إسلام ويب

الهجرة إلى اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الهجرة إلى الله شرف المؤمن وعز له في الدنيا والآخرة، وهي أنواع فمنها هجرة الأفعال التي لا ترضي الله، وهجرة الأشخاص، وهجرة الأماكن التي يعصى الله بها ومنها دار الكفر، وهناك تفصيل لكل هجرة من هذه الهجرات التي ذكرت في هذه المادة.

    1.   

    أنواع الهجرة الواجبة باعتبار المهجور

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن للهجرة أنواعاً لاعتبار المهجور، وقد وزعها العلماء رحمهم الله تعالى إلى ثلاثة:

    الهجرة الأولى: هجرة فعل.

    والثانية: هجرة شخص.

    والثالثة: هجرة مكان.

    هجرة العمل

    أما الهجرة الأولى: وهي هجرة العمل، فهي هجرة ما نهى الله عنه، بأن يهاجر الشخص ما نهى الله عنه، وبهذا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

    فهذه الهجرة مستمرة لا تنقطع، وهي واجب شرعي على كل من آمن بالله واليوم الآخر؛ أن يهجر ما نهى الله عنه، ويتفاوت ذلك بحسب ضخامة المنهي عنه، وشفافيته، فما كان من الكبائر أو من الفواحش، فالهجرة عنه لازمة، في كل الأحوال وعلى كل الأحايين.

    ولذلك كان جانب النهي مقدماً على جانب الأمر، كما عبر عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ).

    ثم ما كان دون هذا من اللمم، ومن الصغائر، ومن المكروهات، وكذلك من مكروهات الأخلاق، فهجرته مكملة لهذه الهجرة، متممة لها، ولا يتم الإيمان إلا باجتناب هذه الصغائر، وهذه المكروهات، والتحلي بالمندوبات وممارستها، كما ثبت عن الله تعالى في الحديث القدسي، أن الله تعالى قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ).

    هجرة الأشخاص

    القسم الثاني: هجرة الأشخاص، والمقصود بالأشخاص: من لم يرضَ الله تعالى عنه، وهؤلاء منهم الكفرة، الذين يحادون الله تعالى، ويعادون أولياءه، فتجب هجرتهم. والمقصود بهجرتهم: ما يشمل الميل إليهم بالقلب، ومحبتهم والركون إليهم، وهذا المذكور في قول الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، وفي قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ [الإسراء:74-75]، فيجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر أن يبغض الكافرين بالله واليوم الآخر، وأن لا يركن إليهم، وأن لا يميل إليهم بقلبه، وأن لا يجد محبةً لما هم فيه، وأن يبغض كل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.

    كذلك من هذه الهجرة: مقاطعتهم في تأييدهم على ما هو متعلق بديانتهم الفاسدة، وذلك بأن يكون المسلم معتزاً بدينه، متميزاً عمن سواه، فلا يطيع الكفرة، ويقاطعهم امتثالاً لأمر الله تعالى في خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله لأمته، في قوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطيع كافراً في معصية الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، فإن ضعفة العقول قد يزين لهم الشيطان والهوى أن يطيعوا الكفار في بعض الأمر، فبذلك يداهنون ويخالفون هدي محمد صلى الله عليه وسلم، رغبةً في بعض مطامع الدنيا، وهؤلاء قد كبتهم الله تعالى بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:28-29]، وبقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:51-54].

    مقاطعة الكفار فيما يقويهم على حرب الإسلام والمسلمين

    كذلك من هذه الهجرة، وهي هجرة الكافرين: مقاطعتهم فيما يقويهم على حرب الدين، وذلك المقاطعة العسكرية، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل جلب السلاح إلى الكفرة؛ ليحادوا الله به، ويقاتلوا أولياءه، وأجمعوا على هذا وقرروه، وذكروا أن من فعل ذلك فإنه يستتاب ثلاثة أيام بلا جوع ولا عطش ولا معاقبة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ومن هذا جلب السلاح لمن يعتدي على المسلمين بقطع طريقهم ونحو ذلك، فهذا من الهجرة الواجبة.

    وكذلك مقاطعتهم فيما يتعلق بثقافاتهم المميزة لهم، فلا شك أن من أعظم أسلحتهم هذا الغزو الفكري الذي يغزون به المسلمين في عقر دارهم، وهذه المناهج التي تقرر في مدارس المسلمين ويتعلم فيها أولادهم ما يخالف شرع الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يجب هجرة الكافرين فيه.

    مقاطعة الكافرين اقتصادياً

    وكذلك من هذه الجوانب التي يجب هجرة الكافرين فيها، مقاطعتهم في المجال الاقتصادي، والمقصود بمقاطعتهم في المجال الاقتصادي: قطع الإمدادات عنهم، وعدم تقوية مركزهم الاقتصادي باستيراد سلعهم إن كانوا نداً للإسلام، واقفين في وجهه، معادين لأهله. ولا يستدل في مقابل هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعقد عقوداً مع الكفار في المجالات التجارية، فقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام كان اقترضه منه بالسلم، وكذلك في حديث عبد الله بن أبي أوفى ، و عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهما في الصحيحين: ( أن أنباط الشام كانوا يأتون إلى المدينة، فيشتري منهم المهاجرون والأنصار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزبيب، والتمر، والزيت إلى أجل، ولم يكونوا يسألونهم: هل عندهم ذلك في حدائقهم، أو ليس عندهم من سيشترونه لهم ).

    وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من عقده مع اليهود في خيبر عقداً يقرهم فيه على الأرض، على أن يعملوا فيها، ويؤدوا إليه نصف ما أنتجته الأرض، وذلك أن هذه الأحاديث كلها، وهذه النصوص المذكورة هنا إنما هي في حال استضعاف الكافرين وذلتهم، وعلو شأن الإسلام وتمكنه منهم، فالإسلام في تلك الفترة هو الحاكم المسيطر، والكفار تابعون خاضعون يؤدون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وبذلك جاز التعامل معهم، وجازت العقود معهم، على أن يكونوا أذلةً تحت أيدي المسلمين.

    كذلك لا يستدل في هذا المجال بقصة سيدنا يوسف -الكريم بن الكريم بن الكريم عليه وعلى آله الصلاة والتسليم- أنه قبل أن يكون أجيراً عند ملك مصر، عندما قال: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]؛ لأن هذا العقد إنما كان عقد إجارة، ولم يكن تقوية للكافرين، وإنما كان تمكيناً لدين الله تعالى، وحكماً بالعدل في أهل الأرض، وذلك أن يوسف علم من ثقة الملك به أنه يمكن أن يوصل الحقوق إلى أهليها، وأن يعدل بين الناس، فلذلك خاطبه الملك فقال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]، فانتهز يوسف هذه الفرصة، فقال: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

    عدم السفر إلى بلاد الكفار بدون مصلحة شرعية راجحة

    كذلك من هذه المجالات التي يجب هجرة الكافرين فيها: عدم السفر إلى بلادهم لغير مصلحة شرعية راجحة، وقد ذكر ابن رشد في البيان والتحصيل، وكذلك أحمد بن إدريس القرافي في الذخيرة عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، أنه قال: (إن من يخرج إلى أرض الكفار وأرض الحرب للتجارة مجروح الشهادة، لا تقبل شهادته في المسلمين)، وهذه من فتاوى الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهي من باب السياسة الشرعية؛ لأن المسلم إذا سافر إلى تلك البلاد ورأى حياة أهلها استيأس من نصر المسلمين عليهم، وركن إلى ما هم فيه، ورغب في الدنيا ومظاهرها الخلابة، ورأى المنكرات التي كان قلبه يشمئز منها، فيرى للعيان فتخف في قلبه حرارة الإيمان، وبذلك ينقص إيمانه بالتدريج حتى يصل إلى أن يخلق، والإيمان يخلق في القلوب كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

    أما من سافر إلى أرض العدو -أرض الحرب.. أرض أهل الكفر- لدعوتهم، أو لإقامة الحجة عليهم، أو لتحصيل بعض المصالح العامة لدين الله تعالى، أو لبعض الضروريات الخاصة به، كالعلاج مثلاً إذا لم يجد العلاج في بلاد المسلمين، فهذا من المسوغات شرعاً، وقد قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وقد أرسل الله الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل إلى أرض الكفر بكتبه، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أنه أرسل دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى والي مصر ليرسله إلى هرقل ، وأرسل عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي بكاتبه إلى عظيم البحرين ليوصله إلى كسرى، وكذلك أرسل كتاباً إلى النجاشي -هو عظيم الحبشة وليس بـالنجاشي الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم- وأرسل كتباً أخرى إلى ولاة الجهات، فأرسل إلى المنذر بن ساوى كتاباً مع خالد بن الوليد ، وأرسل أيضاً كتاباً إلى أكيدر دومة الجندل ، وغير هذا من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان يحملها المسلمون إلى دار الكفر، وذلك للقيام بمصلحة شرعية عامة.

    أما سفر النساء إلى بلاد الكفر؛ بقصد التجارة أو التفرج والسياحة فهو من أعظم الكبائر، ومن رضي به أو فعله فهو مجروح الشهادة في المسلمين كما ذكرنا فتوى الإمام مالك رحمه الله تعالى في ذلك.

    هجرة المنافقين وبيان أقسامهم

    ومن هذه الهجرة أيضاً هجرة المنافقين، والمنافقون قسمان: المنافقون نفاقاً عقدياً، وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويعيشون بين ظهراني المسلمين، وهؤلاء تجب هجرتهم ومقاطعتهم؛ لأنهم شر من الكافرين الصرحاء، فالله تعالى جعلهم تحت الكافرين منزلةً في النار، وجعلهم أدنى منهم منزلة في الدنيا، فقال تعالى: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وهذه الآية حاكمة على المنافقين بالنزول والسفل في الدنيا والآخرة، ففي صدرها يقول: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، هذا في الآخرة، وفي الدنيا يقول: وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فهذا دليل على أن الله تعالى قد قوض بنيانهم وهدّ أركانهم في الدنيا، وجعلهم في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.

    القسم الثاني من المنافقين: هم المنافقون النفاق العملي، وهم الذين لم يوفوا لله بما عاهدوه عليه، هم من المؤمنين المصدقين المؤمنين بالحساب والعقاب وباليوم الآخر، ولكنهم تقاعسوا وكسلوا عن القيام بالواجب الشرعي، ولم يؤدوا عهد الله الذي افترض عليهم في الآيات التي قُرئت علينا الآن، وينبغي على كثير من المسلمين أن يخشى هذا النوع من النفاق على نفسه، ولذلك يقول ابن أبي مليكة رحمه الله تعالى، فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: (أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد إلا وهو يخشى النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إيماني على إيمان جبريل وميكائيل.

    وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو حذيفة بن اليمان فيقول: (يا أبا نجيد ! أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟) فكانوا يحذرون النفاق على أنفسهم ولا يقصدون النفاق العقدي، فهم يعلمون أنهم مؤمنون، ولكنهم يخافون النفاق العملي، وهو النكوص عن بيعة الله تعالى، والتراجع عنها، وعدم القيام بالواجب، وهذا ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً في قوله: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض )، والمقصود هنا: الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، وصاحبه بالمشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه، ولهذا قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، فإرجاع عذاب المنافقين والتوبة عليهم إلى المشيئة دليل على أن المقصود هنا: النفاق العملي لا النفاق العقدي؛ لأن النفاق العقدي شرك بالله، والله تعالى يقول: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].

    حقيقة النفاق العملي ومدى خطورته على المسلمين وعاقبته الوخيمة

    هؤلاء المنافقون النفاق العملي لا شك أننا نتحسسهم بين ظهراني المسلمين، وهم الذين لا يجدون ولاءً لدين الله، ولا يميلون إلى مرضاة الله، ويقدمون هواهم، أو مصالحهم الدنيوية، وحتى مصالح غيرهم على مصلحة دين الله، فهؤلاء يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، وبذلك هم أخسر الناس صفقةً في هذه الدار فضلاً عن الدار الآخرة، أخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره، هؤلاء يمكنون لأعداء الله تعالى، ويساعدونهم، ويسعون لإعلاء كلمة الكفر، في دار الإسلام، فلذلك كانوا أخسر الناس صفقة في هذه الدنيا، وأخسرهم صفقةً يوم القيامة، وهؤلاء يجب هجرتهم، وهجرتهم شاملة؛ كعدم تزويجهم وعدم مجالستهم، وعدم مخالطتهم، وعدم إعلائهم للمنابر، وعدم تقديمهم في المجالس، وكل ما يستطيع الشخص تنقصهم به من إشاعة فضائحهم، ومكايدهم لدين الله تعالى.

    هجرة العصاة البغاة

    كذلك من هذه الهجرة: هجرة العصاة البغاة، وهم الذين يظلمون الناس، وهؤلاء الذين يظلمون أنفسهم، أو يظلمون عباد الله تعالى، ويعتدون عليهم، يجب أن يهجروا في حال وقوعهم في المعصية، وهجرتهم هي ردهم عن ظلمهم، وذلك أن الله عز وجل أمرنا أن نعين المظلوم على الظالم حتى يأخذ حقه، وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10]، وهؤلاء هجرتهم إنما تكون في حال وقوعهم في الظلم والمعصية، وتكون بعدم نصرتهم ومساعدتهم على ظلمهم، ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء، فلا تصدقوهم في كذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فمن فعل فلن يرد علي الحوض )، من فعل سيطرد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد غرائب الإبل.

    وكذلك فإن هؤلاء -حتى ولو كانوا أقرب الناس إليك- أمرك الله تعالى بمقاطعتهم، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، فإنه لا بد من مقاطعة الظالم كائناً من كان، سواءً كان أقرب الأقارب أو كان أغنى الأغنياء، أو كان صاحب سلطان، ولا بد من هجرته، وهجرته قسم من أقسام الهجرة الواجبة.

    هجرة أصحاب البدع

    كذلك من هذه الهجرة: هجرة أصحاب البدع، وهم الذين يدعون إلى خلاف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبتدعون في دين الله، وهؤلاء نص الله تعالى على نوعٍ من هجرتهم، وهو عدم الخوض معهم في مجادلتهم، وعدم الجلوس إليهم، خاطب بذلك المؤمنين عموماً، وخاطب به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَهمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:68-69]، ويقول الله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:139-140]، وهؤلاء أصحاب الغوايات والضلالات والبدع الداعين إليها، المروجين إليها، أفتى فيهم الإمام مالك رحمه الله تعالى بأن يقاطعوا، وأن لا يجادلوا، قال: إن على لسان كل واحد منهم شيطان، فمجادلته تزيده في غيه، ولذلك جاءه رجل، جاء مالك بن أنس رجل فقال: يا أبا عبد الله ! إني جئت لأكلمك في القدر، فقال: أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك فاذهب إلى شاك مثلك فجادله، وكان لا يجالسهم أبداً، ولذلك سئل عن حديث ممن سمعه، فقال: ما جالست سفيهاً قط.

    وقد أفتى فيهم يحيى بن معين و أحمد بن حنبل و علي بن المديني و يزيد بن هارون ، و عبد الرحمن بن مهدي وغير هؤلاء، بأن يعرضوا على السيوف، والمقصود هنا بعد استتابتهم، وذلك المقصود بهم من كان داعياً منهم إلى بدعته مظهراً لها؛ لأن هؤلاء ذوو خطر على المجتمع، فيراد قطع مادتهم عن المجتمع حتى لا يفسدوه، ولا يقتلون هنا على الكفر، وإنما يقتلون سياسة شرعيةً لقطع ضررهم عن هذا المجتمع.

    هجرة أصحاب المنكرات وعاقبة الجلوس معهم على منكراتهم

    كذلك من هذه الهجرة: هجرة أصحاب المناكر، ما داموا على مناكرهم، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلس في مجلس تعاقر فيه الخمر، أو تمارس فيه الفواحش، أو تقال فيه الغيبة، أو يكذب فيه على الله، أو على رسوله أو على المؤمنين، أو تحمل فيه النميمة، ويفترى فيه على الناس، فكل هذه من الفواحش والكبائر، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكثر سواد أصحابها.

    وكذلك المبايعة بالربا أو بالبيوع المحرمة الأخرى، فإن أصحابها في وقت فعلها لا تحل مجالستهم، ولا النظر إلى ما هم فيه، ومن فعل فلا بد أن يصيب قلبه شرر مما هم فيه، وذلك أن هؤلاء مثالهم مثال نافخ الكير، إما أن يصيبك منه شرر النار، وإما أن تصيبك منه رائحة كريهة، فأصحاب الكبائر والفواحش دائماً إما أن يصيبك ضرر منهم، وإما على الأقل أن تصيبك ظلمة معصيتهم؛ لأن في المعصية ظلماً، وظلمةً في القلب وسواداً في الوجه، ولذلك تخلص نور صاحبها، فمن جاور هؤلاء أو آكلهم أو جالسهم فقد عرض إيمانه للخطر، ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنعه، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدِ الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ).

    فإذاً .. كثيراً مما يحل بالمسلمين من المصائب، ومن عدم استجابة الدعاء ناشئ عن سكوتهم على الباطل، وعدم هجرتهم لأهله، فإن من لم يهجر أهل الباطل، ولم يغير المنكر، لا يمكن أن يستجاب له دعاء، دعاؤه لا يرفع إلى السماء، وإنما ينال حظه من قدر الله تعالى، ولكن إذا تحقق بعض مراده لا يكون ذلك استجابةً لدعائه؛ لأن استجابة الدعاء لا تغير قدر الله تعالى، فالله تعالى يكتب الخير لمن شاء، ويكتب أيضاً الشر على من شاء من عباده، فإذا شرف عبداً من عباده لاستجابة دعوةٍ معينة فهي تعجيل لأمر كان موجوداً في قدر الله تعالى وقضائه، وقد كان مشروطاً بدعوته هذه أنه يحصل في هذا الوقت، فهذا التشريف -وهو استجابة الدعاء، ورفعه فوق سبع سموات- تشريف عظيم لا يستحقه من لا يغير المنكر، ولا ينهى عنه، ولا يأمر بالمعروف، ويجالس المخالفين لشرع الله تعالى.

    هجرة المخالف في الرأي

    كذلك من هذه الهجرة، أو من ملحقاتها: هجرة من كان بينك وبينه خلاف، وهذه الهجرة مضبوطة بضوابط شرعية تختلف عن ضوابط الهجرة السالفة، فالهجرة الماضية مستمرة حتى يقلع صاحبها عن معصيته، أما الهجرة بسبب حق لك ضيعه، أو بسبب خلاف قد اعتدى فيه عليك، فهذه لا ينبغي أن تتجاوز ثلاثة أيام، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم في صحيحيهما: ( لا يحل لامرئٍ مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام )، فهذه الهجرة بين اثنين؛ بسبب حق مشترك بينهما اعتدى فيه أحدهما على الآخر، ولا تتجاوز ثلاثة أيام، وهذا الفرق بينها وبين الهجرة لله؛ لأن هذه فيها انتصار للنفس، وإن كان فيها أيضاً جانب من الحق، ولكن خشية أن تستمر النفس على الانتصار لها كبح هذا الجماح بأن لا يهجره إلا ثلاثة أيام فقط، ولهذا هجرة الوالد لولده إذا بدر منه لا يدخل في مسمى العقوق، وإذا صدر من الولد عقوق أو مخالفة فإن للوالد حقاً في أن يهجره ثلاثة أيام، ولكن لا يحل له أن يهجره أكثر من ذلك.

    وكذلك هجرة الزوج لزوجته، تأديباً لها، وهذه الهجرة لا تكون بعدم المبيت، وإنما تكون بإعراضه وتوليته ظهره، وعدم تكليمه لها في غير واجب، وهي من التأديب الشرعي للنساء اللواتي يخاف منهن النشوز، وفيها يقول الله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ [النساء:34]، هنا المقصود بها هذه الهجرة، التي لا يحل أن تتجاوز أيضاً ثلاثة أيام أو ثلاثة ليال.

    إذاً هذه هي هجرة الأشخاص.

    1.   

    هجرة البلدان وذكر أقسامها

    أما القسم الثالث: وهو هجرة البلدان، فهي أقسام متعددة، وقد كتب فيها بعض العلماء بعض الكتب المستقلة، ومن أحسن الكتب التي كتبت فيها كتاب الرسالة التبوكية لـابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وهذه الهجرة من أقسامها:

    الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

    الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام، وهذه الهجرة كانت واجبةً على كل مؤمن، يؤمن بالله واليوم الآخر، كان يجب عليه أن يهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ ليكثر سواد المسلمين، ويعين على قيام الدولة؛ ولئلا يبقى بين ظهراني المشركين. هذه الهجرة سبقت لأهلها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، واختص الله بها طائفةً من خيرته من خلقه، ميزهم بأن سماهم المهاجرين، وهؤلاء هم الذين هاجروا قبل فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم رجال ونساء، ومنهم مستضعفون وأقوياء، وقد ختم الله الهجرة بالفتح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية )، والمقصود بالهجرة التي ختمت الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة كانت دار كفر، والمدينة كانت دار إسلام، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام، فانقطعت الهجرة عنها إلى غيرها، وبقيت الهجرة من كل بلد كافر إلى بلاد الإسلام.

    وامتدح الله هؤلاء المهاجرين في كثير من المواقع في كتابه، ومن ذلك قول الله تعالى في سورة الحشر، في تقسيم الفيء: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، هؤلاء هم المهاجرون.

    ثم القسم الثاني يقول فيه: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، هؤلاء الأنصار، ثم جاء دوركم معاشر المؤمنين، السائرين على آثار المهاجرين والأنصار، إلى يوم القيامة، حيث قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وفيهم يقول الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، فهذه ميداليتهم، وهذه ميزتهم، وهي رضا الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ولا يحل على من حل عليه رضا الله سخط الله أبداً.

    الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام

    القسم الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، والدار عند الله تعالى تنقسم إلى دارين: دار حرب، ودار سلم.

    فدار الحرب: معناه التي لا ترفع فيها شعائر دين الله، ولا تقام فيها حدوده، ولا تقام فيها الجمع، ولا يعلى فيها الأذان، فهذه درا حرب ودار كفر، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجناده، كما روى عنه بريدة رضي الله عنه: ( أنهم إذا نزلوا بساحة قوم، ينتظرون الأذان، فإن أذنوا تركوهم، وإن لم يؤذنوا صبحوهم، شنوا عليهم الغارة ).

    فشعائر الدين -ومنها حدود الله تعالى- هي المميزة بين دار الإسلام ودار الكفر، فدار الإسلام ليست الدار التي يغلب فيها وجود المسلمين، وليست الدار التي يدعي أهلها النسبة للدين، وليست الدار التي تصلى فيها الصلوات وتؤدى فيها الزكوات فقط، إنما هي الدار التي تقام فيها شعائر الدين بحذافيرها، والدين لا يقبل التجزئة، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].

    فإذاً دار الإسلام ودار السلم: هي الدار التي يطبق أهلها شرع الله تعالى في كل كبيرة، وفي كل صغيرة، ويقيمون حدود الله تعالى فيما بينهم، ويوزعون العدل، عدل الله على عباد الله.

    الدار الثانية: هي دار الكفر، ودار الكفر معناه: الدار التي تغلب عليها الكفار، ومنعوا من التحاكم فيها إلى القرآن، فكل دار لا يتحاكم فيها إلى القرآن فهي دار كفر، حتى ولو كان عمارها والحكام فيها مسلمين؛ لأن الكفر هو الغالب فيها، وهو الذي يسيطر عليها، ودار الكفر لا تحجز المال ولا تحجبه، واختلف هل تحجز الأعراض والأنفس أم لا؟ فمثلاً: إذا كان الكفر قد علا في منطقة واشتهر فيها، وكان فيها بعض المسلمين المقيمين فيها، فإن أموالهم لا تحجبها الدار، فإذا أغار عليهم المسلمون ملكوا أموالهم، مثل أموال الكفار، لكن هل تحل أنفسهم وأعراضهم؟ وهل يحل سبي نسائهم؟ هذا محل خلاف بين المسلمين، وهذا الخلاف قد تجذر هنا في هذه البلاد، عندما جاء المستعمر الكافر فبسط نفوذه على هذه الأرض، فاختلف علماؤها على قسمين:

    قسم أقروا بالواقع، وبالمسكنة والضعف، ولتشرذم المسلمين وحالهم أفتوا بالاستقرار تحت قبضة العدو الكافر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

    الواجب على من كان في أرض تغلب فيها أهل الكفر ومنعوا إقامة الدين

    وقسم آخر أوجبوا على أهل الأرض إحدى خطتين: إما الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينهم، وإما الهجرة عن هذه الأرض التي غلب عليها الكفار.

    فالذين هاجروا استباحوا أموال الذين لم يهاجروا، واستباحوا بعض دمائهم في حالات نادرة، ولم يستبيحوا سبي نسائهم، وهذا هو الذي خلده الشيخ: محمد العاقب مايابي رحمه الله تعالى في أرجوزته المشهورة التي يقول في مقدمتها:

    مني إلى من في حمى المكبل من قرقر إلى وراء العقل

    أعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل

    إلى آخر أرجوزته الطويلة، التي قسم فيها الأمر إلى قسمين:

    من يستطع القتال يجب عليه الجهاد في سبيل الله، ومن لا يستطيعه تجب عليه الهجرة، وهذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ محمد العاقب مايابي وما ذهب إليه الشيخ بلعينين وذهب إليه كثير من العلماء في ذلك الوقت، هو الرأي الراجح، ولكن مع ذلك فإن أرض المسلمين في كل البقاع قد تغلب عليها الكفار في فترة وجيزة من ذلك الوقت؛ لأنهم وجدوا غرة من المسلمين وتنافراً بينهم وتناحراً وتقاطعاً، فاستولوا على بلاد المسلمين، فحينئذٍ لو وجد المسلمون ملجأً أو مغارات أو مدخلاً لوجبت عليهم الهجرة إليه، لكن الكفرة لم يأتوا فقط بغلبة السلاح، وإنما أتوا بتقاليدهم فأجبروا عليها المسلمين، وهذه التقاليد ما زالت الآن تمنع الناس من الهجرة، ما هي التقاليد؟ هذه التآشر، وهذه الجوازات، وهذه الأوراق، كل شخص له جنسيته معينة في بلد معين، ولا يمكن أن يسافر من هذه البلد إلى بلد آخر من بلاد المسلمين إلا بتأشيرة أو جواز وإجراءات معقدة، وهذا من كيد الكفرة، وهم الذين فرضوها على المسلمين من حيث لا يشعرون، والأصل أن دار المسلمين كلها من مشارق الأرض ومغاربها دار واحدة، والمسلم له الحق في أن يتجول فيها ما شاء، وأن يذهب من الأندلس إلى خراسان لا يخاف إلا الله تعالى، وفي أي بلدة استقر فهي داره دار الإسلام، والثروات الموجودة في هذه الأرض من آخر الأندلس وقرطبة إلى آخر فتح المسلمين في بلاد الهند، كلها ثروات مشتركة بين المسلمين، سواءً كانت نفطاً أو ذهباً، أو زراعةً، أو غير ذلك، كلها ثروات لجميع المسلمين يستوي فيها قاصيهم ودانيهم.

    وهذا ما تغلب الكفرة به على المسلمين وأقنعوهم بالتقاطع والتنافر، فنجد دولتين من دول المسلمين اليوم إحداهما فقيرة والأخرى غنية، وهما متجاورتان، إحداهما تمتلك النفط، والأخرى لا تمتلكه، والواقع أن النفط ملك لكل مسلم، مثل غيره من الثروات، التي جعلها الله تعالى في أرضه، لعباده المؤمنين، وهم فيها سواء، لا فرق في ذلك بين مشرقيهم ومغربيهم، وبين قاصيهم ودانيهم.

    هذه الهجرة لما جاء المستعمر وفرض نفوذه، أفتى بها كثير من العلماء في مشارق الأرض ومغاربها وألفوا فيها الكتب.

    ومن المواقف الطريفة في هذا المجال: أن المستعمرين الفرنسين -خذلهم الله تعالى- لما استعمروا الجزائر وكانت من أقدم البلدان الإسلامية استعماراً من قبل فرنسا، خرج بعض علمائها إلى تونس، واستفتوا في جواز المقام تحت يد العدو الكافر، فاجتمع رأي علماء تونس -علماء الزيتونة- على أنه لا يحل لأهل الجزائر أن يقيموا فيها تحت وطأة العدو الكافر، وأفتى الشيخ: محمد ديرم ، وهو شيخ الإسلام في تونس في ذلك الوقت، وكذلك الشيخ: محمد النيفر ، أفتيا بأن قضاة الجزائر وعلماءها وعدولها كلهم مجروحو الشهادة؛ بسبب عدم هجرتهم. وبعد فترةٍ وجيزة لا تصل إلى ستين سنة، وصل المستعمر الفرنسي إلى تونس فأخذها، فلم يهاجر أهلها الذين أفتوا بوجوب الهجرة، لماذا؛ لأن العدو قد أتاهم من جميع الجهات، واستحوذ على كل المناطق، فكان المغرب في ذلك الوقت تحت الحماية، وكانت الجزائر مستعمرة، وقد سبق الاستعمار في مصر عندما جاءها نابليون ، وكذلك استعمرت فرنسا بعض بلدان الشام، وتوزعت النفوذ فيها مع الإنجليز، وسقطت الخلافة العثمانية فبقي المسلمون مقطوعو الرأس، لا يدرون إلى أي اتجاه يتجهون، واستمر الأمر على ذلك إلى عصرنا هذا.

    الرد على فتوى وجوب الهجرة من فلسطين وذكر الواجب الصحيح في ذلك

    مع هذا فإن كثيراً من العلماء اليوم يفتي بوجوب الهجرة، ويستدل بالنصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويفتي بها حتى المستضعفين في فلسطين، وهذه الفتوى وإن كانت ثابتة التأصيل من الناحية الشرعية، فالهجرة واجبة، ولا يحل للمؤمن أن يرضى بحكم الكافر، ولا يحل له أن يقيم في بلاد لا يحكم فيها القرآن، ولا يتحاكم فيها إلى شرع الله، ولكن إلى أين يهاجر؟ الطرق مسدودة، والمنافذ مغلقة، والجوازات مشترطة، فلذلك لو هاجر المسلمون من فلسطين لبقيت دار كفر، ولم يبقَ فيها كلمة واحدة من هذا الدين، والمسلمون فيها لا زالوا أكثرية، ولكن الواجب عليهم هو الجهاد، لا تجب عليهم الهجرة؛ لأنه لا يمكن أن تستقبلهم الآن أي دولة من الدول، ولا أي حكومة من الحكومات، ولا يمكن أن تؤوي هذا الشعب بحذافيره -مثلاً الشعب الفلسطيني بكامله- لو فرضت عليه الهجرة، إلى أين يهاجر؟ هل يهاجر إلى القطعة الصغيرة المسماة بلبنان الآن؟ أو يهاجرون إلى تركيا، أو إلى سوريا، أو إلى الأردن، إلى أي مكان؟ كل المنافذ مسدودة في وجوههم، فلذلك لا تجب عليهم الهجرة، وهذه الفتوى خاطئة.

    وكذلك المسلمون المستضعفون في الهند، وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي كثير من المناطق التي غلب فيها الكفار على المسلمين، وحكموا فيها بغير ما أنزل الله، هل تجب الآن الهجرة منها في الأصل؟ لو وجد الشخص مكاناً يهاجر إليه، وفي بعضها تحقق هذا، فمثلاً: في الفلبين يوجد في جنوب الفلبين مكان تحت سلطة المسلمين المجاهدين، قد حرروه، وأقاموا فيه شرع الله، وأعلوا فيه كلمة الله، فهذا المكان يجب على المسلمين في الفلبين أن يهاجروا إليه؛ لأنه قد تحرر من يد الكفار، لكن في غير هذه المنطقة، مثلاً: لو هاجر المسلمون من فلسطين إلى لبنان، ولبنان يحكمها رئيس الدولة كافر، وهكذا الحكم علماني، ولا تطبق شرع الله، وهكذا في غير هذه المناطق، المسلمون في الهند مثلاً مائتان وسبعون مليوناً من المسلمين وهذا في الهند وحدها، لكنهم أقلية في الشعب الهندي؛ لأن الشعب الهندي تعداده الآن قريب من ربع العالم، الشعب الهندي وحده تسعمائة مليون وزيادة، والمسلمون فيه أقلية وهم مائتان وسبعون مليون، ومع هذا فلم يتزيلوا، فهم متفرقون في الأرض ومستضعفون ولغاتهم مختلفة، والمناطق التي يسكنون فيها متنائية، فلذلك كان من ديانة السيخ، ومن ديانة الهندوس أنه يجب على كل فرد منهم أن يضحي بمسلم يذبحه في كل سنةـ، وإذا كان له أولاد فيجب عليه في ديانتهم أن يذبح عن كل ولد منهم رجلاً من المسلمين، ولذلك كثير منهم إذا كان عاجزاً عن ذبح المسلمين يحاول تحديد النسل، وتقليله لئلا يكثر أولاده، فيجب عليه كل سنة أن يذبح عن أحدهم رجلاً من المسلمين، فالضحية التي نضحيها نحن بالأغنام هم يضحونها بالمسلمين، هذا حال إخوانكم المسلمين المستضعفين في الهند وفي غيرها، في كشمير الآن، هذه المنطقة التي هي أروع مكان في الدنيا، وأحسنه جمالاً -والتي أنعم الله تعالى على أهلها بأنواع الخيرات العجيبة في الزراعة وفي المناظر الخلابة وفي غير ذلك- يسيطر عليها الكفار، ويريدون إرغام أهلها على الرضا بحكم الكفر، وأهلها صابرون مجاهدون يستقبلون الدبابات بالعصي، ويقفون في وجه الدبابات لا يملكون إلا العصي والحجارة، كحال المسلمين في فلسطين، وهكذا في مناطق أخرى من العالم.

    إذاً لدينا قسم آخر من أقسام الهجرة: وهو الهجرة عن مكانٍ شاعت فيه الفواحش والمناكر، وهذه الهجرة مثل سابقتها، لا وجود لها في واقعنا اليوم:

    إذا شاع في أرضٍ فساد ومنكر وليس بها ناه مطاع وآمر ففر

    حينئذٍ تجب الهجرة، لكن محل هذا إذا كان الشخص لا يستطيع التأثير ولا التغيير، فإن استطاع أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، وأن يكثر سواد المسلمين، وأن يسعى لجمع كلمة المسلمين على الحق، فلا يحل له أن يهاجر عنها؛ لأنه الآن صاحب دور يقوم به، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الناس منزلاً، رجل أشعث أغبر رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة، وإن كان في الميسرة كان في الميسرة، وإذا استأذن لم يؤذن له، وإذا شفع لم يشفع، ألا أخبركم بخير الناس منزلاً بعده، رجل مؤمن في شعب من الشعاب، يعبد الله ويذر الناس من شره )، هذا الآن المسلم المهاجر في شعب من الشعاب، في خلاء منقطع عن الناس يعبد الله ويدع الناس من شره، ذو منزلة عظيمة، ولكن المجاهد في سبيل الله الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، أعلى منزلة منه عند الله تعالى، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا فإن أحوال المسلمين في الاستضعاف قد تؤدي إلى العزلة وذلك عندما لا يجد الشخص من يعينه على طاعة الله، ولا يجد من يتعاون معه على تغيير المنكر والأمر بالمعروف، وفي هذا أخرج البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك بن أنس عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعث الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن )، هذا الآن الفرار بالدين من الفتن من الإيمان، وهو واجب على من يستطيعه، لكن إلى أين تفر الآن؟ ففي كل أرض من بلاد الإسلام، سيدخل عليك في هجرتك وفي المكان الذي أنت فيه عذاب الربا، وأنواع الفواحش، ودخانها، وكذلك سيفرض عليك المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله، فإن من ساعد على الحكم بغير ما أنزل الله ولو ببنت شفة فقد حاد الله ورسوله، يعني: من صوت لشخصٍ في منصب أياً كان، سواءً كان في رئاسة، أو في برلمان، أو في غير ذلك، مما يعلم أن هذا الشخص لا يصلح له شرعاً، أو أنه جاهل بشرع الله، أو لا يطبق شرع الله، فقد شاركه في كل عمل يقوم به، ومسئوليته عند الله تعالى في مشاركته له ذلك، وكذلك العكس، من صوت أيضاً لمن يعلم أنه سيؤدي الحقوق إلى أصحابها، وأنه على الأقل أقل ضرراً من غيره، أو أنه أولى بالصواب، أو أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أتقى وأخوف لله فإن تصويته لا يكون مشاركاً به أيضاً له في كل حسنة يقدمها وفي كل عدل يأتي به.

    اليوم جاءت هجرة أخرى، ليست من أقسام الهجرة المألوفة لدينا معاشر المسلمين، ولكم الحق أن تتساءلوا ما هي هذه الهجرة؟ هذه الهجرة هي الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر، عكس الهجرة السابقة تماماً، ومع ذلك فإن هذه الهجرة قد تجب وهذه هي الطامة الكبرى، فقد يجب على المسلم أن يهاجر من دار الإسلام، من الدار التي فيها المسلمون، إلى دار الكفر، وذلك عندما يخشى على دينه، ويخاف على نفسه أو على ماله، أو على أهله، ويعلم أنه لا يمكن أن يأمن عليهم في بلاد المسلمين، ووجد أرضاً من أرض الكفر يمكن أن تؤويه، حينئذٍ يجب عليه أن يهاجر إليها حتى يستطيع إقامة شعائره، ويأمن على نفسه وأهله وماله، ولهذا أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه في الهجرة إلى الحبشة، وهي في ذلك الوقت دار كفر، لكن كان بها ملك لا يظلم عنده أحد، وهو النجاشي.

    فإذاً .. إذا وجد في بلاد الكفر بلد به ملك لا يظلم عنده أحد، أو دولة كذلك ترعى الحقوق لأصحابها، ولو كانت بعدالة مزيفة، على الأقل تمكن من الخصام عن الحقوق، أو يأمن الشخص فيها على نفسه، أو على أهله حينئذٍ يجب عليه الهجرة إليها وبذل الجهد في ذلك، وهذا ما حصل فعلاً، فالآن المسلمون في بلاد الغرب.. في كل دولة يزيدون تعداداً على المسلمين في بعض البلدان الإسلامية، لاحظوا معي أن تعداد المسلمين في فرنسا مثلاً الآن خمسة ملايين نسمة، والمسلمون في بريطانيا ستة ملايين وزيادة، والمسلمون يقتربون من عشرين مليوناً في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، هؤلاء أكثرهم من المهاجرين وبعضهم من المسلمين الذي دخلوا في دين الله، بسبب دعوة الدعاة إلى الله، هؤلاء لهم من الحرية ما لا يجدونه في دار الإسلام، وأمض الجراح أن يقف جاك شيراك في مؤتمرٍ للمسلمين في باريس في لو بورجيه ويجتمع في هذا المؤتمر ثمانية وثلاثون ألف مسلم، يصلون خلف إمام واحد، ويستمعون إلى محاضرة واحدة، يعلوهم سقف واحد، فيأتيهم عمدة باريس في ذلك الوقت، وهو جاك شيراك الذي أصبح اليوم رئيساً لفرنسا، فيقول: إني سعيد؛ لأنكم يا معشر المسلمين تجدون من الحرية هنا في باريس ما لا تجدونه في مكة المكرمة ولا في أي بلد من بلاد المسلمين.

    فهذا من أمض الجراح، ومن أخطرها في أحوال المسلمين، وهو من الأمور التي يندى لها الجبين، ويخجل لها المسلم عندما يعلم أن هذا الذي قاله صحيح وواقع، وهو أن المسلمين في كل البلاد الإسلامية لا يأمنون في كثير من الأحيان على أنفسهم، ولا تضمن لهم حقوقهم، ومنها حق التعبير، وحق الاختيار، والحقوق الأخرى هذه مكفولة في الغرب، لك أن تقول ما شئت، وأن تتكلم بما شئت، لكن في بلاد الإسلام لا، الأفواه مكممة، والناس من لم يكممه الخوف كمم بفعل، وهذا من الجراح المميضة الواقعة، التي لا يمكن أن ننكرها.

    الآن إذا أراد المسلمون عقد أي مؤتمرٍ يناقشون فيه قضية من قضايا دينهم، كحل مشكلة الربا، أو التأمين، أو الجمركة، أو قضية الجهاد في سبيل الله ومساعدة المجاهدين، أو فك الحصار عن بيهاتش مثلاً في سراييفو، أو فك الحصار عن جروزني مثلاً في الشيشان، أو في أي مكان آخر، أين سيعقدون هذا المؤتمر؟ هل تتصورون أنهم سيعودون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعقدون فيها المؤتمر؟ أو إلى القدس، المسجد الثالث، أو إلى أي مكان آخر، سيأتون عندكم هنا؟ لا يستطيعون إلا أن يذهبوا إلى دولة غربية يعقدون فيها مؤتمرهم. قبل سنتين عقد مؤتمر لمناقشة شروط الخلافة في الإسلام، أين عقد؟ عقد في لندن عاصمة الضباب، وهكذا كل المؤتمرات التي تناقش قضايا حساسة من دين الله تعالى، إنما تعقد في بلاد الكفر.

    وهذا من المخازي التي يندى لها الجبين، والله المستعان! ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين إلى أن يأخذ بنواصيهم إلى الخير، وأن يجمعهم عليه، وأن يعلموا أن إخوانهم الذين هاجروا إلى تلك البلاد لم يهاجروا إليها عن طواعية، ولا عن رضا، وإنما خرجوا إليها عن إكراه، وأغاثهم الله تعالى فيها ومكن لهم بإقامة شعائر دينهم.

    ولذلك يأتي هنا الفرق بين مسلمة الدار ومسلمة الاختيار، مسلمة الدار: هي ولاد المسلمين في دار الإسلام، هؤلاء قد ضربوا على بعض العبادات التي رأوها عند أسلافهم وعند آبائهم، وإذا صلى أحدهم فالصلاة باردة في قلبه، لا تأمره بمعروف ولا تنهاه عن فاحشة، وإذا أدى صدقة أو زكاة كانت كأنما خرجت من قلبه لم تخرج من يده، وإذا حج إلى بيت الله أو اعتمر كان ذلك مدعاةً للفخر، وللمن على الله تعالى، ولا يمني نفسه ولا يحدثها بالغزو في سبيل الله ولا الجهاد في سبيل الله، هؤلاء هم مسلمة الدار.

    أما مسلمة الاختيار: فهم الذين جاءوا إلى دين الله عن قناعة من أنفسهم، لا يجبرهم مجتمع ولا يخافون لومة لائم، ولذلك تجدونهم في فرنسا مثلاً، في مرة من المرات جاء شهر رمضان في فترة كان الليل كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر لا يتعدى ساعتين ونصف، وكان المسلمون يجتمعون لصلاة التراويح في مساجد باريس -في مسجد كبير في باريس- وغيره من المساجد، فكانت كل أسرة تأخذ عشاءها وفطورها معها إلى المسجد، فيجتمع المسلمون في المسجد جميعاً يفطرون، ومن ليس لديه فطور أفطر مع إخوانه، ويكون هذا سفرة واحدة لكل أهل المسجد، يجتمعون كأنهم يأكلون على مائدة واحدة، ويصلون التراويح في هذا المسجد جماعة مع الإمام، ويصلون فيه المغرب والعشاء، والفجر، كل ذلك في المسجد إحياءً لليل كاملاً في رمضان، وهذا عن طواعية وعن قصد، وليس مثل خروج بعض أفرادنا الآن، فنحن مثلاً في هذا البلد المسلم الذي هو من أعرق البلدان في طاعة الله تعالى، وفي العلم النافع، مع ذلك إذا جاء رمضان لم نجد أن الشارع تغير كثيراً، ونجد أن كثيراً من البيوت المجاورة لبيوت الله المساجد يبقى فيها أهلها لا يعمرون بيت الله، بل قد نسمع منها الغناء ونحن في المسجد وفي بيوت الله، وأصحابها لا يتأثرون بهذا الشهر الكريم الذي هو مائدة الله تعالى لأهل الأرض، ولا يؤثر في حياتهم، وتجد كثيراً منهم يسير سادراً يمر على المساجد ليقام فيها رمضان، ويقرأ فيها كتاب الله تعالى ويتدبر، ولا يستطيع أن يستقر فيها خمس دقائق أو عشر دقائق يتعرف عليه الملائكة الذين هم على باب المسجد، هؤلاء الملائكة على باب المسجد يتعرفون على المسلمين الذين يزورون المسجد، يعرفون أسماءهم، يعرفون وجوههم، يعرفون نعالهم، وسيرفعون تقريراً إلى ربهم جل وعلا، وهو أعلم.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أقصد يقول في وصية له لـابن عباس : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، الذي يريد ما عند الله ينبغي أن يتعرف إلى الله في الرخاء، حتى يعرفه في الشدة، الذي لا يزور المسجد إلا إذا كان في مشكلة، أو كان يريد جمع التبرعات يذهب إلى المسجد ليعرف مكانه، وإذا كان وقت الصلاة لا نجده في المسجد، هذا الآن لم يتعرف إلى الله في الرخاء، فلذلك لا يجاب في وقت الشدة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    والسلام عليكم ورحمة الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953919