إسلام ويب

كيف نستفيد من رمضانللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اختص الله سبحانه وتعالى بعض المواسم بمزيد من الفضل والبركة ومنها شهر رمضان، حيث خصه بزيادة في التكاليف ليسمو فيه الإنسان إلى العالم العلوي، وخصه بلياليه المباركة التي يضاعف فيها الأجر، وجعلها متدرجة في الخير، كما خصه بالقرآن ومدارسته، مما يحتم على المسلم استغلال مثل هذه الفرص والحرص عليها والاستمرار في عبادة الله حتى يأتيه اليقين، وأن يجعل هذه المواسم أساساً ينطلق منه في سائر حياته متذكراً ما هو قادم عليه

    1.   

    خصائص شهر رمضان

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    إنزال القرآن وتشريع التكاليف فيه

    أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما يشاء، وقد اختار مواسم للزمان والمكان شرفها بأن أضافها إلى نفسه إضافة تشريف، وخصها بمزيد من الفضل، وجعلها مكاناً للعبادة، وأعان فيها عباده على طاعته، وضاعف لهم الأعمال فيها، ومن هذه المواسم هذا الشهر الكريم الذي خصه الله بكثير من الخصائص، منها أنه أنزل فيه القرآن، وشرفه بهذا التشريف العظيم، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

    ومنها أنه عمل لعباده فيه بأن يتشبهوا بالملائكة الكرام، فشرع لهم الصيام في نهاره، والقيام في ليله، ليعمروا وقت هذا الشهر الكريم كله بعبادته سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الإنسان بين عنصرين يحفان به: عنصر أسمى منه، وهو جنس الملائكة، وعنصر أدنى منه وهو الحيوان البهيم، فالملائكة شرفهم الله بالتكاليف، ولم يمتحنوا بالشهوات، والحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يمتحنه بالتكاليف، والإنسان بين هذين الصنفين، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأسمى منه وهم الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات؛ التحق بالصنف الأدنى منه وهو الحيوان البهيم، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

    وتشبه الإنسان بالملائكة يتم من خلال حبسه نفسه على طاعة الله عز وجل، فالملائكة عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، والإنسان إذا كان كذلك فحبس نفسه عن معصية الله، وقصرها على طاعته، ولم يجعل للشهوات مكاناً، فإنه قد التحق بالملائكة واتصل بهذا الصنف، وأجره في ذلك أعظم؛ لأنه قد سلطت عليه الشهوات، فاستطاع التغلب على نوازعه وكبح جماح نفسه.

    وكذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعل فيه ليلة القدر، وهي ليلة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى ميزةً لهذه الأمة حين علم قصر أعمالها، وضعف أبدانها، فزاد أعمارها في كل سنة بهذه الليلة، فمن وفق لقيامها كأنما ازداد عمره في تلك السنة بأربع وثمانين سنةً وأربعة أشهر على الأقل، هذا أقل منه حظاً، فهي خير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محصورة، ومنهم من تعد له هذه الليلة بآلاف الشهور، فيكون عمره في مضاعفة غير منتهية.

    شهر الصبر

    كذلك من خصائص هذا الشهر التي خصه الله بها أن جعله شهر الصبر، فيتعود فيه الإنسان على الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، والكف عما حرم عليه، وهذا الصبر جند من جنود الله، يثبت الله به المؤمنين، فإن للشيطان جندين: أحدهما: جند الشهوات، والثاني: جند الشبهات. ولله سبحانه وتعالى جندين: أحدهما: يسمى بالصبر، والثاني: يسمى باليقين.

    فالصبر يقضي على الشهوات، واليقين يقضي على الشبهات، فإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، ولهذا قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

    انتصار الإنسان بالصبر على الجبهات التي تواجهه

    وبالصبر ينتصر الإنسان على جبهة عظيمة من الجبهات الخمس المفتوحة عليه، فالإنسان بين خمس جبهات من أعدائه:

    الجبهة الأولى: جبهة إبليس، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]، وهذه الجبهة أعاننا الله عليها في رمضان بتقييد المردة من الشياطين، فإنهم يصفدون إلى صلاة العيد، والمردة هم أقوى الشياطين، فالواحد منهم ينوب مناب مائة وعشرين مما سواهم، وتصفيدهم عون عظيم على طاعة الله، وبذلك يعان الإنسان على هذه الجبهة، ولا تسد جبهة الشيطان مطلقاً، بل لا بد أن يبقى فيها بعض جنود إبليس من شياطين الإنس والجن، ولهذا يقع الوسواس في رمضان، وتقع المعصية في رمضان، ويقع الجنون في رمضان، لكنه لا يقع من المردة الذين هم أقوى الجن، فهم مصفدون، وإنما يقع ممن دونهم من ضعفة الجن ومن شياطين الإنس.

    ثم الجبهة الثانية: هي جبهة إخوان السوء، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

    والإنسان له ثلاثة أنواع من أنواع الخلان:

    النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وهو الذي يعينه على أمور الدين.

    والثاني: أخ كالدواء، يستغني عنه الإنسان في أحيان كثيرة، ولكنه إذا احتاج إليه لا يسد غيره مسده، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدنيا.

    الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان على أمر دين ولا دنيا، بل يكون جائحةً تصيب وقته، ومضرةً تذهب بعض أوقاته الثمينة، وتذهب ببعض عمره هباءً منثوراً، وهؤلاء الإخوان أعداء، وقد أعان الله عليهم في هذا الشهر بانشغال الإنسان عن مجالس إخوان السوء، ففي النهار يتذكر الصائم صومه، فهو في حريم الصيام لا يعتدي عليه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ).

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، فإذا دخل الإنسان في حريم الصوم وحيزه، فإن ذلك يعصمه من إخوان السوء، ويحول بينه وبينهم.

    ثم بعد هذا الجبهة الثالثة: هي جبهة الأهل والأموال، وقد حجب عنهم الإنسان كذلك بالصيام، فإن أكثر وقته صرف في الطاعة، فهو في النهار صائم وفي الليل قائم، وبذلك لا تجد هذه الجبهة سبيلاً عليه، فبصيامه يزهد في الدنيا لعلمه أن الدنيا قيمتها شربة ماء، وكذلك بقيامه يزهد في أهله لاستغنائه بالأنس بالله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وبهذا يعلم أن الدنيا لا قيمة لها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وبذلك أيضاً ينتصر على الجبهة الرابعة، وهي مفاتن الدنيا وشهواتها.

    ثم الجبهة الخامسة: حظوظ النفس، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، وهذا الشهر معين على كبح جماح النفوس، وإمساكها عن الوقوع في المعصية؛ لأن الإنسان إذا أحس بالمنافسة، ورأى الآخرين مقبلين على الله سبحانه وتعالى في ليلهم ونهارهم، وعلم أنهم جميعاً إنما يأتون يحملون ما عملوا، ويقدمون على ما قدموا، وأن التنافس محله في هذا الشهر، فمن أدرك رمضان فلم يغفر له فهو محروم، وأدرك هذا الفضل العظيم الذي يتنافس الناس فيه، فإن نفسه إذا كانت من أنفس الرشد لا يمكن إلا أن تكون عوناً له على المسارعة إلى الطاعة، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، وبهذا ينتصر الإنسان على هذه الجبهات كلها.

    راحة السنة وفرحتها

    ثم من خصائص هذا الشهر كذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعله راحةً في السنة، فالإنسان طيلة سنته يكد ويتعب وينصب، والمؤمن راحته إنما هي بالفرحة بلقاء الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، وللصائم في هذا الشهر فرحتان: فرحة عند فطره، إذ قد فات الشيطان بيوم كامل، أخلص فيه لله، وأدى فيه ما افترض الله عليه، فيفرح حين انتصر على الشيطان وغلبه، وفرحة عند لقاء ربه؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خصص باباً من أبواب الجنة للصائمين سماه باب الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق، فلم يدخل منه أحد.

    سهولة الإقبال على القرآن فيه

    إن هذه الخصائص العظيمة في هذا الشهر كله يمتاز كذلك معها بخصائص أخرى منها: سهولة الإقبال على القرآن، فإن هذا الشهر أنزل فيه القرآن، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، فيسهل مدارسة القرآن فيه، ومراجعة الحفظ، والتدبر لمعانيه، وحفظ حروفه وحدوده، وهذا عون من الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ( فالقرآن أشد تفلتاً من الصدور من الإبل في عقلها )، ويحتاج إلى مراجعة ومذاكرة دائمة، فسهل الله مراجعته ومذاكرته في هذا الشهر الكريم، وجعل الارتباط به في آناء الليل وأطراف النهار، فلا بد أن يكون للمؤمن الصائم ورد من القرآن في يومه، وصلاة بالقرآن في ليله، وبهذا يجمع الثقلين، وطرفي الزمان، فيستغل الليل والنهار معاً لمدارسة القرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في النهار، ثم يأتي جبريل في الليل فيدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان.

    الاتصال بكتاب الله وفوائده

    ومن فوائد الاتصال بكتاب الله سبحانه وتعالى: تحلي النفس بقيم الإيمان الرفيعة، التي من أعظمها التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، والقناعة بما يعطي عما لدى الآخرين، والسعي كذلك للتقرب إليه سبحانه وتعالى بأوجه الخيرات كلها، والجود والبذل في سبيله، وهذه القيم كلها تقتضيها مخالطة القرآن، فالذي يخالط هذا الكتاب يستغني به عن غيره، ويتذكر أنه هو الباقي، وأن ما سواه من الهبات زائلة، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، فالباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وخير أملاً وخير مرداً هي الحسنات التي يرشد إليها هذا القرآن ويعين عليها، فهي خير من كل ما سواها من الهبات، فلو ملك الإنسان الدنيا بحذافيرها، ثم جاء يوم القيامة صفر اليدين من الباقيات الصالحات، فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئاً، ويتمنى لو كانت له الدنيا وأضعافها معها؛ ليفتدي بها من عذاب يوم القيامة، ولم يتقبل ذلك منه، وإذا أتى الإنسان بالباقيات الصالحات والحسنات الراجحات فلا يضره ما فاته من هذه الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى بأسعد أهل الدنيا حالاً )، وفي رواية: ( بأنعم أهل الدنيا حالاً، فيصبغ صبغةً واحدةً في النار، فيقال: يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط. ويؤتى بأبأس أهل الدنيا حالاً فيصبغ صبغةً واحدةً في الجنة، فيقال: يا عبد الله! أرأيت شراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت شراً قط ).

    فكل ما يجده الإنسان في هذه الدار من الهوان والجوع والمرض والألم والنصب باللحظة الأولى التي يناله فيها شيء من روح الجنة وريحانها يزول عنه كل ما كان يجده، وقد صح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: واعلموا أنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

    ثم إن الاتصال بالقرآن يقتضي من الإنسان البذل والجود في سبيل الله؛ لأن هذا القرآن يحث على ذلك، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22].

    وقد حض الله سبحانه وتعالى في كتابه على الإنفاق والبذل في سبيل الله بما يجده الإنسان، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق من الإقتار، أي: مع الفقر، مما لا يغل عليه قلب المؤمن، فهو مما يزيد الإيمان، ويقوي الصلة بالله سبحانه وتعالى، ويمحو السيئات، ( فإن الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار )؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس في سائر الأزمنة، ولم يكن يسأل شيئاً قط فيقول: لا، إن كان عنده أعطاه، وإلا رد بميسور من القول، مع هذا يدرك من يخالطه أنه يزداد جوده في شهر رمضان، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

    تدرج ليالي رمضان في الخير

    كذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل رمضان متدرجاً، فخيره العشر الأواخر منه، فيها ليلة القدر، وفيها ليلة العتق، وهما ليلتان متباينتان، فليلة القدر متنقلة في العشر، ومظنتها الغالبة في أوتارها، لكن ليالي العشر كلها أوتار، فإذا حسبت من أولها كانت الأوتار ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين، وإذا حسبت من آخر هذه الليالي التي تبقى كانت الأوتار ليلة ثلاثين، وليلة ثمان وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين، فكل ليالي العشر بهذا المعنى أوتار، وهي مظنة لليلة القدر فإنها تتنقل فيها، أما ليلة العتق فهي الليلة الأخيرة من رمضان، إن كان رمضان تماماً تعينت أن تكون ليلة الثلاثين، وإن كان رمضان ناقصاً لم يعرف الناس نقصانه إلا بعد ذهابها وهي ليلة التاسع والعشرين منه، فبذلك يعلم أن ليلة العتق هي الأخيرة من ليالي رمضان، والله تعالى جعل في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار، يخصهم بذلك، لكنه في الليلة الأخيرة من ليالي رمضان يعتق من لم يشمله العتق من الصائمين الذين يتقبل الله منهم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فهذه الليلة فيها تعلن النتائج، فيتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً في نتائج صيامهم، وفي نتائج امتحانهم في مدرسة رمضان، فمنهم من يعلن من الفائزين المقبولين عند الله سبحانه وتعالى، فيبشر برحمة من الله ورضوان، لا يقع ذنبه بعد ذلك إلا مغفوراً، ويعان على الطاعات فيما بقي من عمره، ويحال بينه وبين المعاصي، ويحسن خلقه، ويستشعر هو في نفسه بعد نهاية الشهر أنه قد تغير، وأنه قد تجاوز العقبة، ومنهم من حظه من صيامه الجوع والعطش، وحظه من قيامه النصب والسهر، وهؤلاء يرجعون من رمضان شراً مما بدءوا، نسأل الله السلامة والعافية.

    فإذا عرفنا هذه النتائج الكبيرة التي تنتظر نهاية هذا الشهر وإنما تعلن ليلة العتق وهي آخر ليلة من رمضان كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله يعتق رقاب الصائمين في رمضان في آخر ليلة منه. فقيل: يا رسول الله! أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

    الذكرى والاعتبار في شهر رمضان

    كذلك من خصائص هذا الشهر: أن الله سبحانه وتعالى جعله ذكرى للمعتبرين، فكم تشاهدون الآن من الذين كانوا منشغلين منهمكين في الدنيا، فيأتون المساجد قبل الأذان، وينتظرون الصلاة بعد الصلاة، وترونهم مقبلين على الذكر والقرآن، وكم نشاهد كذلك ممن كان سيئ الخلق، عاقاً بوالديه، أو سيئ التعامل مع أهله وأولاده، أو سيئ الخلق في معاملة الآخرين، يكون في شهر رمضان صاحب رحمة، وصاحب حسن خلق.

    1.   

    استغلال ما تبقى من شهر رمضان

    إن ذلك كله من ميزات هذا الشهر العظيمة، لكن بعد هذه الجولة في شهر رمضان علينا أن نتذكر أنه الآن قد وقف في ثنية الوداع، وهم قبلي مزنه بالإقلاع، فلم يبق منه إلا ساعات يسيرة هي بمثابة خاتمة الإنسان المعرض للقتل، أو الذي قيل له ستقتل بعد أربع ساعات أو خمس، فإذا لم يبق من رمضان إلا هذه الساعات فليبادر أهل المبادرة، وليسابق أهل المسابقة، وليعلموا أن الفرصة ما زالت أمامهم، فهذه الساعات بالإمكان أن يبقى فيه الشبر الذي يكون بين الإنسان وبين الجنة، أو بينه وبين النار، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ).

    إن هذا الذراع أو الباع أو الشبر الذي بقي يمكن أن يدرك في الساعات الباقية من هذا الشهر، وعلى الإنسان أن يتذكر أنه إذا قيل له: إنك تموت الآن وعداً غير مخلوف، لم يبق من عمرك إلا ساعات يسيرة، فإنه سيبادر لاستغلال هذه الطاعات لا شك، ولذلك قال شعبة بن الحجاج رحمه الله: لو قيل لـسليمان بن بلال : إنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد شيئاً من طاعة الله. فقد شغل وقته كله بالطاعات، حتى إنه لو قيل له: إنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد شيئاً، كل الأوقات قد وظفت في عبادة الله سبحانه وتعالى ورتبت على ذلك الأساس، فليس فيها فراغ، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن الرشيد الذي يعرف قيمة الزمن، ويعرف أنه امتحان.

    إن هذه الساعات القليلة التي بقيت من شهر رمضان بالإمكان أن تعتق فيها رقاب كثيرة من النار، وبالإمكان أن يختم فيها للإنسان بخير يكفر عنه ما مضى من سيئاته، فهي وقت للمنافسة، ثم على الإنسان كذلك أن يتذكر أن هذا الشهر يمكن أن لا يعود عليه أبداً، فيا رب صائمه لن يصومه، ويا رب قائمه لن يقومه.

    كم صام رمضان العام الماضي معنا ممن لم يدرك رمضان هذا العام.

    إن ركب الآخرة كل يوم في ازدياد، فالطريق مسلوك، كل يوم تنطلق طائفة لا ترجع إلى هذه الحياة الدنيا إلا بالنفخ في الصور، وبهذا يعلم أن هذا الشهر أيضاً كثير ممن صاموه أو ممن أدركوه، سواءً وفقوا لصيامه أو لم يوفقوا، لن يعود عليهم رمضان أبداً إلا وهم بين الجنادل والتراب.

    1.   

    استمرار تكليف الإنسان مدى العمر

    رمضان محطة للتزود

    ثم علينا أن نعلم أن رمضان إنما هو محطة من محطات الحياة، ومدرسة يتعود فيها الإنسان على التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فعلينا أن لا نكون من الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن قوم يعبدون الله في رمضان، فيصومون ويقومون، ويقرءون القرآن، ويتصدقون، فإذا ذهب رمضان رجعوا إلى المجون، وعادوا إلى ما كانوا فيه، فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.

    إن الله سبحانه وتعالى ما شرع لنا صيام هذا الشهر وقيامه لنخصه بالعبادة وحده دون ما سواه من الشهور، بل التكليف مستمر على الإنسان، والملائكة الكرام البررة يحصون على الناس أعمالهم في طيلة العام، وقد أعنا في رمضان، فعلينا أن نحاول أن نأخذ منه زاداً ووقوداً للشهور القادمة، ولبقية العمر كله، وأن لا نقبل أن نكون من المتذبذبين، فإن الشيطان الآن في غاية الندم على الذين فاتوه في شهر رمضان بما فاتوه به من الطاعات، وهو ينتظر فرصته ليلة العيد ويوم العيد وشهر شوال يريد القصاص؛ ليأخذ القصاص من الذين جلسوا في المساجد، من الذين أراقوا العبرات، من الذين تصدقوا بالصدقات، من الذين أكثروا الختمات لكتاب الله، فهو يريد أن يشغلهم، وأن يقتص منهم، وهو الآن واقف في غاية الأهبة يريد أن يقتص من الذين فاتوه، فحاولوا عباد الله أن لا تجعلوا للشيطان عليكم سبيلاً، وأن تعلموا أنه يريد أن يجعل يوم العيد وليلة العيد سوراً بينكم وبين رمضان، يقطع ما تعودتم عليه من الطاعات، فيريد أن تقطعوه، فالذي كان يقوم الليالي في رمضان، سيشق عليه قيام ليل هذه الليلة وما بعدها، ويصعب عليه كذلك أن يأتي بالست من شوال في وقتها، ويصعب عليه كذلك أن يستمر على الصدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس )، ويصعب عليه أن يحافظ على ختم القرآن في كل شهر كما كان يفعل في رمضان؛ وذلك لأن الشيطان يحاول القصاص منه، ويحاول أن يتدارك ما فاته، إنه قد حلف يميناً مؤكدةً بعزة الله سبحانه وتعالى على إغواء أكثر البشرية، وقد برت يمينه في أكثر الناس، فأكثر الناس قد أغواهم بوسائله المتعددة المتنوعة، فحاولوا ألا تكونوا من أولئك الغاوين، بل حاولوا أن تكونوا من عباد الله المخلصين، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].

    ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الإنسان التائب في شهر رمضان كان قد عاهد الله تعالى على الخروج من المعصية، وعلى الإقبال على الطاعة، وهو يعلم أنه مفرط في جنب الله مقصر، ويتذكر كثيراً من الساعات التي رآه الله فيها على المعصية، فلم يفضحه وهي نعمة عظيمة، فسبحان الذي رآنا على الخطايا فلم يفضحنا، إننا إذا تذكرنا هذه الخطيئات العظيمة، التي رآنا الله سبحانه وتعالى نرتكبها، فلم يفضحنا، علينا أن نبادر إلى التوبة منها، وأن نمتنع عن الوقوع في مثلها في بقية العمر كله، وأن نعاهد الله على ذلك عهداً مؤكداً، وأن نجعل من أنفسنا على أنفسنا بصائر وشهوداً، فالنفس إنما هي بمثابة الدابة، إذا تركها الإنسان ولم يحمل عليها كانت حروناً شروداً، تفر إذا أحست بلجام أو بردعة، وتحرن إذا قيدت، وإذا حمل عليها وأخذها بالشدة والعزائم، ولم يترخص لها إلا في موضع الترخص، ولم يرد بها السير وراء الهوى، فإنها تكون حينئذ قؤوداً سموحاً، تتبعه إذا طلبها، وتنقاد له إذا دعاها، وتتذكر إذا ذكرها، وتتعظ إذا سمعت الموعظة، وطباع النفوس هكذا، فعلينا أن نأخذ العبرة من شهر رمضان، وأن نصطحب ذلك في بقية العمر.

    1.   

    اعتبار أعمال رمضان أساس يبنى عليه

    علينا كذلك أن نعلم أن العبرات التي أريقت في شهر رمضان، والجلسات التي طالت فيه، والسهرات التي طالت فيه في طاعة الله كلها رصيد ينبغي أن يكون بمثابة الأساس للبنيان، فالذي يريد مسكناً يقيه من الحر والبرد لا يكفيه مجرد أساس تحت الأرض، لكن هذا الأساس إذا بدأ ينبغي أن يبنى عليه البنيان، حتى يصل إلى كماله وتمامه، فعلى الإنسان الذي بدأ في وضع الأساس في شهر رمضان أن يبني عليه بنياناً حسناً، وأن لا يكون: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً [النحل:92]، فإن كثيراً من الناس بعد نهاية رمضان ينقضون غزلهم، فالأعمال التي تعودوا عليها، والطاعات التي استبرأتها نفوسهم، وسهلت عليها، والأذكار التي شغلوا بها أوقاتهم، إذا لم يبن عليها غيرها كانت أساساً تحت الأرض فتستر وتذهب حتى تأكلها الأملاح والأحماض، دون أن يكون عليها بنياناً.

    فعلينا أن نجتهد في هذا البنيان من وقتنا هذا، وأن نعاهد الله على ذلك حتى يكتب لنا العمل بالمضاعفة، فإن من نوى الاستمرار على هذه الطاعة بعد رمضان نوى ذلك في هذه الساعات الباقية من رمضان يكتب له العمل كأنما عمله في رمضان، فيكون زمانه كله رمضان، بل يكون زمانه كله من العشر الأواخر من رمضان، حين نوى الطاعة واستمر عليها واستبرأها، كذلك فإن الذي وفقنا له من الطاعات هو نعمة من عند الله سبحانه وتعالى تستحق الشكر، وهو بمثابة صعود في سلم الإيمان، ولا يرضى الإنسان لنفسه النفاق، فالمنافقون هم المتذبذبون يصعدون درجةً أو درجتين، ثم يناديهم إخوانهم: هلم إلينا، فينزلون درجةً أو درجتين، ثم يناديهم داعي الله فيصعدون درجةً أو درجتين، فيبقون في تذبذب دائم، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143]، على المؤمن الذي عرف الطريق، وصعد درجات الإيمان أن يستمر، وأن يكون كلما ازداد في السير ازداد سرعة، أين الذين يعرفون سياقة السيارات؟ يعرفون أن السيارة في البداية تبدأ بالتشغيل على السرعة الأولى، ثم إذا بلغت الستين زادت السرعة فأوصلها إلى الدرجة الثانية، ثم إذا بلغت السبعين أو الثمانين أوصلها إلى الدرجة الثالثة إلى الرابعة إلى الخامسة.. وهكذا، فعلى الإنسان أن يكون سيره واستمراره في الإيمان أسرع في نهايات العمر من بداياته، فبدايات العمر فيها تعثر، وفيها مكابدة النفس ومجاهدتها، أما ما بقي فإن الكفرات قد استقامت على السكة، فعليه أن ينطلق كالقطار في طريقه إلى الله، وأمامه المبشرات العظيمة من الله سبحانه وتعالى، ( فإن أتاني يمشي أتيته هرولاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً )، فهذه المبشرات هي زاد الإنسان في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يجد ويجتهد في بقية عمره حتى يكون من المنتفعين من مدرسة رمضان، ومن الناجحين الفائزين، فإذا كان في عمره فسحة فبلغ رمضان آخر، كان رمضان إلى رمضان كفارةً لما بينهما، وإن مات فيما بين ذلك كان كالمهاجر في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].

    1.   

    نية الاستمرار في العبادة وترك المعاصي بعد رمضان

    إن الذي ينوي الاستمرار على هذه العبادة التي كان عليها في رمضان، فإنه يكون كالمهاجر الذي ينوي قطع المسافة، فإن مات في الطريق كان أجره على الله، وكتبت له الهجرة كاملة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )، فعلى الإنسان أن يكون مهاجراً فعلاً، أن يهجر ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال والنيات والمعتقدات، ثم إذا وفق لهذا في جانب الترك فليعلم أيضاً أن عليه أن يبادر لجانب الفعل، وأن يكون من الذين يُسْتغلون في طاعة الله، ويشرفون بالخدمة في بيوت الله، من الذين يشرفون من بين العباد بأن أخلصهم الله لخدمته وخدمة دينه، وهؤلاء هم بمثابة الأودية في الأرض، تُمْطَر الجبال والأراضي البعيدة، فتنقل الأودية مياهها إلى بلاد لم تمطر، فتسقيها بذلك، فكذلك الذين يدعون الناس إلى الخير هم أودية الخير في الأرض، ينقلون الخير كنقل الأودية للمياه، فيسقون قلوباً ميتةً لم تمطر، ويوصلون العلم إلى قوم لم يبذلوا جهداً في الوصول إليه، ويوصلون الدعوة إلى قوم لم يتكلفوا عناءً في الوصول إليها، إن أودية الأرض لا شك خير مما عداها؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وأصاب منها طائفةً أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به ).

    تذكر العرض على الله ودوره في المنافسة في الخير

    إن من يريد المنافسة في الخير، ويأسف لما مضى من رمضان عليه أن يدرك الفرصة الآن، وأن يتذكر بهذه الساعات الباقية العرض على الله سبحانه وتعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، ليتذكر الإنسان الوقت الذي يعرض الناس فيه يحملون أعمالهم في أعناقهم، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14].

    على الإنسان أن يتذكر الآن أن الناس يخرجون من رمضان يحملون أعمالهم إلى الله سبحانه وتعالى، فمن مستقل ومن مستكثر، وأن من فرط فيما مضى ينبغي أن يبادر للحفاظ على ما بقي، فإن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.

    بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير مرغوب من الزمن

    يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

    ثم عليكم أن تتذكروا النتيجة النهائية التي بين النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في حال العرض على الله، فشهد ذلك بعض الحاضرين فقال:

    أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا

    إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

    ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

    إن الذين فرطوا في العشر الأوائل من رمضان، ثم فرطوا في العشر الأواسط من رمضان، ثم جاءهم التسويف والإمهال، فما زالوا كل يوم يقولون: نستعد ونتأهب حتى وصلوا إلى هذا اليوم، هذه فرصتهم الآن ليروا الله من أنفسهم خيراً، فليست الأعمال في الميزان بالكثرة، وإنما هي بالإخلاص، إذا أخلص الإنسان فيها وأتقنها على مراد الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى لا ينظر إلى صور الناس، ولا إلى أعمالهم، وإنما ينظر إلى قلوبهم، ولهذا قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:18-19].

    فأهل الإيمان الذين علم الله في قلوبهم الإخلاص، والإقبال عليه، والندم على ما فرطوا في جنب الله، يناديهم الله سبحانه وتعالى من فوق عرشه فيقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53]، قولوا جميعاً: لبيك ربنا وسعديك، هذا نداء الله لكم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:53-56].

    لاحظوا هذه الأعذار التي تذهب وتزول يوم القيامة، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36].

    العذر الأول: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56]، فمجرد الحسرة على ما فرط فيه الإنسان إذا لم يبدل الإنسان سيئاته حسنات، ولم تؤثر فيه هذه الحسرة تأثيراً يحجزه عن الوقوع في المعصية فيما يستقبل من عمره، فلا فائدة فيها، بل هي مجرد انشغال وألم، وعذاب دنيوي قبل العذاب الأخروي، يعذب الإنسان بالحسرة والندامة قبل العذاب الأخروي، دون أن يستفيد من تلك الحسرة شيئاً، إنما فائدة الحسرة أن يقلع الإنسان عن المعصية، وأن يبدل السيئة حسنة، وأن يستغل ما يستقبل من عمره للطاعة، فلذلك قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]، أي: العابثين الذين يسخرون بالأوقات، ويسخرون بما مكن الله لهم من النعم، ويسخرون من الآخرين من العباد، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].

    ثم قال: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، هذا عذر آخر من الأعذار الواهية، وهو الاستدلال بالقدر، فكثير من الناس يقولوا: كل شيء بقدر الله، والله يختار من عباده من يوفقهم لطاعاته، ويكتب المعصية على من شاء من عباده، نعم، يكتب ذلك ويختار، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، لكن القدر يستدل به في المصائب لا في المعائب، فلا تستدل بالقدر في معصيتك وتفريطك، ولا تستدل به في نقصك، فإنما يستدل به في المصيبة إذا أصابتك تتعزى بها، تتعزى بالقدر عن المصيبة، لكن لا تعتذر بالقدر عن المعصية، فذلك عمل إبليس، فلهذا قال: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، ثم أتى بعذر آخر فقال: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]، هذا أوهى الأعذار وأضعفها أن يستمر الإنسان على غوايته في هذه الحياة الدنيا، فيبقى سادراً لا يبالي، مقبلاً على المعصية، تقدم عنه التقارير إلى الله في الصباح والمساء بأنه مقبل على المعصية لا يبالي، ثم بعد ذلك إذا جاء الموت تمنى أن يرجع إلى الدنيا لحظةً ليغير عمله، وليس براجع، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، إن أوهى الأعذار هذا العذر أن يستمر الإنسان طيلة وقت الامتحان حتى إذا أخذت منه الدفاتر، وطويت الصحائف، وختم عليها بما فيها تمنى بعد ذلك الرجوع، كحال أهل النار الذين إذا شاهدوا ما فيها من العذاب: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100]، فلذلك هذه الأعذار كلها ردها الله سبحانه وتعالى على أصحابها، ولم يجعل منها ما يخاصم به الإنسان، أو يكون بينةً بينه وبين الله.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في شهر رمضان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى بعد شهر رمضان، اللهم اختم لنا رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك، واجعلنا فيه من عتقائك من النار.

    وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765787564