إسلام ويب

الهجرة النبويةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهجرة النبوية كانت محطة كبرى من محطات التاريخ الإسلامي، فقد جاءت بعد سنوات من الصراع بين الحق والباطل، وقد كانت بإذن من الله تعالى، فهاجر الصحابة إلى المدينة، وتأخر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد الودائع والأمانات إلى أهلها، ثم لحق بهم مع صاحبه أبي بكر الصديق، وبها بدأت دولة الإسلام بالظهور والسطوع على كل ربوع الدنيا.

    1.   

    سنة الله الأزلية والأبدية في صراع الحق والباطل

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    الموضوع الذي سنختاره لهذا الدرس هو موضوع الهجرة النبوية.

    وهذه محطة كبرى من محطات تاريخ هذه الأمة، وهذه الدعوة المباركة، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى هذا الكون على وفق السنن الماضية عنده، وهي من تدبيره جل وعلا: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    ومن تدبير الله جل وعلا وسننه الماضية أنه لم يأتِ رسول من عند الله إلا قيض الله له أولياء وأنصاراً ينصرونه، ويقومون بدعوته، وقيض له في المقابل أعداءً يعادونه ويناصبون دعوته العداء، ويقفون في وجهها.

    وهذا مثال لسنة أخرى وهي سنة التدافع بين الحق والباطل، فقد بنى الله هذه الدنيا لتكون مسرحاً للصراع بين حزبين: هما حزب الله وحزب الشيطان.

    فحزب الله يسعى لإعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لرب العباد، وتحريرهم من العبودية للأغيار، والتزامهم بمنهج الله جل جلاله، وتحقيقهم لما خلقوا من أجله، وحزب الشيطان يسعى لتحقيق يمين إبليس وتصديقها، فقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وقد بين الله أن يمينه صدقت في أكثر الناس، فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، فحزب الله دائماً مستعدون لإعلاء كلمة الله، وباذلون لأرواحهم ومهجاتهم وأوقاتهم، وأفكارهم، ولكل ما يملكون امتثالاً لأمر الله، ووفاء ببيعته فقد أكد الله هذه البيعة في التوراة والإنجيل والقرآن، وبين منزلتها، فقال: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

    وهذا الصراع لا يتوقف، فلو توقف لحظة واحدة لفسدت الأرض كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]؛ وذلك أنه لو تمحض الحق عليها لاستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة؛ لأن الدنيا ليست دار قرار، وحكمة الله فيها العمل، فهي دار عمل ولا جزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض كذلك فلم يبقَ للحق دفع، لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته وغضبه، فلذلك كان من سنة الله بقاء هذا التدافع والصراع، فما من نبي من أنبياء الله إلا وجعل الله له عدواً من أكابر مجرمي أهل الأرض ومن الملأ فيها، وجعل له أولياء من المستضعفين، وتلك حكمة ربانية أخرى؛ ليبين الله أن الانتصار ليس بالوسائل المادية ولا بالعُدد ولا بالعَدد، وإنما هو من عند الله: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[آل عمران:126].

    نصر الله للحق المتمثل برسول الله على الباطل

    إن من نصره الله لا بد أن ينتصر، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بعثه الله مقفياً لما سبق من الرسل، ومصدقاً لما بين يديه من الحق، ونصره الله نصراً من عنده ليس راجعاً إلى عدد ولا عدة؛ ولذلك فإن أباه توفي وهو حمل، وأمه توفيت وهو ابن أربع سنين، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وتوفي عمه الذي كان يدافع عنه في وقت شدة الحاجة إليه، ولم يكن له أخ ولا أخت، ومات أولاده صغاراً لم يبلغوا الحلم حتى يدافعوا عنه، فكان نصره العظيم الذي نصره الله به نصراً مبيناً لم يعلم الثقلان مثله من عند الله مباشرة ليس لأحد فيه منة ولا يد، وهذا النصر العظيم الذي نصره الله به لا بد أن يمر بآثار المرسلين من قبله، فالمرسلون جميعاً من سنة الله أن يواجهوا وأن يعادوا؛ ولذلك قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عما يسمع ومما يواجه: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43]، فكل هذا قد قيل للرسل من قبلك، وما أرسل الله رسولاً قط، إلا قال له الناس: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة، ولذلك قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

    وجود سنة الصراع بين الحق والباطل في الكتب السابقة

    وهذه السنة الماضية هي موجودة في الكتب السابقة أيضاً قبل القرآن، ولذلك عرفها ورقة بن نوفل لما أتته خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي إليه، قال: (نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).

    فبين أنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جاء به إلا عودي، وقال: (ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فقال: أومخرجي هم؟)، فهذه سنة معروفة في الكتب السابقة.

    ولذلك فإن نوحاً عليه السلام آذاه قومه فصبر على الأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، وإبراهيم عليه السلام تألب عليه الملأ من قومه -ومنهم أبوه- ورموه في النار، ومع ذلك هاجر عن بلاده، فكانت هجرته سنة للأنبياء من بعده.

    وهجرتهم أنواع: فمنها ما يكون ناشئاً عن شدة الضرر بأصحابهم والألم الذي يلحق بهم.

    ومنها: النذارة، وذلك بأن يبلغوا أن العذاب قد حل على أقوامهم وأنه لا يرفع عنهم إلا بوجودهم بين ظهرانيهم، كما أخبر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في شأن أهل مكة: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ[الأنفال:33].

    فوجود النبي بين ظهراني قومه يرفع البلاء عنهم ما دام بينهم، وما من قوم خرج عنهم نبيهم فظهر لهم العذاب فرجع بعد ما ظهر إلا قوم يونس وحدهم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع عنهم البلاء بعد أن رأوه وشاهدوه.

    1.   

    أقسام الناس الملتحقين برسول الله في فترة دعوته السرية

    الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة بمكة بعد بعثته يدعو إلى الله، فمكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وهذا الطور هو طور الدعوة السرية التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الوقت قسم الذين التحقوا به إلى ثلاثة أقسام:

    من يصلح لتحمل المسئولية دون أي عوائق

    القسم الأول: الذين يصلحون للعمل وتحمل المسئوليات، وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، ويمكن أن يتفهموا هذه الدعوة بكل تفاصيلها، وهم مستعدون لتحمل الأعباء والمشاق في سبيلها، وليس لديهم عقب المجتمع ولا ما كان عليه من عبية الجاهلية، وهؤلاء قبل التحاقهم به جعلهم في دار الأرقم كونهم تكويناً مختلفاً عما كان عليه أهل مكة، وتربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية غيرت حياتهم بالكلية.

    من يصلح لتحمل المسئولية مع وجود عوائق في المجتمع من حولهم

    والقسم الثاني: الذين يتحملون الأعباء وهم مستعدون لتحمل هذا الدين، ولتحمل تبعاته وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولكن لديهم عوائق في المجتمع من حولهم لتعلق المجتمع بهم، ولانشغالهم ببعض الأمور والمهن التي لها علاقة بالمجتمع، فلا يمكن أن يدخلوا في ذلك الطور السري من أطوار الدعوة، وهؤلاء جعل لهم داراً أخرى، هي دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقد هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدارين تهييئاً عجيباً، فالدار الأولى: دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو شاب من بني مخزوم ليس له كثير من العيال، وهي على الصفا، وبنو مخزوم كانوا أعداء بني هاشم في الجاهلية، فقريش في الجاهلية قد اختلفوا على حرب الفجار فكانوا حلفين: الحلف الأول يسمى: حلف المطيبين، وسادتهم بنو هاشم، والحلف الثاني يسمى: حلف لعقة الدم، وسادتهم بنو مخزوم وبني عدي، فهذه الدار ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من بني هاشم، ولا لأحد من بني المطلب من بني عمه، ولا لأحد من حلف المطيبين، وإنما هي لشاب من بني مخزوم من حلف لعقة الدم.

    ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة، كان سادة بني مخزوم من الذين ناصبوه العداء كـالوليد بن المغيرة وابن أخيه عمرو بن هشام بن المغيرة الذي يسمى بـأبي جهل ، كانا من أشهر أعداء هذه الدعوة في بداية نشأتها؛ فلذلك اختار داراً لشاب منهم من بني مخزوم، والدار الثانية كذلك هي لشاب من بني عدي بن كعب، وهم أيضاً من حلف لعقة الدم كما ذكرنا، وهو قريب لـعمر بن الخطاب ، وكان من أشد أعداء الدعوة إذ ذاك في بدايتها، وفي الدار أخته فاطمة بنت الخطاب وهي زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، ودار الأرقم كانت مناسبة للاختفاء والإسرار؛ لأنها كانت على الصفا فلا يستغرب أن يخرج منها أحد في أية ساعة من ليل أو نهار أو أن يدخل إليها، ولا يستغرب أن يأتيها الرجال والشباب والنساء والكبار والصغار؛ لأنه إذا رأى إنسان من يتابعه أو ينظر إليه فيرتاب منه واصل سيره كأنه يسعى بين الصفا والمروة، والناس يسعون بين الصفا والمروة في جميع ساعات الليل والنهار، كما في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً أراد أن يطوف بهذا البيت بأية ساعة من ليل أو نهار).

    وهذا القسم تعددت العوائق التي فيهم، منها: مثلاً تعلق المجتمع بهم، فمنهم: عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الغنم، فلو أضل قوم شاة من الليل وجاءوا يطلبون ابن مسعود فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف هذا العمل.

    ومنهم كذلك عمار بن ياسر وكان أيضاً تاجراً يبيع للناس حوائجهم، فلو جاء قوم يطلبون حاجة من الحاجات التي يطلبها الناس في كل الساعات ووجدوا عماراً في دار الأرقم لاكتشف العمل.

    ومنهم أيضاً: خباب بن الأرت وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ، فلو جاء قوم يطلبونه من الليل فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف العمل، فجعل لهم داراً مستقلة، ومع ذلك لم يكونوا أقل شأناً من الذين في دار الأرقم، بل كان في ميزان حسناتهم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    من يصلح لتحمل المسئولية مع وجود عوائق في أنفسهم

    والقسم الثالث: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، ومن أمثلة هؤلاء: أبو ذر رضي الله عنه، فـأبو ذر من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل قد قال فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )، ولكنه كان صاحب علانية فلا يتحمل كتمان السر، وكانت تلك المرحلة تقتضي كتماناً وحصافة، وقد حدثنا بقصة إسلامه كما في الصحيحين، فذكر: (أنه لم يزل يأتيه خبر مبعث رجل بمكة، فلما كثر عليه ذلك أرسل أخاه فقال: ائتني بجلية هذا الأمر، فذهب إلى مكة فأتاه فقال: وجدته والناس فيه مختلفون بين مصدق له ومكذب، وقومه عليه جرآء، فقال: لم تشفِ لي غليلاً، قال: فقعدت على راحلتي فأتيت مكة، فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي، فقلت: أجل، فقالوا: فإن به ساحراً هو أسحر خلق الله، فاحذر أن تسمع شيئاً من كلامه لا يسحرك، فحوشت أذني خشية أن أسمع شيئاً من كلامه)، فتلاحظون هنا سرعة تأثره واستجابته للدعاية المغرضة التي دعا بها الملأ من قريش، وهذا يدلنا على ما يتعلق بشخصيته هو واستعجاله، وليس هذا نقصاً في دينه ولا مستواه في الإيمان، وإنما هو مما فطر الله عليه الناس، فالناس مفطورون بفطرة الله، منهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم صاحب استعجال، ومنهم من هو صاحب حصافة، وليس ذلك راجعاً إلى نقص في الدين ولا إلى نقص في الخلق.

    قال: (فجلست عند الكعبة فأتاني علي بن أبي طالب وهو يومئذٍ شاب صغير، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل، قال: فهل لك فيمن يضيفك؟ قلت: وددت ذلك، فقال: اتبعني)، فـعلي لم يأخذه معه، بل قال: اتبعني، فكان علي يسير في ظلال الجدران، وأبو ذر يتبعه، فإذا رأى من ينظر إليه تشاغل علي بإصلاح نعله، لئلا يعرف أين يذهب به، (حتى أدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب).

    فأول علامة، وأول معجزة من المعجزات التي تدل على صدقه ما يتعلق بخلقه وخلقه، فقد خلقه الله بهذه الصورة التي وضع الله لها القبول، وألقى عليه المهابة، فهو أحسن الناس خَلقاً، وأحسنهم خُلقاً، فبمجرد رؤية هذا الرجل الصادق لوجهه عرف أنه ليس وجه كذاب، وهنا بدأ ينتزع ما جعل في أذنيه ليسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، وأكرم ضيافته، فلما عرض عليه الإسلام بادر إليه، فأسلم، فقال: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، واكتم إيمانك عن قريش فإني أخافهم عليك، قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم).

    وهذه أيضاً تدل على ما كان عليه رضي الله عنه من الاستعجال الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، قال: (فأتيت الملأ من قريش وهم عند الكعبة فصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليّ يضربونني حتى وقعت على الأرض، فجاء العباس وعبد المطلب فأكبا عليّ حتى منعاهم من قتلي، فلما اجتمعوا مرة أخرى وقفت وصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إلي يريدون قتلي، فجاء أبو بكر فقال: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار)، فـأبو بكر جعل الأمر في إطار تجاري اقتصادي ليتفهمه المشركون إذ ذاك، ثم أخذ بيده فأخرجه إلى المسجد فقال: لا حاجة لك في البقاء هنا فاخرج.

    ومن أمثلة هذا النوع: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وهو ابن عم أبي هريرة رضي الله عنه، وقصة إسلامه في الصحيح كذلك، وفيها: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، قال: فخرجت فجعل الله نوراً بين عيني في وجهي، فلما نزلت على قومي من الجبل خشيت أن ينظروا إلى ذلك فيجعلوه عاهة فسألت الله فحوله إلى يدي، فأتيت قومي من الليل فاستقبلني أبي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قال: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قال: ديني دينك، فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك، فاستقبلتني صاحبتني: فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: ولِم؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك).

    وهذه القصة تدلنا كذلك على الوجه الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم فيه الطفيل من أن يجلس عنه، ومنعه أن يدخله دار الأرقم؛ لأنه كان صاحب علانية يصلح للدعوة وللجهاد وللأمر العام، ولكنه لا يصلح لتلك المرحلة في ذلك الوقت، فلهذا قال: (ارجع إلى قومك فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، وهذه المرحلة هي التي تصلح له.

    ومن الأمثلة على ذلك: عمرو بن عبسة وهو رابع من أسلم كما قال هو عن نفسه: (أنا رابع الإسلام)، وكان أخا أبي بكر من الرضاع، وهو من أهل البادية، فجاء إلى مكة فدعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمه أوقات الصلاة، وأمره أن يرجع إلى قومه، وأمره إذا علم أن الله أظهره أن يلحق به، فجاء بعد الهجرة بعد غزوة بدر، فقال: (يا رسول الله! أعرفتني؟ فقال: أجل)، فعرفه بعد سنوات لم يره فيها.

    فهؤلاء الذين كان لديهم عوائق ردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع، وعلمهم ما يحصنون به دينهم واعتقادهم، ولكنه لم يقبل انضمامهم إلى عمله إذ ذاك؛ لأنه عمل شاق، وفيه كثير من التبعات والمشكلات، ولا يمكن أن يقوم له إلا من كان مستعداً بذاته.

    ولذلك فإن أبا ذر رضي الله عنه، قال: (ساببت رجلاً من أصحابي فعيرته بأمه فقلت: يا ابن السوداء، فرمى ذلك إلى رسول الله عليه وسلم. أي: بلغه، فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم لإزالة كل هذه العقد والفوارق بين المجتمع، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي الرباط الذي يربط الناس على كلمة سواء (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى).

    وتفاوت الناس وتفاضلهم فيه هو لمدة محصورة ضيقة محدودة، كتفاوت قوم ركبوا سيارة فكان بعضهم في مقدمها وبعضهم في مؤخرها، ثم نزلوا منها يمشون، فليس الذي كان في مقدمها يحتفظ ببطاقة تدل على أنه كان في مقدمها، فكذلك تفاوت أهل الدنيا فيها بين جميل وقبيح وطويل وقصير وأبيض وأسود، وعالم وجاهل وغني وفقير وعزيز وذليل، وملك ومملوك، فكل هذا تفاوت محصور مدته يسيرة، فإذا وقف الإنسان على القبور فإنه لا يجد فرقاً بين الذكر والأنثى، ولا بين المعمر وقصير العمر، ولا بين الأبيض والأسود ولا بين الغني والفقير، فقبورهم متساوية، وهذا يدل على أن الفضل الباقي فضل واحد هو التقوى فقط: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، أما في الدنيا فنعم فعلى وجه الأرض ذكر وأنثى وطويل وقصير، وملك ومملوك، لكن في بطن الأرض يتساوون جميعاً، وما بعد ذلك لا فرق فيه إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

    1.   

    إزالة رسول الله لمساوئ الجاهلية وسلبياتها

    وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء، وما كانت عليه من قطيعة ونفرة، وما كان الناس عليه إذ ذاك من ظلم اجتماعي واقتصادي، وما كانوا يعانونه من موروث ورثوه عن الآباء دون أن يتفهموه، ودون أن يدركوا له فائدة، فمختلطات أهل الجاهلية قد ضربت الناس بعطن، والناس يتناقلونها، فتنقلها الأجيال عن الأجيال دون أن يفكروا في إزالتها، ودون أن يفكروا فيما وضعت له، كحال كثير من مجتمعات المسلمين اليوم، فإن لديهم كثير من العوائد والفروق والعقد الاجتماعية، والتفاضل الذي ما أنزل الله به من سلطان، والأمور التي يقدرونها ويحترمونها كأنها طقوس دينية، ومع ذلك لا يدرون متى جاءت ولا من الذي ابتكرها، ولا من الذي أحدثها ودعا إليها، ولا ما فائدتها في المجتمع.

    فهذه الأمور جاء النبي صلى الله عليه وسلم لتحطيمها وتهديمها وإزالتها، فلذلك قال لـأبي ذر : (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فهذه ليست كفراً ولا نقصاً في إيمانه ولكنها خلق كان عليه وطبع كان فيه، ولذلك فإن أبا ذر بعد ذلك ندم عليه أشد الندم فغير حياته بعد أن أدبه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التأديب البليغ بهذه الكلمة النبوية الصادقة.

    1.   

    الإذن بالهجرة إلى الحبشة وضرورتها

    لما كثر المسلمون بمكة احتاجوا إلى أن تكون لهم نافذة خارجية؛ لأنه بالإمكان أن يجتثوا في داخل مكة، والدعوة لا يمكن أن تنتشر إلا إذا كان لها نوافذ وأشرعة بمثابة عروق الشجرة، فالشجرة لو لم يكن لها إلا ساقها فقط لسقطت بأول نفحة رياح، لكنها تمد عروقها في الأرض فتتمدد، فلذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفداً من أصحابه إلى الحبشة، فاستقروا فيها، فقال: (إن بها ملكاً عدلاً لا يظلم عنده أحد) وهو النجاشي ، ثم بعد ذلك لما جاءه وفد عبد القيس وذكروا أنهم لا يستطيعون أن يأتوه إلا في الشهر الحرام وبينهم وبينه هذا الحي من كفار مضر، ردهم إلى بلادهم وعلمهم ما يدعون به إلى الله عز وجل فكانت نافلة أخرى في جهة المشرق، ولذلك فجمعتهم ثاني جمعة صليت في الإسلام، صلوا الجمعة قبل أن يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم بجواثى وهي قرية في البحرين، وما زالت آثارها باقية إلى الآن.

    1.   

    بداية ملامح الهجرة إلى المدينة

    ثم بعد ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بأنه سيهاجر، وأن الله اختار له الأرض ذات النخيل والإحرين، والنخيل: هو هذا الشجر المبارك الذي بينه وبين المؤمن علاقة: (إن من الشجر شجرة تشبه المؤمن لا يتحات ورقها)، وفي الحديث الآخر: (مثلها مثل المؤمن)، فهذه النخلة مرتبطة بالإيمان من بدايته، فلذلك دل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المكان الذي سيهاجر إليه، والإحرون: جمع حرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سوداء محترقة، فهي آثار البراكين القديمة، فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ظن أنها الأحساء، حيث جاء وفد عبد القيس منها، ولكن الله اختار أن تكون المدينة، وهذه المدينة المباركة اختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من قديم الزمان، وقد جاء ذكرها في الكتب السابقة باسم يثرب، وأنها مهاجر نبي آخر الزمان.

    ولذلك فإن أحبار اليهود من قديم هاجروا إليها فاستقر بها ثلاثة بطون منهم: هم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، واستقر بها من العرب الأوس والخزرج، وهم من الأزد، وقد جاءوا إلى هذه المدينة وفيها اليهود فحالفوهم واستقروا معهم، وكان حولها قبائل من العرب البداة كبني بلي، وبني مدلج وبني ضمرة، وهم الذين يحيطون بالمدينة وهم سوقها وبدوها.

    ويذكر أن تبعاً لما جاء إلى البيت الحرام حاجاً، ذهب إلى المدينة وترك كتاباً كتبه، وداراً بناها لذلك النبي الأمي الذي سيهاجر إلى تلك المدينة، وكانت هذه الدار دار أبي أيوب التي هي أول دار نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

    و(تبع): اسم كل من ملك اليمن من حمير، ولكن المقصود هنا: رجل صالح من ملوك اليمن كان قديماً قد ذهب إلى البيت، وهو أول من كساه بالديباج الأبيض حسب ما يقال، ولذلك قالت امرأة من جرهم لولدها:

    أبني لا تظلم بمكة الكبير ولا الصغير

    أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

    الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور

    والله آمن طيرها والعصم تامن في ثبير

    ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير

    يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير

    بيعة العقبة الأولى

    كان بداية أمر أهل المدينة أن حصلت بينهم وبين اليهود مشكلات كثيرة، كالمشكلات الاجتماعية التي تحصل بين قوم مختلفي الدين والعرق والاهتمام، فكان اليهود يهددون العرب فيقولون: إنه حان وقت مبعث نبي آخر الزمان وسنسبقكم إليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكثر هذا الكلام على أولئك القوم وهم الأنصار، فحصل لديهم تشوف لنبي آخر الزمان وتطلع له، فهم يتطلعون لبعثة هذا النبي، فبينما رجل منهم اسمه البراء بن معرور قادماً من الشام إذ سمع راهباً يسأل عن خبر بعثة رجل بمكة، وكان معه ابن أخيه وهو يتيم شاب صغير، فلما سمع الخبر رجع إلى رحبه، ودعا ذلك الولد الذي سمع معه الخبر فقال: لا تحدث بما سمعنا الآن أي أحد واكتمه؛ خشية أن يصل الخبر إلى اليهود لئلا يسبقوه، فجاء فدعا نفراً من قومه فاستجاب له شبابهم وامتنع شيوخهم وكبارهم.

    وكان ذلك الوقت وقت خلاف فيما بين الأوس والخزرج، وقد دارت بينهم حرب طويلة الأمد تسمى حرب بعاث أو بغاث، وهذه الحرب كما قالت عائشة : (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فقتل فيه سادتهم، وبقي شبابهم الذين يريدون الحق ويطلبونه)، فكانت الحرب بينهم شديدة وفيها قتل عدد من زعمائهم وسادتهم، وحصل بينهم فيها من العداوة الشيء الكثير، وكان اليهود يذكونها، فاليهود لا يريدون أن يكون لهؤلاء العرب في المدينة أثر، فيريدون أن يتفانوا فيما بينهم وأن يقتتلوا، فكانوا يمشون بينهم بالنميمة، ويعينون بعضهم على بعض، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض تفاصيل هذه الحرب لما جاء مهاجراً؟ فسأل عن قول قيس بن الخطيم في قصيدته التي مطلعها:

    أتعرف رسماً كالطّراب المذاهب لعمرة وحشاً غير موقف راكب

    ديار التي كادت ونحن على منىً تطالعنا لولا نجاء الركائب

    تبدّت لنا كالشمس فوق غمامة بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب

    ففي هذه القصيدة يقول:

    أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مفراق لاعب

    (فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هذا صحيح؟ فقالوا: والله لقد خرج إلينا في ثياب عرسه وليس عليه درعٌ، فقاتلنا كما قال).

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يبدي ما كان في المجتمع من الصفات الحميدة، فالصدق والكرم، والشجاعة، والضيافة، والصفات كانت موجودة في المجتمع، وهي صفات حميدة، وكان يحب إظهارها والثناء على أهلها بها، ولذلك فإنه لما أسر الأسرى يوم بدر، قال: (لو كان المطعم بن عدي حياً فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)، وقد رثى حسان بن ثابت المطعم بن عدي بقصديته التي يقول فيها:

    ولو أن مجداً خلد الدهر واحد من الناس أبقى مجده الدهر مطعما

    وهذا يدلنا على عدل هذا الدين، فهذا الدين أهله ينظرون إلى الناس بعين العدل والرحمة، ولا يحملهم عداوتهم لهم ولو في الدين على أن ينكروا ما فيهم من الحق وما فيهم من الصفات الحميدة، وأن يقرونهم فيما بينهم وبينهم من الصلات والأرحام، فهذه أمور أمر الله برعايتها، وقد قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا[المائدة:2]، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب إظهار هذه الصفات الحميدة من الصدق والوفاء والشجاعة والكرم، وهي صفات كانت موجودة في العرب في الجاهلية، ولذلك يقول أحدهم في وصيته لولده:

    أبني إن أباك كارب يومه فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

    والله فاتقه وأوف بنذره وإذا حلفت ممارياً فتحلل

    هذا وإن الضيفَ مكرم أهله بمبيت ليلته وإن لم يسأل

    فهذا النوع من الشعر فيه كثير من المكارم والصفات الحميدة؛ ولذلك حض عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حفظه وبين أنه ديوان العرب، وأن من أراد المروءة فليحفظ شعر العرب لما فيه من الحض على هذه الصفات الحميدة، ولذلك قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: يا أيها الناس! عليكم بشعر العرب، فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات عمرو بن الإطنابة :

    أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح

    وإقحامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح

    وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

    لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صحيح

    فجاء البراء بن معرور فاستجاب له أولئك الشباب وكانوا عدداً يسيراً فخرج بهم في الحج، وكان أهل الجاهلية يحجون إلى البيت الحرام، فجاءوا من ضمن الحجاج، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة، وكانت هذه هي بيعة العقبة الأولى.

    ثم رجعوا وقد تزودوا بزيادة من الدين، وبما لقوا من النبي صلى الله عليه وسلم من الحفاوة بهم والدعاء لهم، فاستجاب لهم خلق كثير، وأكثرهم من الشباب الصغار، ولكن بعض الشباب أثروا في آبائهم وأمهاتهم.

    فلذلك كان عمرو بن الجموح سيداً في قومه، وكان له صنم يحبه حباً شديداً، وكان لا ينام حتى يخدم صنمه ويطيبه ويعطره ويبخره، وكان يسجد له ويجعله في أشرف مكان من بيته، فأسلم أولاده وزوجته فتمالئوا عليه، وحاولوا إقناعه بالدين فلم يقتنع، فقالت زوجته: لا يمكن أن يؤثر فيه إلا صنمه، فاجتهد أولاده، فلطخوا صنمه بالأنجاس والأقذار، فلما استيقظ وقد عطره، وجده ملطخاً بالأنجاس والأقذار، فبكى وغسل عنه ذلك وطيبه، فلما هدأت نفسه سألته زوجته، فقالت: ماذا تريد من هذا الصنم؟ قال: أريد أن يدافع عني وينصرني! قالت: ألا يدافع عن نفسه، ألم تعطره وتطيبه ثم يأتيه إنسان مجهول فيضع عليه النتنى والأوساخ والأقذار، ثم لما كان من الغد أخذوه، فربطوه بجيفة كلب ورموه في بئر الدار، وهي البئر الذي ترمى فيه الأقذار، فجاء فاستخرجه، فلما استخرجه وجده مقروناً بجيفة كلب، فحينئذٍ بدأ يتردد في ربوبيته وألوهيته، فقال:

    تالله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن

    فأسلم وهو شيخ كبير، وهو أكبر سادتهم الذين أسلموا.

    بيعة العقبة الثانية

    ثم أسلم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو أيضاً ابن عمه، فحين رآه اعتنق الإسلام أسلم معه، وهو والد جابر بن عبد الله ، فازداد العدد، فلما بلغوا اثنين وسبعين رجلاً وأربع نسوة خرجوا أيضاً إلى الحج مع المشركين من قومهم.

    وقد حدث بقصتهم كعب بن مالك ، فذكر أنه كان رديف خاله البراء بن معرور وكان سيده إذ ذاك، (فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجر إسماعيل مسنداً ظهره إلى البيت، فواعدنا بالليلة الوسطى من ليالي التشريق في الشعب الذي خلف الزورة في الثلث الأخير من الليل)، ونلاحظ هنا كيف احتاط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الموعد الخطير الذي هو بداية الهجرة، فاختار لهم الليلة الوسطى من ليالي التشريق وليست الليلة الأولى التي يأتي الناس إليها وهم في أشد التعب بعد أعمال الحج التي تكون كلها في يوم العيد، من الوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة والحلق والنحر، والحر وطواف الإفاضة، فكلها من أعمال يوم العيد، فلم يواعدهم في الليلة التي بعد العيد، وإنما واعدهم في الليلة الوسطى، في الليلة الأخيرة التي يتعجل عنها كثير من الناس، ويتفرقون في مشارق الأرض ومغاربها كما قال امرؤ القيس :

    وللَّه عيناً من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المحصب

    فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم سالك فج كبكب

    فسيتفرقون تفرقاً شديداً، فلذلك واعدهم في الليلة الوسطى من ليالي التشريق، وواعدهم في الشعب الذي خلف الجمرة، والشعب: هو المكان الذي يحيط به الجبل من أكثر الجهات فيكون له طريق واحد يوصل إليه، وهو منحنًى كأنه وادٍ في داخل الجبل، وهذا المكان يمكنهم من رقابة من يأتيهم من الخارج، فلو صعد إنسان فوق الجبل، فرأى أي أحد يدخل الشعب، لرمى لهم حجراً فانتبهوا، وهو أيضاً خارج منى، فجمرة العقبة هي الحدود الغربية لمنى، وكان عمر يضرب الناس على المبيت خلف جمرة العقبة.

    وواعدهم الثلث الأخير من الليل، في وقت البركة والنزول، فقالوا: (فأتينا نتسلل)، فلم يأتوا جميعاً في وقت واحد؛ لما في ذلك من الإثارة بل أتوا يتسللون، (وكنا اثنين وسبعين رجلاً ومعنا أربع نسوة، فلما تتام عددنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس، فبايعنا بيعة النساء)، وبيعة النساء هي ستة بنود: أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ[الممتحنة:12]، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة ثم رتبهم، وجعل لهم اثني عشر نقيباً منهم، أي: نظم المجموعة فجعلهم ما بين خمسة وستة، فهم اثنان وسبعون وأربع نسوة، الجميع ستة وسبعون، فستة وسبعون لو قسمتها على اثنتي عشرة مجموعة، كانت ما بين الستة والخمسة، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه المجموعات القليلة؛ لأن ذلك أسهل في تربيتهم وتكوينهم وإكسابهم للأخلاق الرفيعة الحميدة، ولتحقيق صفات الإيمان؛ لأن صفات الإيمان لا يمكن أن تتحقق في جمع غزير من الناس؛ لأنها تحتاج إلى مجاهدة، فمثلاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فلو نظر الإنسان إلى الناس جميعاً الآن، هل يستطيع أن يحب مثلاً لأقصاهم وأدناهم ما يحب لنفسه، يشق عليه ذلك، لكن إذا وجد نفسه في مجموعة قليلة يتربى معها وهم خمسة أشخاص، فيحبهم حباً شديداً أكثر مما يحب أفراد أسرته وعائلته، وسيحقق صفات الإيمان معهم فتتحقق الأخوة الحقيقية، التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة مجموعة، وجعل على كل مجموعة نقيباً لهم تيمناً لهم ببني إسرائيل الذين اختار الله لهم ذلك، فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا[المائدة:12]، فلما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح الشيطان، قال كعب : (فلم أسمع قبل يومئذٍ ولا بعده صوتاً كذلك الصوت. صاح الشيطان في أهل منى، يقول: يا أهل الجباجب! هل لكم في محمد والصبأة معه، يبايعونه على حربكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أزيب، هذا شيطان العقبة لأفرغن لك)، فهدده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت الشيطان وخنس، ومعنى: (لأفرغن لك) أنه سيأتيه في وقت غير هذا الوقت الذي هو مشغول فيه بالبيعة، وسيعاقبه على إعلان سر البيعة، فلما أصبحوا جاء المشركون من أهل مكة إلى وفد المدينة، فسألوهم: هل بايعوا محمداً؟ هل اجتمعوا به البارحة؟ قال: (فسكتنا نحن، فجعل المشركون من قومنا يحلفون لهم بما شاءوا من الأيمان ما حصل شيء من هذا)، فوكل الجواب إلى المشركين الذين لا حظ لهم في الأمر، وهو في وقت نومهم كما قال عبد الله بن رواحة في نفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

    يبيت يجافي جنبه عن سريره إذا ثقلت بالمشركين المضاجع

    هذا وقت ثقل المضاجع بالمشركين، فهم ليس لديهم أية معلومة عما حصل من هذه البيعة.

    1.   

    تكليف أول سفير في الإسلام بالهجرة إلى المدينة

    وهنا أرسل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سفير في الإسلام وهو مصعب بن عمير وكان شاباً، فقد كان قبل البعثة أحسن شباب مكة حالاً؛ لأنه كان محبوباً لدى أمه حباً شديداً، وكانت أمه أغنى نساء قريش، فكانت تغدق عليه من أنواع المال والثياب والعطر، فكان إذا مر من طريق عرف أنه مر منها من طيب عطره، فكان من أوائل الذين أسلموا، فآذته أمه أنواع الأذى، وكلفت به أربعة أعبد يجلدونه وحبسته بين أربعة جدران، وقطعت الاتصال به، فلما عرفت أنه لا يلين لذلك، رحمته فأطلقت سراحه، فجاء الوقت المناسب لهجرته، فكان أول مهاجر إلى المدينة، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم أمر الدين.

    1.   

    تكليف عبد الله بن أم مكتوم بالهجرة إلى المدينة بعد مصعب بن عمير

    وأرسل بعده عبد الله بن أم مكتوم وهو رجل من قريش كان ضريراً، أي: أعمى، وكان من الذين يتطلعون إلى الدين الحق، وكان يعلم أن الشرك مناف للفطرة، فكان ينكر على قومه من بني عامر بن لؤي شركهم، ولكن لم يكن لديه شيء في مقابل ذلك حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فبادر إلى الإسلام به، وكان من السابقين الأولين، وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيه حين دخل عليه وعنده الملأ من قريش، وهم يريدون مجادلته في أمر الدين، فأراد أن يتأخر عنه هذا؛ لئلا يقول له ما قال أصحاب نوح: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ[هود:27]، فقال الله فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى[عبس:1-4]، وكان عبد الله بن أم مكتوم من أشجع الصحابة رضوان الله عليهم، وقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة.

    وقد سأل أبا بكر أن يخرجه في بعث العراق، فأرسله مع سعد بن أبي وقاص ، فلما اشتد القتال يوم القادسية وجاءت الفرس برماتها على الفيلة، قال عبد الله بن أم مكتوم لـسعد : يا سعد ! إنك صاحب نبل. وسعد مشهور بالرماية، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ارمِ فداك أبي وأمي ). قال: واللواء يشغلك عن قوسك، فأعطني اللواء فإني لا أرى عدواً أفر منه فلا أزال أتقدم حتى ينهزم العدو أو ألقى الشهادة في سبيل ربي، فأعطاه اللواء فما زال عبد الله يتقدم حتى لقي الله شهيداً، وكان ثاني من هاجر إلى المدينة.

    1.   

    الإذن العام للناس بالهجرة إلى المدينة

    ثم بعد ذلك أذن للناس في الهجرة، وكان الذين يؤذون بمكة هم أول من أذن لهم بالهجرة؛ لأنهم لقوا عناء مبيناً وأذى شديداً.

    فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـعثمان بن مظعون وأخيه قدامة فهاجرا، ثم أذن لـعمار بن ياسر ولـابن مسعود ولعدد من المستضعفين فهاجروا.

    ثم هاجر أصحاب الغنى الذين كان المشركون يخافون مالهم، فيخافون تمويل الإرهاب إذ ذاك، فكانوا يتشددون مع عبد الرحمن بن عوف ومع صهيب الرومي ومع عثمان بن عفان ؛ لأنهم كانوا أصحاب تجارة ومال، فأرادوا منعهم من الهجرة، فأذن لهم بالهجرة فهاجروا وقد تركوا أموالهم بمكة لم يهاجروا بشيء، إلا أن عثمان جاء بنقود معه قد أخفاها عن قريش، وكان صهيب إذ ذاك ابن مائة وعشرين سنة، وكان مشهوراً بالرماية، فلما أرادت قريش منعه من الهجرة نفض كنانته فوضع سهامه بين يديه، فقال: يا معشر قريش! لقد تركت لكم مالي، ما أنتم بحاجة إليه مني وأنا شيخ كبير فانٍ، ووالله لا يصل إلي أحد منكم حتى تنفد هذه السهام، ولا ينفض واحد منها إلا في كبد أحدكم، فقال لهم أبو سفيان : دعوا الرجل فقد أنصفكم، فاخذوا ماله واقتسموه وتركوه فكان ممن باع نفسه وماله لله عز وجل، فأنزل الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[البقرة:207].

    وهاجر عبد الرحمن بن عوف ولم يهاجر إلا بسيفه ونعليه، لكنه كان ذا عقلية تجارة بارعة، فلما جاء نزل على أخ له من الأنصار، وكان الأنصار يستعدون لاستقبال المهاجرين، وكل بيت يريد أن يستقبل أكبر عدد منهم، ويتنافسون في إيوائهم وأخوتهم كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الحشر:9]، فنزل عبد الرحمن على أخ له من الأنصار، فعرض عليه أن يقتسم معه ماله، قال: أمسك عليك مالك، ولكن دلني على السوق، فدله على السوق فبدأ عبد الرحمن في عمل السمسرة حتى اكتسب من ذلك وزن نواة من ذهب فتزوج به، ثم بعد ذلك بدأ تجارته فكان أغنى المهاجرين.

    وبعد أن هاجر كثير من الصحابة إلى المدينة، وكان لهم بها منعة وقوة، وفشا الإسلام فيها وانتشر سود رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة أبا أمامة أسعد بن زرارة ، وكان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسود أجنبياً على أي قوم، فكل قوم دخلوا في الإسلام يسود عليهم رجلاً منهم؛ ليكون ذلك أكمل لانتظامهم، وأسهل لطاعتهم، فلذلك أمر على مكة لما فتحها الله عليه يوم الفتح عتاب بن أسيد ولم يؤمر عليها أحد من المهاجرين ولا من الأنصار، وأمر على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وهو من ثقيف من خيرتهم، وهكذا كل قوم يؤمر عليهم رجلاً منهم.

    وفي قصة واحدة حصلت له لما فتح اليمن، وقد فتحها الله على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يؤمره عليه وإنما أرسل أميرين إلى اليمن، أحدهما: أبو موسى الأشعري وهو من أهل اليمن وهو كفء للإمارة ولكنه كان حديث إسلام، فأعانه بـمعاذ بن جبل وكان فقيهاً حافظاً لكتاب الله، فجعلهما أميرين فكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره صاحبه، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما في الصحيحين قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا).

    1.   

    هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأحداثها

    ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر بعدهم بمكة ولم يؤذن له بالهجرة، وكان لديه كثير من أمانات الناس من اليتامى والأرامل والضعفة الذين ليس لديهم من يقوم عليهم، وكان أهل الجاهلية يستحلون أموالهم ويأكلونها، فكانت أماناتهم تودع عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه المأمون، فيحفظها.

    اصطحاب رسول الله لأبي بكر في هجرته

    ولما أذن الله له بالهجرة جاء في وقت الظهيرة إلى دار أبي بكر ، وكان أبو بكر دائماً يستأذن في أن يهاجر فلا يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: (لعل الله يأذن لي بالهجرة فتكون رفيقي)، قالت أسماء : (فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الهاجرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال أبي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في هذا الوقت إلا لأمر، فدخل فقال لأبي: اخلف عني من عندك، فقال: يا رسول الله! إنما هما ابنتاي وإحداهما زوجك أسماء و عائشة ، فأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة فقال: الصحبة.. الصحبة، فقال: نعم، فبكى أبي من شدة الفرح وما كنت أعلم قبل يومي أن أحداً يبكي من الفرح).

    تخطيط رسول الله للهجرة وتوظيف كل فيما يناسبه

    وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة الهجرة، وكانت خطة محكمة شاملة، فهو و أبو بكر يخرجان خفية في الليل إلى غار ثور، وهو عكس الاتجاه الذي سيهاجران إليه، فالهجرة ستكون إلى المدينة في الشمال الغربي، وغار ثور في الجنوب الشرقي من مكة، وهو قريب، والهارب عادة يستغل فرصة غفلة الناس عنه ليقطع المسافة، وهم جلسوا في هذا المكان القريب، وأسماء هي المسئولة عن التموين، أي: عن النفقة؛ لأنها امرأة يمكن أن تخفي في ملابسها ما يحتاجان إليه من غذاء وماء، و عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً ثقفاً لقناً هو المسئول عن التأمين، أي: عن الأخبار، يجمع لهم أخبار قريش ومكائدهم وما حاكوه لهم، فيأتي فيخبرهم بما حصل، و عامر بن فهيرة وكان راعياً للغنم، وكان مولى لـأبي بكر ، كان يغدو بالغنم على أثر أسماء فيطمسه، ويروح بها على أثر عبد الله فيطمسه، وبين أبو بكر أن له ناقتين ناجيتين قد أعدهما للهجرة، فعرض إحداهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها إلا بالثمن، وكانت هي القصواء التي لا يحمله من الدواب إذا نزل عليه الوحي سواها، وسيكون لها شأن فيما بعد، فهي ذات شأن عظيم كما سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى في عدد من المغازي.

    واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر عبد الله بن أريقط وكان خريتاً خبيراً بالمسافات، وكان أميناً وصادقاً لا يسرب المعلومات ولا الأخبار عنهم، فواعداه بعد ثلاث ليال وسلما إليه الناقتين وزادهما، وجهزتهما أسماء تجهيزاً سريعاً، فلم تجد ما تربط وتوكي به مزودهما، فأخذت نطاقها، أي: الإزار الذي تلبسه، فقسمته نصفين فشقت نصفه فربطت به وأوكت به مزودهما، فلقبت بذات النطاقين، وكان ذلك فخراً لها ومزية في الإسلام، وهي إذ ذاك في أول حملها بـعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو أول مولود يولد للمهاجرين بعد الهجرة، ومكث النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر ثلاثة أيام بغار ثور، وطلبهما المشركون غاية الطلب وألحوا في الطلب، وجعلوا لمن يأتي بأي خبر عنهما مائة ناقة، وجاءوا إلى غار ثور فحجبه الله عنهم بما جعل عليه من المهابة، فكان أبو بكر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو نظر أحدهم أسفل من قدمه لرآنا، فقال: يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

    ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[التوبة:38-41].

    المشي في طريق غير طريق التجارة المعروفة واكتشاف سراقة لهم

    فلما خرجا من غار ثور التحق بهما عامر بن فهيرة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر على ناقة، وكان عامر بن فهيرة مع عبد الله بن أريقط على الناقة الأخرى، وقد سلك بهم ابن أريقط طريقاً غير طريق القوافل المعروفة، وطريق القوافل تتيامن من المدينة إلى جهة سيف البحر فتسير إلى جهة بدر، ثم بعد ذلك إلى جهة جدة، وتتجاوز المناطق التي فيها الحرار بين المدينة ومكة، والتي فيها الجبال الشاهقة المرتفعة، فسلك بهم ابن أريقط طريق الهجرة، وهي طريق غير مأهولة ولا معروفة، فلم يصل إلى المشركين عنهم خبر إلا أن سراقة بن مالك الجعشمي رأى بياضاً أو رأت أمة له بياضاً فركب فرسه فعدا إليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر وعرفهما ساخ به فرسه في الأرض حتى كاد يختفي فنادى بالأمان، فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان، وشرط عليه ألا يبلغ أحداً بأي خبر عنهما، وقال: (كيف أنت إذا كنت ترفل في سواري كسرى).

    فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت الذي أخرجه فيه قومه ثاني اثنين، وفي وقت الشدة ومع ذلك يعد بسواري كسرى ملك الفرس، في الوقت الذي يتغلب فيه كسرى على الروم ويهزمهم هزيمة نكراء، أنزل الله فيها: أَلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ[الروم:1-4]، فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى، وبعد فتح مدائن كسرى وأخذ سواريه ألبسهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـسراقة فرفل فيهما تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع أهل مكة أي خبر عنهما حتى نزلا بوادي قديد، وهذا الوادي فيه بنو سعد.

    نزول رسول الله بخيمتي أم معبد

    وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر على امرأة منهم تكنى أم معبد ، وكانت امرأة جفنة صاحبة تجارة، وكان العام عام بؤس ولأواء وشدة، فجاءا إلى أم معبد فنزلا عند خيمتيها ووجدا الرجال كلوف الأيدي سفر، وكانت أم معبد إذ ذاك لا تملك إلا الغنم وقد ذهبت غنمها ترعى، وبقيت شاة سخلة صغيرة خلفها الجهد، فاستأذنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتلبها، فتعجبت من ذلك! فناولته القدح فذكر اسم الله ومسح ظهرها ومسح ضرعها فدرت فحلبها، فملأ لهم أوانيهم جميعاً فشربوا حتى ارتووا، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتعجبت أم معبد لذلك، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً تريد به معرفة حقيقته، ولذلك وصفته وصفاً دقيقاً، لما جاء زوجها الحارث فسألها من أين لهم هذا اللبن؟

    وذكرت أنه نزل عليهم رجل هو أبرك أهل الأرض، فقال: صفيه يا أم معبد ! فوصفته، فذكرت قامته ولونه ولحيته، وصوته وخلقه ونظره، ووصفته وصفاً دقيقاً، هو من أبلغ الأوصاف التي جاءت في الشمائل في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الحديث فيه بعض النكارة، وبعض الناس يضعفه، ولكن مع ذلك له اشتهار بين أهل العلم، وذكر في الأصول السابقة كثيراً، ولما نزلا على أم معبد في خيمتيها سمع أهل مكة صائحاً يسمعون صوته ولا يرونه وهو يقول:

    جزى الله عنا والجزاء بفضله رفيقين حلا خيمتي أم معبد

    هما نزلا بالبر وارتحلا به فيا سعد من أمسى رفيق محمد

    ليهن بني كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد

    قدوم رسول الله إلى المدينة وانتظار أهلها له

    ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في طريقهما حتى أتيا أهل المدينة وكان قد أخبر المؤمنين بالمدينة أنه قادم إليهم، فكانوا يخرجون في كل يوم من الصباح وهم ينتظرونه حتى يردهم حر الشمس، فخرجوا ينتظرونه في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فخرجوا ينتظرونه حتى ردهم شعاع الشمس، فلما وصلوا إلى المدينة صعد رجل من اليهود على نخلة فرأى البياض، أي: بياض الثياب، فصاح: يا أهل يثرب! هذا جدكم الذي تنتظرونه، فخرج الناس إليهما يبتدرونهما حتى لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر عند ثنية الوداع الجنوبية.

    فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر لاستقبال الناس، وكثير من الذين آمنوا بالمدينة لم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل، فما كانوا يدرون أيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى جاء حر الشمس فجعل أبو بكر يرفع ثوبه على عصاه يظلل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بناء مسجد قباء ومدة إقامة رسول الله فيه

    ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين فنزل على بني عمرو بن عوف بقباء، وأسس في ذلك اليوم في وقت صلاة الظهر مسجد قباء، فهو أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس.

    نزول رسول الله في حائط بني النجار وبناء المسجد النبوي فيه

    فلما صلى الفجر يوم الجمعة اتجه إلى جهة المدينة، وكان كلما مر بقوم أمسكوه وامتنعوا من أن يغادرهم، وقالوا: يا رسول الله! إن فينا الحلقة والمنعة، حتى حان وقت الجمعة في الطريق فنزل في بني سالم الحبلى، فصلى فيهم الجمعة في مسجدهم، وهو الذي اشتهر بمسجد الجمعة، وهي أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (دعوها فإنها مأمورة)، فكانوا يتركون للناقة زمامها وهي تسير، وهي القصواء التي ذكرناها، فهي مأمورة بأمر الله جل جلاله بإلهامه لها، فصارت الناقة حتى دخلت حائطاً لبني النجار فيه قبور للمشركين ونخل، فنظرت فيه يميناً وشمالاً ثم بركت في وسطه ووضعت جرانها على الأرض، أي: وضعت صدرها على الأرض، ثم قامت فدارت ساعة، ثم رجعت إلى مبركها.

    فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هذا المنزل إن شاء الله)، فنزل عنها ثم قال: (يا بني النجار! ثامنوني حائطكم هذا! فقالوا: والله لا نأخذ به أجراً)، فأمر بالقبور فنبشت وأمر بالنخل فقطع، ثم بدأ بناء المسجد في عصر يوم الجمعة، وهذا المسجد في بقعة شريفة مقدسة، فيها أماكن من الجنة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (منبري على حوضي)، وفي الحديث الآخر: (منبري على كرعة من كرع الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).

    ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك فاختلفوا على من ينزل من البيوت، فاتفقوا على أن يذرعوا أقرب بيت حتى يعرفوا أقرب بيت إلى مبرك الناقة، فوجدوه دار أبي أيوب الأنصاري وكانت من دورين، فأنزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً في الدور الأسفل لأنه أوسع، فلما صعد هو وامرأته قال: كيف نهدأ ونحن فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلا إلى الشارع، فتركا تلك الدار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني حجر نسائه في الجهة الشرقية من المسجد.

    ويؤخذ من الهجرة كثير من الدروس والعبر، ولعلنا نخصص لها وقتاً آخر إن شاء الله تعالى.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يلزمنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يبعثنا في زمرته، وأن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يرزقنا جواره في الدنيا والآخرة، وأن يختم لنا بالصالحات أعمالنا، وبالحسنات آجالنا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767961496