إسلام ويب

فتنة المالللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله سبحانه وتعالى هذه الدار داراً للامتحان والابتلاء، فإذا عرف العبد أنه مبتلى وجب عليه الحذر من المخاطر المحيطة به؛ والتي الاسم الجامع لها الفتنة بجميع أنواعها, وخاصة فتنة المال التي يفتتن بها الفقراء والأغنياء, وفتنة المال خطيرة جداً خاصة إذا تعلق بها قلب العبد وأحبها, وسعى في تحصيلها بأي الوسائل والطرق.

    1.   

    الغاية من خلق الحياة الدنيا

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدار داراً للامتحان والعمل، وجعل بعدها الآخرة داراً للجزاء والمحاسبة، فعيش الإنسان في هذه الحياة هو ابتلاء وامتحان له، وستعرض نتيجته يوم العرض على الله تعالى عندما ينادي المنادي في الناس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، حينئذ تعرض نتيجة العمل الدنيوي، فينقسم الناس إلى قسمين: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].

    فيحتاج الإنسان إذاً إلى معرفة أنه ممتحن ومبتلى في هذه الدار، وأنه ساع للنجاح في الامتحان، وأنه قد بدأ الآن وقت المسابقة والتغابن، فكل ساعة تمضي من عمره إنما هي وقت من وقت الامتحان يحسب عليه، ولهذا فإن الله تعالى يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

    يحتاج الإنسان إلى أن يعرف أنه في هذه الدار جاء للامتحان، وأنه قد بدئ بكتابة ما يمليه في امتحانه، فالملائكة يكتبون ليل نهار، لا تتوقف كتابتهم إلا عند رفع القلم عنه في حال نومه أو في حال إغمائه أو نحو ذلك, ومن هنا فقد بدأ المسابقة الجادة، وقد قال الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

    وإذا عرف الإنسان ذلك خشي على نفسه من الرسوب، واجتهد فيما ينجح به بين يدي الله تعالى، وبداية نجاحه أن يعرف المخاطر التي تهدده، وأن يطلع عليها لينجو ويحذر منها قبل أن يفوت الأوان، وهذه المخاطر الاسم الجامع لها هو الفتنة.

    1.   

    مقدمة في الحديث عن الفتن

    معنى الفتنة في اللغة

    والفتنة تطلق في اللغة على إذابة الذهب لإزالة ما فيه من النحاس وغيره، فيقال: فتن فلان ذهبه أي: أذابه حتى يخرج ما فيه من الغش، وتطلق كذلك على مخالطة الجن؛ لأنها تغلب على العقل، وبذلك فسر قول الله تعالى: بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:6] أي: بأيكم الجنون، فقد زعمت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بجنون, فرد الله عليهم ذلك فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:1-6]، أي: بأيكم الجنون.

    وكذلك تطلق الفتنة أيضاً على الردة عن الإسلام؛ لأن صاحبها قد طرد عن باب الملك الديان، ولهذا قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]، وقال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، فالفتنة هي الردة، فالموت خير للإنسان من الكفر بعد أن يدخل في الإيمان، ولهذا قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فهذا بيان بأن الفتنة أكبر من القتل.

    إطلاق الفتنة على الامتحان

    وتطلق الفتنة كذلك على الامتحان، وهي من المعنى الأول؛ لأن إذابة الذهب يخرج ما فيه من الغش، فكذلك الامتحان عنده يكرم المرء أو يهان، فيعرف الصادق من الكاذب، ولذلك قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فقوله: (فتنةً) أي: امتحاناً وابتلاءً، فما يقدره الله تعالى على عبده في هذه الحياة إنما هو امتحان وابتلاء، فإن شكر النعمة استحق الزيادة، وإن صبر على البلاء فكذلك أجر أجراً غير محدود، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وإن لم يشكر النعمة فكفرها ولم يصبر على المحنة فإنه راسب في الامتحان, ولا يمكن أن يقبل منه صرف ولا عدل، فلذلك ابتلانا الله سبحانه وتعالى -أي: امتحننا- بالتمكين لنا، وبما آتانا من أنواع النعم، وابتلانا أيضاً بما يسلط علينا من الأمراض والأسقام وغير ذلك من أنواع البلاء، فكل ذلك امتحان للناس.

    كما أن من امتحان الله لعباده محنة التكليف، فالإنسان قبل أن يكلف مرفوع عنه القلم، وتصرفه لا يكتب له منه إلا ما عمل من الخير، وما سوى ذلك فلا يكتب، فإذا كلف فقد امتحن امتحاناً عظيماً وابتلي، فهو كان في فسحة من عمره، وقد خرج منها ووصل إلى حيز أن تكتب أعماله وأقواله؛ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].

    ثم إن عرض الأمانة على الإنسان كذلك هو امتحان وابتلاء، وأعظمها: أمانة بعثة الأنبياء، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: ( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، فقوله: ( إنما بعثتك ) هذا خطاب من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: ( لأبتليك ) أي: امتحنك, وقد نجح قطعاً في الامتحان، فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة, وأدى الأمانة، وقد شهد الله له بذلك فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

    وقوله: ( وأبتلي بك ) أي: أمتحن الناس برسالتك إليهم، فهذه الرسالة من أخذها بحق, واستسلم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وانقاد له، وقدمه على هواه وعلى طاعة كل من سواه فقد نجح في الامتحان، ومن لم يفعل فإنه لا يؤمن, كما قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

    وامتحانات الإنسان في عمره متكررة بهذه التكاليف المؤقتة، فكل رمضان أتى على الإنسان فهو امتحان له، وكل وقت صلاة أتى عليه فهو امتحان له، ووقت الحج امتحان له، ووقت أداء الزكاة امتحان له، وما يعرض عليه كذلك من فتن الدنيا كلها امتحان له، فإذا نظر إلى منظر من أمور الدنيا فهو امتحان له، فإن كان ذلك النظر حلالاً فهي نعمة أنعم الله بها عليه حين متعه بنعمة البصر، وإن كان حراماً فقد رسب في ذلك الامتحان؛ لأنه عرض عليه فلم يكف عنه، فكل هذه الامتحانات متوافرة على الإنسان، وبهذا يحتاج الإنسان إلى التعرف عليها في كل دقائقه وثوانيه.

    أنواع الفتن

    ثم إن من أنواع الفتن ما يكون عاماً على الخلائق، ومنها ما يكون مخصوصاً، فمن الفتن العامة على الخلائق: أشراط الساعة, فتسمى فتناً؛ لأنها ابتلاء للناس بما كانوا يؤمنون به في الغيب حين يخرجون إلى عالم الشهادة، فنحن الآن نؤمن بها وهي غيب، فإذا ظهرت إلى عالم الشهادة فإنها امتحان حينئذ، ويظهر بها من كان مؤمناً ومن كان منافقاً أو كان مرتاباً؛ ولهذا سميت الملاحم وما بين يدي الساعة من الأمور الكبار بالفتن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) .

    وتسمى الحروب والمشكلات التي تقع بين المسلمين فتنةً أيضاً؛ لأنها ابتلاء وامتحان للمسلمين في جراءتهم وجسارتهم على ما حرم الله عليهم، فأنتم تعلمون أن من أكبر الكبائر وأعظمها عند الله: الاعتداء على أرواح الناس، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً )، فالمسلم ما دام لم يصب دماً حراماً فإنه لم يتلوث إلا بأمر يستطيع التخلص منه بالتوبة وبغير ذلك من مكفرات الذنوب، فإذا أصاب دماً حراماً فإنه قد دخل في حيز التلطخ بما لا يستطيع الخلاص منه؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:92-93].

    فهذا التغليظ الشديد في استحلال دماء المسلمين هو وجه تسميتها بالفتن؛ لأن الإنسان إذا اعتدى على دماء المسلمين فكأنما قتل جميع الخلائق بقتله لنفس واحدة، كما قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].

    ومن هنا سمي ذلك كفراً، وهو الكفر الأصغر أي: كفر دون كفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته للناس في حجته: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .

    وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على قتل صاحبه ) .

    وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، والمقصود بذلك: كفر دون كفر، فما يقع بين المسلمين من الحروب هو من قبيل الفتن؛ لأنها ابتلاء في الدين، ولهذا سمي ما شجر في الصدر الأول من هذه الأمة بالفتنة؛ لأنه حصل بين المسلمين ولم يكن ذلك معهوداً، فقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التحذير، وما يحصل بعد ذلك من الحروب بين المسلمين هو نظير هذا، وما ذكر منها في الصدر الأول قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، فقوله: (لا تكرهوا الفتن) أي: لا تكرهوا وتتسخطوا القدر الذي حصلت به، وليس معنى (ألا تكرهوها) أي: لا تكرهوا وقوعها، بل المقصود: ألا تتسخطوا القدر الذي به حصلت، ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، أي: يزيل الله تعالى بها الظالمين بالظالمين، فيتخلص أهل الأرض من شرورهم.

    إطلاق الفتنة على تعلق الهوى بالشيء

    والفتن تطلق أيضاً على تعلق الهوى بالشيء، فإذا تعلقت نفس الإنسان بالشيء تعلقاً زائداً فإنه مفتون به، ولهذا كان العرب يسمون صاحب الهوى مفتوناً؛ لأنه متعلق القلب بما أحب وهوي من أمور الدنيا، فكل هذه الأمور يجمعها جماع واحد وهو تغطية العقل ومخالطته، أو تغطية الدين ومخالطته، فهذا هو الذي يجمع الفتنة.

    خطورة الفتنة

    والفتنة أمر مقيت، وهي سبب للإضلال والهداية، فالله سبحانه وتعالى إذا أرسل الفتن أضل بها أقواماً، وهدى آخرين بالتوفيق فيها، ولذلك فالقلوب كلها تعرض عليها, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تعرض القلوب على الفتن كأعواد الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب شربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب كرهها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض تنبو عنه الفتن ولا تخالطه، وقلب أسود كالكوز مجخياً لا ينجو من فتنة ) . فالقلوب كلها تعرض عليها الفتن كأعواد الحصير واحداً واحداً.

    وجوب الاستعاذة من الفتن

    ومن هنا فإن الاستعاذة من الفتن من الواجبات، فيجب على الإنسان أن يستعيذ منها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعوذوا بالله من أربع: من فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ) .

    وكذلك فامتحان الإنسان عند الموت يسمى فتنةً, وهي فتنة المحيا، وكذلك امتحانه في القبر بسؤال الملكين يسمى فتنةً؛ وهي فتنة الممات، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس قال في خطبته: إنكم تفتنون قريباً من فتنة المسيح الدجال في قبوركم، فيؤتى الرجل فيقال: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس.

    وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هاه هاه، لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطارق من حديد بين قرنيه فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، نسأل الله السلامة والعافية!

    وفتنة القبر هذه هي امتحان مثل امتحان الإنسان في الحياة.

    وحكمتها: أن الإنسان إذا مات نسي -بمجرد ضمة القبر- كل ما مر عليه في الحياة، فكل ما مر على الإنسان في هذه الحياة من أنواع الفتن سواءً كانت بالخير أو بالشر ينساه الإنسان بالضغطة الأولى وهي ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ولا ينجو منها أحد، وهي تنسي الإنسان كل ما مر به من الخير والشر، فلذلك يمتحن بعدها بسؤال الملكين؛ تذكيراً له بمبادئه وأصوله التي عليها انبنى عمله.

    فتنة تعلق القلب بالحلال والحرام

    ومن الفتن في هذه الحياة: ما يتعلق به القلب سواءً كان ذلك مما هو حلال للإنسان أو ما هو حرام عليه، فما كان حلالاً له وتعلق القلب به فقد يشغل الإنسان عن أداء حقه، وما كان حراماً على الإنسان وتعلق القلب به مطلقاً فهو مضرة عليه، ولهذا فنعم الله سبحانه وتعالى ينقسم الناس فيها إلى أربعة أقسام:

    القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم في هذه الحياة فإنه لا يشكو ألماً في بدنه، ولا نقصاً في عقله ولا في سمعه ولا في بصره، وليس مصاباً بسرطان في الكبد، ولا قصوراً في الكلى، ولا ضعفاً في عضلة القلب، فلا يحس بهذه النعمة، ولا يشعر أنه في عافية، بل ينظر إلى من فوقه في أمور الدنيا ويتطلع إلى المزيد, ويطيل الأمل، وهذا مغبون في النعمة, فقد أنعم الله عليه بما لا يستطيع إحصاءه من النعمة، فلم يشعر بها، وعدم شعوره بها مانع له من شكرها لله تعالى.

    والقسم الثاني: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، فهم يعرفون أنهم فضلوا على من سواهم، فقويت أبدانهم وأسماعهم وأبصارهم وعقولهم, وامتلأت أيديهم من المال، وطالت أعمارهم، ووجدوا الصحة والعافية، ووصلوا إلى كل مآربهم، لكنهم يدرون من أين جاءهم هذا, فهم يظنون أنهم نالوا ذلك من تلقاء أنفسهم ومن كسبهم وجدهم واجتهادهم، وهؤلاء حالهم كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، أي: علم بوجوه المكاسب وجمع المال، أو علم أن الله علم أنني أستحق ذلك، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، وهؤلاء الذين لا يعرفون من أين جاءتهم النعمة لا يزدادون بنعم الله تعالى إلا غروراً، فهم في طغيان كلما أنعم الله عليهم بنعمة يصرفونها في معصيته، ويتمادون كذلك في هذا الطريق المظلم الموحش حتى يأتيهم الموت على غفلة فيأخذهم الله أخذاً وبيلاً، وهؤلاء يملي لهم الله تعالى ويستدرجهم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].

    والقسم الثالث من الناس: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها, فيعلمون أن الله فضلهم على العباد، فهم بذلك يفخرون على العباد ويتكبرون عليهم، ولا ينفعون عيال الله، ولا يهتمون بهم، ويقولون ما قال العرب: هان على الأملس ما لاقى الدبر، وهذا المثل معناه: أن البعير الذي نجا من الجرب يهون عليه ما أصاب الدبر أي: الذي اشتد به الجرب حتى أصبح ظهره مقرحاً، ومعنى ذلك: عدم ارتباط بعض الحيوانات ببعض، وكذلك هذا النوع من الناس هم بمثابة الحيوان؛ إذا أصيب الآخرون لا يبالون، وإذا عمت المجاعة في الخلائق لا يرحمونهم؛ لأنهم لا ينظرون إليهم على أنهم إخوانهم، ولا ينظرون إليهم على أنهم عيال الله، ولا ينظرون إليهم على أن الله أرسل إليهم هذا المال على أيديهم، وأن ما عندهم إنما هو زيادة للتكاليف والمسئوليات، فالتكليف على قدر التشريف، وبذلك فهم مشغولون بالنعمة عن شكرها، حالهم حال الأعراب، وقد قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، فهم مشغولون عن ذكر الله وعبادته وطاعته بما في أيديهم من أموال في الدنيا, فهي جل اهتمامهم, ومبلغ علمهم، ولا يظنون أن لهم واجبات أو اهتمامات أخرى غير هذه الدنيا، فهي دارهم وقرارهم، وهؤلاء هم الذين أرادوا حرث هذه الدار، فأنتج لهم ما يريدون، ولكنهم يوم القيامة من الخاسرين كما قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

    وكما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

    وكما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وهؤلاء حذرنا الله تعالى مما هم فيه، فخاطبنا جميعاً معاشر المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

    والقسم الرابع من الناس في النعمة: هم الذين يعرفونها بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها أتت من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضاة من أنعم بها، وهؤلاء هم الشاكرون, وهم أقل عباد الله، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13].

    1.   

    أوجه فتنة المال عند الفقراء

    ومن هذه الفتن والبلايا التي يمتحن الله بها الناس: فتنة المال، وهذه الفتنة ليست متعلقةً بالماديات بالأساس بل هي متعلقة بالمعنويات.

    التطلع والتعلق بما في أيدي الأغنياء

    ومن هنا ففتنة المال تشمل الأغنياء والفقراء على حد السواء، فالفقراء المفتونون بالمال هم المحبون له المتعلقون به، الذين ينظرون إلى من فوقهم في أمور الدنيا ويتعلقون بما لديهم مخالفين بذلك توجيه الملك الديان الذي يقول في محكم التنزيل: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].

    فالفقير الذي اختار الله له الفقر، ووفقه لشكر ما آتاه من النعم، وهداه للاستقامة ولزوم الحق؛ فقره خير له من الغنى، وينبغي أن يشكر الله على هذه النعمة، ولذلك يقول أحد الحكماء:

    العيد قالوا غد ما أنت لابسه فقلت: خلعة كاس ثوبه خلعا

    أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلعا

    ما أنعم الله به على الإنسان ينبغي أن يجعل نفسه في المكان الذي جعله الله فيه، ومن هنا يرضى بما قدر الله له، ويعلم أنه الخير له، ومن هنا فإن الفقراء الشاكرين لنعمة الله تعالى، الذين لا يتطلعون إلى ما ليس بأيديهم، ومع ذلك لا يعجزون، بل هم يدبرون ويكتسبون ويعملون، ويطلبون الدنيا بالوسائل المباحة مأجورون أجراً عظيماً، ويكتب لهم ما نووا من الصدقات ولو لم يستطيعوا أداءه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا -أي: في بني إسرائيل- مر بكثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً لتصدقت به، فقبله الله منه، فلما مات عرضت عليه أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: أي رب! من أين لي هؤلاء وما رأته عيناي قط؟ فقال: أتذكر يوم كذا إذ مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً لتصدقت به، فقد قبلته منك ) .

    فلذلك يثاب الفقير إذا كان ينوي بما يجمعه من المال وما يصل إليه الصدقة فيما يتيسر له، بل إن الصدقة في حال الفقر والحاجة أعظم أجراً من غيرها، ولذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

    فالإنفاق من الإقتار من أعظم القربات، أي: الإنفاق في حال الفقر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه جاءه الدافة -أي: الأعراب الفقراء- فوقف على المنبر, وقال: تصدق امرؤ من درهمه.. من ديناره.. من صاع تمره.. من صاع بره، ودمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةً لأولئك الفقراء، فجاء رجل من الأنصار ليس له مال, فجاء يحمل مداً من شعير في طرف ثوبه، فقال المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله؟ فاستهزءوا به، فأنزل الله خطابهم في سورة التوبة، فبين الله تعالى أنه قد قبل من ذلك الرجل، وبين أن هؤلاء هم المنافقون، فقال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79] ) .

    وكذلك ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة يوماً، فجاء رجل من الأنصار وكان فقيراً فتصدق بدرهم واحد فتتابع الناس بعده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم ) .

    فالسابقون الذين يبادرون إلى الخيرات، ويعلم الله ما في قلوبهم من الحرص على الخير يثابون أكثر من ثواب الذين في أيديهم الكثير فيتطوعون ببعضه، ولذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا وجاهدوا وأنفقوا من قبل الفتح أجرهم لا يمكن أن يقارن بأجر من سواهم، فقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فالمد من الطعام ينفقه أحدهم في ذلك الوقت هو أفضل مما لو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من الذهب؛ فلذلك فإن التصدق بالقليل في وقت الحاجة على الإقتار أجره عظيم جداً، وهو أبلغ من غيره، فمن هنا كان الغنى والفقر يتعلقان بالقلب لا بالمال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس )، فالعرض: هو المملوك من حطام الدنيا، فقال: ( ليس الغنى عن كثرة العرض ) أي: عن كثرة حطام الدنيا في يد الإنسان, فليس هذا هو الغنى، فكم من إنسان امتلأت يداه من المال وهو فقير يلهث وراء الشيء اليسير القليل، ويتعب نفسه في العمل ليل نهار، فهذا هو الفقير حقيقةً؛ لأنه هو الذي تتعرق عظامه، وتظهر فقرات ظهره من الكد في العمل، فالفقير مشتق من فقرات الظهر، أي: الذي يذهب لحمه من كثرة العمل، فكذلك كثير من الأغنياء هم فقراء في الواقع، وإن كان في أيديهم العرض؛ لكن قلوبهم خاوية.

    وكذلك كثير من الفقراء امتلأت قلوبهم بما جعل الله فيها من القناعة فكانوا أغنياء، والقناعة وصف حميد مطلوب في المؤمنين جميعاً، وقد قال الحكيم:

    العبد حر إن قنِع، والحر عبد إن قنَع، فاقنع ولا تقنع فما شيء يشين كالطمع.

    فقنِع بالكسر معناه: استغنى في ضميره، واستغنى بما آتاه الله، واقتصر على ذلك، أما قنع بالفتح فمعناه: طمع وتعلق قلبه بالشيء، وهما ضدان: قنِع وقنَع؛ ولذلك قال: العبد حر إن قنِع، والحر عبد إن قنَع، فاقنع ولا تقنع فما شيء يشين كالطمع.

    تمني الفقراء المال للوقوع في المعصية

    كذلك فإن فتنة المال تصيب الفقراء بما يرون من أنواع الزخارف الدنيوية في هذه الحياة فيتطلعون إلى أمثالها، وبذلك ينقسمون إلى قسمين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يتمنى المال للعمل الصالح، فله أجره وأجر العامل بذلك المال، ومنهم من يتمناه للعمل الفاسد، وللمكاثرة به في الدنيا، فعليه وزره ولو لم ينله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وفقهاً فهو ينفق ماله في وجوه الخير، فهو بخير المنازل، ورجل آتاه الله فقهاً ولم يأته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما يفعل فلان، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً، فهو ينفق ماله في معصية الله تعالى، فهو بشر المنازل، ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما يفعل هذا, فهما في الوزر سواء ) .

    وهنا يمكن أن يعترض عليه فيقال: إن هذا الذي لم يعطَ مالاً وإنما كان ينوي إذا أوتيه أن ينفقه في الحرام، هو قد همَّ بسيئة فلم يعملها, فينبغي أن يكون ذلك حسنة له، فالجواب عن هذا: أن عمل القلب على خمسة مراتب:

    المرتبة الأولى: هي الهاجس، وهو الأمر الذي يحصل فجأةً؛ فيفكر فيه الإنسان تفكيراً شارداً ويذهب.

    المرتبة الثانية: هي الخاطر، وهو الأمر الذي يتردد في القلب قليلاً، ولا يأخذ كثيراً من وقت الإنسان.

    المرتبة الثالثة: هي حديث النفس، وهي أن يتردد الأمر في قلب الإنسان، فيأخذ وقتاً من وقته ويسهو فيه.

    المرتبة الرابعة: هي الهم، وهي أن يهم الإنسان بالأمر فيفكر في طريقة الوصول إليه, وما يترتب عليه, فيصبح قريباً من فعله، ويفكر فيما لو فعله ماذا سيترتب على ذلك.

    المرتبة الخامسة: هي العزم، وهي أن يريد فعله؛ ولكن يحال بينه وبين الوقوع فيه.

    فالمراتب الثلاث الأول -وهي: الهاجس, والخاطر، وحديث النفس- لا تكتب لا بالخير ولا بالشر، والمرتبة الرابعة -وهي الهم- تكتب بالخير دون الشر، والمرتبة الخامسة -وهي العزم- تكتب بالخير والشر معاً، ولذلك فهذا الفقير الذي لم يؤتَ الفقه وهو ينوي أنه لو وجد مالاً لأنفقه في الحرام مرتبته ليست مرتبة الهمِّ وإنما هي مرتبة العزم، كمن رفع كأساً من الخمر يريد أن يشربها فانكسرت في يده فلم يستطع شربها، فهذا كتب عليه أنه شربها؛ لأنه عزم وقد حيل بينه وبين ذلك بقدر الله لا بإرادته هو، فهذا الفرق بين الأمرين.

    طاعة الفقير لغيره في معصية الله

    كذلك تصل أيضاً إلى حد تعلق القلب بما لدى الآخرين، فيستعبد الإنسان لهم، فيكون الإنسان مطيعاً للآخرين في معصية الله، ومقدماً لما يرغبون فيه على أمور دينه، وبذلك يبيع دينه بعرض من الدنيا، فهذا أيضاً ابتلاء وامتحان, فقد جعل الله بعض الناس مسخراً لبعض، فكثير من الفقراء من حكمة الله في فقرهم أن يبقوا مسخرين لمن سواهم يعملون أعمالاً لو كانوا أغنياء لما عملوها، فكثير من المصالح اليوم يحتاج إليها البشر, ولو كانوا أغنياء جميعاً لما وجدت من يعمل فيها أبداً، فكثير من القطاعات لو كان الناس على درجة واحدة من الغنى لتعطلت ولم يشتغل بها أحد، فلذلك من فتنة المال بالنسبة للفقراء أن يهتموا بما لدى الآخرين فيحبوهم على أساس ما في يديهم من المال، أو تتعلق نفوسهم بما لديهم، ومن هنا فإن تعلقهم بما لدى الآخرين وهم يعلمون أنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]؛ خطر عظيم في الاعتقاد، فالذي يتعلق قلبه بإنسان يريد منه جاهاً أو مالاً أو وظيفةً هو جاهل بالخالق سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكون من أهل معرفته بحال من الأحوال، إذ لو كان من أهل معرفة لله تعالى لعلم أن جميع النعم منه, فقد قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، ومن هنا فالذي يعصي الخالق ليحافظ بذلك على وظيفة أو مال أو جاه لدى مخلوق هو جاهل بالله تعالى، وقد سعى لإزالة النعمة عنه من حيث لا يشعر؛ لأن النعمة من الخالق لا من المخلوق، وإذا عصاه الإنسان فذلك سبب لزوالها لا لبقائها.

    1.   

    أوجه فتنة المال عند الأغنياء

    أما الأغنياء فإن فتنة المال في حقهم تحصل من عدة أوجه:

    السؤال عن المال يوم القيامة

    فمنها أولاً: أنهم ابتلوا بما جعل تحت أيديهم من المال، فلا بد أن يسألوا عنه يوم القيامة من وجهين: من أين اكتسبوه؟ وفيما أنفقوه؟ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه فيما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ )، سؤالان في المال: من أين اكتسبه الإنسان؟ وفيم أنفقه؟

    فتعلق القلب بالمال يقتضي من الإنسان ألا يبحث في حله، بل يأخذه من حله ومن غير حله، ويحاول جمعه، وجمع المال مهنة تتقنها الفأرة, ويتقنها النمل، ولكن كثيراً من الناس يتعلق بها، كما قال ابن زريق الأندلسي:

    لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

    جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه

    فاستعملي الرفق من تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضنى القلب موجعه

    يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه

    ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يزمعه

    كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه

    إذا الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه

    وما مكابدة الإنسان توصله رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه

    قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه

    لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه

    (لكنهم كلفوا رزقاً) أي: تعلقت نفوسهم به.

    والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه عفواً ويمنعه من حيث يطمعه

    وكل ذلك بتدبير الله سبحانه تعالى.

    تكديس المال والحرص على جمعه بأي وسيلة

    كذلك من فتنة المال بالنسبة للأغنياء: أن الله امتحنهم بما جعل تحت أيديهم من المال، فقد خلق الله أنواع الأرزاق في الأرض في الأيام الأول الأربع من خلق العالم، فأول الخلائق هي ثمانية أصناف: أربع منها في العالم السفلي، وأربع في العالم العلوي، وبها يتم التوازن، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:9-12].

    فهنا الأصناف الأربع في العالم السفلي هي المذكورة في قوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ [فصلت:9] هذا أولها فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9].

    الثاني: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا [فصلت:10] وهي الجبال.

    الثالث: وَبَارَكَ فِيهَا [فصلت:10], والبركة التي فيها حتى تكون كفاتاً أحياءً وأمواتاً, وتكفي الخلائق على كثرتهم.

    والرابع: ما قدر فيها من الأرزاق، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10].

    أما العالم العلوي فأصنافه أربعة كذلك, قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:11-12], هذا النوع الأول.

    وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12], هذا النوع الثاني.

    وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [فصلت:12], وهي الكواكب وهي في السماء كالجبال في الأرض, وهي النوع الثالث.

    وَحِفْظاً [فصلت:12], هذا النوع الرابع, وهو مثل البركة في الأرض، فالحفظ في السماء يقابل البركة في الأرض، كما أن الأمر في السماء يقابل الرزق في الأرض وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] فهو ينزل منها، ومن هنا حصل التوازن؛ فلذلك كل ما يتنافس الناس فيه من الدنيا من الأرزاق والنعم خلق في أول خلق العالم، لكن الله جعله دولةً بين الناس يتداولونه، فكل عصر يجمع فيه أهله من ذلك ما جمعوا، ثم يموتون ويتركونه لمن وراءهم، فالأرض التي نحن فيها اليوم قد تداولتها القرون قبلنا.

    رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

    ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد

    فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد

    كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد

    فلذلك تداول الناس هذه الأملاك، فالقطعة التي تبني فيها دارك تذكر كم ملكها قبلك من أهل الأرض؟ وقد قال الله تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:8]، فكل ذلك يفنى ويبيد، وقد سبق السابقون إلى عمارة الأرض فعمروها أكثر مما عمرناها نحن, كما بين الله ذلك في القرآن: وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم:9]، ومكن لهم فيها ما لم يمكن لنا: مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، مكن الله لهم فيها من أنواع الأرزاق، وأطال لهم الأعمار ما لم يمكن لنا نحن، فأحدنا يمكن له إذا طال عمره تسعين سنةً أو مائة سنة، والسابقون كان أحدهم يعيش آلاف السنين ويمكن له في الأرض هذا التمكين الذي لم ننله نحن، وبذلك يعلم الإنسان أن ما ملكه قد سبق أن ملكه غيره, ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، فما يتداوله الناس اليوم من الذهب الذي هو ثمن الأشياء وقيم المتلفات، وبه تقوم العملات سبق من الناس من قد ملكوه، وتداولته الأملاك من قبل، وكان في حياة بعضهم إما في معدنه لم يستغل، وإما استغل منه واستخرج سواءً دفن بعد ذلك في الأرض كالركاز، أو استعمل فبقي متداولاً بين الناس، وكذلك الأرض المزروعة سبقنا السابقون إلى زراعتها، كم هي القرون التي سبقت نوحاً والطوفان وعمرت هذه الأرض، وبهذا يعلم أنه ما يجمعه الإنسان من أنواع المال يمتع به مدة عمره ثم يتركه لمن وراءه، وما تعب في جمعه سيفرقه ورثته من بعده.. وهكذا، وبهذا يعلم أن الإنسان غير مالك لماله، إنما هو أمانة ووديعة لديه, كما قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، لو كنت مالكاً له لما ذهبت وتركته وراء ظهرك، ولصحبته معك، فإنما أنت مؤتمن عليه مدةً محددة، ولابد أن يسبق أحدكم الآخر، لابد أن يجاح المال فتفتقر في هذه الحياة، أو تجاح أنت فتموت أو يحجر عليك، ويذهب المال إلى يد أخرى تتصرف فيه، ومن هنا احتاج من أوتي مالاً أن يتذكر أنه مفتون ببقائه تحت يده مبتلىً بذلك، وأنه ليس ملكاً له وحده، بل هذا المال ملك لأهل الأرض كما قال الله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وأهل الأرض هم الذين ينتفعون به، فلا فائدة من تكديسه جميعاً لدى شخص واحد أو طبقة واحدة من الناس, هذا غير مقصود شرعاً، ولهذا قال الله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7]، أي: فرقه الله تعالى في الناس؛ لئلا يكون دولةً بين الأغنياء من الناس يتداولونه وحدهم، بل لابد أن يمر بالعائلة الواحدة الغنى والفقر، وإذا حصل فيها غنىً فسيأتي الفقر بعده، فلابد أن يأتي البسط بعد القبض والقبض بعد البسط، ويتعاقبان على الإنسان، كما قال الشيخ محمد علي رحمه الله:

    القبض والبسط في الأكوان شيئان على مراد الفتى قد لا يجيئان

    يتابعان لكل منهما أجل هذا بآن وهذا بعد في آن

    إن يظهر البسط في آن على أحد فآنه المقتفيه مظهر الثاني

    والعسر لا يغلب اليسرين منفرداً فالعسر فرد وإن اليسر يسران

    لا تجزعن ولا تفرح لحادثة فإن دارك دار ذات ألوان

    وراع في كل حال ما يناسبها ولا تشح بفان أيها الفاني

    تحمل الحقوق المالية

    كذلك من أوجه الفتنة بالمال: أن الأغنياء جعل الله عليهم حقوقاً فيما آتاهم من المال، وهذه الحقوق منها الحق الواجب كالزكاة وغيرها من النفقات الواجبة، ومنها: الحق العام، وهو واجب كذلك لكنه فرض كفاية.

    ومنها: الحقوق المندوبة كالصدقات اليومية، فكل إنسان من الناس مركب من ثلاثمائة وستين مفصلاً، وكل مفصل عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة )، (كل سلامى) أي: كل مفصل، وفي الحديث الآخر: ( فطر الله ابن آدم على ثلاثمائة وستين مفصلاً، كل مفصل عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فترفعه عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، ويجزئ من ذلك أن يصلي ركعتين في وقت الضحى )، فإذا صلى الإنسان ركعتين في وقت الضحى تجزئان عن ثلاثمائة وستين صدقة، فهذه الحقوق كلها تفتح أبوابها على من ابتلاه الله بأن جعل تحت يده مالاً، فهو مخاطب بحقوق الفقراء الذين هو كاسبهم، فالله تعالى خلق الناس ثلاثة أصناف: صنف آتاه أكثر من حاجته، وامتحنه بذلك لينفق على الآخرين، فما هو زائد على حاجته هو نفقة الآخرين جعلها الله تحت يده هو.

    والقسم الثاني: آتاه الله قدر حاجته فقط، لم يفضل عنه شيء للآخرين، ولم يحتج هو إلى الآخرين.

    والقسم الثالث: جعله الله محتاجاً إلى غيره، وما لم يؤته ما يكفيه، فهو عيال على غيره، ولذلك فالأغنياء مسئولون أكثر ممن سواهم؛ لأن كثيراً من عيال الله الفقراء آتاهم الله أرزاقهم، ولكن جعلها تحت أيدي الأغنياء، فهي أمانة لديهم يلزم أن يوصلوها إلى أهلها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الناس عيال الله، وأحبهم إليه -أي: إلى الله سبحانه وتعالى- أنفعهم لعياله ).

    المال سبب للطغيان

    كذلك فإن من أوجه فتنة المال بالنسبة للأغنياء: أن هذا المال سبب للطغيان، والإنسان في الأصل مفطور على الحاجة، فإذا أحس بالاستغناء طغى كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، و(أن) هنا تفسيرية معناها: لأجل أن رآه -أي: رأى نفسه- استغنى، فإذا أحس بالغنى عن الآخرين فإنه يصاب بالطغيان، والطغيان يقتضي بطر الحق والتكبر على الناس، فما يحصل لدى الأغنياء من الكبر والبطر والعجب هو من هذا الطغيان، ولذلك فهذا فتنة من فتنة المال يتعرضون لها، وقد بينها عروة بن الورد فقال:

    ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير

    وأهونهم وأحقرهم عليهم وإن كان له نسب وخير

    فيقصيه الندي وتزدريه حليلته ويقهره الصغير

    وقد يلفى الغني له جلال -أي: كبر- يكاد فؤاد صاحبه يطير.

    فهذا النوع هو من فتنة المال.

    تعلق القلب بالمال ومحبته

    كذلك من فتنة المال: تعلق القلب به بعد أن يرزقه الإنسان، فكثيراً ما يحب شيئاً من ماله، وهذا امتحان من الله له: هل سينفق ذلك الذي أحب بعينه فينال البر بذلك؟ وأنتم تعلمون أن البر اسم جامع لكل خير، وقد قال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، ووصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:8-12]، فهؤلاء ينفقون مما يحبون مما آتاهم الله تعالى من أصناف المال، ولذلك ( فإن رجلاً من الأنصار خرج إلى مزرعة له يصلي الضحى فيها، فرأى طيراً يريد أن يطير فلا يستطيع الخروج من كثرة التفاف النخل وكثرة أغصانها، وتدلي ثمارها، فأعجبه ذلك وهو في الصلاة فنظر إليه لحظةً، فلما سلم خرج من تلك الحديقة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنها صدقة في سبيل لله؛ لأنه قال: فتنت يا رسول الله! في أحب مالي إلي، فقال: وما ذاك؟ قال: كنت أصلي الضحى تحت نخلة من حديقتي، فرأيت طائراً يريد أن يخرج فلا يستطيع ذلك لالتفاف أغصانها وكثرة ثمارها، فهي صدقة في سبيل الله، ضعها حيث شئت ).

    وكذلك ( فإن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أحب مالي إلي بيرحاء، وقد سمعت قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فهي صدقة في سبيل الله فاجعلها حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ بخ ذلك مال الرابح ) .

    وكذلك ( فإن عمر بن الخطاب رضي لله عنه -كما في الصحيحين- أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن سهمي الذي بخيبر هو خير مال تأثلته وأحبه إلي، وأريد أن أقدمه, فأمرني أجعله حيث شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بثمرها، غير أنها لا تباع ولا تورث ولا توهب )، فكان وقفاً لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أوصى أن تقوم فيه حفصة بنت عمر، ثم صالح آل عمر من بعد، وأوصى أن الناظر فيه يأكل منه غير متأسل مالاً، وأن يجعل في الفقراء واليتامى وابن السبيل، فهذه صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    وكذلك فإن استجابتهم لمثل هذا هو ما عودهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فإنه أتاه مال من البحرين فترك جزءاً يسيراً منه في بيته، فصلى بالناس ثم خرج مسرعاً إلى البيت فارتاع الناس من سرعة ذهابه إلى البيت، فرجع فقال: لعلكم ارتبتم من سرعة ذهابي؟ فقالوا: بلى، فقال: بقي لدينا مال من المال الذي أتانا من البحرين، فخشيت أن يتأخر فذهبت حتى قسمته ) .

    فكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه مال لم يسترح حتى ينفقه، ولذلك أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( احمل الإداوة واتبعني، قال: فخرجت اتبعه حتى عرض لنا أحد -أي: كنا في قبالة جبل أحد- فقال: هل ترى أحداً؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب لو أن لي مثله ذهباً، إلا شيئاً أعده لقضاء ديني ونفقة أهلي، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من فعل بالمال هكذا عن يمينه, وهكذا عن شماله، وهكذا من خلفه )، فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه خطر المال والفتنة فيه من هذا الوجه، فقال: ( إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة )، فالأكثرون أي: المكثرون من المال في الحياة الدنيا هم الأقلون، أي: ما كانوا عليه من البطر والكبر في الحياة الدنيا ينكسفوا يوم القيامة؛ لأنهم أشد الناس حساباً، فإن الرجل يحاسب على قدر ما اؤتمن عليه من المال، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت الجنة فإذا عامة من دخلها الفقراء، وأصحاب الجد محبوسون غير أنه قد أمر ببعث النار إلى النار )، ( وأصحاب الجد ) أي: أصحاب الغنى، ( محبوسون ) أي: مؤخرون عن الجنة، ( غير أنه قد أمر ببعث النار إلى النار ) أي: أنهم ليسوا من أهل النار، ولكنهم حبسوا ليحاسبوا على ما ملكوا.

    الوقوع في صفة الشح والبخل

    وكذلك من أوجه فتنة المال بالنسبة للأغنياء ما يتعلق بالصفة النفسية وهي الكرم والجود، وفي مقابلها الشح والبخل، فالشح والبخل صفة ذميمة تقتضي من الإنسان الحرص على ما لا ينفعه، وأن يرتبط به، والبخيل هو الذي يجعل المال في قلبه لا في يده، والغني الذي يجعل المال في يده لا في قلبه لا يكون بخيلاً؛ لأنه يحس ببون لهذا المال عنه وابتعاد عنه، فهو غير مرتبط به في شخصيته، ولا في كيانه، ومن هنا فهو ينفق منه فيجعله حيث أراه الله تعالى من أوجه الإنفاق، ولذلك فإن لله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    (من يوق شح نفسه) أي: من يمنع من البخل وهو شح النفس (فأولئك هم المفلحون)، والفلاح: اسم جامع لخيري الدنيا والآخرة، ومعناه: صلاح الدنيا والآخرة، فمن وقي الشح والبخل فقد منع من شر الدنيا وشر الآخرة معاً؛ لأنه أفلح، ومن هنا كانت فتنة المال من هذا الوجه على الأغنياء أمراً عظيماً، فإن كانوا ممن نجا من الشح والبخل كانوا أودية الخير، فأنتم تعلمون أن الأودية يأتي المطر فيصيب الجبال النائية البعيدة فتحمل الأودية ماءها حتى تسقي به أرضاً لم تسقها السماء، وكذلك الأغنياء هم أودية الخير في الأرض، فالأغنياء الكرماء هم أودية الخير في الأرض، ينقلون المال إلى من لم يكتسبه ولم يبذل فيه وقتاً ولا جهداً، فيغنونه مما في أيديهم، ولذلك فإن هذا الوجه من أوجه الامتحان فيما يتعلق بالجهد والبخل وجه عظيم، والإنسان لا يكتشفه في نفسه، وأذكر أن غنياً من الأغنياء الذين نفع الله بأموالهم في العالم كله، فبنوا كثيراً من المساجد، وكفلوا كثيراً من الأيتام، وتصدقوا بالصدقات الجارية، وعالجوا كثيراً من المرضى، وأعانوا كثيراً من المحتاجين، حدثني عن صديق له وهو أستاذ من الدعاة الطيبين نحسبه والله حسيبه! فقال لي: فلان هذا أحبه حباً لا أحب به أحداً من عيالي ولا أهلي، فقلت: ولم؟ قال: لقد كنت بخيلاً وهو الذي عالج فيَّ هذه الصفة، فكان الأستاذ حاضراً فقال: نعم، لكن بقي جزء منها لم يذهب بعد، وهو بذلك يريد ألا يعجب هذا الشيخ الغني بنفسه، فأراد أيضاً أن يعالج عنه قضية الكبر والعجب، فقال: لكن بقي شيء من هذه الصفة فيك لم يذهب بعد، وهذا النوع من علاج النفس يحتاج إليه الإنسان في كل أوقاته.

    السؤال عن تصرف الورثة بالمال الموروث

    كذلك فإن من أوجه فتنة المال بالنسبة للأغنياء: أن الغني إذا انتقل من هذه الدار إلى الدار الآخرة وقد جمع لورثته كثيراً من المال وتركه وراءه لا يدري ما يتصرفون في هذا المال بعده، فيكون ذلك في حسابه هو ومسئولاً عنه؛ لأنه الذي أعانهم على ذلك التصرف، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الخطر فقال: ( يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو قدمت لآخرتك ) .

    وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر )، فماله هو ما قدم، ومال وارثه هو ما أخر، أي: ما ترك لورثته من بعده.

    1.   

    الحذر من تعلق القلب بالمال

    أيها الإخوة! لا يتسع الوقت لاستكمال أوجه فتنة المال، ولكني ألخص فأقول: إن ما ذكرناه من أوجه المال مرجعه إلى محبته وتعلق القلب به فهذه فتنته الكبرى، فإذا وجدها الإنسان في نفسه سواءً كان غنياً أو فقيراً فليعلم أنه على خطر عظيم، ولابد أن يعالج هذا الخطر قبل أن يفوت الأوان، وعلاجه إنما يكون بالنظر إلى أن الذين تعبوا في جمع حطام هذه الدنيا من الماضين قد تركوه وراء ظهورهم، وقد قال الله تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]؛ ولهذا فإن من أمراض القلوب العظيمة: محبة الدنيا لذاتها، أو لينال الإنسان منها ملذاته وما يشتهيه، وكل ذلك خطر على الإنسان، وقد قال العلامة محمد مولود رحمه الله:

    عالج بمن في جمعها قد تعبوا دهراً طويلاً فحووا ما طلبوا

    فبينما هم دارجوا مراقِ زهرتها إذ هجمت حلاقِ

    فبينما هم دارجوا مراقي -أي: سلالم- زهرتها -أي: ما فيها من الزهرة والزخارف- إذ هجمت حلاقِ أي: إذ هجم الموت عليهم، وحلاقِ اسم للموت.

    وقال ابن مالك رحمه الله:

    أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفاً مذ زال عنه صفاء

    ورمت جدىً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقر في الثرى وثراء

    أي ابن البرى تحضر براءً من الدنا فشبه العفى الملقى عليه عفاء

    كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأبا قد حازهن أباء

    ولو في الملأ رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء

    ولو في الملأ أي: في الأرض الواسعة، رمت الملاء -وهو الغنى-، حللت في رجاه، أي: في طرفه، إذا ما صح منك رجاء، أي: اجتمع لك مرادك.

    فلذلك لابد أن يستشعر الإنسان أن تعلق القلب بالدنيا ومحبتها -وبالأخص تعلق القلب بالمال ومحبته- خطر عليه، ولذلك حذر الله منه فقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، أي: حباً كثيراً، فلابد أن يكون الإنسان مقتصداً في محبته للمال، ولابد أن يعلم محله؛ فمحله اليد دون القلب، فالإنسان الذي يحبه إذا أصيب فيه بمصيبة كان ذلك خطراً عليه؛ لأن تلك المصيبة ستكبر عليه ويستعظمها، وبذلك يعترض على قضاء الله وقدره، والدنيا لا تخلو من المصائب وهي مربوطة بها.

    بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأقذار

    ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

    هذا ما لم يمكن أن يتم.

    وإذا لم تصب بمصيبة أيضاً كانت خطراً آخر على الإنسان، وهو تعرضه للطغيان بها، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].

    فلذلك علينا إخوتي جميعاً! أن نعلم أن هذه الحياة الدنيا ليست دار قرار، وأن ما يناله الإنسان فيها مما يستعظمه من سواه الذي يناله سيحتقره، وهل رأيتم قط غنياً من الأغنياء قال: جمعت ما كنت أصبو إليه من المال ولا أصبو إلى الزيادة ولا أريدها، وسأقتصر على هذا الحد ولا أتجاوزه؟ لا. والسبب: أن الناس يقدمون على جمع الدنيا دون أن يحددوا أهدافهم، فلماذا تجمعها يا أخي؟ تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج مالك في الموطأ وغيره: ( الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ) .

    والخيل هي مثال للمال كله، فهي لثلاثة: ( هي لرجل أجر )، وهو رجل ارتبطها في سبيل الله، وأدى الحق الذي فيها لله تعالى، فهي له أجر، حتى المصائب التي تصيبها تكون في أجره، وإذا شردت فقطعت طولها فاستلت فيه فسارت شوطاً أو شوطين فمرت بنهر فشربت منه فبالت وراثت كان ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة.

    ( وهي على رجل وزر )، وهو رجل ارتبطها نواءً للمؤمنين وإرصاداً ونصرةً لأعداء الله، فهي عليه وزر كذلك.

    ( وهي لرجل ستر ) وهو رجل أراد بها أن يتعفف عن الآخرين، وأن يستغني عما في أيديهم، فكذلك المال هو لهؤلاء الثلاثة، هو لرجل أجر، وهو الرجل الذي لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وهو يعمل ويكتسب ويريد بذلك أن ينفذ ما أمر به من استغلال ما في الأرض من الخيرات، كما قال الله تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، وهو بذلك تاجر الله تعالى في الأرض، يريد أن يزاحم أهل الشر فيما في أيديهم من المال، وأن يغني عنهم أهل الخير، ويريد هو أن يكون من الأودية التي تنقل الخير إلى الأماكن النائية، ويريد أن يكون من قنوات الخير فينال خير الله تعالى على يديه خلق كثير، فهذا كل ما ناله من الغنى فهو في كفة الحسنات يوم القيامة.

    والرجل الثاني هو عليه وزر، وهو إنسان جمعه لا يبالي من أين يجمعه: هل من حله أو من غير حله؟ ولا يبالي أن يضعه: هل يضعه كذلك في محله أو في غيره محله؟ فهو يريد به الوصول إلى الكبر والعجب وإلى الأهداف غير المشروعة، يريد أن ينال به ملذاته وشهواته، فهذا كل ما ناله هو في كفة السيئات يوم القيامة.

    والرجل الثالث هو الذي جمع المال من أجل الاستغناء به، يريد أن يؤدي الحقوق الواجبة عليه، وأن يستغني عن الآخرين، وأن يكون حراً طليقاً ليس لأحد عليه ضغط، فهذا ما ناله من المال هو ستر له، لكن لابد للجميع أن ينتبه إلى التحذير الذي حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم من جمعه؛ لأن الإنسان إذا بدأ هذا المشروع لابد أن يجد مخاطر في الطريق، ولابد أن يدرك أن له أمداً ينتهي إليه، فقد صح في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا؛ فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم )، ( وإن مما ينبت الربيع ) أي: مما ينبت من العشب في زمن الربيع ( ما يقتل حبطاً ) أي: يقتل الدواب انتفاخاً، ( أو يلم ) أي: يقارب ذلك، ( إلا آكلة الخضر؛ فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل )، فلابد أن يجعل الطالب للمال وقتاً للجمع ومقداراً معيناً ينتهي إليه، فلابد أن يطلب من المال ما لا يطغيه، ولابد أن يستغل به جزءاً من وقته لا كل وقته، فلابد أن يجعل وقتاً لطلب العلم، ووقتاً للعبادة، ووقتاً لراحة بدنه، ووقتاً لحقوق أهله.

    ثم بعد ذلك لابد أن نعلم أن ما آتانا الله تعالى من المال ليس ناشئاً عن الكسب، فكم من إنسان رأيناه عمل طيلة عمره، وقد عاش عمراً طويلاً ولم يترك حيلةً يجمع بها المال إلا أعملها ومات فقيراً.

    وكم من إنسان أيضاً لم يتكلف عناءً كبيراً، وأغناه الله تعالى من فضله، فكم من إنسان لم يعمل إلا سنتين أو ثلاثاً وأصبح من الأغنياء، وإنسان آخر عمل ستين سنة ومات فقيراً، فإذا عرفتم ذلك عرفتم أن الجميع من عند الله تعالى، وأنه ابتلاء وامتحان منه، وأنه تقدير قد كتبه من قبل، وقد كتب مع كل جنين وهو في بطن أمه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتقي الله، وأن يجمل في الطلب كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نجعل ما نقول ونسمعه حجةً لنا لا علينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953834