الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في الوصية الثانية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151].
بعد الوصية بحق الله وهو التوحيد تأتي الوصية بحق الوالدين، فالوالدان اللذان قد ملأ الله قلوبهما بمحبة الإنسان والحنان عليه والعطف عليه، وجبلهما على ذلك، حتى لو كان من غير البشر، فالأتان عندما تضع ولدها تدافع عنه وتذود عنه الذئاب، وترفع رجلها عنه، وتحاول رفعه حتى يصل إلى ثديها ليرتضع منها، وهي في ذلك مثلاً لم تعلم إذا كانت أول مرة تضع، ولم تمسها يد بشر، ولم تروض، ولم تعود على أي تصرف، فإن الله سيملأ قلبها بالحنان على ولدها حتى ترفع حافرها عنه، وهكذا في جميع الخلائق، جميع الخلائق سواء منها ذوات السموم، أو ذوات البيض، أو ذوات الأولاد، كلها ملأ الله قلوبها بالحنان على أولادها وفراخها.
فلذلك كان حق الوالدين على الإنسان حقاً عظيماً، فقد ربياه صغيراً عندما كان مليئاً بالقذر، وكان الناس يقذرونه، فكانا يسهران على تنظيفه وتطهيره، وكان ضعيفاً لا يستطيع أن يرفع الشراب إلى فيه فقاما بذلك حتى وصلت يداه إلى فمه، وكان لا يجد ما يستر به بدنه، فستراه وعوداه على مصالحه، فلهما من الحق عليه الشيء الكثير.
إذا كان الإنسان يستشعر ضعفه أيام كان والداه إذا بكى في الليل سهرا عليه، وإذا أزعجهما بكاؤه صبرا عليه، فإذا استشعر الإنسان هذا فإنه سيستشعر ما لهما من الحق عليه، وهذا الحق لا يستطيع الإنسان الوفاء به مهما قدم.
وقد سمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه على ظهره في الحج وهو يطوف، ويقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا ولا زقية واحدة، لم تكافئها (ولا زقية) أي: صيحة واحدة عند وضعك.
فلذلك لا بد من استشعار حق الوالدين، ولا بد من العناية بهما عناية بالغة، ولا بد أن يخفض الإنسان لهما جناح الذل من الرحمة، ولا بد أن يخاطبهما بالقول الكريم، ولا بد أن يحرص على أداء حقهما في الحياة وحقهما بعد الممات، ولا بد ألا يؤثر عليهما أي إنسان آخر، فكثير من الناس يظن أنه إذا تزوج زوجة يحبها، وله بها تعلق فإنها ستسد له مسد أمه أو مسد والديه، وهذا من الخطأ في التفكير، فمن أحب إنساناً لشيء كرهه لفقده، فالمحبة الحاصلة إنما حصلت من أجل نظارته وجماله، أو من أجل ماله، أو من أجل مكانته، فإذا زال عنه هذا فستذهب تلك المحبة، ولهذا قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي لما طعن فخرج من خصره مثل اليد، فعاش على فراشه يقلب، ولا يستطيع القيام بشيء من مصالح نفسه، فملته زوجته مللاً شديداً، وكانت أمه لا تمله، فإذا تألم بكت أمه، فبدرت دمعتاها قبل دمعتيه، يقطر دمعها قبل أن تقطر دمعته، ولا تنام حتى تستيقن أنه قد نام، ولا تتغذى حتى تغذيه، فقال:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني
وأي امرئٍ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في شقى وهوان
وقد دخل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا هو مستوي اليد اليمنى (يابسة) فقال: ما الذي لوى يدك؟ قال: دعوة أبي. فقال: ما ذاك؟ قال: لقد كنت عاقاً بأبي فضربته يوماً بالعصا، فقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
فأخرجني منها لقى ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فاستجاب الله دعاء والده فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن دعوة الوالد مستجابة ).
ونهى الأم أن تدعو على ولدها في حال غضبها؛ لئلا يستجاب لها فيه، حتى في حال الغضب إذ دعت عليه استجيب لها، فدعوة الوالد مستجابة مثل دعوة المظلوم، ودعوة المسافر في الطاعة مستجابة، ودعوة الصائم حتى يفطر كلها دعوات مستجابات، فلذلك لا بد من رعاية حق الوالدين.
ولا شك أن انتقال الناس من البداوة إلى الحضارة، ودراستهم في المدارس النظامية، ومخالطتهم لقرناء السوء، كل ذلك مما يزهدهم في حقوق الآباء والأمهات، وهذا من الغلط البين، فأبوك الذي كان سبباً في وجودك حتى لو كان متخلفاً من كل النواحي، وهو قطعاً خير لك من زميلك أو صديقك الذي تعرفت عليه.
وأيضاً فالإنسان الذي بينك وبينه هذه الثقة والقرابة إذا رآك تحتقر أباك، ولا تؤدي حقه فلا يمكن أن يثق بمحبتك.
لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق
إذا كان عاقاً بوالده فكيف أقتنع أنا بأنه سيبرني؟ لا يمكن أن يحصل على ثقتي أبداً، ولذلك لا بد أن نتذكر أن حق الوالدين عطفه الله على حق نفسه في عدد كثير من الآيات، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، فلا بد من الإحسان إليهما، والمبالغة في إكرامهما.
وقد قال أهل العلم: "من الأمور ما لا يدخله الرياء وهو: إكرام الضيف، وبر الوالدين". فهذا من القربات التي لا يدخلها الرياء، وينبغي للإنسان أن يبالغ فيها وأن يزيد وأن يظهرها.
فبر الإنسان بوالديه دليل على شرفه ومروءته وكرم أخلاقه، ودليل على أنه فعلاً يقدر ما وصل إليه من المعروف، والإنسان الذي لا يقدر والديه، ولا يحترمهما ولا يقوم بحقوقهما لا يمكن أن يكون من الذين يعاملون المحسن بالإحسان، ولا يمكن أن يكون من الذين إذا أحسنت إليهم كافئوك؛ لأن أبلغ الناس في الإحسان إلى الإنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم والداه اللذان نزلاه؛ فلذلك قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151] وهذه وصية الله الثانية من هذه الوصايا.
والغريب في الأمر أن الله تعالى لم يفصل في الوالدين، سواء كانا صالحين أو فاسدين، عالمين أو جاهلين، غنيين أو فقيرين، قويين أو ضعيفين، لم يفصل الله في ذلك، فأسوأ الوالدين خلقاً، وأقلهم علماً هو داخل في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151]، بخلاف الولد، فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).
فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً، فإذا كان فاسداً لا نفع فيه، والوالد حقه على الولد ثابت حتى لو كان غير صالح، فلا بد من القيام بحق الوالدين، وتذكر أن حاجتهما إلى الإنسان هي عند ضعفهما وافتقارهما، فإذا لم يجداك في وقت الحاجة فمتى يجدانك؟ متى يجدانك تنتظرهما لتجدهما في عرصات القيامة؟
ولذلك يقول أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنا غير أني مرعش فاني
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والسكن مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي مثلان
أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحصله من المواضع واحبسها بجمدان
إن ترع ضأناً فأني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني
فلا بد من مراعاة حقهما عند حاجتهما وافتقارهما وكبرهما، وعلى الإنسان ألا يمل من خطابهما، فقد صبرا عليه في صباه عندما كان لا يعقل، فكان يبكي آناء الليل وأطراف النهار وهما يصبران على أذاه، فلذلك على الإنسان أن يتحملهما، وأن يصبر عليهما، وأن يعلم أنه إذا فارقاه فلن يجد من يتحمل له من المودة والمحبة والإخلاص والدعاء كما يتحمل له والداه.
وأذكر شيخاً من شيوخ الدعوة الإسلامية، من الدعاة المشاهير في العالم كانت له أم صالحة عابدة، فتوفيت رحمة الله عليها، وهو الشيخ جاسم المهلهل أبو معاذ فجاء إلى إخوانه فقال: إنه كان لي من أُترك في وجهه، وينوب عني في الصدقة والدعاء، ويعوذني وأنا مشغول في هموم الدعوة وأمور الدين، واليوم قد فقدت ذلك الإنسان الذي كنت أترك في وجهه، فدعوا لي وقتاً أحصن فيه نفسي. هذه الوالدة كانت تتصدق عنه، وكانت تدعو له، وكانت تعوذه، وكانت تحصنه وهو مشغول، فلما توفيت تذكر أنه قد بقي لديه فراغ كبير جداً في مكان أمه.
فعلى الإنسان أن يتذكر ذلك إذا ذهب والداه وماتا، أليس سيبقى لك فراغ كبير جداً في مكانهما؟ فلا بد أيضاً من الإحسان إليهما.
ثم قال في الوصية الثالثة: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151].
أوصى بالأولاد أيضاً وصية ثانية، وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى ولطفه ورفقه، فلما أوصى الأولاد بالوالدين، أوصى كذلك الوالد بالأولاد، فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، فحرم على الوالد قتل ولده؛ خشية أن يشركه في رزقه كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فأهل الجاهلية كانوا يقتلون الذكور من الأولاد ويئدونهم؛ خشية المشاركة في مالهم، ويقتلون البنات خشية العار منهن، فحرم الله ذلك، وهنا قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ[الأنعام:151]، فهذا يشمل الذكور والإناث، ويشمل الكبار والصغار.
وهذا القتل أنواع منوعة:
فمن القتل قتل عقيدة الولد، فتعويده صغيراً على الشركيات هو قتل له، وكذلك من القتل قتل خلق الولد، فتعويده صغيراً على الفاسد من الأخلاق هو قتل لمروءته، ومن القتل للولد قتل ثقافته وتعليمه، فإذا حيل بينه وبين التعلم في صباه فذلك قتل له:
أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وذا الجهل ميت وهو ماش على الثرى يعد من الأحياء وهو عديم
وكذلك من القتل للأولاد: ألا يعودهم الإنسان على ابتغاء مرضاة الله بالأعمال، فنقص الإخلاص هو من القتل؛ لأن الإنسان يذهب عمله هباءً منثوراً إذا لم يكن مخلصاً لله، وإذا عود في صباه على الإخلاص لله وقصد وجهه الكريم فذلك حياة له؛ لأنه سيعزم على ذلك ويقدم ما قدم وهو راضٍ به متقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وكل عمل أخلص فيه صاحبه فسيبارك الله فيه.
ولا شك أن مجتمعنا يحصل فيه كثير من القتل للأولاد من هذا القبيل، فكثير من الأولاد تنزع منهم الثقة في صباهم، فلا يؤتى بهم إلى المسجد، ولا يقامون في الصفوف، ولا يعودون على الطهارة، ولا يعلمون الأحكام، ولا تناقش معهم القضايا حتى أمور الدنيا، ولا يؤخذ رأيهم فيها، وهذا من القتل لهم؛ لأنه إضعاف لشخصياتهم وتقليل لشجاعتهم، فسيعيشون وهم أذلة، لا يستطيعون الكلام أمام الملأ، ولو قام أحدهم خطيباً لارتعشت بوادره، ولم يستطع أن يقول كلاماً، فكل ذلك بسبب قتل شخصياتهم وإضعافهم.
ومن هنا لا بد من تعويد الصغار على كل هذه الحقوق، وأداء حق الله فيهم؛ لئلا يقتل الإنسان شخصياتهم ومروءاتهم، أو دينهم، أو خلقهم، أو علمهم، أو شجاعتهم ونخوتهم، فكل تلك الأمور الإنسان مطالب بإحيائها لا بإماتتها.
ثم قال: مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151]، فـ(من) هنا ابتدائية، أي: ابتداء قتل الأولاد سببه الإملاق، أي: الفقر، وهو حاصل، أي الإملاق الذي حصل، أي: لا تقتلوهم بسبب الفقر، فإذا كنتم فقراء فإن ما لديكم من الغنى وما أنعم الله به عليكم كله من عند الله لا من عند أنفسكم، فلذلك قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، فبدأ برزقكم أنتم أولاً قبل رزقهم هم، وهذا الإملاق الحاصل. وفي الإملاق المتوقع انعكست الآية كما في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].
ولينظر إلى اللفتة البلاغية العجيبة، ففي سورة الأنعام قال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151] والإملاق هو الفقر قد حصل، فقال: من إملاق فابتدأ القتل منه. ثم قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، وهذا الإملاق الحاصل علاجه هو رزق الله، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151].
وفي آية الإسراء قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فهم حالاً أغنياء ولكنهم يخشون الفقر في المستقبل، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] أي: نرزقهم هم الذين لم يرزقوا بعد، وأنتم لديكم مال، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].
وهذا النوع هو من تدبر القرآن الذي ينبغي أن نعود أنفسنا عليه والمقارنة في أساليبه العجيبة البديعة.
قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].
هذه الوصية الرابعة، نهانا الله تعالى أن نقترب من الفواحش. والفواحش: هي الذنوب التي وصلت إلى درجة المبالغة في السوء والقبح، فالفاحش هو المتجاوز للحد، فيقال: فلان فاحش الطول، أو فاحش القصر، أي: متجاوز للمعتاد فيه، والذنب إذا تجاوز حد الكراهة الشرعية حتى كان مقيتاً شرعاً بغيضاً ذميماً كان فاحشاً، والفواحش تشمل الكبائر، ولكن الكبائر أخص منها، فكبائر الإثم داخلة في الفواحش، فكل كبيرة هي من الفواحش، لكن بعض الفواحش لا تدخل في حيز الكبائر، فإذاً كل كبيرة فاحشة من غير عكس.
ولهذا قال الله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ[النجم:32]، فبدأ بالأكبر وهو كبائر الإثم، ثم ذكر الأوسط وهو الفواحش، ثم ذكر الأدنى وهو الصغائر، فلهذا قال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ[النجم:32]، فهنا قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151].
وهذه الوصية هي نهي عن الاقتراب من الفواحش، فيشمل ذلك كل تسبب فيها، فالإنسان ضعيف، وهو إن استطاع أن يمسك نفسه عما حرم عليه، أو عما قبح به في المروءة أمام الناس إذا خلا به لا يأمن أن يقع فيه، فلذلك عليه أن يمنع نفسه أصلاً من مواقع التهم، ولا يعرض نفسه للامتحان: هل ينجح أو لا ينجح؟ أنت غني عن هذا الامتحان أصلاً، فلذلك لا تنظر إلى ما حرم الله عليك؛ لأنك إن نظرت قد تسوقك تلك النظرة إلى ما لا تستطيع كف نفسك عنه؛ ولهذا يقول الحكيم:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ويقول الآخر:
فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فيحتاج الإنسان إلى الابتعاد أولاً عن تلك الفواحش، فليحذر من أسبابها، فهي متدرجة في خطوات، كما قال أحمد شوقي :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فالفواحش كلها متدرجة، تبدأ بالشيء اليسير، ويظنه الإنسان لا يساوي شيئاً، وقد نكتت نكتة سوداء في قلبه، وحصل شرخ أو صدع في إيمانه، ثم لا يزال الأمر يزداد حتى يتسع الخرق على الراقع.
فلذلك على الإنسان أن يفر قبل أن يقع، فالإنسان بعد وقوعه يصعب عليه الفراق، فلذلك لا بد من الفرار عن بعد، وحاول يا أخي أن تستغني بحلال الله عن حرامه، وإذا أغناك الله بالحلال ولو كان قليلاً فاستغن به عن الحرام، ولا تعرض على نفسك أكل الربا، ولا تعرض على نفسك الاقتراب من أي محرم من المال، ولا تعرض على نفسك التفريط في أية أمانة من الأمانات، ولا تعرض على نفسك غش الناس في أي تعامل، ولا تعرض على نفسك الكذب في أية معاملة، ولا تطلب ربحاً بكذب في أية معاملة، ولا تعرض على نفسك، وكذلك في أمورك الخاصة أيضاً نظراً إلى حرام، أو استماعاً إليه، أو مجالسة لأهله، فإنه سريع العدوى، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينه قلباً غاوياً أين يمما
قضى وطراً منه وغادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
فلا بد أن يحرص الإنسان على الابتعاد، فالفرار الفرار من كل ما نهى الله عنه، فعلى الإنسان أن يحذر هذه المناهي، كما يحذر الأسد وكما يفر من المجذوم.
ثم بعد هذا قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151].
والفواحش أنواع منوعة:
فمنها الظاهر الذي يفعله الناس جميعاً، ولا يلوم بعض الناس بعضاً فيه، كالغيبة، والنميمة، والكذب، وازدراء المسلمين، واحتقارهم، والطعن في أنسابهم، والغش في البيع والتزوير، وغير ذلك من المحرمات الظاهرة المنتشرة بين الناس.
والقسم الثاني: هو المستور، وهو الذي لا يستطيع الناس فعله في الشارع، ولا في المكاتب، ولكنهم يخفونه، وهذا ما بطن منها.
وقد قال بعض أهل العلم: "(ما ظهر منها) هو عمل الجوارح. (وما بطن) عمل القلب". لكن التفسير الأول أظهر، وهو أن ما ظهر من الفواحش ما أعلنه الناس ونشروه، وأن ما بطن من الفواحش هو الشيء المكتوم الذي لا يشارك فيه كل أحد، ولا يفعله إلا متقياً ساتراً له.
ثم بعد هذا قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ[الأنعام:151].
هذه الوصية الخامسة: وهي الابتعاد عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
هنا ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: النفس التي لم يحرم الله قتلها، وهي نفس الكافر الحربي.
الدرجة الثانية: النفس التي حرم الله قتلها بسبب، أو كانت في الأصل محرمة لسبب عارض، مثل نفس كافر يدفع الجزية للمسلمين وهو الذمي، أو الكافر الذي بينه وبين المؤمنين عهد وهو المعاهد، أو المؤمن الذي لا يحل دمه في الأصل، ولا يحل الاعتداء عليه إلا بالحق.
والدرجة الثالثة: هي المؤمن أو المعصوم الدم الذي لا يمكن الاعتداء عليه بوجه من الوجوه.
فإذاً الدرجات ثلاث:
أولاها مباحة مطلقاً وهي نفس الكافر الحربي في الأصل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ[التوبة:5].
والدرجة الثانية مباحة لعارض كالمسلم الزاني المحصن، أو القاتل عمداً عدواناً، أو الذمي، أو المعاهد الذي قتل عمداً عدواناً، أو اعتدى على المسلمين.
والدرجة الثالثة: هي المعصومة، وهي نفس المؤمن والمؤمّن، فالعصمة تكون بإيمان أو أمان.
فهذه ثلاث درجات، فلذلك قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ[الأنعام:151]، فهذا يشمل نفس الإنسان التي بين جنبيه، فلا يحل له أن يقتلها إلا بحق، وحقها هو الجهاد في سبيل الله، فإنما حرم الله تعالى قتل الإنسان نفسه إذا كان ذلك ظلماً عدواناً، فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً[النساء:29-30].
وهذا المفعول لأجله وهو قوله: عُدْوَاناً وَظُلْماً[النساء:30]، مفهومه أن من فعل ذلك إيماناً واحتساباً لا ينطبق عليه الحكم.
إن كل مشاركة في قتل مسلم فهي جريمة كبرى من أكبر الكبائر، وهي مخالفة لوصية الله الخامسة في هذه الآية، وهذه المشاركة ليست المشاركة بالسلاح فقط، بل المشاركة بشطر كلمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو بشطر كلمة) كأن يقول: اق، وهو يقصد اقتل فلا يكملها، فهي مشاركة في قتل وهي هلكة على الإنسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً[النساء:93]، فهذا التهديد العظيم من الله تعالى الذي يقتضي الخلود في النار أمر عظيم؛ لأنه يقتضي سوء الخاتمة.
ولذلك لا بد من الحذر من الفتن التي تؤدي إلى القتل، فلا بد أن يشيع الناس الأمن الاجتماعي فيما بينهم، حتى يأمن الإنسان على نفسه وماله، فكل ما يؤدي إلى الفتن والحروب الأهلية والمشكلات فهو مسدود شرعاً، ولا يحل للإنسان أن يسعى إليه ولو بشطر كلمة، ولا بد من سد هذا الباب نهائياً فلا فتح له، ولذلك ما فتح إلا رفع السيف على الأمة، والناس كثيراً ما يتساهلون في قضية الدماء في الفتن، فإذا وقع خلاف في أرض من الأراضي، أو وقع خلاف في مزرعة، أو على مال، أو حصلت خصومة بين اثنين، فكثيراً ما ينزغ الشيطان فتقع الدماء، وهذا ما سده الشارع وحرمه.
كذلك فإن من أسباب القتل أيضاً: فشو الفواحش، فأنتم تسمعون ما يشيع من القتل هنا على شاطئ المحيط، سببه الفواحش، وذلك بأن يتنافس اثنان في معصية من معاصي الله نسأل الله السلامة والعافية، فيقتل أحدهما الآخر؛ بسبب تلك المعصية، وهذا من شؤم الذنوب، فلذلك لا بد من سد كل باب يؤدي إلى القتل، ولا بد أن يعيش الناس بأمان وأمن، ولا يمكن أن يصلوا إلى الرخاء المنشود المطلوب، ولا أن يأمنوا ويطمئنوا في أداء نسكهم وعباداتهم وشعائرهم إلا إذا حصل الأمن، وهذا الأمن مطلب شرعي لم يأت نبي قط إلا بالحفاظ عليه، وهو من أبلغ ما يحقق مصالح أهل الأرض، ولو لم يقع الأمن في بلد من البلدان هل سيبني أهله مصانع؟ هل سيحسن أي إنسان منهم بناء بيته وزخرفته؟ ما فائدة ذلك وهو عرضة للتهديم في كل وقت.
قال بعد ذلك: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[الأنعام:151]، هذه الوصايا الخمس الأول وصاكم الله بها لعلكم تعقلون، فدل هذا على ارتباطها بالعقل، فمن كان مشركاً بالله فهو غير عاقل، ولذلك يشهد على نفسه بهذا يوم القيامة: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10-11]، ومن كان عاقاً لوالديه فإنه لا يعقل، إذ لو كان يعقل لأدى حقهما، فهما أولى الناس بحسن صحابته، ومن كان قاتلاً لأولاده معتدياً عليهم لا يعقل، لأنه امتداد في عمره وزيادة فيه، فإذا قطع ولده فكأنما قطع يده أو عضواً منه.
وأولادنا مثل البوارق أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد
وكذلك من يبادر إلى المعاصي ولا يريد أن يبقى باب من أبواب جهنم إلا طرقه -نسأل الله السلامة والعافية- لا يعقل؛ لأنه يبارز الله بالمعصية وهو ينظر إليه، وكذلك من سعى لقتل النفس التي حرم الله لا يعقل؛ لأن في قتلها قتلاً له هو، فالقتل أنفى للقتل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:179]، فلذلك قال: (لعلكم تعقلون).
ثم قال في الوصية السادسة: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ[الأنعام:152].
هذه وصية عظيمة في المجال الاجتماعي: وهي رعاية حقوق الآخرين، وبالأخص من كان ضعيفاً منهم، كاليتيم الذي توفي والده وراعيه وهو صغير، وليس له من يرعى ماله ويدافع عن حقوقه ويقوم بها، فلذلك بالغ الشارع في حماية حقه؛ لأنه عرضة لأن ينتهك حقه، فقد جعل الله من أكبر الكبائر أكل مال اليتيم، وحذر منه غاية التحذير: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[الأنعام:152]، والتي هي أحسن هي المعاملة، كأن تبيع إليه أو تشتري منه فهذا جائز، فإنه وإن كان أكلاً لماله فهو بالتي هي أحسن؛ لأنك أخذته منه وأعطيته.
وهذه المعاملة تنقسم إلى قسمين: إلى معاملة بالعقود والبيوع والأشرية، وإلى معاملة بالخلطة: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ[البقرة:220]، كمن يعيش معه في بيته يتيم فيطعم من طعام اليتيم ويطعمه هو ويعيش معه فيما هو فيه، فهذا النوع من المخالطة التي ليس فيها اعتداء هي إصلاح وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ[البقرة:220]؛ لذلك قال: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[الأنعام:152]، وأل في اليتيم جنسية تشمل الذكر والأنثى، وتشمل العبد، والكثير والقليل، فكل أولئك قد نهى الله عن أكل أموالهم، وقد بين الله تعالى حافزاً عجيباً في التعامل مع اليتامى فقال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً[النساء:9].
وإذا كنت يا أخي تخاف على أولادك أن تموت أنت الليلة أو غداً، فيبقون في ضيعة لا يبالي بهم أحد ولا يرعاهم أحد، فانظر إلى حقوق إخوانك الذين ماتوا وتركوا أولادهم الضعاف الصغار، هل ستتركهم للضياع؟ هل ترضى أن يترك أولادك لو مت للضياع، إذا كان الحال كذلك فعليك ألا تترك أولاد المسلمين ويتاماهم للضياع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وقال: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر )، فهذا يقتضي شهادة في سبيل الله، وصياماً وقياماً لأمر أنت ما تعبت فيه، فمجرد نفقة على يتيم تنال بها هذا المقام العالي مقام المجاهد ولا تتهم بالتطرف ولا بالإرهاب، ومقام الصوم الذي ليس فيه ظمأ ولا عطش، ومقام قيام الليل الذي ليس فيه سهر، تنال ذلك بمجرد دريهمات تقدمها ليتيم أو أرملة أو فقير، فهذا الخير الكثير الذي حضنا الله عليه وبينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بنا أن نتنافس فيه، وأن يحرص كل إنسان منا عليه.
فالأنصار عندما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً هو وأصحابه حضهم على النفقة على الفقراء واليتامى، فكانوا يتنافسون، وكلما سمع أهل بيت من الأنصار بيتيم رحل إليه الرجل والمرأة يبتدرانه فيأخذانه، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وله يتيم يربيه، فكلما بلغ يتيم بحثوا عن آخر يجعلونه مكانه، وكانوا يحبون أيتامهم حباً شديداً، وفي الصحيح عن أم حرام رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بيتهم، فجاءت اليتيمة -يتيمة أم حرام - فوضعت يدها على كتف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لعنك الله، فبكت أم حرام بكاءً شديداً، فقالت: يا رسول الله! أتلعن يتيمة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أما علمت العهد الذي بيني وبين ربي أن من لعنته ممن لا يستحق اللعن أن يجعل ذلك له رحمة).
فكل بيت من بيوت الأنصار كان فيه يتيم، كما كانوا يبتدرون المهاجرين، وكل من دخل إلى المدينة جديداً ابتدره الأنصار فأنزلوه، حتى كانوا يقترعون على بعضهم، فلذلك حضنا الله سبحانه وتعالى على القيام بحقوق اليتامى فقال: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[الأنعام:152]، وهذا النهي عن الاقتراب منه، بحيث لا يتصرف فيه الإنسان، ولا يأخذ منه شيئاً، ولا يتلف منه أي شيء.
ثم قال: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ[الأنعام:152] ونهاية ذلك بلوغه، فإذا بلغ فقد أصبح راعياً لمصالح نفسه، وقد بقي ما كان محرماً من ماله محرماً لكن لم يعد في غلظ حرمة مال اليتيم، فالغاية هنا وهي: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ[الأنعام:152] ليست غاية لتحريم المال، لكن التغليظ في مال اليتيم هو الذي ينتهي ببلوغه أشده حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ[الأنعام:152] فحتى للغاية، والمقصود بها غاية التغليظ لا أصل الإباحة، فإن البالغ العاقل المسلم ماله حرام إلا عن طيبة نفس منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه)، لكن التغليظ في مال اليتيم هو الذي ينتهي ببلوغه أشده، والأشد هو: تمام خلقة الإنسان فلا يكفي فيه مجرد البلوغ، فقد يبلغ الإنسان وهو سفيه فحينئذٍ لا يكون قد بلغ أشده، لكن إذا بلغ رشيداً مدبراً فهذا قد بلغ أشده، وليس لذلك سن محصورة معينة؛ لأن السفه والرشد مما يتفاوت فيه الناس.
قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ[الأنعام:152]، كذلك بين الله تعالى في الوصية السابعة الوصية بإحسان التعامل في البيوع، فإن البيوع والعقود كلها منبثقة عن الشرف والدين، ( فلا إيمان لمن لا أمانة له )، فلهذا على الإنسان أن يكون أميناً في العقود، ومن ذلك أن يوفي الكيل في المكيلات، وأن يوفي الوزن في الموزونات، فإذا كان ينقص من الكيل والوزن فهذا ظلم للناس.
وهذا يشمل كل شيء، فما يحصل في بعض الأحيان في محطات البنزين بنقص سنتيمترات، فيكون اللتر مثلاً ناقصاً خمسة سنتيمترات، فهذا النوع هو من نقص الكيل الذي حرمه الله وأوصانا بالابتعاد عنه، وما يحصل كذلك في الذرع في اللباس، وهكذا في كل المكيلات والموزونات فإنه داخل في هذا.
ومثل ذلك الغش في البضاعة نفسها أن تكون مزورة، وأن توضع عليها ماركة تجارية ليست لها، وأن يكون تصنيعها ليس على وفق المقاييس، وفي ذلك من الضرر الشيء الكبير، مثلاً إذا كان اللبن الذي يشربه الأطفال مزوراً فوضعت فيه مواد أخرى غير خاضعة للمقاييس، أو كانت الأدوية التي يستعملها الناس من أجل العلاج على غير المقاييس، فهذا ضرر فاحش، فلذلك قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ[الأنعام:152]، والقسط العدل، فعلى الإنسان أن يتذكر أن أمامه ميزاناً آخر له كفتان ولسان، كفته اليمنى للحسنات وكفته اليسرى للسيئات، وهذا الميزان يتأثر بوزن الذرة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه[الزلزلة:7-8]، فلا بد من الصدق والأمانة في العقود، ولذلك فإنه قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ[الأنعام:152] الجار والمجرور هنا متعلق بأوفوا، وهو يقتضي المبالغة في الوفاء؛ لأن الوفاء فهم أصلاً من قوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ[الأنعام:152]، لكنه زاد على ذلك (بالقسط) أي: بالعدل.
ثم بعد ذلك قال: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[الأنعام:152]، بين أن هذا الكيل وهذا الوزن من الأمور التي قد يقع فيها قصور في بعض الأحيان، فالميزان قد لا يكون دقيقاً مائة بالمائة، والموازين متفاوتة، والمكيال قد لا يكون منضبطاً مائة بالمائة، لكن هذه الأمور قد نفى الشارع فيها الحرج، فأنت اشتريت هذه البضاعة كما هي، وأتيت بها، فما وجد فيها بعد فتحها من الخلل لا يعنيك؛ لأنك أنت اشتريتها على البرنامج وبعتها على البرنامج.
وهذه حقائب مثلاً من الأرز اشتريتها، فأكلت الفأرة منها شيئاً تساقط منها الشيء اليسير الذي لا يكون نقصاً ولا عيباً، فهذا النوع معفو عنه: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[الأنعام:152]، والوسع هو الطوق، فما لا يسع الإنسان ولا يستطيع العدول عنه لا يكلفه: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[الأنعام:152].
ثم جاءت الوصية الثامنة وهي قوله: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[الأنعام:152]، فإذا قلتم في الشهادة، أو الجرح والتعديل، أو في ذكر الناس فاعدلوا، ولا بد أن يكون الإنسان صادقاً في تقييم الآخرين وفي الشهادة لهم، دقيقاً في ذلك، فشهادة الزور من أكبر الكبائر، وقول الزور من أعظم الفجور، والناس يتجاسرون على قول الزور وشهادة الزور تجاسراً عظيماً جداً، والغريب في الأمر أن الإنسان يعطي بطاقة تعريفه لآخر، فيكتب شهادة لا علم له بها، ولم يطلع عليها، وفيها اسمه ورقم بطاقته، وتثبت عند المحكمة، وهو لا علم له بها، ماذا سيقول إذا عرضت عليه بين يدي الله يوم القيامة؟ ألم يقل الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، ألم يقل: إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، فلا بد من العلم مع الشهادة، ولا بد من الدقة في أدائها والصدق، فعلى الإنسان أن يحذر القول من غير عدل، حتى لو كان ذلك مع عدو له، فقد قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا[المائدة:2].
فالكفار من اليهود والنصارى والمشركين إذا تكلم فيهم المؤمن لا بد أن يكون صادقاً في كلامه، وألا يتجاوز المعروف الذي يتكلم به، فإذا شهد عليهم بما ليس فيه فقد ظلم، وسيحشر إلى الله سبحانه وتعالى وهو الحكم العدل، ولذلك لا بد أن تكون شهادته دقيقة صواباً.
وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه عندما ذكر عنده النصارى، وأنهم سيأتون قروناً كلما ذهب قرناً خلفه قرن، ذكر عمرو ما يعرف فيهم، فذكر أنه يشهد لهم بخمس صفات منها: أنهم أسرع الناس كراً بعد فر، أي: إذا انهزموا وهربوا هم أسرع الناس رجعة، وذكر أنهم أرعى الناس لفقرائهم، وأنهم أحمى الناس لحريمهم، وذكر ما شهد به وعرفه منهم في ذلك الوقت، فلذلك لا بد أن يكون الإنسان عدلاً في حكمه على الناس، ومن الغريب أن الإنسان إذا رضي يمدح بما ليس في الإنسان، فيبالغ في المدح بأمور سامعها يعلم أنها ليست فيه، والناطق بها يعلم كذلك أنها ليست فيه كما هي تدخل السرور على من وصف بها؛ لأنه يعلم أنها غير صحيحة، وصاحبها الذي يتكلم بها يعلم أن من يعلم أنها غير صحيحة سيحتقره.
وهكذا في كل الأمور وفي الجرح أيضاً كثير من الناس إذا غضبوا تنقصوا الناس، فذكروا من العيوب والمخازي والعجر والبجر ما لا يخطر على بال، فكأنهم يبحثون عن تلك المعايب وينقبون عن تلك النواقص، فلا يجدون عيباً ذكر من قبل ولا هدي به إلا أنزلوه في هذا الإنسان، وهذا إنما هو من الشطط والجور، فلا بد أن يكون الإنسان عدلاً يقتصد في نفسه ويقتصد في علمه، فإذا ذم إنساناً لا يذمه بما ليس فيه فإن هذا ظلم، وإذا مدحه أيضاً لا يمدحه بما ليس فيه فإن هذا ظلم كذب، ولذلك قال: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، حتى لو كان المشهود عليه ذا قربى؛ والداً أو ولداً أو أخاً أو صديقاً، لا يحملنك قربه على أن تكذب بشهادته.
ثم جاء بالوصية التاسعة فقال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، وهذه وصية من وصايا عظيمة من هذه الوصايا وهي الوفاء بعهد الله، وهذا العهد من أوسع ما يمكن أن يتصوره، فنحن عاهدنا الله في عالم الذر على أن نعبده ولا نشرك به شيئاً: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61]، هذا من عهد الله الذي بيننا وبينه أن نعبده وألا نشرك به شيئاً، وكذلك من عهد الله ما عهد إلينا به من العبادات والطاعات، فالصلاة من عهد الله، وكل مفرط فيها فقد ضيع أمانة الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )، وقال: ( حد ما بين المرء والشرك والكفر ترك الصلاة، ومن تركها فقد كفر )، وقال: ( خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حفظهم وحافظ عليهن كان له عهد على الله أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن عنده من الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ).
فهذا العهد الذي بينك وبين الله يشمل صلواتك، ويشمل أيضاً حقوقك واهتماماتك، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ). وقال عليه الصلاة والسلام: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر )، وقال: ( ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ينادى عليه على رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان ابن فلان ).
فلذلك لا بد أن يحذر الإنسان من الالتزام بما لا يستطيعه، ولا بد أن يحافظ على ما عاهد عليه، ولنعلم جميعاً أن كثيراً من الناس يلقي العنان للسانه فيلتزم كثيراً من الوعود التي لا يستطيعها، فليس هذا مختصاً للسياسيين الذين يعلنون برامج انتخابية ثم لا يوفون بها، بل هو شامل كذلك لكثير من الناس حتى الشخص مع أولاده يعدهم بكثير من الوعود ثم لا يفي بها، ويعد أهله بكثير من الوعود ولا يفي بها، والمرأة تعد أولادها وتعد أهل بيتها بكثير من الوعود ولا تفي بها وهذا من النوع، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تقول لولدها: تعال أعطيك، فسألها: ( بماذا تعده؟ قالت: تمرة، قال: أما إنك لو لم تفعلي للفحتك النار ).
فعلى الإنسان إذا وعد إنساناً بأي شيء أن يفي له بوعده، ولهذا فإن العرب يقولون:
يتفيهق العمر المغمر مسكباً والمسقع العد القريحة موجز
الله يعلم أن هذا عاجز فيما يقول وأن هذا معجز
فالوعد يقوى المخلفون بحمله ويهاب عقدة حمله من ينجز
فالوعد يتجاسر عليه من لا يريد إنجازه، ومن يريد إنجازه يشق عليه ويفكر بين يديه؛ لأنه يعلم أنه قد تحمل أمراً عظيماً والإنسان مؤاخذ بقوله، مؤاخذ مكلف بإقراره، فلذلك قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152]. وهذه الوصايا الأربع سبب للذكرى والانتفاع بالعلم.
ثم ذكر الوصية العاشرة وختم بها، فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
هذه الوصية العاشرة هي أم الوصايا كلها، فكل الوصايا السابقة هي داخلة في صراط الله المستقيم، وصراط الله المستقيم يشمل: التوحيد، والعبادة، وأداء الأمانات، وترك المحرمات، فكل ما سبق هو صراط الله المستقيم، وقد أوصانا الله بهذا الصراط وهذا الصراط لا بد أن نجعله جل اهتمامنا، ولا بد أن نفكر فيه، ولا يمكن أن يعيش الإنسان عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو خمسين سنة يرفل في نعم الله تعالى الضافية، وخيراته الكافية ثم بعد هذا يموت وإذا هو لم يدر في خَلَده يوماً من الأيام مصلحة هذا الصراط المستقيم، ولم يفكر في نصرته، ولم يفكر بإلزام الناس به، ولم يعمل بذلك أي عمل هل هذا الموقف مشرف أو مخزي؟ لا شك أنه موقف مخزي، فلذلك لا بد أن يدور أمر الآخرة بخلد كل إنسان منا، وأن يدور أمر الدين بخلده، كما تفكر بمصالح الدنيا فكر بمصلحة الدين، فكر ما الذي يقوي هذا الدين في هذا البلد الذي أنت فيه؟ وما الذي يزيد الناس اهتماماً بالدين؟ وما الذي يزيد الناس خوفاً من الله؟ وما الذي يزيدهم اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاسعَ لذلك وبادر إليه، وهذه وصية الله.
وهذا الصراط المستقيم الذي هو المحجة التي يضاء ليلها كنهارها هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي هو جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فالذي يميل عن الصراط الدنيوي يميناً أو شمالاً كلما لاح له طمع اتبعه، وكلما لاح له خوف فر منه، وكلما فتح له باب سلكه، وكلما دعي إلى مخالفة بادر إليها، فهذا سقط عن الصراط الدنيوي في بنيات الطريق يميناً وشمالاً، وسيسقط لا محالة عن الصراط الأخروي فوق جهنم نسأل الله السلامة والعافية.
وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط الدنيوي بلاحب، أي: طريق معبد بين سورين وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب الستور، وفي كل باب داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب، فإنك إن تلجه لن تخرج منه، فمعاصي الله في هذه الأبواب المفتحة وعليها ستور وهي ما يجده المؤمن في قلبه من الوازع الذي يمنعه من المعصية، ففي كل باب داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، ويسقط الإنسان سقطة لم يكن يقدرها إذا وقع في معصية من معاصي الله الكبار.
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام:153]، وصف الله هذا الصراط بالاستقامة فهو موصل إلى الله لا محالة.
وهذا الصراط هو المستقيم، وهو الذي يفصل كل المصالح، وهو الذي يحمي كل الحقوق، فليس فيه أي عوج ولا ميل، وليس فيه أي شطط وليس فيه إفراط وليس فيه تفريط، وليس فيه عجز، وليس فيه قصور، وليس فيه ثغرات يحتاج إلى سدها ككل القوانين الوضعية، وليس فيه مشكلات يحدثها ككل هموم الدنيا، فأنت لا تقدم على قرار من قرارتك المصلحية الدنيوية إلا وله إيجابيات وسلبيات، لكن صراط الله المستقيم ليس له سلبيات بل إيجابياته متمحضة، بخلاف كل ما نقدم نحن عليه من مصالحنا الدنيوية لها إيجابيات والسلبيات، فلذلك قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، أي: اتبعوا هذا الصراط وهذا أمر للكبير والصغير والعالم والجاهل، والذكر والأنثى هم جميعاً مأمورون باتباع صراط الله المستقيم.
ثم قال: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، هذا توكيد لهذه الوصية، وهي تحذير من السبل التي تتفرق عن هذا الصراط وهي درجات طريق، فكل أصحاب الفتن يدعون إلى طرق لهم، وتلك الطرق مضلة عن الصراط المستقيم.
وقد صح في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً، وخط خطوطاً عن يمين ذلك الخط، وخطوطاً عن شماله، ثم وضع إصبعه على الخط الأول، فقال: هذا صراط الله مستقيم، ووضع إصبعه على تلك الخطوط الصغيرة، فقال: هذه السبل المحيطة به، ثم قرأ هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:153] ).
فنهانا عن اتباع السبل وبين ضرر اتباعها؛ لأنها ستتفرق بالإنسان عن سبيل الله، فيميل معها وتميل به عن طريق الحق، فإما أن يصاب بغرور فيظن أن ما هو عليه إنما هو الصراط المستقيم، أو أن يصاب بإحباط فيندم حيث لا ينفع الندم، أو أن يتمسك بمعصية من المعاصي وهو يظنها طاعة، فيكون من أهل الهوى والتعصب، أو أن يبالغ في تقليد غير المعصوم فيقلده بالحق والباطل، فكل ذلك من هذه البليات من بليات الطريق التي لا بد من الحذر منها.
قال: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:153]، (عن سبيله) الضمير محتمل لأمرين، فيمكن أن يعود على الرب جل جلاله، ويمكن أن يعود على الصراط المستقيم، والصراط بالصاد وبالسين سمي صراطاً؛ لأنه يبتلع من يخلف فيه كأنه صرطه أي: ابتلعه، فالذي يدخل فيه قد ابتلعه الصراط.
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
والصراط هو الطريق.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، (ذلكم) الإشارة هنا للبعد؛ لأنه جيء بها باللام والكاف، وهما للبعد، والمقصود بالبعد هنا التعظيم، فكل ذلك معظم شرعاً، فأشير إليه بإشارة البعيد تعظيماً له: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:153]، أي: وصاكم الله به.
والوصية: هي التحريض على فعل الأمر، ومعنى ذلك أن الله أرسلنا إلى هذه الدنيا ولسنا من أهلها، فشرع لنا ما يقتضيه منا وأوصانا به، ثم بعد ذلك نعود إليه جل جلاله عندما نعرض إليه، وحينئذٍ لن نجد إلا أعمالنا كما قال فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] فمن التزم الصراط المستقيم وألزم نفسه به فسيعينه الله على التقوى، وهذا سبب من أسباب التقوى ولزوم الصراط المستقيم، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر