إسلام ويب

فتح مكةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتبر فتح مكة منهجاً يسير عليه الدعاة إلى الله والمجاهدون في سبيل الله، لما فيه من الدروس والعبر والمواقف حيث يعتبر حدثاً تاريخياً هاماً ليس لذاته فحسب، بل لشرف الزمان والمكان والقيادة والفاتحين. كما يتضح فيه كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وهدفه من الجهاد والفتح، حيث عفا مع المقدرة وعاد متواضعاً منتصراً، مما يحتم علينا مراجعة تلك المؤهلات والعمل على الاستفادة منها.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فلا غرابة إذا تحدثنا عن واقعة تاريخية أثرت في هذا التاريخ وغيرت في مناسبة مرونتها، وفي تاريخ أوانها، ولكن مما يجدر التنبيه إليه قبل ذلك أن السرد التاريخي للأحداث ليس مجرد استحضار لأمر كان في الذاكرة، واسترجاع لأمر قد حصل ومضى، بقدر ما هو أخذ للعبر والدروس، واستمرار على نفس المسيرة التي افتتحت من قبل، وسير على نفس الخطا التي هيأها رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا تحدثنا عن واقعة من الوقائع المشرفة لهذه الأمة التي قام فيها رجال قد وفوا لله تعالى بما عاهدوه عليه، وصدقوا في تعاملهم مع الله، فإن ذلك مدعاة لاقتفاء الأجيال لآثار هؤلاء، والصمود على نفس الطريق، والتزامه وسلوكه؛ لذلك فإن فتح مكة شرفها الله تعالى، وإن كان حدثاً كبيراً في التاريخ وأمراً عظيماً، إلا أن اختيار الزمان والمكان له مما يعلي درجته، ويشدو إلى الاهتمام به أكثر من ذات الحادثة والواقعة، فالله عز وجل هو المدبر الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه، وهو قادر على أن يقذف الإيمان في قلوب البشر، وأن يهديهم إلى سواء الطريق، وأن يدخل الإيمان على قريش بمكة في قلوبهم دون أن يدخل عليهم الجيوش الجبارة، ولكنه سبحانه وتعالى أخر ذلك إلى أجل محدد ووقت محدد؛ ليكون ذلك مرتبطاً بذاكرة كل مسلم ينبهه عند إتيان هذا الوقت، أو عند رؤية هذا المكان وإتيانه لينتبه إلى معالم هذا الطريق، وإلى محددات محددة في هذا المنهج، يلزم التزامها والأخذ بها.

    تحريم مكة

    إن مكة شرفها الله تعالى حرم الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ومن دخلها فهو آمن، وقد كانت كذلك منذ القدم؛ ولذلك تقول القرشية الجمحية لولدها:

    أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير

    أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور

    الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور

    فهي أرض الله المحرمة منذ خلق الله السموات والأرض حرم هذه البقعة واختارها، وجعل فيها هذا البيت الذي هو مثابة للناس وأمن، وجعل فيها كثيراً من الآيات الدالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، منها هذا البيت الذي تفد إليه أفئدة المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها من كل فج عميق، ويقصدون إليه في صلاتهم، ويتجهون إليه ويستقبلونه في كل أحوالهم، ورغم تباين أقطارهم وتباعدها وهذا البيت مع كل ذلك فإن الله عز وجل شرفه أولاً ببناء الملائكة، ثم بعد ذلك بناه خليل الله إبراهيم وإسماعيل ابنه بأمر من الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127].

    تشريف الكعبة بصرف الناس عن عبادتها

    ثم بعد ذلك شرفه الله تعالى بأمر عجيب جداً وهو أن أهل مكة حينما أغرقوا في الشرك بالله تعالى وعبدوا الأصنام، واتخذوا الآلهة من دون الله، لم يعبدوا هذا البيت الذي هو عظيم في نفوسهم، وذلك من تشريف الله تعالى للكعبة حتى لا تتدنس بأن تعبد من دون الله، لم يمر في التاريخ أن أحداً سجد للكعبة أو عبدها، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ويضعونها على الكعبة ويلصقونها بالرصاص عليها كهبل وغيره، وقد كان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً في الجاهلية، وكذلك هذا الحجر الأسود المشرف الذي ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً أنه قال: الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض، فمن قبله فكأنما قبل يمين الرحمن. فهذا الحجر شريف عظيم، ولكن مع ذلك شرفه الله بأن لم يعبد من دون الله تعالى أبداً، ولم يمر في التاريخ أن قوماً عبدوه من دون الله.

    وكذلك هذا المقام الذي هو حجر كان يقف عليه إبراهيم فيعتلي به ويرتفع في بناء الكعبة، وبقي فيه أثره إلى وقتنا هذا وفيه يقول أبو طالب في الجاهلية:

    وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وراق ليرقى في حراء ونازل

    وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةً على قدميه حافياً غير ناعل

    وما زال إلى اليوم شاهداً على ما أخبرنا الله سبحانه وتعالى به من أمره إبراهيم بإقامة هذه البنية المشرفة لتكون منسكاً للناس ومأمناً، وهو من الآيات المذكورة في قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088537882

    عدد مرات الحفظ

    777199411