إسلام ويب

الهجرة النبويةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهجرة النبوية كانت محطة كبرى من محطات التاريخ الإسلامي، فقد جاءت بعد سنوات من الصراع بين الحق والباطل، وقد كانت بإذن من الله تعالى، فهاجر الصحابة إلى المدينة، وتأخر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد الودائع والأمانات إلى أهلها، ثم لحق بهم مع صاحبه أبي بكر الصديق، وبها بدأت دولة الإسلام بالظهور والسطوع على كل ربوع الدنيا.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    الموضوع الذي سنختاره لهذا الدرس هو موضوع الهجرة النبوية.

    وهذه محطة كبرى من محطات تاريخ هذه الأمة، وهذه الدعوة المباركة، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى هذا الكون على وفق السنن الماضية عنده، وهي من تدبيره جل وعلا: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    ومن تدبير الله جل وعلا وسننه الماضية أنه لم يأتِ رسول من عند الله إلا قيض الله له أولياء وأنصاراً ينصرونه، ويقومون بدعوته، وقيض له في المقابل أعداءً يعادونه ويناصبون دعوته العداء، ويقفون في وجهها.

    وهذا مثال لسنة أخرى وهي سنة التدافع بين الحق والباطل، فقد بنى الله هذه الدنيا لتكون مسرحاً للصراع بين حزبين: هما حزب الله وحزب الشيطان.

    فحزب الله يسعى لإعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لرب العباد، وتحريرهم من العبودية للأغيار، والتزامهم بمنهج الله جل جلاله، وتحقيقهم لما خلقوا من أجله، وحزب الشيطان يسعى لتحقيق يمين إبليس وتصديقها، فقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وقد بين الله أن يمينه صدقت في أكثر الناس، فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، فحزب الله دائماً مستعدون لإعلاء كلمة الله، وباذلون لأرواحهم ومهجاتهم وأوقاتهم، وأفكارهم، ولكل ما يملكون امتثالاً لأمر الله، ووفاء ببيعته فقد أكد الله هذه البيعة في التوراة والإنجيل والقرآن، وبين منزلتها، فقال: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

    وهذا الصراع لا يتوقف، فلو توقف لحظة واحدة لفسدت الأرض كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]؛ وذلك أنه لو تمحض الحق عليها لاستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة؛ لأن الدنيا ليست دار قرار، وحكمة الله فيها العمل، فهي دار عمل ولا جزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض كذلك فلم يبقَ للحق دفع، لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته وغضبه، فلذلك كان من سنة الله بقاء هذا التدافع والصراع، فما من نبي من أنبياء الله إلا وجعل الله له عدواً من أكابر مجرمي أهل الأرض ومن الملأ فيها، وجعل له أولياء من المستضعفين، وتلك حكمة ربانية أخرى؛ ليبين الله أن الانتصار ليس بالوسائل المادية ولا بالعُدد ولا بالعَدد، وإنما هو من عند الله: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[آل عمران:126].

    نصر الله للحق المتمثل برسول الله على الباطل

    إن من نصره الله لا بد أن ينتصر، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بعثه الله مقفياً لما سبق من الرسل، ومصدقاً لما بين يديه من الحق، ونصره الله نصراً من عنده ليس راجعاً إلى عدد ولا عدة؛ ولذلك فإن أباه توفي وهو حمل، وأمه توفيت وهو ابن أربع سنين، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وتوفي عمه الذي كان يدافع عنه في وقت شدة الحاجة إليه، ولم يكن له أخ ولا أخت، ومات أولاده صغاراً لم يبلغوا الحلم حتى يدافعوا عنه، فكان نصره العظيم الذي نصره الله به نصراً مبيناً لم يعلم الثقلان مثله من عند الله مباشرة ليس لأحد فيه منة ولا يد، وهذا النصر العظيم الذي نصره الله به لا بد أن يمر بآثار المرسلين من قبله، فالمرسلون جميعاً من سنة الله أن يواجهوا وأن يعادوا؛ ولذلك قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عما يسمع ومما يواجه: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43]، فكل هذا قد قيل للرسل من قبلك، وما أرسل الله رسولاً قط، إلا قال له الناس: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة، ولذلك قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

    وجود سنة الصراع بين الحق والباطل في الكتب السابقة

    وهذه السنة الماضية هي موجودة في الكتب السابقة أيضاً قبل القرآن، ولذلك عرفها ورقة بن نوفل لما أتته خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي إليه، قال: (نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).

    فبين أنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جاء به إلا عودي، وقال: (ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فقال: أومخرجي هم؟)، فهذه سنة معروفة في الكتب السابقة.

    ولذلك فإن نوحاً عليه السلام آذاه قومه فصبر على الأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، وإبراهيم عليه السلام تألب عليه الملأ من قومه -ومنهم أبوه- ورموه في النار، ومع ذلك هاجر عن بلاده، فكانت هجرته سنة للأنبياء من بعده.

    وهجرتهم أنواع: فمنها ما يكون ناشئاً عن شدة الضرر بأصحابهم والألم الذي يلحق بهم.

    ومنها: النذارة، وذلك بأن يبلغوا أن العذاب قد حل على أقوامهم وأنه لا يرفع عنهم إلا بوجودهم بين ظهرانيهم، كما أخبر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في شأن أهل مكة: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ[الأنفال:33].

    فوجود النبي بين ظهراني قومه يرفع البلاء عنهم ما دام بينهم، وما من قوم خرج عنهم نبيهم فظهر لهم العذاب فرجع بعد ما ظهر إلا قوم يونس وحدهم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع عنهم البلاء بعد أن رأوه وشاهدوه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088544385

    عدد مرات الحفظ

    777233789