بما لا فائدة فيه، وها هم اليوم قد تابوا وجددوا عصمهم، جددوا أنكحتهم، وندموا على ما مضى، وكل هذا يدلنا على أن تلك الآلام التي تصيب هذه الأمة عقباها عقبى خير للأمة.
ولذلك فقد تستعمل وسائل الإعلام للتضليل والتشويه، فيظن الناس أن ما حصل في وقت من الأوقات إنما هو تراجع للدعوة أو انهزام لها، وقد طنطن حول ذلك ودندن حوله طائفة من الصحفيين في أيام الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد، فأعرف كثيراً من الصحفيين كتبوا أن هذا الحدث الذي حصل في الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي إلى تراجع الدعوة فيها عشرين سنةً على الأقل، لكن ما مضى أسبوع واحد حتى حصل إقبال عجيب على الإسلام، ونفدت الكتب المتحدثة عن الإسلام من الأسواق، وبيعت الأشرطة التي فيها تعريف بالإسلام باللغة الإنجليزية، وبيع منها أعداد هائلة جداً، وفي الأسبوع الأول بعد الأحداث أخبرني أحد الدعاة الذين كانوا في أمريكا وهو الدكتور وليد فتيحي أنه دعي إلى أكثر من كنيسة لشرح مبادئ الإسلام، وأنه دعته بلدية بوسطن وغيرها من البلديات لإقامة محاضرات عامة عن الإسلام في نفس الأسبوع، وأنه كلما تحدث عن الإسلام تأثر الناس تأثراً بالغاً وصدقه أصحاب الكنيسة، وشهدوا له بالصدق فيما يتحدث عنه، وكذلك الحال بالنسبة لغير أمريكا من بلدان أوروبا، فقد ازداد الإقبال فيها على المساجد بنسبة ملحوظة، وحتى مناصرة قضايا المسلمين حتى لدى الكافرين؛ فلذلك لما ناصرت بريطانيا أمريكا في حربها الجائرة على العراق، كانت الملايين من الإنجليز من غير المسلمين يخرجون في مسيرات تنديد، وتتراجع كل يوم شعبية بلير وحزبه لدى البريطانيين، وما تسمعون اليوم كذلك من استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة وتراجع شعبية بوش وحزبه الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية كله من آثار ذلك، فالناس كلما جاءت صدمة من هذه الصدمات وظنوا أنها ستكون شراً للمسلمين، وضيراً على هذا الدين، ينقلب السحر على الساحر فتعود فتحاً مبيناً، ويتحقق بها للمؤمنين ما لم يكن يخطر على بالهم، ولم يكن يحصل لهم لو بقيت الأمور على روتينها الطبيعي، وعادتها السابقة؛ ولذلك فإن البلدان الإسلامية أيضاً قد حصل فيها اليوم من حياة الضمائر، والاهتمام بشأن الأمة ما لم يكن معهوداً من قبل، ففي مصر في أيام سقوط بغداد كانت الشوارع تغلي، وكانت الاجتماعات اليومية والمسيرات العجيبة الرهيبة في ميدان الجلاء في القاهرة وميدان التحرير وغيرهما كانت رهيبةً جداً، وكان يتكلم فيها قادة المجتمع وساسته ودكاترته وعلماؤه، وكان أهل مصر جميعاً إذ ذاك على قلب رجل واحد في استنكار ما يحصل، وكذلك في البلدان العربية والإسلامية الأخرى.
وأنتم تسمعون في هذه الأيام وفي اليوم الماضي بالخصوص اجتماع قادة القبائل في باكستان لاستنكار التمكين لأمريكا في باكستان، وتهديدهم بأنهم سيزحفون على إسلام أباد إذا استمر برويز مشرف في الخنوع لأمريكا، وتمكينها من تفتيش البيوت بحثاً عن المجاهدين في سبيل الله، وهكذا في كل مكان من أنحاء الأرض ينتصر هذا الدين وينتشر كلما جاءت ضربة وكلما حصل إيلام لهذه الأمة فيحيا الضمير فيها، وينتعش فيها الدين من جديد، ويأتي عدد كبير من جنود الله الأخفياء الذين لم يكن أحد يعلم بهم ولا يعرف من أين أتوا؟ فكثير من الذين يلتحقون بصفوف هذه الدعوة يومياً، والذين تغص بهم المساجد ويشهدون المحاضرات والدروس لم يدعهم أحد إلى ذلك، ولم يقنعهم أحد به، إنما قذف الله في قلوبهم هذا النور فجاء بهم من غير ملكهم، اختارهم الله، فالله تعالى ينزل اللوائح من السماء: فلان ابن فلان مستغل لنصرة دين الله، فلانة ابنة فلان مستغلة لنصرة دين الله، وحينئذ لا يستطيع أحد أن يمانع، وتحصل لديه الهمة وهو نائم فيمتلئ قلبه بالاهتمام بأمر الدين والعناية به، فيكون أمر الدين جل اهتمامه بدل أن كان جل اهتمامه في بيع تجارته وفي ما هو منغمس فيه من أمور الدنيا؛ ولذلك أذكر أن امرأةً من النساء كانت مهتمةً ببيع الملاحف والقماش، فكان هذا جل اهتمامها وعملها تخيط الملاحف، فتتعب في شرائها وخياطتها وصبغها، ثم بعد ذلك يكون جل اهتمامها في بيعها والتخلص منها، وقد كانت تصف نفسها بأنها في ذلك كالتي تنكث غزلها، فهي كل يوم تسعى لشراء قماش جديد ثم تخيطه وتصبغه، ثم يكون أيضاً اهتمامها منصباً في التخلص منه لبدء العملية من جديد، لكن قذف الله في قلبها الاهتمام بأمر هذا الدين، والاهتمام بأمر الدعوة، فقالت: كل ما كنت ابتكره من الألوان والطرائق في الملاحف أصبح اليوم يتعلق بالدعوة والاهتمام بها، ولم يعد لديها ذلك الاهتمام المبالغ فيه في أمور الدنيا وتجاراتها، بل انتقل ذلك حيث أصبحت تهتم بجانب آخر كان غائباً عنها ولم تكن تطلع عليه بوجه من الوجوه. وتعرفون أن كثيراً من شرائح المجتمع هنا لم يكن أهلها من المهتمين بأمور الدين، لم يكونوا يعرفون الطهارة، ولا الصلاة، ولا العقيدة، ولا القرآن، لا يظنون أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إليهم، وكان مع الأسف كثير من أهل العلم مشاركاً في ذلك، نسأل الله أن يتجاوز عن الجميع، وأن يغفر لهم، ومع ذلك فاليوم أولئك الشرائح التي لم يكن أجدادها يهتمون بالعلم ولا بالدين أصبحت هي التي تحمل اللواء، وهي التي تتقدم اليوم وتزداد كما حصل في أيام الصحابة، فسادة الناس في عهد التابعين من هم؟ سادة الناس في عهد التابعين وأئمة الدين هم الموالي، فسيد أهل مكة إذ ذاك عطاء بن أبي رباح وهو مولىً، وكان أسود أفطس الأنف أعرج، ولكنه كان سيد أهل مكة لعلمه، وسيد أهل العراق إذ ذاك محمد بن سيرين و الحسن البصري وكلاهما كانا مولىً، وسيد أهل الشام إذ ذاك كان أبا إدريس الخولاني ، وكان مولىً، وهكذا من بعدهم مثلاً أئمة الدين المقتدى بهم إمام أهل العراق أبو حنيفة هو مولىً، وإمام أهل مصر الليث بن سعد هو مولىً، وإمام أهل الشام أقصد الأوزاعي هو مولىً، وهكذا القراء أيضاً السبعة خمسة منهم من الموالي، وكثير من القادة هم من الموالي، فـموسى بن نصير الذي افتتح المغرب كله هو مولىً لبني مروان، و طارق بن زياد الذي افتتح الأندلس هو مولىً لبني مروان أيضاً، أو هو مولىً لمولىً، هو مولىً لـموسى بن نصير ؛ فلذلك أصبح اليوم شرائح المجتمع جميعاً تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليها، ولا تريد أن تترك نصيبها من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، بل تتنافس فيه جميعاً؛ ولذلك تجدون اليوم أن كثيراً من قادة العمل الإسلامي والمناضلين عنه والمدافعين عنه إنما كان آباؤهم أبعد شيء عن العلم، ويستغرب كثير من الناس أن يتصدروا للفتوى، أو أن يتصدروا للعلم وقد كانوا من بني حسان، أو كانوا من بعض الشرائح التي لم يكن أهلها يلجأ إليهم في الإفتاء، أو في الفصل في أمور الدين، لكنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم، وأنهم لا بد أن يقوموا بدعوته، فوجدوا الباب مفتوحاً أمامهم على مصراعيه فتقدموا، وكل هذا من آثار هذه الصدمات وهذه الآلام التي تصيب هذه الأمة.
كذلك لا شك أن الآلام التي تصيب هذه الأمة أيضاً منها: آلام مستمرة إلى الآن وما زالت الأمة تشكو منها، وإلى الله الشكوى، لكن لا بد أن تكون الأمة أيضاً عند حد التحدي، فليست هذه الأمة كالأمم التي تبكي إذا أصيبت بمصيبة، ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم مع البكاة على من مات يبكون.
فما نشهده من تهديم البيوت في فلسطين على أهلها، وما نشهده من تهديم المساجد في أوروبا الشرقية في البوسنة وغيرها، وما نشهده كذلك من تهديم المدن بكاملها في أفغانستان والعراق والشيشان وغيرها، كل ذلك من الجروح النازفة في جسم هذه الأمة، ولا يزيد هذه الأمة إلا صلابةً وقوة، ولا يزيدها إلا جلداً واستمراراً على الجهاد في سبيل الله، والسعي لإعلاء كلمة الله؛ ولذلك فإن الصادقين من هذه الأمة لا يمكن أن يعرفوا الخوف أبداً، فإذا تكاثرت الآلام عليهم، وتقوى عليهم أعداؤهم بما يمتلكونه من الوسائل تذكرون قول الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:9-18].
فلذلك إذا تقوى أعداء الله تعالى بأوليائهم، وإذا استعانوا بطواغيتهم، فإن المؤمنين يتقوون بالله سبحانه وتعالى، ويعلمون أنه ناصرهم، ولا يمكن يأتيهم النقص من قبله سبحانه وتعالى، وكذلك فهذه الآلام النازفة الحاصلة الآن تقتضي أيضاً أن يهتم المسلمون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها بأهلها، فأنتم الآن لا يمكن أن تكونوا جزءاً مفصولاً عن الأمة، إذا كنتم هنا لا تشعرون بآلام إخوانكم في فلسطين وإخوانكم في العراق وإخوانكم في الشيشان، وإخوانكم في كشمير، وإخوانكم في أفغانستان وغيرها من البلدان، فإذا كنتم فقط تشعرون بآلامكم في البلد الذي أنتم فيه ولا تشعرون بآلام الآخرين، فلتعلموا أنكم حينئذ قد غيرتم منهج المسلمين ولم تسلكوه، فإن هذه الأمة أمة واحدة، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، هذه الأمة رسولها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة، وهي كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه ).
فلا بد أن تحسوا أنكم من هذه الأمة، وأن كل ألم أصاب أي جزء من أجزائها فسيصيبها جميعاً.
وهنا أتذكر كلمةً قالها العلامة محمد بن محمد سالم رحمة الله عليهما عندما تخرج العلامة يحظيه بن عبد الودود من محضرته، وكان يدرسه ابنه أحمد بن محمد بن محمد سالم ، فلما أراد يحظيه أن يودع راجعاً إلى أهله ذهب به أحمد إلى والده محمد ، فقال يحظيه : سيسافر أهله، فبماذا يرجع إليهم؟ جلس محمد وكان متكئاً فقال: يرجع بأنني أنا وهو وتلامذتنا والنبي صلى الله عليه وسلم كالشجرة إذا أمسك منها غصن تحركت كلها؛ فلذلك لا بد أن يستشعر المؤمنون هذا الاتصال، وأن يشعروا أن الأمة كلها كالشجرة إذا أمسك منها غصن لا بد أن تتحرك كلها، لا بد أن تتحرك جميعاً لذلك الغصن الذي يتحرك.
ومن هنا لا بد أن تستشعروا يا إخواني! آلام أمتكم، وأن تعلو هممكم حتى لا تقتصروا على الحدود الزمانية والمكانية، وأن تتذكروا قول علال بن عبد الله الفاسي رحمه الله:
أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب
ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب
وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب
ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب
على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب
ولا راق لي نوم وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضى أتقلب
ولتتذكروا كذلك قول العلامة محمود ولد بابا بن مين حفظه الله:
ولترع مع رعي حق الله دون ولن حقوق الامة واصحب عصبة الرعة
فلا بد أن ترعوا حقوق أمتكم، وأن تصحبوا العصبة التي ترعى حقوق الأمة، وأن تعلموا أنها التي أمرتم بمصاحبتها، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، فلا بد أن تحققوا هذه الكينونة المقرونة بالتقوى، ولا يمكن أن تكون يا أخي متقياً فلا تكون مع الصادقين، ولا تهتم بهم، ولا تجعل نفسك معهم، ولا تصبرها معهم، فهذا لا يمكن أن يتحقق أبداً، ولنستمع خاشعين إلى قول الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر