إسلام ويب

صفات عباد الرحمن [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله في خواتيم سورة الفرقان بيان ما يرتضيه الله تعالى من عباده الذين أضافهم إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وبين أعمالهم إيجاباً وسلباً، وبين ما يفعلونه في الليل، وما يفعلونه في النهار، وما يفعلونه من أعمال البدن، وما يقولونه بألسنتهم، وما يتصرفون فيه بأموالهم؛ فلم يترك وجهاً من أوجه البر إلا بينه في هذه الآيات.

    1.   

    الحث على الجلوس في المساجد لقراءة القرآن وثمراته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    الاستجابة لضيافة الرحمن

    فإن الله تعالى أنزل هذا القرآن هدىً للناس، وقد بين فيه ما يصلح علاقاتهم بربهم، وما يصلح علاقاتهم فيما بينهم، وبين فيه خبر من قبلنا، وخبر ما يجيء بعدنا؛ فنحن محتاجون إلى مراجعته في كل الأوقات، وإلى مدارسته وبالأخص في بيوت الله التي بنيت له؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل ذلك وما يترتب عليه من الثواب الجزيل؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وهذا الوعد العظيم لا بد من معرفة منزلته حتى تشرئب القلوب للحصول عليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله )، فاستشعار أن هذا البيت بيت من بيوت الله يقتضي أن تأتي أفئدة المؤمنين مشرئبةً لضيافة الملك وهو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين؛ فأنتم الآن في ضيافة الملك جل وعلا، دعاكم إلى بيته فاستجبتم، وقد أعرض كثير من الناس عن الإجابة عندما سمعوا منادي الله ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاختاركم لأن تكونوا من الملبين لهذا النداء العظيم؛ ليكرمكم.

    ثم بعد ذلك قال: ( يتلون كتاب الله )، مزية عظيمة هي قراءة هذا القرآن الذي هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، هو أحدث الكتب بالله عهداً، وهو أبينها بياناً، وأوضحها حلالاً وحراماً، بين الله سبحانه وتعالى فيه ما يرضيه من عباده، وختم به الشرائع كلها، وجعله مهيمناً عليها، مصدقاً لما بين يديه من الحق، ناسخاً لكل ما سبق.

    ثم بعد هذا قال: ( ويتدارسونه بينهم )، إن القرآن لم ينزل لمجرد قراءة حروفه دون مدارسة حدوده؛ بل لا بد من الرجوع إلى حروفه وحدوده، وأن نعلم أنه أنزل للتدبر، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فهو خطاب الله الذي خاطبكم به، ومائدته التي وضع لكم في أرضه؛ فلا بد أن تقبلوا عليه غاية الإقبال، وأن تحكموه في شئونكم، وأن ترجعوا إليه في كل أموركم، فهو الرجوع إلى الله، من رجع إلى هذا القرآن فقد أسند أمره إلى الله، وأسلم نفسه إليه، فقد قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

    تنزل السكينة

    قال: ( ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ).

    الجائزة الأولى من جوائز الله تعالى لضيوفه، الذين يقرءون كتابه، ويتدارسونه في بيته هي نزول السكينة في قلوبهم، والسكينة معناها: الاطمئنان على الحق، فهي مقتضية لمرتبتين:

    المرتبة الأولى: أن يعرف الإنسان الحق.

    المرتبة الثانية: أن يلزمه بعد أن يعرفه.

    فهي إذاً غاية الهداية؛ فالهداية لا تتعدى هدايتين: هداية إرشاد لمعرفة الحق، وهداية توفيق بلزوم الحق، وكلتاهما مضمنة هنا في السكينة؛ لأن السكينة معناها: أن يسكن القلب إلى الحق؛ فلا يمكن أن يشك فيه، ولا أن يعدل عنه بوجه من الوجوه.

    تنزل الرحمة

    الجائزة الثانية: ( وغشيتهم الرحمة )، أي: تغشاهم رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا محتمل لأمرين:

    الاحتمال الأول: محتمل لتنزل رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي صفة من صفاته، وذلك يقتضي غاية البركة؛ فمن لامسته صفات الباري سبحانه وتعالى، فإنه قد تقدس بذلك عن الشرك والأدران والمعاصي، ويكون ذلك قائداً له إلى الطاعات بالكلية.

    الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود الرحمة المخلوقة، وجزاء الله لمن رحمه من عباده، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمةً لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمةً واحدةً في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها ).

    تنزل الملائكة لتثبيت القلوب

    الجائزة الثالثة: ( وحفتهم الملائكة )، ومن المعلوم أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا عرضة لكثير من المشكلات، فنفسه التي بين جنبيه أمارة بالسوء، وإبليس يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله بقصد إغوائه عن طريق الحق، إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وإخوان السوء يشغلون الإنسان بما لا نفع فيه؛ ليعرض عن ذكر الله وطاعته، فينشغل بما لا نفع له فيه، والدنيا نفسها دار الغرور؛ فكل هذه الملهيات المشغلات هي مضرة على الإنسان؛ فيحتاج إلى ما يقويه عليها، فلا يقوى الإنسان عليها إلا بالنموذج الأعلى والأسمى وهو الملائكة، فالإنسان خلق بين صنفين من أنواع الخلائق: الصنف الأسمى منه وهو الملائكة الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لعبادته؛ فهم عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، وكذلك لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ومن أعمالهم أيضاً أنهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وهؤلاء الملائكة الكرام لم يسلط الله عليهم الشهوات، وإنما كلفهم بتكاليف؛ فلذلك أدوا التكاليف على وجهها، ومن المعلوم أننا في الأرض الآن نحب كل واحد من البشر رأيناه مواظباً على الطاعة مبتعداً عن المعصية، ونعتقد فيه الخير والصلاح، والملائكة أولى بذلك؛ لأنهم قطعاً لم تسبق عليهم أية معصية، كل أوقاتهم في الليل والنهار مشغولة مملوءة بذكر الله وطاعته، لا يفترون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون، كل أوقاتهم ذكر وعبادة لله سبحانه وتعالى، فإذاً هم يستحقون منا المحبة والتقدير، ولذلك فهم الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة؛ لأن النوع الثاني الذي هو أسفل منا هو الحيوان البهيمي، سلط الله عليه الشهوات، ولم يكلفه بالتكاليف، ونحن معشر البشر جمع الله لنا بين الخاصتين: كلفنا بالتكاليف، وسلط علينا الشهوات، فمن اتبع الشهوات منا وضيع التكاليف؛ التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى من الحيوان؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]. ومن اتبع منا الهدى، ولم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف ولم يضيعها؛ التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة.

    إذاً علاقتنا بالملائكة مهمة لنا؛ لأنها التي ترشدنا إلى الخير، وتقطعنا عن الغير، ونحن محتاجون إلى الانتصار بهم في كل الأوقات؛ ولذلك امتن الله على المؤمنين بتنزل الملائكة عليهم فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت:30-33].

    فوظيفة هؤلاء الملائكة أنهم يتنزلون على المؤمنين من البشر؛ لتثبيت قلوبهم، ولإزالة الرعب والخوف عنهم، ولقطع علائق الدنيا وعوائقها وأشغالها عنهم، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31]، فهم أنصار المؤمنين في هذه الحياة الدنيا؛ يكيدون لهم وينصرونهم، ويسعون لتقريبهم إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ويدعون لهم بالمغفرة، ويقولون كما حكى الله تعالى عنهم: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:7-9]، هذا دعاء الملائكة لكم.

    دعاء الملائكة ومخالطتهم

    كذلك جلوسكم الآن في مصلاكم هنا تنتظرون الصلاة بعد الصلاة، وأنتم صائمون وتنتظرون غروب الشمس، أيضاً تعرض لدعاء الملائكة؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الملائكة تصلي على أحدكم وهو في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه )؛ فهذا دعاء الملائكة؛ ولذلك فحاجتكم إليهم عظيمة جداً، فهم في تنزلهم على المؤمنين يقولون: لا تخافوا ولا تحزنوا؛ فما يلقيه الشيطان من التخويف بغير الله سبحانه وتعالى، ومن أعداء الله، يرده الملائكة فيقولون: لا تخافوا، وما يلقيه الشيطان من الحزن في نفوس المؤمنين يرده الملائكة فيقولون: ولا تحزنوا، وما يحصل في قلوب المؤمنين كذلك من غلبة خشية على الرجاء يرده الملائكة فيقولون: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31]، والإنسان محتاج إلى الأولياء والأنصار، ومن كان أنصاره الملائكة الكرام الذين وصفهم الله بالقوة والشدة والمكانة عند الله ديان السموات والأرض، يكفيه هذا نصرةً؛ فلذلك قال: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، فولايتهم للمؤمنين غير مختصة بالآخرة وحدها بل هي أولاً في الدنيا ثم في الآخرة بعد ذلك، ثم بعد ذلك يبشرونهم بما أعد الله لهم في الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32].

    ثم إن مخالطة الملائكة تزيل كذلك عن الإنسان رجس الذنوب؛ فهم مطهرون منها بالكلية، وإذا خالطوا الإنسان فإن ذلك طهرة له، وأعرف سجيناً كان إذا جيء بسجين جديد من المؤمنين يناديه فيقول: استمعوا إلى ما يخاطبكم به الملائكة، فالملائكة يخاطبونكم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، والسجين أول ما يدخل السجن عادةً وهو لا يدري علام أخذ، ولا لأي شيء أخذ، كثيراً ما ينقبض ويغشاه حزن، فكان ينادي: استمعوا إلى ما يقول لكم الملائكة: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]؛ فلذلك يخالط الملائكة كل الذين يجتمعون في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، فتتنزل عليهم الملائكة بقصد التثبيت، والمباركة، والدعاء، وأنتم تعلمون أن أي مجلس حضره من كان من أهل الصلاح والعلم، يكون مجلساً محترماً؛ فترى المجلس فينا كالحرم، فكيف بمجلس يشهده الملائكة؟ إنه مجلس مبارك يستجاب دعاء أهله، ويتنورون بنور الملائكة، ودعاؤهم يؤمن عليه الملائكة على الأقل فهو مستجاب؛ فلذلك تحفهم الملائكة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقة ذلك فقال: ( إن لله ملائكةً سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر )، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه حلق الذكر، فقال: هي مجالس العلم، كيف تصوم؟ وكيف تصلي؟ وكيف تنكح؟ وكيف تبيع؟ هذه هي مجالس الذكر؛ فلذلك قال في وصف هؤلاء: ( إن لله ملائكةً سيارين في الأرض )، وفي رواية: ( سياحين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، إذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فإذا انفضوا -أي: فإذا قاموا- ارتفعوا إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك، ويكبرونك، ويهللونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً، وعليها أشد حرصاً. فيقول: ومن ماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ).

    فيهب الله المسيئين منهم للمحسنين؛ فالمسيء الذي ما حضر بقصد القربة يتجاوز الله عنه تكرمةً للمحسنين، وضيافةً لهم، فإنه لمجرد مجالسته لهم أصبح في حرمتهم:

    إن المعارف في أهل النهى ذمم

    فلذلك يغفر له بسبب مجالسته لأولئك الصالحين المقبلين على الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    الإكثار من عقد المجالس في المساجد

    إننا ينبغي أن نكثر من عقد المجالس في المساجد لتدبر آيات الله، ومراجعتها، ومدارستها، وأن نعلم أن الشيطان يسوءه ذلك غاية الإساءة؛ فلذلك يحاول أن يصرفنا عنه بما يستطيع، فهو يؤلب جنوده من شياطين الإنس والجن ليحولوا بينكم وبين الاستماع إلى القرآن في المساجد، وبين سماع كلام الله وتدبره، فتارةً يؤتون بالقوانين التي يقصد بها منع ذلك، وتارةً يأتون عن طريق الإرهاب والتخويف، وتارةً يأتون عن طريق التشويش، وتارةً يأتون عن طريق اتهام النيات، وتارةً يأتون عن طريق محاولة منع الناس من تدبر القرآن، ومحاولة قصر فهمه وتفسيره على شريحة معينة من الناس، وكل هذه من سبل الشيطان التي لا تغر إلا المغرورين المفتونين بالشيطان، ولا يمكن أن تؤثر على أهل الإيمان الذين يعلمون وعد الله سبحانه وتعالى، وتشرئب رقابهم إلى لقاء الله سبحانه وتعالى، ويفرحون بلقائه، فهم يطلبون كل ما يقرب إليه في كل الأوقات، ويعلمون أن الموتة التي كتب الله عليهم واحدة، وستحصل لا محالة سواءً استجابوا للضغوط أو لم يستجيبوا لها، إن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وبذلك لا يمكن أن يجبنوا، ولا أن يتراجعوا، ولهم أسوة حسنة فيمن سبقهم من الأنبياء وأتباعهم، وقد قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [آل عمران:146-148]، والله تعالى يعظكم بهذه الآية في ذكرى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكيركم بالمصيبة العظيمة التي ما حلت بهذه الأمة، ولن تحل بها مصيبة أعظم منها، وهي المصيبة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله هنا يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

    وقد قامت عليكم هذه الحجة بهذه الآيات من سورة آل عمران، فإن الله سبحانه وتعالى جعلكم بها على الطريق المستقيم، والمحجة البيضاء التي ارتضى لكم، وأرسل بها محمداً صلى الله عليه وسلم، فمن تراجع منكم عن هذا السبيل فلا يلومن إلا نفسه، فإنه لا يضر الله شيئاً، والله غني عنه وعن من وراءه، ولله تعالى عباد لا يكفرون به، وقد قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ [الأنعام:89-90].

    1.   

    صفات عباد الرحمن كما في سورة الفرقان

    ذكر الله في خواتيم سورة الفرقان بيان ما يرتضيه الله تعالى من عباده الذين أضافهم إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وبين أعمالهم إيجاباً وسلباً، وبين ما يفعلونه في الليل، وما يفعلونه في النهار، وما يفعلونه من أعمال البدن، وما يقولونه بألسنتهم، وما يتصرفون فيه بأموالهم؛ فلم يترك وجهاً من أوجه البر إلا بينه في هذه الآيات؛ فإنه أولاً افتتحها بالثناء على هؤلاء العباد، فامتدحهم بأبلغ وصف يوصف به المخلوق، وإن أبلغ ما يوصف به المخلوق ويثنى به عليه أنه عبد من عباد الله؛ ولذلك أثنى الله على محمد صلى الله عليه وسلم في مقام التشريف والتعظيم ليلة المعراج بعبوديته له، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وهنا لم يقل: سبحان الذي أسرى برسوله، ولا سبحان الذي أسرى بنبيه، ولا سبحان الذي أسرى بخليله؛ بل اختار (بعبده)؛ دلالةً على أن هذه العبودية الخاصة هي أشرف ما يوصف به العبد، كما أن أبلغ ثناء على الرب سبحانه وتعالى ربوبيته للعباد؛ ولذلك افتتح الله ثناءه على نفسه في القرآن بربوبيته للعالمين فقال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

    قال في وصف عباده: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان:63]، وذكر هذا الاسم الشريف من أسمائه، وهو المتصف بالرحمة، وهي صفة عامة شاملة لرحمات الدنيا، ورحمات الآخرة، وهذه الرحمة صفة كتبها الله على نفسه، وأمر بها عباده، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتراحم فيما بيننا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تزال أمتي بخير )، وفي رواية: ( لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها ).

    فلذلك لا بد من أن نحقق هذه الرحمة التي اتصف بها ربنا سبحانه وتعالى، وهي من الصفات التي هي للتعلق والتخلق، فالتعلق يسأل الله بها، وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والتخلق أن نتصف نحن بما يليق بنا من الرحمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتبها على نفسه، وأمرنا بها فيما بيننا؛ فلذلك لا بد من أن نحاول أن نتصف بها فيما بيننا، وقد وصفنا الله بها، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، فلا بد أن نحققها.

    المشي بين الناس بتواضع

    ثم قال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، افتتح ثناءه عليهم بتصرفهم، وهذا التصرف ينقسم إلى عمل الليل وعمل النهار، وابتدأ بعمل النهار قبل عمل الليل؛ لأن الليل أشرف من النهار؛ لأنها آية غير ممحوة، وآية الليل ممحوة، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، وقد جعل الله تعاقبهما تذكيراً بنعمته وآلائه، وتذكيراً للإنسان بما فرط فيه في جنب الله، وقد قال الله في الآية السابقة: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61-62]؛ فالذي يريد أن يتذكر ما فرط فيه في جنب الله فإنه يعتبر بتعاقب الليل والنهار؛ فإن ذلك مؤذن بزواله هو، ونحن كل يوم نشهد غروب هذه الشمس، ثم يشهد طلوعها من الفجر من عاش منا إلى ذلك، فهذا إيذان لنا بأن أعمارنا سريعة الزوال، فما هي إلا الأيام والليالي، وسيأتي وقت انقضائها وانتهائها، فتتوقف هذه الأعمار عندما يأذن الله تعالى للأرواح بالرجوع إليه، وبمفارقة الأجساد.

    وإذا كان الإنسان يعرف ذلك فليعلم أن النهار منذر، وأن الليل منذر، وقد ابتدأ الله بعمل النهار، فقال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63]، فالنهار جعله الله مبصراً ليتصرف فيه الناس في شئونهم، وليحققوا فيه الاستخلاف الذي من أجله أهبطوا إلى الأرض، وهذا الاستخلاف لا يتم إلا باستغلال ما فيها من الخيرات، والسعي لنزع العباد فيها، وإقامة العدل والقسم فيها، كذلك هو التصرف في هذه الأرض الذي أمرنا به؛ ولهذا قال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ [الفرقان:63]، فلم يثن عليهم بالاتكالية وترك العمل، فإن ذلك لا خير فيه، فالتوكل لا ينافي الاكتساب، فنحن جميعاً مطالبون بأن نتوكل على الله، وأن نعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ولا بد أن نعلم أن الأرزاق قد قسمت، وأن كل إنسان منا كتب أجله وعمله وشقي أو سعيد، وقد قسم الله رزقه، ولا يمكن أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه؛ لكن مع ذلك أوجب الله علينا العمل والتسبب والاكتساب، وهذا الاكتساب كما ذكرنا لا ينافي التوكل، فالتوكل من الإيمان بالقدر، والاكتساب من الإيمان بالشرع، والشرع هو الذي به التكليف، والقدر هو الذي به الإيمان، فالقدر لا يقتضي عملاً، والشرع هو الذي يقتضي العمل، وهما خطابان من عند الله، أما القدر فتعبدنا الله بجهله، وستره عنا، وأما الشرع فتعبدنا بعلمه، وكلفنا به، فلا تكليف بالقدر، وإنما التكليف بالشرع، فأنت الآن يجب عليك أن تعقد النية على صيام رمضان القادم؛ لكن قد لا تبلغه بقدر الله، وأنت مكلف بالشرع لا بالقدر، ولذلك إذا سمعت نفخة الصور وبيدك فسيلة فاغرسها، وأنت مخاطب بالعمل على كل حال؛ ولهذا فإن الإنسان يمارس أعماله حتى يصل إلى الغرغرة عند الموت؛ لأن هذه الأعمال من التكاليف، وهي الأسباب، وقاعدة الأسباب: أن التوكل عليها شرك، وأن تركها معصية، فلا يحل للإنسان أن يترك أسباب الرزق، وأسباب الحياة، فيتعالج من الأمراض، ويفر من الجدار إذا رآه سيسقط، ومع ذلك يتوكل على الله، ويعلم أنه ( لا عدوى ولا طيرة )، أي: أنها غير مغيرة شيئاً من قدر الله، فإذا كتب الله عليه الإصابة فسيصاب، لكن عليه أن يبذل الأسباب قبل ذلك.

    من هنا أثنى عليهم بالتصرف، فقال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ [الفرقان:63]، وهذا المشي له صور كثيرة؛ منها ما يكون بعنجهية وتكبر وتجبر، ومنها ما يكون بتواضع ورحمة ورأفة، والأول مذموم لا محالة، والنوع الثاني محمود لا محالة؛ فلذلك أثنى عليهم بالنوع الثاني، فقال: هَوْناً [الفرقان:63]، أي: في مشيهم على الأرض وتدبيرهم لشئونهم، يمشون عليها هوناً بكل تواضع؛ لأنهم يعلمون أن أنفاسهم بيد الله متى شاء أخذها، وأن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؛ وبذلك فهم يتواضعون لله، والتواضع وصف شريف؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تواضع لله رفعه )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التواضع هو الذي يعالج البغي والظلم، فقال: ( إن روح القدس نفث في روعي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد )؛ فالبغي والظلم علاجه التواضع؛ لأنه إذا كان الإنسان متواضعاً فإنه لا يمكن أن يظلم؛ بل سينتصر على نفسه، ويتغلب على نوازعها، فيستطيع حينئذٍ منعها من ظلم الناس.

    الحلم على من أخطأ عليهم في القول أو الفعل

    إن التصرف في هذه الحياة في شئون المعاش مقتض لحصول الاحتكاك بين الناس؛ لأن مخالطتهم مما فطر الله عليه الناس، والإنسان محتاج إلى مخالطة البشر، وهذه المخالطة قلما تسلم من خلاف؛ قلما تخالط أحداً إلا أحوجك على الصبر؛ فوالداك وهما أمن الناس عليك لا بد أن تصبر منهما على بعض الشيء، وزوجك وهي الجار بالجنب لا بد أن تصبر منها على بعض الأذى وبعض الشيء، وأولادك لا بد أن تصبر عليهم، وجيرانك لا بد أن تصبر منهم على شيء، وإذا كان الحال كذلك فاعلم أنك مضطر لإعمال الصبر في كل الأوقات؛ فلذلك لا بد أن تعلم أن الاحتكاك سيحصل لا محالة، فكن مستعداً له؛ لكن هذا الاحتكاك إنما يكون على يد من فيه خفة وجهل؛ فلهذا قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، والمخاطبة تطلق على أمرين: تطلق على مراجعة الكلام بين سائل ومجيب، فهذا خطاب، وتطلق أيضاً على الخصام، وهو المقصود هنا، وقد جاء ذكر الخصام في الخطاب في القرآن في عدد من المواضع كقول الله تعالى في الامتنان على داود عليه السلام: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20].

    وتطلق على فصل الخصام بين الناس، كما قال تعالى: إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ [الفرقان:63]، أي: إذا خاصمهم الجاهلون، والجاهلون هم المتصفون بالجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين: إلى ضد العلم، وضد الحلم، فضد الحلم الوصف منه جهول، وضد العلم الوصف منه جاهل؛ فالجاهل من لا علم له، والجهول من لا حلم له، فالمقصود هنا بالجاهلين المتصفون بالفعل الذي هو ضد الحلم، فهم أهل النزق والطيش، فإنهم يخاطبون الناس، و(يخاطبونهم) أي: يخاصمونهم ظلماً واعتداءً وبغياً.

    لكنهم إذا خاصموا عباد الله وأولياءه ماذا يقول لهم أولئك؟ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، أي: تسلمون منا سلاماً، أو نسلم منكم سلاماً، فـ(سلاماً) هنا مصدر منصوب نائب عن فاعله، والمصدر المنصوب يدل على المبني، والمصدر المرفوع هو الذي يدل على الوجوب، كما قال تعالى: قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25]، (قالوا سلاماً)، وهذا الابتداء بالسلام وهو سنة غير واجب، (قال سلام) أي: في رد السلام وهو واجب، ورد السلام واجب، والابتداء به مندوب، وهنا بين أن هذا القول لا يجب؛ بل هو مندوب؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان يضطر إلى أن يجيب الجاهل بمثل كلامه؛ لأن الجاهل في كثير من الأحيان لا يردعه إلا بعض أخلاقه، ومن هنا قال بعض الشعراء:

    وبعض الحلم عند الجهـ ل للذلة إذعان

    فيحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى إجابة أهل البغي بمنطقهم الذي يألفونه.

    ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    فقد يضطر الحليم لمثل هذا، ولكن ذلك في نطاق ضيق، وقد خير الله سبحانه وتعالى بين الموقفين في سورة الشورى، فذكر مقارنةً عجيبة، فقال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وابتدأ بذلك وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:38-39]، وهذا الاحتمال الثاني وهو أنه بدل ما سبق عندما قال: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، بدأ بالمغفرة ثم ذكر المحاسبة أيضاً، ثم بعد هذا ذكر أيضاً المغفرة، فقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، ثم ذكر المؤاخذة أيضاً فقال: وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:41-42]، فحينئذٍ لا بد من وجود هذه المقارنة، فالإنسان مخير وذلك باختلاف أحوال المعتدي عليه، ولقد قال مالك رحمه الله: إذا كان السارق لصاً فلا ينبغي العفو عنه؛ بل لا بد من رفعه لإقامة الحد عليه، أما إذا كان مضطراً للسرقة كالفقير الذي يسرق جوعاً وأنت تعلم أنه ليس لصاً، فالأفضل أن تستر عليه، وأن تعفو عنه.

    فلذلك يحتاج الإنسان إلى فقه في هذا الباب وهو الموازنة؛ فيعمل الشدة عندما يكون صاحبه لا يبتدئ إلا بها، ويعمل اللين والعفو والصفح عندما يحتاج إلى ذلك أيضاً، فلهذا قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].

    المحافظة على قيام الليل

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]. هنا جاء عمل الليل بعد عمل النهار، فعمل النهار منه التصرف في الأرض، ومخالطة الناس، وما يترتب على ذلك من الصفح والعفو، ثم ذكر عمل الليل وأفضله الصلاة؛ لأنها صلة بالله سبحانه وتعالى، فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]، فقوله: (( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ )) أي: يمكثون جهود الليل، والمبيت مكث جل الليل، وقد يطلق على أقل من ذلك، ولا حد لقيام الليل، فقد قال إبراهيم النخعي : أقل قيام الليل قدر ما تحلب فيه شاة. هذا أقل ما يقام فيه الليل، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذكر ما يقتضي تفاوت درجات المؤمنين في ما يقومون من الليل، فقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل:20]، أي: باختلاف أحول النبي صلى الله عليه وسلم، فأقل ما يقوم الثلث، وقد يقوم النصف، وقد يقوم الثلثين أو قريباً من ذلك؛ لذلك قال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، فلذلك خيرنا بالعدد والقدر، ولم يشرط علينا شيئاً لا بد منه في قيام الليل، لكن قيام الليل هو عبادة خاصة وقربة خاصة، فإن الإنسان إذا نام الناس عن يمينه وشماله وانشغلوا عن الله فأذن له أن يطرق باب الملك في هذا الوقت، وهو يعلم أن كثيراً من الناس حيل بينهم وبين هذا الباب بالكفر، وكثير آخرون بينهم وبينه بالمعصية، وآخرون حيل بينهم وبينه بالغفلة، وآخرون حيل بينهم وبينه بالنوم، وآخرون حيل بينهم وبينه بالشهوات والملذات، وأنت يا أخي قد أذن لك بأن تطرق باب الملك الديان، وأن تعفر وجهك لله تعالى إجلالاً لوجهه العظيم؛ فهذا تشريف وتقريب عجيب؛ ولذلك فلا بد أن نذكر قول عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في مقدمة كتاب التهجد يقول: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ورفع شعاباً.

    فهؤلاء قد قربهم الله تعالى حين أذن لهم بأن يقوموا الليل فيسجدوا بين يديه والناس نيام، وهذا سبب من أسباب دخول الجنة كما أخرج الترمذي في سننه بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: ( لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتيته فوجدته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، وأفشوا السلام؛ تردوا الجنة بسلام )، فهذه أبواب الجنة، منها: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، ومنها القيام بالليل والناس نيام.

    وقد بين الله تعالى درجة أولئك القائمين فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:16-18]، فالقائمون الليل شهد الله لهم بالإيمان، وحكم لصالحهم على من سواهم، فقال: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين نوه ببعض الأعمال الصالحة قال: ( وقيام الرجل في جوف الليل )، أي: صلاته، وفي الرواية الأخرى: ( وصلاة الرجل في جوف الليل)، ثم قرأ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] إلى ((يعملون)) فقرأ هذه الآية، وهذا يدلنا على أن قيام الليل من أفضل القربات التي يبتغى بها وجه الله، ويلتمس بها ما عنده، وهو مما يقصر فيه كثير من الناس، فقل من يقوم بالحق الذي فيه.

    وقد أثنى الله به على هؤلاء فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]، وقدم المعمول هنا وهو لربهم؛ ليدل ذلك على الاختصاص، أي: أنهم لا يفعلون ذلك رياءً ولا سمعة؛ بل يفعلونه لربهم، والرب هو موصل الإنسان إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، أي: هو الذي ابتدأ خلقه ثم أنعم عليه بعد ذلك بمتابعة أقواله حتى وصل إلى كماله، وهو مشتق من ربه يربه إذا أوصله إلى كماله، والعرب تستعمل من هذه المادة أربعة أفعال، يقولون: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية : لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن.

    ويقال: رباه يربيه، ومنه قول الشاعر:

    وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

    قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزل عن القصد حتى بصرت بدمام

    ويقال أيضاً: رببه يرببه، ومنه قوله أمية بن أبي الصلت الثقفي :

    بيضاً مرازبةً غلباً أساورةً أسداً ترببن في الغابات أشبالا

    ويقال أيضاً: ربته يربته بإبدال إحدى الباءين تاءً، ومنه قول الشاعر:

    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي

    بلاد بها نيطت علي تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي

    وكونه رباهم نعمة عظيمة لا بد من الإقرار بها، وشكرها؛ ولذلك قال: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]، والصلاة لها أربع هيئات، فأعلاها في الانتصاب القيام، وأخفضها السجود، وبينهما الركوع والجلوس، فذكر الهيئتين وهما القيام والسجود يدل على دخول ما بينهما، وهذا من أساليب القرآن، فالقرآن كثيراً ما يأتي بالحدين: الحد الأقصى، والحد الأدنى؛ ليدل ذلك على استيعاب ما بينهما، ومن هذا قول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، فمخالطة الرجال للنساء الأجنبيات أعظمها مخالطة الفروج، وأدناها وأخفها مخالطة النظر، فحرمهما الله تعالى، فدل ذلك على تحريم ما بينهما، فيدخل في ذلك المصافحة، والمماسة، وغير ذلك؛ ولهذا قال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، فكذلك هنا قال: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]، فذكر طرفي الصلاة، وهاتان الهيئتان وهما: القيام والسجود وهما أفضل الصلاة، وقد اختلف فيهما أيهما أفضل؟ فقالت طائفة من أهل العلم: القيام أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة: طول القنوت، أو طول القيام)، وقالت طائفة أخرى: بل السجود أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، والله سبحانه وتعالى بدأ بالسجود هنا قبل القيام إيذاناً بفضله، فقال: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64]، والسجود في الأصل الانكباب على الوجه، ومنه قول الشاعر:

    بجيش تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجداً للحوافر

    الأكم: جمع أكمة، وهي الصخرة. (سجداً للحوافر) أي: تبلغاها حوافر الخيل حتى تنكب على وجوهها.

    والقيام هو الانتصاب، وهو يشمل ما كان من ذلك قبل الركوع، وما كان بعده، فهذان الركنان أي: الهيئتان نظراً لفضلهما تكررا في كل ركعة، بخلاف الهيئتين الوسطيين فلم تتكررا؛ فالقيام في كل ركعة مرتين قبل الركوع وبعد الركوع، والسجود في كل ركعتين مرتين، كل ركعتين فيها سجدتان، أما الجلوس فهو فقط بين السجدتين، والركوع مرةً واحدة في كل ركعة إلا في الكسوف، فجلسة السلام مثلاً، أو جلوس التشهد جلسة مستقلة عن الركعة، فليست من الركعة التي سبقتها، ولا هي من الركعة التي لحقتها، وبهذا يعلم أن الركوع لا يتكرر، وأن الجلوس لا يتكرر في الركعة الواحدة، وأن القيام والسجود يتكرران نظراً لفضلهما، والعناية بهما؛ فلذلك قال: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64].

    دعاء الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم

    لا شك أن التكاليف منها كما ذكرنا ما هو أفعال بدنية، ومنها ما هو أفعال مادية مالية، ومنها ما هو أقوال يتلفظ الإنسان بها، والأقوال ثلاثة أقسام: أقوال مرضية عند الله، وأقوال مسخوطة عند الله، وأقوال هي لغو ليست مرضيةً ولا مسخوطةً؛ بل هي وسط بينهما. وهذه الأقوال الثلاثة كلها جاءت هنا، فبعد أن ذكر الفعل وبدأ به، ليدل ذلك على أن فعل الإنسان ينبغي أن يكون أكثر من قوله، أي: أن الفعل ينبغي أن يكون أكثر من القول دائماً، ولذلك بدأ أولاً بالفعل، فقال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:63-64].

    ثم جاء بالقول بعد ذلك، وبدأ بالقول المرضي عنده، والقول المرضي عند الله أو أرضاه عنده هو الدعاء، فالدعاء هو العبادة؛ لما فيه من الخضوع والمهانة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وبيان الحاجة إلى ما عنده؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى الإكثار من الدعاء، والدعاء من قدر الله، وهو يصطرع في السماء مع البلاء، ( ولا يرد القدر إلا الدعاء )، وهو تمام الخضوع لله سبحانه وتعالى، وهو مع ذلك ينقسم إلى قسمين: إلى دعاء رغب ودعاء رهب، ودعاء رهب من باب التخلي وهو مقدم على دعاء الرغب؛ لأن دعاء الرغب من باب التحلي، والتخلي مقدم على التحلي؛ فلذلك بدأ أولاً بدعاء الرهب، فقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66]، وأخر دعاء الرغب وهو المذكور في آخر الآيات وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، فبدأ أولاً بالرهب قبل الرغب، والرهب إنما هو العوذ بالله تعالى مما يخافه الإنسان، وأخوف ما يخافه المؤمن عذاب الله تعالى، والعذاب ثلاثة أقسام: عذاب دنيوي، وعذاب برزخي، وعذاب أخروي؛ فالعذاب الدنيوي ما يأخذه الله بالانتقاص من الأنفس والأرزاق، وما يسلطه من الأمراض والآفات والذنوب أيضاً، فهذا بلاء من الله تعالى، وهو في العذاب الدنيوي، وقد قسمه الله تعالى على ثلاثة أقسام؛ فقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65]، وهو العذاب المنزل من السماء، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، وهو العذاب الخارج من الأرض، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، وهذا العذاب الوسط بينهما، فإذاً عذاب الدنيا ثلاثة أقسام: منزل من السماء، وخارج من الأرض، ووسط بينهما.

    ثم بعده عذاب البرزخ، وهو كذلك متفاوت؛ فمنه عذاب الكفار فإنهم يعذبون في قبورهم كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان ذات ليلة في ملأ من أصحابه، فسمعوا أصواتاً مروعةً مرعبة، فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: تلك يهود تعذب في قبورها ).

    وكذلك منه عذاب أهل النفاق، فإنهم يعذبون في قبورهم، فتملأ عليهم ناراً، نسأل الله السلامة والعافية.

    ومنه عذاب دون ذلك، وهو عذاب العصاة من المؤمنين في قبورهم بسبب معاصيهم التي اقترفوها، ( فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين جديدين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ).

    فإذاً عذاب القبر ثلاثة أقسام: عذاب المشركين الكفار، وعذاب المنافقين، وعذاب عصاة المؤمنين، ثم بعد هذا عذاب النار وهو كذلك ثلاث درجات؛ فأسفل هذه الدرجات هي التي فيها المنافقون، فهم في أسفل جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]، وفوقهم الكفار الصرحاء وهم فيما يكفيهم من العذاب، نسأل الله السلامة والعافية، وفوق ذلك عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار بعصيانهم ويخرجون منها بإيمانهم قد اسودوا وامتحشوا ( فيلقون في نهر الحياة، فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل )، ثم يؤمر بهم إلى الجنة بعد ذلك.

    فإذاً العذاب تسعة أقسام: ثلاثة في عذاب الدنيا، وثلاثة في عذاب البرزخ، وثلاثة في عذاب الآخرة. وعذاب الآخرة أعظمه عذاب جهنم، فإن وقوف الإنسان في المحشر ولو كان عظيماً، ولو كان العرق شديداً، ولو كانت الشمس دانية؛ لكنه لا يساوي لحظةً واحدةً من لحظات عذاب النار، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك فأهون عذاب أهل النار أي: أشده هوناً نسأل الله السلامة والعافية هو هوانهم على الله، وأن الله لا ينظر إليهم، ولا يكلمهم، ولا يزكيهم، فهم محجوبون عن الله تعالى، وهذا أعظم شيء في عذابهم وإهانتهم، إن الله لا ينظر إليهم، ولا يكلمهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فهم يستعيذون من هذا العذاب؛ فلذلك قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ [الفرقان:65] أي: يكثرون من ذلك، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65]، والصرف: المنع والإقصاء، وهنا لم يقولوا: اصرفنا عن عذاب جهنم؛ لأنهم لو قالوا ذلك لم يقتض ألا يروها، إذا قالوا: اصرفنا عن عذاب جهنم، فهذا يصدق فيما لو دخلوا جهنم ثم يخرجون منها؛ لكن إذا قال: اصرف عنا عذاب جهنم، فهذا يقتضي ألا يسمعوا حسيسها أصلاً، وأهل الإيمان يرون النار يوم القيامة لكن لا يسمعون حسيسها، يرونها من بعد ليعرفوا ما أنقذهم الله منه، وقد أقسم على ذلك؛ لكنهم لا يسمعون حسيسها، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102]، بخلاف أهل النار فإنهم يرونها وتراهم، ويسمعون حسيسها وأصواتها كما قال الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14]؛ فلهذا سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم أي: يباعدهم عنه، فلا يمكن أن يسمعوا حسيسها، ولا أن يتأثروا بنتنها ورائحتها، فإن جهنم شديدة النتن، فلو قطرت قطرة واحدة من قطراتها في الأرض لخبثت كل ما فيها وبشعته، فلم يستطع أحد أن يتنفس من هوائها، ولا أن يشرب من مائها، ولا أن يأكل من طعامها؛ ولذلك سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65].

    ووصفوا جهنم فقالوا: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65]، أي: إن العذاب الذي فيها كان ملازماً لأهلها، والغرام الملازم، ومنه الغريم، أي: صاحب الدين؛ لأنه يلازم صاحبه، ومنه الغرام، أي: الحب؛ لأنه ملازم لصاحبه أيضاً، فكل ذلك يسمى غراماً، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66]، أي: أن جهنم ساءت مستقراً لمن دخلها، ولو أخرج منها من لحظته فإن مجرد صبغة واحدة فيها تسوء الإنسان غاية الإساءة، (ساءت مستقراً)، والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الإنسان ولو طرفة عين، (ومقاماً) أي: مكاناً دائماً للخالدين فيها، فالذين يدخلونها ينقسمون إلى قسمين: إلى أهل استقرار يستقرون فيها، ثم يخرجون منها، وإلى أهل مقام وهم الذين يسكنونها فلا يخرجون منها، نسأل الله السلامة والعافية.

    التوسط في النفقة بين الإسراف والتقتير

    ثم ذكر التصرف المالي بعد التصرف البدني، والتصرف باللسان، فالتصرف بالأفعال والتصرف بالأقوال جاء بعده التصرف بالأموال، فقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، (والذين إذا أنفقوا)، هنا شرط بـ (إذا) التي تقتضي الجزم، معناه أنهم سينفقون لا محالة، وهذا ثناء عليهم بالإنفاق، والإنفاق مطلوب على كل حال حتى لو كان الإنسان فقيراً فإنفاقه على فقره وحاجته مما يزيد ثوابه كما قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:8-9]، وكما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فالإنفاق من الإقتار من الإيمان كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هنا: (والذين إذا أنفقوا)، وهذا يشمل الإنفاق من المال، والإنفاق من الجاه، والإنفاق من العلم، والإنفاق من النصح، والإنفاق من الوقت؛ فكل ذلك يسمى إنفاقاً، إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، كل فضيلة بين رذيلتين فالتوسط محمود شرعاً، وهو بين رذيلتين: الإفراط والتفريط؛ فالإفراط هو المبالغة وتجاوز الحد، والتفريط هو التقصير والنقص، وكل واحد من هذين مذموم شرعاً؛ ولهذا فإن الله تعالى نهى عن الإسراف وذمه، فقال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فلا بد من تركه؛ لأن الله لا يحبه، وقد أحسن محمد مولود رحمه الله إذ قال:

    السرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى

    ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف

    فقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، هذا كافٍ في كف كفك عن الإسراف.

    كذلك التقتير والبخل وصف مذموم، وقد أثنى الله على الأنصار في انعدام نصيبهم من البخل، فقال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، أي: وقاهم الله البخل، فلا يجدونه في أنفسهم، وهذا وصف عظيم؛ لأنه رتب الله عليه الفلاح، وهو صلاح الدنيا والآخرة؛ فمن فقد البخل يصلح أمره في الدنيا والآخرة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه، وقد بين الله تعالى صفات المذموم تصرفهم عنده؛ فذكر منها البخل، فقال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:1-7]، فقد بين الله سبحانه وتعالى البخل وصفاً من أوصاف أعدائه الذين لا يرتضي تصرفهم ولا فعلهم بوجه من الوجوه؛ ولذلك قال: إِذَا أَنفَقُوا [الفرقان:67]، ولم يقل: إن أنفقوا، والفرق بينهما: أن (إن) للمشكوك فيه الذي قد لا يقع، و(إذا) للمجزوم به الذي لا بد أن يقع، وقد قال أحد علمائنا:

    سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

    أنا إن شككت وجدتموني جازماً وإذا جزمت فإنني لم أجزم

    فهذا هو اللغز، فأجابه بقوله:

    هذا جواب غامض في كلمتي شرط وإن وإذا مراد تكلمي

    (إن) إن نطقت بها فإنك جازم و(إذا) إذا تأتي بها لم تجزم

    (إن) إن نطقت بها فإنك جازم؛ لأنها تجزم الفعل المضارع، و (إذا) إذا تأتي بها لم تجزم؛ لأنها لا تجزم إلا في الشعر. وإذا لما جزم الفتى بوقوعه بخلاف (إن) فافهم ... أخي وفهم.

    فلذلك قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، والإنفاق يشمل الإنفاق الواجب، وهو إنفاق الإنسان على نفسه، وعلى من يمونه، والإنفاق المندوب وهو ما زاد على ذلك.

    إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا [الفرقان:67]؛ فالسرف هو تجاوز الحد، وهو مذموم شرعاً حتى لو كان في الطاعة والعبادة؛ ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثابت بن قيس بن شماس حين جز نخله فتصدق به جميعاً، ولم يصحب منه تمرةً واحدةً إلى بيته، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وأمره أن يمسك بعض ماله؛ لينفق منه على أهله.

    ومثل ذلك الإسراف في الطاعات الأخرى؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن عمرو بن العاص : ( إن لعينك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه )؛ فلذلك لا بد من عدم الإسراف حتى في الطاعات، وتجاوز الحد فيها غير محمود، وقد ( جاء رهط إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن قيامه وصيامه، فكأنهم تقالوا قيامه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء؛ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).

    وكذلك في حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن الحولاء بنت تويت ، وهي امرأة من بني تيم بن مرة ابنة عم عائشة جاءت إليها، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عنها فذكرت صلاتها وصيامها، أي: ذكرت شيئاً كثيراً من صلاة هذه المرأة وصيامها، فقال: مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ).

    وكذلك ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدين يسر، ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محاكاة اليهود والنصارى؛ فإنهم بالغوا فتجاوزوا الحد؛ فكان منهم الرهبان الذين عملوا بالرهبانية، وقد كتبوها على أنفسهم، ولم يكتبها الله عليهم، ولم يؤدوا حقه الذي افترض الله في القيام بالطاعات، والقيام بأمور الإنسان ومصالحه الشخصية، فضيعوا حقوق الإنسان، وقيامه برعاية أهله وما يتعلق بذلك؛ فلذلك لم يؤدوا حق الرهبانية، فالذي يؤدي حق الرهبانية هو الذي يؤدي حق الله في العبادة، ويؤدي حق بدنه، وحق أهله في أمور الدنيا والنفقات ونحو ذلك.

    قال تعالى: وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، أي: لم يقصروا ولم ينقصوا القدر الواجب، فالتقتير والإقتار هو النقص، فالإقتار في الأصل اسم للفقر، فأقتر فلان أي: افتقر، ويطلق على فقد المال وإجاحته؛ فمن كان غنياً فافتقر فإنه يسمى بالمقتر؛ فالمقتر هو الذي كان غنياً فافتقر فيما بعد، وقد قال الشاعر:

    باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

    تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

    فالإقتار تقصير ونقص، والإسراف مجاوزة للحد، وكلاهما مذموم؛ ولهذا قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، أي: كان بين ذينك الوصفين السابقين وهما الإسراف والإقتار قوام، والقوام هو الاعتدال والتوسط بين الجانبين، وأشار باسم الإشارة المفرد وهو (ذلك) لبيان أن كل المذموم شرعاً فهو حقيقة واحدة، فلا فرق بين المسرف والمقصر، فالمبالغ في العبادة الذي يتجاوز بها الحد ويبتدع، مثل المقصر الذي ينقص بعضها؛ لأن الجميع قد تجاوز الحد، فهذه حقيقة واحدة؛ فلذلك قال: (وكان بين ذلك)، ولم يقل: وكان بين ذينك، ولاحظوا هذا من أساليب القرآن، وهو أنه إذا أراد الله تعالى الإخبار عن حقيقة واحدة ولو كانت مركبةً من أمرين يشير إليها باسم الإشارة الدال على المفرد، كقول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، أي: بين ذينك الوصفين السابقين؛ فكلاهما وصف نقص فيها، فهنا قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].

    أقف عند هذا، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767947611