الإسلام دين قام على التكافل والمروءة والكرم، والتعاون بين الناس، فشرع لهذا حقوقاً للإنسان وعليه، ومن ذلك حق الجوار، حيث حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، كما وردت به الآيات قبل ذلك، وامتثل المسلمون ذلك في حياتهم، فضربوا أمثلة عالية في ذلك ينبغي الاقتداء بها واتباعها.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق البرية من نفس واحدة، وهي آدم، ولو شاء لجعل كل فرد ينبت من أصل وحده كما ينبت الشجر، ولكنه أراد ترابط هذا الجنس فيما بينه وألفته واتحاده، وتعاونه على البر والتقوى؛ ولذلك لم يغن أحدٌ عن غيره من الناس، بل جعل جميع الناس يحتاج بعضهم إلى بعض في معاشه ولباسه ومسكنه وشئونه، حتى في أمور دينه، فلا يمكن أن يستغني أحد عن الناس في أمور الدين ولا في أمور الدنيا.
فالإنسان محتاج في أمور الدين إلى من يعلمه، وإذا قدر أنه يعرف حكم ما يقبل عليه من شئون الدين؛ فهو محتاج إلى من يذكره إذا غفل، ومن يساعده إذا ضعف؛ فهو عرضة للعوارض محتاج إلى التنبيه، فإنه تعتريه السنة والمنام؛ لمخالفته لله جل جلاله؛ فالله تعالى هو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والناس ينامون، وهو كذلك تعتريه الغفلة والنسيان، ويحتاج معهما إلى من ينبهه.
وهو كذلك تعتريه الأمراض والأعراض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( فخط خطاً مربعاً، وخطاً داخل الخط، وخطاً خارجاً منه، وخطوطاً عن اليمين وعن الشمال، فوضع يده على الخط الداخل فقال: هذا ابن آدم، وعلى الخط المربع فقال: وهذا أجله، وعلى الخط الخارج وقال: هذا أمله، ووضع إصبعه على الخطوط الصغيرة التي في الأطراف، فقال: وهذه أعراض، إن أخطأه هذا أصابه هذا ).
فالإنسان عرضة لكثير من العوارض في نفسه، وفي عقله، وفي خلقه، وفي تدبيره وفي شأنه كله؛ ولذلك يحتاج إلى من يساعده، والذين يخالطهم الإنسان أنواع منوعة؛ فمنهم من يكون أعلى مستوىً منه فيكون مثلاً له يقتدي به، ومنهم من يكون أدنى منه مستوىً فيكون هو الأسوة له، ومنهم من يكون مساوياً له، ومنهم من يفضله في بعض الجوانب ويقصر دونه بعض الجوانب، وكل ذلك بتدبير الله جل جلاله؛
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
[آل عمران:163].
ولهذا جعل الله للناس حقوقاً وعليهم حقوقاً، وجعل لهم أواصر وروابط يرتبطون بها، وعلق على تلك الأواصر كثيراً من الحقوق التي من وفى بها فقد أدى الحق الذي عليه، وينال مقابل ذلك من الثواب الأخروي، وينال أيضاً بركة دنيوية على ما قدم، وما فرط فيها وضيعها؛ فهو عرضة للعقاب الأخروي، وسيناله شؤم التضييع في الحياة الدنيا.
ومن هذه الحقوق حق الجار؛ فالجار هو المجاور للإنسان، وقد أمر الله بالإحسان إليه في كتابه؛ فقال تعالى:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
[النساء:36].
تعريف الجار
أقسام الجار
والجار أقسام؛ فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الجار من ناحية الدين إلى قسمين فقال: ( الجار المؤمن له حقان، والجار الكافر له حق واحد )؛ فالجار إما أن يكون مؤمناً، وإما أن يكون كافراً، فالجار المؤمن له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، والجار الكافر له حق واحد، وهو حق الجوار؛ فيحسن إليه الإنسان ويتلطف به ويقرب له المعروف؛ لعله يهتدي على يديه، فيكون قد جر له نفع الدنيا والآخرة.
وكذلك ينقسم الجار بتقسيم آخر إلى: أن يكون قريباً أو جنيباً، كما قال الله تعالى:
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
[النساء:36]؛ فالجار القريب معناه: الذي تربطه بإنسان آصرة قربى ورحم؛ فله حقان أيضاً بالإضافة إلى حق الإسلام، والجار الجنيب التي لا تربطه بإنسان آصرة قريبة؛ فله حق الجوار وحق الإسلام إذا كان مسلماً.
وكذلك فإن الجار ينقسم إلى قسمين بتقسيم آخر: الجار الدائم، وهو جار دار المقام، والجار المرتحل وهو الذي يمكث مدة يسيرة، كالضيف ونحوه؛ فهو جار في مدة مكثه وإذا خرج انتهى جواره، وقد ذكر أهل العلم أن الإنسان ينبغي أن ينظر إلى الجيران جميعاً بنظرته للضيوف؛ لأن الضيف يتلقاه المحسن بالبشاشة والإكرام، ويبسط له في وجهه وفراشه وفيما لديه؛ لعلمه أنه منتقل لا محالة، وأن انتقاله قريب.
هذا وأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يسأل
فكذلك الجار مدة بقائه معك محصورة؛ لأنه إما أن تموت أنت أو يموت هو؛ فلا بد أن ينتقل أحدكما عن الآخر؛ ولذلك قال الشاعر:
واصل حبيبك ما التواصل ممكن فلأنت أو هو عن قريب ذاهب
إما أن تذهب أنت وإما أن يذهب هو؛ فلذلك لا بد من الإحسان إليهما معاً.
وحق الجار بالإضافة إلى هذه النصوص التي تدعو إليه يودي الوفاء به إلى كثير من الفوائد للإنسان، ففي الآخرة فيه طاعة الله ورسوله وامتثال للأمر، وفي الدنيا فيه بركة عظيمة؛ فإن من تعاهد جيرانه لا بد أن يوسع له في رزقه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه: (إذا طبخت لحماً فأكثر مرقه ثم تعاهد جيرانك), فإن ذلك مما يوسع على الإنسان في رزقه.
وكذلك يأمن به الإنسان، فإنه إذا كان يأمن جيرانه مكره، وكانوا يأمنون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم منه؛ فإنه سيؤمنه الله سبحانه وتعالى حين أمنه جيرانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الجار في الفضل فقد ورد عنه أنه قال: ( أربعون داراً جار )، وهذا يقتضي أن الجيران ليسوا الذين يلون الباب مباشرة، بل يتعدى ذلك الجوار إلى ما هو أبعد منه حتى يصل ذلك إلى أربعين داراً، ومفهوم العدد قيل: هو مخرج لما فوقه، أي: أن ما زاد على ذلك لا يكون جاراً، وقيل: بل ليس مخرجاً له، فمن بينك وبينه تواصل، ولو كان بينك وبينه أربعون داراً؛ فإن حق الجوار باق في حقه.
وكذلك فإنه قال كما في صحيح البخاري : ( الجار أحق بسقبه )، والسقب والصقب، بالسين والصاد، معناه: القرب؛ فمعناه: أن من كان أقرب إليك من جيرانك؛ فحقه أعظم، وقد عرف هذا اللفظ، وهو: الصقب، بمعنى: القرب، ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات في قصيدته لـعبد الملك بن مروان :
كوفية نازح محلتها لا أمم دارها ولا صقب
"لا أمم دارها" معناه: لا بعيدة، ولا صقب، أي: لا قريبة.
وكذلك فإنه كان في صدر الإسلام يؤخذ بالشفعة للجار، وقد أخذ بذلك الحنفية إلى اليوم فهو مذهبهم، ومذهب الجمهور: أن الشفعة للشريك فقط، والحنفية يرون أن شفعة الجار باقية؛ فإذا باع الإنسان داره دون أن يستشير جاره؛ فلجاره أن يأخذها بنفس الثمن غصباً عن المشتري والبائع، فيدفع الثمن إلى صاحبها؛ لئلا ينزل فيها من لا يحب جواره، لأن جار السوء في دار المقام مما يتعوذ منه.
رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لحق الجار
رعاية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لحق الجار
وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم، فقد تربوا هذه التربية فكانوا يُحسنون إلى الجيران ويؤدون حقوقهم، حتى إن رجلاً من قريش كانت له دار وكان بجواره عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فباع القرشي داره لـمعاوية بن أبي سفيان بثمن غال، فلما أراد معاوية إخلاء الدار وأخذها قال: قد بقي شيء من ثمنها، فقال: ما هو؟ قال: ثمن الجار، قال: ومن جارك؟ قال: عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ؛ فضاعف له معاوية الثمن. وكان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين يتعاهد الفقراء من جيرانه إذا ناموا؛ فيأتي يتحسس، فإذا فقد الصوت وضع الدنانير والدراهم عند رءوسهم، أو وضع لهم الطعام أمام بيوتهم، فكانوا يفيقون ولا يدرون من ينفق عليهم، فلما مات انقطعت النفقة، فعرفوا أنه هو الذي كان ينفق عليهم. وكذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له جار من الأنصار، فكان من شدة التصاقه به وتعاونه معه، أن الأنصاري كان يذهب يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد معه طيلة النهار، ويبقى عمر في مزرعته ومزرعة الأنصاري وأهلهم، يخدمهم جميعاً، ثم إذا كان اليوم الآخر ذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه الأنصاري في مزرعته وأهل بيته، فيتعاونان هذا التعاون بالمياومة، يوم لهذا ويوم لهذا، وحديث عمر في ذلك في قصة إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
رعاية التابعين لحق الجوار
ومثل هذا ربى عليه الصحابة التابعين؛ فقد تربوا على حفظ حقوق الجار والعناية به، حتى لو كان غير مسلم، فهذا الإمام أبو حنيفة رحمة الله كان له جار يهودي، فكان يشرب الخمر ويغني على العود، وكان أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، وسبب ذلك أنه مر يوماً بالصبيان يلعبون فقال أحد الصبيان لإخوانه: (هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً؛ فقال أبو حنيفة : والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب)، فما نام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً، فكان هذا الجار يسكر، فإذا سكر غنى ويزعج أبا حنيفة بصلاته وهو يغني بقول العرجي :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطاً ولم تك نسبتي في آل عمرو
فيغني حتى يصبح، وذات ليلة فقد أبو حنيفة غناء هذا اليهودي، فلما صلى الفجر طرق الباب على أهله فقال: أين جارنا؟ فقالو: ذهب به العسس - أي: الشرطة - فذهب أبو حنيفة إلى الشرطة، حتى خلصه منهم، فلما أخرجه من السجن وضع يده على كتفه وقال: قد أضعناك يا فتى! يشير إلى الأبيات التي كان يغني بها ويؤذيه بها؛ فأسلم اليهودي لحسن هذا التعامل مع الجار.
وحكايات السلف في الإحسان إلى جيرانهم كثيرة، لكن إذا نزلنا نحن إلى واقعنا، وأردنا تطبيق هذه القيم على حالنا، فسنجد بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً بيننا وبينهم، ونحن نحب أن نكون مثلهم، ونحب أن يفتح لنا من الخيرات ما فتح لهم، لكن أين نحن من هذا التعامل! من يعرف منا جيرانه الأدنين؟ ومن يدخل بيوتهم؟ ومن يزورهم في مناسباتهم؟ ومن يشاركهم في آمالهم وآلامهم؟ قليل ما هم، إلا من رحم ربك! إن لم يكن بينك وبينهم نسب فقلما تتعرف عليهم.
وقد قال أحد المشايخ، وهو نبحار بن عدود رحمة الله عليه: إن أهل هذه المدينة بنوها على المقاطعة، فسموها مقاطعات؛ المقاطعة الأولى، والمقاطعة الثانية، والمقاطعة الثالثة، والرابعة والخامسة.. ومقاطعة تجينن، ومقاطعة كذا، مقاطعة عرفات؛ لأنهم يقاطعون جيرانهم، فليست بينهم صلة!
وهذه القطيعة مخالفة لهذه النصوص والأوامر الصريحة، وهي مخالفة للهدي النبوي ولهدي السلف الصالح؛ فلذلك لا بد من تقويم سلوكنا على ضوء هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا بد أن نحرص على تعديل ما نحن عليه وفق ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نقوم سلوكنا، ولا عار في ذلك ولا عيب؛ فنحن نعلم أننا غير معصومين وأننا خطاؤون، (وخير الخطائين التوابون)، فإذا عرفت أنك خطاء فلا بأس أن تقر بخطئك فيما يتعلق بجيرانك، وأن تتعاهدهم وأن تستسمحهم، وبالأخص في هذه الأيام التي هي أيام عيد وسرور.
فعلينا أن نتعاهد جيراننا، وأن نراعي حقوقهم وأن نقوم بها ما استطعنا، فتخفيف العناء عنهم، مما يفرج الله به الهموم، ويستجيب به الدعاء، وكم من إنسان حرم الرزق، وسدت أمامه الأبواب بسبب تفريطه في حق جاره، ولا يمنعه من أن تفتح له أبواب الرزق وخزائن الخير إلا أن يقوم بحق الجار، فإذا قام بحق الجار فتحت له الأبواب؛ فأبواب عطاء الله سبحانه وتعالى توصد على أهل الإيمان؛ تنبيهاً لهم ليؤوبوا ويتوبوا، ولذلك كان كثير من أهل السلف الصالح يقولون: (إني لأعرف أثر الذنوب في خلق الخادم، وخلق الزوجة، وفأر الدار، ونقص الرزق، وخلق الحمار) أي: الدابة التي يركبها، فإذا تغير عليه شيء من هذه الأمور عرف أن شيئاً ما نقص من أمر الدين، فإذا اعتدى الفأر على ميرة الدار أو تغير خلق الزوجة، أو تغير خلق الخادم، أو تغير خلق الدابة؛ فإنه يعرف أن ذلك تنبيه من عند الله سبحانه وتعالى؛ ليتراجع ويتوب مما هو فيه.
وهذا الزمان الذي نحن فيه زمان الفتن والمصائب، والعالم اليوم يشكو من الأزمات، والإنسان إذا كان لا يعرف شيئاً عن جيرانه، ولا يدري لعلهم في أمس الحاجة إلى أمر لا يضره، وهو يستطيع أن ينفعهم به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، ولعله هو يحتاج يوماً من الأيام فإذا لم يكن قد قام الجيران بالحق؛ فإنه لا يجد من يقوم بشأنه؛ ولذلك قال إبراهيم بن أدهم : (أربعة سيندمون على أربعة: من عصى الله جل جلاله سيندم عند لقائه على معصيته، ومن قطع صديقه من عنده سيندم على قطيعته عندما يحتاج إليه) وذكر بقية الأربعة، فلا بد أن نتعاهد جيراننا وأن نتوب من التقصير في حقهم وأن نستسمحهم في هذه الأيام.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس من المجالس التي تغشاها رحمة الله وبركاته وصلواته، ومن المجالس التي تتنزل عليها الملائكة بالمغفرة والسكينة، وأن يجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم، وأن يتوب علينا في ساعتنا هذه أجمعين، وأن يحل علينا رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.