بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على فطرته التي ارتضاها، وهي العبودية لله سبحانه وتعالى والقيام بحقه والسعي لما فيه النفع والحرص على اجتناب ما فيه الضرر، وهذه الفطرة هي حال الإنسان المستقيم السليم وما عداها لا بد أن يكون حائداً عن هذا الطريق فيميل يميناً أو شمالاً، وهذا الميل هو الذي يسمى بالانحراف، وهو الذي يسمى بالتطرف عن طريق الحق، أي: بالميل عن طريق الحق يميناً أو شمالاً.
وهذا الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده أرسل به رسله، وبينه أكمل البيان وأنزل به كتبه، وأقام عليه الحجج والبراهين، وهو معصوم ثابت، وأكثره وأمه أمور بينات لا يختلف فيها اثنان، وما سوى ذلك منه أمور اجتهادية يتعبد الله تعالى الناس بطلب الحق فيها، فيوفق من شاء للحق عنده، لكن الجميع إذا طلبوا الحق فأخلصوا لله سبحانه وتعالى معذورون من أصاب منهم ومن أخطأ، المصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر )، فكل من طلب الحق وابتغى وجه الله سبحانه وتعالى في الأمور الاجتهادية، التي هي غير محسومة بالنص فهو معذور أصاب الحق أو أخطأه، وإنما تتبين إصابته للحق بموافقته للدليل والبرهان الآتي من عند الله سبحانه وتعالى، الذي قد يخفى على الإنسان في ذاته فلا يصل إليه علم به؛ لأن كثيراً من الأدلة والبراهين غير قطعية الورود كأخبار الآحاد ونحوها، أو قد تخفى عليه دلالته كقطعي الورود من النصوص كما هو في القرآن، ولا يكون قطعي الدلالة؛ فيكون حينئذ الإنسان معذوراً إذا لم يستوعبه ولم يفهمه على وجهه الصحيح؛ لأن الله تعالى قادر على بيانه غاية البيان كما بين غيره من الأحكام، وإنما جعل فيه ذلك الخفاء والإجمال لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.
ومن حكمته في ذلك أن يمتحن عباده بالتماس الحق وطلبه، وإعمال العقول والآلات التي أعدهم بها لفهم كتابه وللتلقي عنه سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يجعل الله تعالى من القرآن متشابهاً ومنه مجملاً ومنه مشكلاً ومنه خفي الدلالة، فيتعبد الجميع بالوصول إلى طريق واحد وهو الصواب، بل لا بد أن يترتب على ذلك الخفاء أن يرزق الله سبحانه وتعالى فهمه من شاء من خواصه من خلقه، وأن يعذر من لم يصل إلى ذلك لأن الخفاء الذي فيه كاف في الإعذار وكاف في التماس الحق وطلبه، وإذا بذل الإنسان جهده فإن الله سبحانه وتعالى لا يكلفه ما زاد على جهده، وقد صرح بذلك في كتابه في عدد من الآيات؛ فقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7].
على الإنسان أن يبذل جهده في الوصول إلى الصواب؛ فإذا وصل إليه فبها ونعمت؛ فإن حصلت لديه القناعة بأن هذا هو مراد الله وعرف دليله فتعين عليه حينئذ، وإذا لم يصل إلى الصواب وإنما وصل إلى ما اقتنع هو بأنه أقرب الأمور إلى مرضاة الله، وأقمنها بالحق مع أنه قابل لأن يكون غلطاً؛ فهو حينئذ معذور كحال الأئمة المجتهدين، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يقول في هذا النوع من المسائل الاستنباطية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، وكان الشافعي رحمه الله يقول فيه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وكان كثير من الأعلام في مثل هذه الأمور الاجتهادية يبذلون جهودهم، ثم يصلون الاستخارة ويسألون الله تعالى أن يختار لهم الخير، ويبرأون إلى الله من حولهم وقوتهم اعتماداً وتوكلاً على الله وحده.
وهذا الجانب من الربانية لا بد منه لدى المتأخرين، وهو مفقود لدى كثير منهم إلا من رحم الله، فكثير من الذين يتناقشون في المسائل لا يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى في أن يبين لهم الصواب، وقد كان كثير من الأئمة الأعلام من ذوي الذكاء والعلم والخبرة إذا عرضت عليهم النازلة وغشيهم الرحضاء، كحال مالك رحمه الله كان إذا سئل عن المسألة سكت، ووجم كثيراً وأطرق إلى الأرض، وتحدر العرق من وجهه لشدة الهول؛ لأنه يعلم أنه موقع عن رب العالمين، وأنه سيجيب بسؤال سيعرض عليه بين يدي الملك الديان، فيقال: أنت أفتيت بكذا.
فلذلك كانوا يجتهدون في الربانية واللجأ إلى الله، ومن الأذكياء المشاهير أحمد بن عبد الحليم بن تيمية شيخ الإسلام، فقد كان إذا عرضت عليه المسألة يصلي ركعتين، فيجلس في مصلاه وهو مكب على ركبتيه يقول: (يا معلم داود علمني ويا مفهم سليمان فهمني) فهم يلجئون إلى الله تعالى في أن يفهمهم الحق، وهذا بعيد جداً من التعصب وبعيد جداً من أن يحتكر الإنسان الحق، ويرى أن الحق هو ما لديه فقط وأن ما سواه هو عين الباطل.
فلذلك لا بد أن نتخلق جميعاً بخلق العلماء وهديهم، وأن نعلم أن ما أخفاه الله تعالى من المسائل إنما هو أرزاق يرزقها من شاء من عباده، وهي مثل غيرها من الأمور التي تحتاج إلى اللجأ إلى الله والتوكل عليه والاعتماد عليه في الشأن كله.
وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أنه ضعيف، فكما أن قواه ضعيفة عن القيام بحق الله في عباداته، ولا يرضى أحد منا عن أية عبادة قام بها؛ هل يرضى أحد منكم عن صلاته التي صلاها الآن، وهي صلاة العصر المشهودة التي قال كثير من أهل العلم هي الصلاة الوسطى؟ لا يستطيع أحد منكم أن يرضى عن عمله، فلذلك ينبغي أن يدرك أن فهمه واجتهاده وعلمه هو من عمله؛ فلا يكون مرضياً عنه، فالرضا عنه من علامات النفاق، وإذا رضي الإنسان عن علمه وفهمه فهذا من علامات النفاق؛ ولذلك لا بد أن يدرك أن علمه هو من عمله، كما أن عمله قاصر في كل الأمور كذلك علمه وفهمه؛ وبهذا يتواضع لله سبحانه وتعالى ويصلح للتلقي عنه وفهم كلامه؛ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].
ثم إن علينا أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى شرع الاعتدال في الشأن كله، في جميع المعاملات: في معاملة النفس ومعاملة الله ومعاملة الناس، وشرع الله تعالى الاعتدال والتوازن بين الإفراط والتفريط وهو المنهج الإسلامي القويم، الذي يقتضي من الإنسان في التعامل مع الله سبحانه وتعالى ألا يستغرق وقته كله بالعبادة، فيهمل حقوق نفسه وحقوق الناس؛ فهذا غير مرضي شرعاً ولا يرضاه الله لعباده، ولم يكلف البشر أن يكونوا ملائكة أبداً، بل البشر يأكلون ويشربون ويفترون وينامون ويمرضون، وهذه العوارض التي تعتريهم رتب عليها الشارع أحكاماً؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر قال الله لملائكته: انظروا ما كان يعمل عبدي في صحته وإقامته فاكتبوه له )؛ فهذا يقتضي أن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر والمريض، وأعلم ملائكته بذلك؛ فلهذا على الإنسان أن يعلم أن هذه العوارض التي تعرض له، والأحوال التي تعتريه مؤثرة في ذاته، ومن هنا فلا يمكن أن يستغرق وقته كله في جانب التعبد، كما أنه لا يمكن أيضاً أن يستغرق وقته كله في أمور الدنيا وإهمال شئون الآخرة؛ فهذا شأن عبدة الدنيا وأهلها، الذين حياتهم كحياة البهائم والأنعام؛ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ[محمد:12].
فإذا كان الإنسان يعلم أن له دارين: الدار الآخرة والدار الدنيا، فيؤثر الآخرة على الدنيا، ويقدم حقوقها لكن مع ذلك لا يهمل نصيبه من الدنيا، ويعلم أنه مكلف بتكليف لم يشاور عليه ولم يؤخذ رأيه فيه، والذي كلفه هو العليم الخبير، وقد شرع له الأحكام المتعلقة بالدنيا والأحكام المتعلقة بالآخرة، لا بد أن يعتدل في طلبهما معاً، وأن تكون حياته منظمة على هذا الأساس؛ فوقت الصلاة أهم خطاب يتجه إلى الإنسان فيه هو هذا الخطاب بأداء الصلاة المفروضة المكتوبة، ولا يمكن أن يعارضها إلا الضرورات التي يحتاج إليها الإنسان حاجة ضرورية، وما سوى ذلك لا يمكن أن يبدأ على الصلاة؛ ولهذا كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع.
وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن أمور الآخرة أيضاً ليست على درجة واحدة في الخطاب؛ فمنها الفرائض ومنها السنن ومنها المندوبات، والفرائض منها عينية وكفائية، والعينيات منها مضيق في الوقت وموسع؛ فيبدأ الإنسان بالفرض العيني المضيق فهو مقدم على غيره، ثم بعده بالفرض العيني الموسع، ثم بفرض الكفاية.. وهكذا، فيرتب هذه الأحكام بفقه وعلى حسب مراتبها التي وضعها الشارع فيها؛ فلا يمكن أن يبدأ الإنسان بالسنة قبل الواجب، وإذا كان عليه فرائض حال وقتها، فكيف يتشاغل بما دونها من السنن والمندوبات؟! وإذا كان لديه فرائض مضيقة وفرائض موسعة - وقتها واسع - فلا بد أن يبدأ بالتي ضيق الشارع وقتها؛ لأن تضييق وقتها يقتضي المبادرة إليها وعدم إرجائها وتأخيرها.
في أمور الدنيا لا بد أن يدرك الإنسان أن معاملته في هذه الحياة الدنيا حتى في حقوق نفسه، في معاملته مع نفسه منوعة أنواعاً كثيرة؛ فمنها حقوق ترجع إلى الروح والأمور الروحانية، ومن ذلك توبته وإنابته إلى الله سبحانه وتعالى وإخلاصه في عمله؛ فهذا من حقوق نفسه، وإذا فرط فيه وأهمله فسيبقى جانب من جوانب تركيبه أشل، ولا يستطيع الحراك ولا ينوء به غيره من سائر بدنه؛ فالإنسان الذي روحه لا تدرك شيئاً من طعم العبادة، ولا تتذوقه ولا تتذوق حلاوة الإيمان فإن جانباً من جوانبه مشلول، والإنسان الذي يبالغ في الروحانيات على حساب البدنيات، فوقته مشغول بالتفكير لكنه مع ذلك مهمل لعمل الجوارح؛ أيضاً سيكون مهوساً مملوءاً بالوساوس والظنون، ولا يستطيع القيام بفروضه وواجباته.
وكذلك فإن حقوق البدن أنواع منوعة؛ فللبدن حق في التغذية وحق في النوم وحق في الراحة وحق في الستر.. وهكذا، ومنافع الإنسان أصولها الأربع التي يتعهد الله بها لـآدم في الجنة، فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، ومعنى (تضحى) تبرز للشمس، أي: السكن؛ فالطعام والشراب واللباس والسكن هذه أصول المنافع التي هي حقوق بدن الإنسان في خاصة نفسه، ولا بد من التوازن بينها؛ فكيف يكون الإنسان مثلاً يلبس أحسن الملابس لكنه جائع مع ذلك؟! هل هو عاقل أن يشتري أحسن الملابس ويموت جوعاً؟! هذا من غير المستقيم، بل هو من غير التوازن ومن غير الاعتدال، وكذلك الحال إذا كان يتغالى في أنواع المطاعم، وهو يلبس الأسمال والرثوث من الملابس؛ هل هذا معتدل أيضاً؟! أبداً. هذا غير مستقيم الهدي؛ فلذلك لا بد أن يراعي الإنسان التوازن بين حقوق نفسه، وهكذا إذا كان الإنسان يأخذ جل وقته للنوم والراحة، ويترك اليسير منه والهامش القليل للعمل؛ هل هو معتدل متوازن؟! أبداً؛ لأنه صرف إلى النوم أكثر من نصيبه.
فنعم الله تعالى ينبغي أن ينظر إليها بنظرة اعتدال على هيئة الميزانيات؛ فهذه الوزارة ميزانيتها كذا وكذا، وهي مقسمة إلى بنود، البند الفلاني للإسكان والبند الفلاني لرواتب الموظفين، والبند الفلاني للتسيير والبند الفلاني لصيانة المنشآت، فهذه البنود لا يمكن أن يقضي بعضها على بعض ولا أن يقع فيها الخلل، وإذا حصل فيها عدم تساوي فإنما هو ناشئ إلى عدم التساوي في التكاليف كذلك؛ فيكون عدلاً لا جوراً حينئذ.
لا بد أن يكون الإنسان في تعامله مع أهله؛ فمن له والدان، كيف يكون براً مثلاً بأبيه عقاً بأمه أو براً بأمه عقاً بأبيه! هذا غير متوازن ولا معتدل، ولا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، بل لا بد من أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه؛ فيبدأ بحق الأم عند الضيق إذا لم يجد إلا حق أحدهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، لكن لا بد في حال الاتساع أن يراعي حقوقهما معاً وأن يكون براً بهما معاً، وقد جمع الله حقوقهما في كتابه في عدد من الآيات، كقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36]، وكقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23]، وكقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا[الأحقاف:15]؛ فكل هذا يقتضي التوازن بين مراعاة حقوقهما معاً.
وكذلك الأولاد؛ فلا بد من مراعاة حقوقهم بالسوية، وقد صح في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيح ( أن أباه بشير بن سعد وهبه حديقة بالمدينة، فأصرت عليه عمرة بنت رواحة وهي أم النعمان أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال: فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اشهد أني وهبت ابني هذا النعمان حديقتي؛ فقال: أكل نحلت ولدك مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على زور، اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم )؛ فهنا لا بد من العدل بين الأولاد في العطية وفي التربية وفي القيام بالمصالح كلها؛ من النصيحة والإرشاد وغير ذلك من حقوقهم الكثيرة، التي يهمل كثير من الناس ما يتعلق بالنصح والتعليم والتربية منها، وكثير من الناس إذا سمع الحقوق انصرف ذهنه إلى الحقوق المادية فقط؛ فيظن أن الأولاد حقوقهم النفقة والسكنى، ويهمل ما سوى ذلك من حقوقهم من التربية والدعاء والنصح والتعليم، وغير ذلك من الأمور التي هي آكد وأعظم من حقوقهم في النفقة والسكنى.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا حين أنكر على بشير بن سعد عدم عدله بين أولاده لم يقل: إن جميع الأحوال ستكون كذلك، بل لا شك أن الأولاد أيضاً قد يقع التفاوت بينهم؛ فمن كان منهم ذا تكاليف، لديه بيت وأولاد وهو فقير لا شك أنه يمكن أن يخصصه والده بما لم يخصص به غيره ممن ليست عليه تلك المئونة، ومن كان أفضل وأبر أيضاً لا شك أنه يستحق مكافأة أكبر من التي يستحقها من دونه؛ ولذلك صح عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه قال لها في مرض موته: قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقاً من نخلي الذي بالعالية؛ فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث. فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه خص عائشة رضي الله عنها لما ميزها الله به من الفضل والبر وغير ذلك؛ فهي قطعاً أفضل ولده؛ فقد ميزها وخصها بهذه العطية، بجذاذ خمسين وسقاً من نخله الذي بالعالية، لكنه علمها الحكم عند موته قال: فلو كنت أخذتيه - أي حزتيه - لملكتيه، أي: لملكته، وأما اليوم - أي بعد أن وصل هو إلى جد السياق والموت - فإنما هو مال وارث، أي: ( لا وصية لوارث )، فـعائشة لم تحزه فأصبح بمثابة الوصية، فهبة المريض بمثابة الوصية، ولا وصية لوارث؛ فلذلك قال: فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث؛ فهذا النوع لا ينافي هذا الاعتدال بين الأولاد في مراعاة حقوقهم.
وأيضاً لا بد أن نعلم أن الشارع إذا ميز الذكور من البنين في الميراث على البنات فليس معنى ذلك الجور على البنات في حقوقهن، فيجب على الوالدين مراعاة حقوق البنات كمراعاة حقوق الأولاد ولا فرق؛ فما عليهم من النفقة والسكنى والتربية والدعاء والنصح والتعليم من الحقوق يستوي فيه الذكور والإناث من أولادهم، وإنما خص الله تعالى الذكران في الميراث بالتضعيف بناءً على أمور أخرى، ومنها ما كلفهم به من التكاليف فالتشريف على قدر التكليف؛ لأن الله تعالى جعل على الأولاد الذكور الدية ولم يجعل ذلك على البنات، وجعل على الرجال المهور ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً، وجعل على الرجال النفقات ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً؛ فالمرأة لا يجب عليها نفقة زوجها ولو كانت غنية وكان فقيراً، ولا يجب عليها نفقة أخيها ولو كان فقيراً وهي غنية، ولا يجب عليها نفقة ولدها ولو كانت غنية وهو فقير، وهذه أمور مما ميز الله بها الرجال من التكاليف، كذلك في مقابلها زاد نصيبهم في الميراث، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، لكنه مع ذلك في الوصية وفي الوقف وغير ذلك ساوى بينهم، والإخوة لأم ساوى أيضاً ذكرهم وأنثاهم في الميراث؛ فهذا كله يقتضي الاعتدال والتوازن في التعامل.
كذلك التعامل مع الجيران؛ فلا بد أن يدرك الإنسان أن إحسانه إلى بعضهم لا يبرر إساءته إلى بعض، وأن عليه أن يحسن إلى الجميع، وأن يكون خيره متعدياً، وأن يعلم أن للجار حقاً عظيماً حض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه )، ومع ذلك فأقرب الجيران باباً إلى البيت أولاهم بالصلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجار أحق بصقبه )، وفي رواية في صحيح البخاري : ( الجار أحق بسقبه )، و (الصقب) و(السقب): القرب؛ فالمقصود بذلك: من كان أقرب فهو أحق بحقوق الجار، وعندما: ( سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقوق الجيران بأيهم يبدأ قال: أقربهم بيتاً )، أي: أقربهم داراً إليك؛ فهذا تبدأ به قبل غيره؛ لأن الجوار علاقته ناشئة عن القرب المكاني، فمن كان أولى بهذه العلاقة التي هي أصل الحق المترتب شرعاً كان أقدم من غيره.
ثم إن حقوق الجار أيضاً منها ما يتعلق بالجانب السلبي، أي: بكف الضرر، ومنها ما يتعلق بالإحسان، والجانب السلبي مقدم على الجانب الإيجابي دائماً في التكاليف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، فكف الأذى مقدم على الإحسان، فلو كان الإنسان يحسن ويتصدق على الفقراء، ولكنه في مقابل ذلك يمن ويؤذي؛ فما فائدة صدقته وصلته؟! فإنه يبطلها بالمن والأذى، وهذا ما نهى الله عنه في كتابه، وبين أن مجرد القول بالمعروف خير من الصدقة التي يتبعها الأذى؛ فقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى[البقرة:263].
كذلك فإن النظر إلى الآخرين عموماً لا بد فيه من هذا الاعتدال والتوازن؛ فالإنسان يشهد على الناس بشهادة الأمة لأنه فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة شهود الله على الناس، وظفها الله بذلك في كتابه فقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، لكن هذه الشهادة إنما هي شهادة في الجملة لا في الأفراد؛ فلذلك ليس على الإنسان أن يعد نفسه قيماً على الآخرين مراقباً لحركاتهم وسكناتهم، متتبعاً لزلاتهم وعوراتهم؛ فهذا ليس من تكليف الإنسان، وعليه أن يعمل بمقتضى الظاهر وبما يرى، فمن رآه من أهل الخير في الظاهر ظن به الخير في الباطن، ووكل سريرته إلى الله تعالى، وتعامل معه على حسب ما يبدو منه؛ فالإنسان الذي لا تعرفه إلا في المسجد إذا أذن المؤذن كان من السابقين الأولين إلى الصف الأول، ولا تعرف ما يعمل في بيته؛ ليس لك أن تظن به إلا خيراً؛ لأنك لا تعرف فيه إلا خيراً، والإنسان الذي لم تعرفه قط إلا في بيوت الله في المساجد لا شك أنك تشهد له بالإيمان، كما جاء في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18] ).
ومن هنا ليس عليك أن تتبع عورات الناس ولا أن تكشفها، وقد حرم الله سبحانه وتعالى التجسس والتحسس، وقال في سورة الحجرات: وَلا تَجَسَّسُوا[الحجرات:12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا ولا تحسسوا )، وبين أن الذي يتجسس على الناس ويتطلع على ما ستروه من أحوالهم لا بد أن يكشفه الله في الدنيا والآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة )، وفي الحديث الآخر: ( من تتبع عورة مسلم ليفضحه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).
فلذلك لا بد أن يدرك المسلم أن من حقوق المسلمين عليه أن يعاملهم بحسب ما يظهر منهم وما يبدو، وأن يكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يختص بالذين يعاشرهم ويعايشهم بل يشمل سلف الأمة ومن مات منها، فالذين ماتوا من هذه الأمة إذا كنت لا تسمع في تراجمهم إلا الخير والصلاح ولا تسمع إلا الثناء عليهم بالحق؛ فلا يمكن أن تتبع زلاتهم وعوراتهم وأن تبحث عنها؛ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[البقرة:134]، وكذلك ما حصل بينهم وما شجر بينهم من الخلافات حتى لو كان ذلك في تاريخ الأمة المشهور المنقول، كما حصل بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين؛ فعليك أن تكون متوازناً فيه معتدلاً، وألا تعادي أحداً منهم، وأن تواليهم جميعاً بولائهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله، وأن تعلم أنهم أحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فسابقتهم بالإسلام وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه، كل ذلك مقتض لتكفير زلاتهم، والله سبحانه وتعالى بين معذرته لكثير منهم في بعض الأخطاء التي وقعوا فيها، فقال تعالى في يوم أحد في تقويم هذه الغزوة العظيمة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155]، فقوله: ((وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ)) هذه الجملة قاضية على ما فرطوا فيه وما حصل منهم؛ فعفو الله سبحانه وتعالى قاض على كل ذلك مذهب له، وبالأخص الذين رضي الله عنهم رضاه الأكبر الذي لا سخط بعده، كالذين شهدوا بدراً والذين بايعوا تحت الشجرة، فأولئك حل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده؛ فلا تقع ذنوبهم إلا مغفورة؛ لأن الرضا سبق الذنب، فما يقع منهم فيما بعد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان من الحروب، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق سبق ذلك رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده؛ فلا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده! لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وصح عنه في صحيح مسلم أنه قال حين انتهوا من البيعة: ( أنتم خير أهل الأرض )، وقد بين الله رضاه عنهم في قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:18]، فأولئك الذين حل عليهم رضوان الله كيف تتطرق إليهم ألسنة الناس بعد؟! فما يمكن أن يحصل منهم إلا ما هو مرضي عن الله حتى لو كان ذنباً محرماً سبقته المغفرة.
كذلك الذين اتبعوهم بإحسان، التابعون لهم بإحسان من مختلف العصور لا شك أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس! محمد بيده لو لم تخطئوا فتتوبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يخطئون فيتوبون فيتوب عليهم ).
فلذلك نعلم أن لدى البشر أخطاءً لكن تلك الأخطاء ستوزن يوم القيامة وفي مقابلها حسناتهم، ومن رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته فسيكون من أهل الجنة قطعاً، فرجحان كفة الحسنات يوم القيامة قاض على ما كان في الكفة الأخرى، وإذا أدرك الإنسان ذلك وعرفه هان عليه الأمر، وبالأخص حين يقارنه بنفسه، وإذا قرأت في سير أحد الماضين أو ذكر لك عن أحد السابقين من أهل العلم أو من أهل الصلاح، من الذين لم تدركهم بعض الأخطاء التي يتعرف أنها خطأ وتعرف الدليل المخالف لها، انظر إلى ما تقع فيه أنت من الخطأ وأنت تعرف أنه خطأ وتعرف الدليل المقابل له، وإذا عرفت ذلك فستوصف الآخرين؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل بني آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون )، وبمراقبتك لأخطائك يقل تطرقك للنظر إلى أخطاء غيرك، وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثر الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية. إذا اطلعت على بعض زلات الآخرين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى سترك أنت حين لم يطلع غيرك على عيوبك، وأنت تعلمها ولا تستطيع إنكارها؛ فليكن ذلك حافزاً لك على طاعة الله وإتقان عبادته والتوبة إليه من زلاتك والإكثار من الاستغفار، وأيضاً من حق أولئك السابقين أن تستغفر لهم إذا اطلعت على أخطائهم؛ فالله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10]، وقد سمع الإمام مالك رحمه الله رجلاً من الخوارج يسب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: (أأنت من السابقين الأولين من المهاجرين؟ قال: لا، قال: أفأنت من الأنصار الذين آووا ونصروا؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان) فالذين اتبعوهم بإحسان وصف الله حالهم بأنهم يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].
ثم إن على الإنسان في هذا الباب أن ينظر إلى من هو فوقه في الطاعة، وأن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ( انظروا في أمور الآخرة إلى من فوقكم، وانظروا في أمور الدنيا إلى من دونكم؛ فذلك أقمن أن لا تزدروا نعمة الله عليكم )، فعلى الإنسان أن ينظر إلى من فوقه في أمور الدين، فمن كان أكثر منه صلاة وذكراً وقراءة للقرآن، وملازمة للطهارة، وملازمة للمساجد، وإمساكاً لجوارحه عن المعصية؛ هذا قدوة وإسوة ينبغي أن يأتسي به حتى لو كان هو أعلم منه، ولو كان أرفع منه نسباً، ولو كان أفهم منه، لكن فائدة ذلك كله ما يقرب إلى الله، ولا عبرة بشيء من هذه الأمور إلا ما جاء في كفة الحسنات منها، كل أعمال الإنسان يوم القيامة إلى الميزان، والميزان له كفتان ولسان، ولا يظلم الله الناس شيئاً، فمن رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته؛ فجزاؤه الجنة، ومن رجحت كفة سيئاته؛ سيساق إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وبذلك لا بد أن تكون معتدلاً في نظرك إلى الآخرين وبالأخص إذا عرفت أن لهم إحساناً وحسنات عظيمة؛ فلا بد في مقابل ذلك أن لا تقضي نظرتك إلى سيئاتهم على نظرتك إلى حسناتهم؛ فإذا كنت لا تنظر إلا بعين السخط ولا تنظر أبداً بعين الاعتدال والتوازن؛ فلن ترى إلا بتلك العين ولن ترى إلا ممقوتاً بغيضاً، وإذا نظرت أيضاً دائماً بعين الرضا فلن ترى إلا مرضياً، وعين الرضا يطلب النظر بها في بعض الحالات، كالنظر إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، أي: القرون التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالتزكية؛ ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم، ثم يغز فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم )، فأولئك القوم الذين ميزهم الله وفضلهم ينظر إليهم بعين الرضا دائماً، ولا تلتمس زلاتهم ولا يظن بهم إلا أحسن المخارج ولا يظن بهم ظن السوء أبداً، ومن دونهم من الناس لا بد إذا أردت تقويمهم أن تنظر إليهم بعين الاعتدال.
وإذا لم تنظر بعين الرضا، فلا تنظر بعين السخط؛ فعين السخط ستبدي لك المساوي كلها، فتظن أن هذا الإنسان شيطان؛ لأنك ستتغاضى عن كل ما فيه من أوجه الخير، وهذا هو الذي زلت به أقدام الخوارج في تقويمهم لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمام المسلمين، وهم له ظالمون وقد حصروه وقتلوه في الشهر الحرام في البلد الحرام مظلوماً رضي الله عنه، سئل عندما منعوا عنه الماء وهو في الدار، فقيل: (لماذا يعاملونك بهذه المعاملة؟ فقال: أراهموني الباطل شيطاناً). معناه: الباطل جعلني في أعينهم شيطاناً؛ فلم ينظروا إلى سابقته بالإسلام، ولا إلى حقوقه ولا إلى بلائه في الإسلام، ولا إلى شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة تعييناً، ولا إلى أنه قد حل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده؛ فكل ذنوبه سبقتها المغفرة، لم ينظروا إلى شيء من هذا، وإنما بدءوا ينظرون إليه على أنه إنسان مثلهم، بل ظنوا أنه شر منهم؛ فقوموه فقط ببعض الأعمال التي يرونها، وتركوا ما يقابلها من الأعمال الجسيمة العظيمة التي أهملوها؛ فهذا الذي يحصل منه الخطأ في تقويم الناس.
ثم لو قدر أنك نظرت إلى بعض العيوب لمصلحة شرعية، كالتعديل والتجريح في رجال الحديث مثلاً وحملة العلم؛ فلا بد أيضاً أن تكون صاحب ورع، وصاحب عفة لسان، وأن لا تتجاوز القدر الذي قامت عليه البينة وقام عليه الدليل، وقد قال يحيى بن معين رحمه الله: (إنا لنتكلم في أقوام عسى أن يكونوا حطوا رحالهم بالجنة قبل مائة عام، ولكن لأن يكونوا خصوماً لنا أحب إلينا من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصماً لنا). ومن نظر إلى أحوال الذين يتكلمون في الجرح والتعديل من أئمة الدين وجد من الدقة والحرص على عدم التجاوز والتعدي الشيء الكثير؛ فالذي يوصف بأنه ثقة لا يمكن أن يغمطوه حقه فيصفوه بأنه صدوق، والصدوق الذي لا يهم لا يمكن أن يصفوه بأنه يهم، ومن هو متصف بمرتبة من مراتب الجرح أيضاً، لا يمكن أن ينزلوه إلى المرتبة التي دونها؛ ولذلك فمراتب الجرح لديهم ثمانية، هذه المراتب كل مرتبة لها طائفة تختص بها، ولا يمكن أن يوصف المجروح بمرتبة من مراتب الجرح بمرتبة أدنى منها؛ لأن ذلك ظلم له وتعد عليه، فلا يتجاوز به مكانه، وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرهم أن ينزلوا الناس منازلهم )، وهذا يقتضي عدم التجاوز بالإنسان لأية مرحلة يكون فيها.
ثم إن التعامل معهم أيضاً فيما يتعلق بسابقتهم في الإسلام وبلائهم فيه مقتض لغفران كثير من زلاتهم وأخطائهم، كما قال ابن القيم رحمه الله: (زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث). إذا نظرت إلى سابقتهم في الإسلام وبلائهم فيه، وكم علموا وكم أحسنوا، وكم صلوا وكم تصدقوا وكم زكوا، وكم ذكروا الله وكم ختموا القرآن وكل حرف منه بعشر حسنات؛ رأيت الفضل العظيم والسبق الجزيل الذي سبقوا به، وعرفت أن من تعلم منهم لهم أجره بعد موتهم، فالجيل الذي سبقنا وقد أدركناه وماتوا رحمهم الله، لهم أجر أعمالنا وأعمال من تعلّم منا إلى يوم القيامة، فهم أفضل منا وخير منا؛ لأن أعمالنا في ميزان حسناتهم، والجيل الذي سبق ذلك أفضل من ذلك؛ لأن أعمال أولئك في ميزان حسناتهم أيضاً.. وهكذا.
ولهذا فإن السلف مقدم على الخلف لزيادة الأجر، وقد قال الشيخ محمد عالي رحمه الله:
وكل أجر حاصل للشهداء أو غيرهم كالعلماء والزهداء
حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا
مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد
إذ كل مهتد وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا
له من الأجر كأجر العامل وضعف ذا من ناقص وكامل
وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه
وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة
صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).
كذلك في تعامل الإنسان مع الناس أيضاً لا بد أن يدرك تنوعهم وتنوع حاجته إليهم؛ فبعضهم تعامله معه تعامل ديني؛ يصلي معه فيعينه على هذه الشعيرة العظيمة، ويتعلم معه؛ فيفيده في أحكام دينه، يأمره بالمعروف إذا قصر فيه، ينهاه عن المنكر إذا وقع فيه، يذكره إذا غفل، يعينه إذا ذكر، هذا النوع من الناس هو بمثابة الغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وتعامله معه لا بد أن يكون محاطاً بكثير من القداسة؛ لأنه تعامل ديني، فإذا رأيته في أي تقصير فليس بينك وبينه فوارق؛ تذكره بالله، وإذا رآك في أي تقصير ذكرك بالله؛ فعلاقتك به ليست مرتبطة بنسب ولا بمصالح دنيوية، بل هي مرتبطة بالدين المقدس.
ومن هنا فهي علاقة لا تنقطع، لو أخطأ عليك أو عاملك معاملة سيئة ستلتمس له العذر، وتعلم أن ذلك قد يكون راجعاً إلى بعض سيئاتك وعجلت لك العقوبة بها حين جرى على لسان هذا الإنسان خطاب لك بما لا يليق، أو معاملة لك بما لا يليق، وستنظر حينئذ إلى نفسك من هذه الزاوية، إذا بدر إليك منه أية إساءة وأنت لا تعرفه إلا بالخير فلا تعجل عليه، والتمس له العذر من أنه قد يكون مغضباً لسبب ما، أو قد يكون فهمك فهماً خاطئاً في وجه من الوجوه، أو قد يكون مصاباً بمرض في ذلك الوقت؛ فأنت تعذره كما يعتريك أنت الضعف والتكدر؛ فأحوالك غير ثابتة، وفي كل ساعة يمر بك من التطورات ما يدل على الفناء والانتقال من هذه الدار، فكذلك لا بد أن تعذر الآخرين بما يعتريهم من العوارض والأحوال، والشجاع إذا فر مرة فليس ذلك عاراً عليه؛ لأنه عرفت منه الشجاعة من قبل، كما قال الشاعر:
وليس فرار اليوم عاراً على الفتى إذا علمت منه الشجاعة بالأمس
وكذلك الجواد إذا كبى مرة؛ فإنه يعذر في ذلك ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ).
فقد بين الله سبحانه وتعالى من هذا التعامل وأوجهه الشيء الكثير؛ فمنها ما يتعلق بالاستئذان إذ قال: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[النور:28] هذا وجه عجيب جداً، إذا استأذنت على جارك وصديقك الحميم فلم يأذن لك؛ فارجع هو أزكى لك فأنت مثاب، وما كنت تطلبه من الخير سواءً كان دنيوياً أو أخروياً احرزت أكثر منه؛ لأن الله تعالى بين أن الذي أحرزته أزكى مما كنت تطلبه: فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[النور:28] أي: رجوعكم أزكى لكم.
وكذلك في الظنون قال تعالى في قصة الإفك: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ[النور:12-13]، هنا قال: ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[النور:12]، والمقصود بــ(أنفسهم) : بإخوانهم، أي: بالمؤمنين والمؤمنات، فالإنسان عليه أن يعرض ما وقع في نفسه أن أخاه وقع فيه يعرضه على نفسه؛ فإن أمكن وقوعه منه؛ فليعذر الآخر، وليعلم أن الأمر يمكن حصوله مني أنا، فكيف لا أعذر الآخر بحصوله منه، وإن وجدته مستحيلاً لا يمكن أن يقع مني؛ فينبغي أن ألتمس العذر لأخي وأظن به الخير، وأنه لا يمكن أن يقع منه هذا؛ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[النور:12] أي: هلا إذ سمعتموه، ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ[النور:12] ، أي: بالمؤمنين والمؤمنات، خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[النور:12] هذا الأصل أن يكذبه الإنسان؛ لأن لديه من القرائن ما يقتضي تكذيبه.
ثم إن على الإنسان في التوازن أيضاً في أعماله أن يدرك أن كثيراً من أعماله قد يظهر فيها التناقض أو التعارض في الظاهر، ولكن لا بد من الفقه في التعامل معها حتى لا يقع ذلك؛ فالإنسان في طلبه للعلم وطلبه للدنيا، كثيراً ما يظن ذلك متناقضاً متعارضاً، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله لما أتى المدينة اشترى حماراً ينتقل عليه بين الدروس والمشايخ؛ فأتعبه بعلفه وطلبه؛ فقال: كيف يقرأ من له حمار؟! فباعه، فسار على رجليه بين الحلقات فتعب؛ فقال: كيف يقرأ من ليس له حمار؟! فعاد فاشتراه.
فكذلك أمور هذه الحياة لا بد أن يقع فيها مثل هذا النوع ويسدد الإنسان ويقارب، ويجتهد في أقربها إلى الله سبحانه وتعالى وأرضاها له، وإذا كان دائماً في كل أموره يستعين بالله تعالى ويبرأ من حوله وقوته فهو معان لا محالة.
إذا كان عون الله للمرء صاحباً تهيأ له من كل صعب مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكذلك الحال بالنسبة للمقارنة بين الدعوة والعمل؛ فالإنسان لا شك أوجب الله عليه الدعوة إلى سبيله، وبين أن انتماءه للنبي صلى الله عليه وسلم مشروط بذلك: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]؛ فالانتماء لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم مشروط بالدعوة إلى ما جاء به، لكن كثيراً من الناس يحول بينه وبين ذلك ضيق وقته؛ فالواجبات أكثر من الأوقات، ويظن أن هذا العمل قد يقوم به الغير، فيكله إلى ذلك الغير، وهذا من عدم التوازن؛ فعلى الإنسان أن يكون متوازناً لا يعطي وقته كله للدعوة؛ فهذا تفريط في بعض الواجبات، ولا يخلي وقته كله من الدعوة؛ فذلك تفريط في بعض الواجبات أيضاً.
فالذي يأخذ بالنظرة السابقة في الاعتدال في التعامل مع الناس إذا كان ينظر إليهم دائماً بعين الستر حتى لو رأى المنكر لا يغيره ولا يأمر بالمعروف؛ هذا غير معتدل، لا بد أن يكون معتدلاً؛ فلا يتقصى البحث عن المنكر لكن إذا رآه لا بد أن يغيره، ولا بد أن تأخذه الحمية لدينه وأن ينتصر لله سبحانه وتعالى، ولا بد إذا رأى منكراً أن يغيره، لكن ليس له أن يلتمسه ويبحث عنه؛ فعلى الإنسان أن يسعى لإصلاح نفسه وإصلاح الآخرين ما استطاع بتوازن واعتدال.
ومن هنا فإن موازنته أيضاً لأدائه الوظيفي وأعماله الدنيوية مع طلب العلم والدعوة وأمور الآخرة من هذا القبيل؛ فلا بد أن يقسم وقته وأن يجعل برنامجه منضبطاً؛ ما كان منه لطلب العلم يختص به وهو جزء منضبط لا يجار عليه، وما كان منه لطلب الدنيا كذلك خصصه، وهو وقت منضبط لا يجار عليه، وما كان للعبادة كان أيضاً منضبطاً لا يجار عليه، وما كان للتعامل مع الناس وأداء حقوقهم إليهم.
كذلك كان كاملاً، لا يجار عليه.. وهكذا، فيؤدي إلى كل ذي حق حقه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ومثل هذا ما يتعلق بما يتجدد من الوقائع والأمور في حياة الناس؛ فإن كثيراً من الناس يدرسون الفقه مثلاً وقد دون في عصور مضت، وتأثر المدونون له بواقعهم؛ فإذا درست مثلاً في كتاب من كتب الفقه في أي مذهب من المذاهب بعض الأحكام، ستجد أنها تتعلق بالحديث عن دولة إسلامية قائمة تقام فيها حدود الله سبحانه وتعالى، وتراعى فيها فرائضه ويجاهد فيها أعداؤه، ويقام فيها كل شعائر الدين، هذا الذي تدرسه في الفقه؛ فتجد بعض الأحكام المترتبة على ذلك؛ فمثلاً إذا درست في "إحياء الموات" في مختصر خليل : ولم يحتاج إلى إذن بخلاف القريب، أي: أن الموات البعيدة عن الحاضرة لا يحتاج إلى إذن ولي الأمر بخلاف القريب من الحاضرة، فيحتاج إلى إذن ولي الأمر؛ فتظن أن الحال مستمر مطرد، وأن حالنا اليوم كالحال السابق، ومن هنا تظن أنك إذا كنت في الأحياء الشعبية التي لم تقسم بعد لا يمكن أن تتخذ مسجداً، بل إن بعض المفتين يعتمد على هذا المتن، فيفتي بأن المساجد التي هي في الأحياء الشعبية التي تسمى بـ(القصرة) أي: المأخوذة قسراً هي مساجد مغصوبة لا يصلى فيها، هذا غاية في سوء الفهم؛ لأنه أخذ نصاً يترتب على واقعة ماضية وعلى حال مضى، فأراد أن يرتبه اليوم على أمر مختلف تماماً.
وكذلك الحال بالنسبة للذين يدرسون أحاديث الإمامة، وما يتعلق بها وأحكام الأئمة وطاعتهم، فيريدون ترتيب ذلك على رؤساء منتخبين، ويظنون أن العلاقة بين الناخب والمترشح كالعلاقة بين المأمور والأمير؛ فهذا قياس خمر على لبن، وهو غاية في الخطأ والبعد؛ فخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بايعه المسلمون بالحق، وقام بإقامة الدين وسياسة الدنيا به حقوقه هي المنصوصة في النصوص الشرعية، أما ما سوى ذلك كرؤساء الأمصار عندما تقطعت الأمة الإسلامية إلى دول كحالنا اليوم؛ فليس أحد منهم يستطيع أن يزعم أنه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو زعم ذلك لوجب عليه من الواجبات ما لا يستطيع القيام به، كجهاد العدو وإقامة الحدود على جميع الأرض والعدل بين المسلمين جميعاً، قاصيهم ودانيهم، شرقهم وغربهم وجنوبهم وشمالهم، وهذا ما لا يستطيعه ولا يدعيه؛ فإذا عرف ذلك عرف أن الفرق شاسع في الأحكام بين الطائفتين، أي: بين أحكام الرؤساء والملوك وأحكام الأئمة والخلفاء، فرق شاسع بين الطائفتين في الأحكام وفي الواجبات وفي الحقوق، ولا بد من التوزان والاعتدال في مثل هذا النوع.
فأيضاً التعامل مع الحكام مطلقاً من الناس من يفرط فيه ومنهم من يفرِّط؛ فمن الناس من يرى أن كل حاكم فهو خليفة تجب طاعته والنصح له وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، ويرى الانقياد الأعمى وراء كل وال، ومنهم من يرى أيضاً خلاف ذلك فيرى أن قادة الزمان ورؤساءه جميعاً هم من الطغاة البغاة، بل ربما يكفرهم جميعاً فيرى منابذتهم جميعاً، وهذا كله خطأ؛ فالحد الوسط هو الذي يقتضيه الاعتدال؛ أن ينظر إليهم على أنهم ليسوا بخلفاء راشدين وأيضاً ليسوا بكفار ملحدين إلا من أظهر الكفر منهم؛ فهم من المسلمين مثل غيرهم، ووظائفهم ليست هي وظيفة الخلافة وليست أحكامها كأحكام الخلافة.
وهذا التوازن والاعتدال يقتضي عدم الاعتداء على حقوقهم، وأيضاً عدم تقديسهم والتجاوز بهم عن حدهم، فيوضعون في مكانهم المناسب ولا يتجاوز بهم ذلك.
وكذلك التوازن في التعامل مع العلماء أيضاً؛ فإن كثيراً من الناس يفرط وكثيراً منهم يفرط؛ فالذين يفرطون إذا سمعوا أية زلة أو أي قول يخالف هواهم، أو يخالف ما عندهم من عالم من العلماء، أو ممن يصفه الناس بذلك نبذوه وتألبوا عليه، ورأوا أنه عدو لله ونبيه، وجعلوه بمثابة إخوان القردة والخنازير.
وفي مقابل ذلك نجد آخرين يقدسون كل من انتسب إلى العلم حتى لو لم يكن من أهل العلم، ومن المعلوم أن هذا الزمان الذي نحن فيه هو آخر هذه الأمة الذي يكثر فيه المدعون، ويكثر فيه الذين يدعون العلم وليسوا من أهله، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً؛ فاستفتوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا )، فإذا غلا الإنسان فيهم ورأى أن كل من قيل عنه إنه عالم أو قيل عنه إنه مفت أو فقيه؛ فما قاله هو عين الصواب ولا يمكن أن يخالف بوجه من الوجوه؛ هذا هو نظر الشيعة الذين يرون أن مراجعهم معصومون، وأنهم أئمة وما يصدر عنهم تشريع؛ فيجعلون لهم حقاً من حقوق الإلهية، وهو التشريع، ومن المعلوم أن التشريع بالإباحة والتحريم وغير ذلك من خصائص الإلهية، لا يحل ولا يحرم إلا الله الملك الديان وحده، فمن دونه ليس له حق في التحليل ولا في التحريم، الأحكام كلها من عند الله سبحانه وتعالى وحده؛ فهو الحكم العدل وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم
هو المبلغ عنه، والعلماء هم المبينون لما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم المؤتمنون عليه فقط، لكن ليس لأحد منهم أن يحل حراماً، ولا أن يحرم حلالاً، وليس له إلا أن يجتهد في إيصال وبيان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى إلى الناس، وإذا ابتعد عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فستزل قدم بعد ثبوتها، ويذوق السوء بما صد عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:144] أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم.
ومن هنا لا بد أن ينظر إليهم بهذه النظرة المتوازنة المعتدلة، وأن ينظر إليهم على أنهم قوم ائتمنوا على الوحي، فمن كان منهم أكثر نصيباً منه كان أكثر نصيباً من الصواب، واستحق التقدير ولم يستحق التقديس، فيقدر على قدر علمه وتقواه وورعه، لكنه لا يقدس، ويعلم أنه قد يخطئ، ومن هنا فأقواله يؤخذ منها ما وافق الحق ويرد منها ما خالفه، كما قال مالك رحمه الله: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) فالذي لا يمكن أن يرد عليه شيء واحد في هذه الأمة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن دونه جميعاً يمكن أن ترد بعض أقوالهم؛ أبو بكر يمكن أن تخالفه في بعض أقواله، وقد خالفه الصحابة رضوان الله عليهم في بعض اجتهاداته، و عمر كذلك، و عثمان كذلك، و علي كذلك، وإذا أمكن خلاف هؤلاء فكيف لا يمكن خلاف من دونهم! وقد قال عبيدة السلماني رحمه الله تعالى وهو من أئمة التابعين وعلمائهم لـعلي رضي الله عنه حين سأله عن مسألة أم الولد، فذكر أنه كان يفتي فيها مع إخوانه - أي: مع الصحابة - في خلافة عمر و عثمان بكذا، وأنه اليوم رجع عن ذلك: قولك في الجماعة أحب إلينا من قولك في الفرقة؛ فرضي علي ذلك وضحك، فـعلي هنا أقر عبيدة على رد قوله عليه، وهو خليفة، و عبيدة تلميذه، لما قال له: (رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة) ضحك وسلم ذلك ورضي.
فلهذا لا بد أن يعلم أن التعامل معهم يكون بهذا القبيل، ويكون بالأدب الشرعي، والذي يستطيع النقد هو من يعرف أن مستواه أعلى من مستوى المنقود أو مساو له، هذا الذي يستطيع منافحته ومكافحة الحجة بالحجة، ومن دونه عليه أن يأخذ الصواب وأن يرد الخطأ، لكن عليه أن يعرف مكانه الذي هو فيه، الذي أحله الله ولا يتطلب أن يصل إلى مكان لم يصل إليه، فالمتزين للناس بما ليس فيه كلابس ثوبي زور.
ومن هنا على الإنسان أن يعلم أنه حتى لو رزق فهماً أو علماً في مسألة من المسائل، أو حفظ بعض النصوص الشرعية في بعض الأمور؛ فليس معنى ذلك أنه صار حكماً على الناس جميعاً، بل معنى ذلك أن الله تعالى أراه من الهداية والنور ما يميز به بعض الحق، وقد يخفى عنه بعضه، وهذا من ضرورات الإنسانية، قد يخفى عنه بعض الحق ولا بد أن يستشعر ذلك أنه قد يخفى عنه كثير من الحق، وقد قال الله تعالى لليهود: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، مع أنه آتاهم التوراة وقد كتبها لـموسى بيمينه في الألواح، وفيها تفاصيل كثيرة لكثير من الأمور ومع ذلك قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] فلا بد أن نستشعر هذا في التعامل مع الآخرين.
كذلك في التعامل مع أهل الدعوة عموماً، لا بد أيضاً من هذا الاعتدال والتوازن، فكل من دعا إلى طريق الحق، سواءً كان في دعوته يعمل فردياً أو جماعياً، وسواءً كان معاصراً لك أو سابقاً عليك، وسواءً اتجهت دعوته إلى كل شرائح المجتمع أو بعضها؛ فينبغي أن يكون محل تقدير؛ لأنه أدى واجباً كفائياً وأسقط عنك أنت إثماً كان في عنقك ستقدم به على الله، وتولاه هو عنك، إذا عرفت ذلك فعليك أن تقدره بقدر ما قام عنك به من الواجبات وقد قال الحطيئة :
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
فهذا من العدل والإنصاف.
ثم إن عليك أن تعلم أنه هو على الأقل امتثل أمر الله، وأدى بعض ما عليه، ولو كان عاجزاً ضعيفاً، ولو كان مستواه متواضعاً، إلا أنه على الأقل اتجه إلى طريق الهداية وسعى لإظهار الحق بما لديه من قوة، فلو كان يتعتع في كتاب الله، بل ولو كان يخطئ فيه، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه بذل الجهد في أن يبينها ويبلغها، فأيهما خير هذا الساكت على الحق ولا يتكلم به ولا يبلغه، أو هذا الذي يبلغه ولو تعتع فيه ولو أخطأ؟ أيهما خير؟ لا شك أن الذي يبلغه ويتعتع فيه أفضل من الساكت عنه؛ لأن الساكت عنه كاتم له؛ فإذاً الفرق شاسع بين الطائفتين والمستوى فارق بينهما، وقد قال حسان رضي الله عنه:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
ثم إن علينا أن نعلم كذلك أن الداعين إلى الله سبحانه وتعالى تختلف مشاربهم واجتهاداتهم وخدماتهم التي يقدمونها، والمجالات التي يحسنونها، فأي الرجال المهذب؟ لا يمكن أن يوجد من يستطيع تغطية كل واجبات الدعوة وكل حيزها وكل مجالاتها؛ فهذا لا يستطيع أحد أن يسده، فمن سد جانباً منه وكان أبلغ وأنفع فهو أفضل من الذي سد دونه، لكن الجميع يشتركون في الفضل وهم شركاء في الأجر والمغنم بقدر ما قدموا للدين، وبقدر ما بذلوا من النصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومن هنا فتلمس زلاتهم وأخطائهم والسعي لإشاعتها، كل ذلك مما هو مضرة على الدين ونقص لخدمته، حتى لو وقع بعضهم في خطأ فعليك أن تناصحه بالمعروف، وبالنصيحة المعروفة فيما بينك وبينه، وليس لك أن تشهر به وأن تعلن ذلك للملأ؛ فإن ذلك لا يخدم الدين بل يهدمه؛ فهو سعي في هدم الدين، عندما ترى أو تشهر بمن يسعى لنصرة الدين ويدعو إليه، وتشهر بأخطائه فمعناه أنك تهدم جانباً من جوانب الدين، وأنت لا تستشعر ذلك وهذا خطر عظيم وخطأ كبير؛ فلذلك عليك أن تلتمس العذر لهم جميعاً، ومن أخطأ منهم تدعوه فتناصحه فيما بينك وبينه، وإن بين لك الصواب وعرفت أن ما قاله له وجه حتى لو كان ذلك الوجه واحد في المائة فاعذره؛ لأنه اعتمد على دليل، وهذا مستوى فهمه ومستوى علمه، وأنت تعتمد على دليل آخر ولم يبد لك رجحان دليله عليك.
فلذلك لا بد من حصول المعذرة إذا لم يقع التوافق، وإن حصل التوافق فرجع أحدكما إلى الآخر فبها ونعمت، وهذا أولى وأقمن، لكن إذا لم يحصل توافق وتمسك كل بدليله، فالجميع لا يتصرفون بأهوائهم ولا من تلقاء أنفسهم، وإنما يتبعون للدليل الذي لديهم، وهذا الدليل هو الحجة وهو القاضي على الجميع، ولا بد من استسلام الجميع لحكم الله ورسوله، وأن يكون القرآن والسنة فوق الجميع؛ فأي خلاف إنما يرجع فيه إلى الكتاب والسنة؛ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء:59].
ثم بعد ذلك فهم ذوي الاستنباط من المؤتمنين على الوحي فأفهامهم رد الله عليها في قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فأولو الأمر هم العلماء الذين يستنبطون الأحكام؛ لأنه قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فالرد إليهم هو تحكيم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عند حصول الخفاء والتباس المعنى؛ فهم الذين يعرفون الجمع بينما يوهم التعارض، وهم الذين يعرفون الفرق بين المتقدم والمتأخر والناسخ والمنسوخ.. وغير ذلك؛ فلذلك يرجع إلى استنباطاتهم وآرائهم، وإذا اتفقوا على أمر لم يكن لأحد مخالفة رأيهم؛ لأن اتفاقهم حجة، وإذا اختلفوا كان ذلك فسحة ورحمة؛ فمن اتبع أية طائفة منهم واقتنع بدليلها فهو ناج والحمد لله.
ثم إن من الأمور التي يطلب فيها الاعتدال والتوازن كذلك ما يتعلق بالمعاملة مع أهل البيت، وبالأخص التعامل مع النساء؛ فالمروءة تقتضي تلبية كل ما يطلبن من الحاجات والدين قد يحول دون ذلك؛ فلا بد من الاعتدال والتوازن بين الأمرين، فلا بد أن ينظر الإنسان إلى أنه لا يحل له أن يمنعهن حقاً افترضه الله تعالى، وأن عليه كذلك أن يعاملهن بالمعروف والإحسان، وأن يؤدي الحقوق كلها، لكن عليه أيضاً أن لا يتعدى الحق الشرعي؛ فتجاوزه ليس من الإحسان، وكثير من الذين يتجاوزون الحد يظنون أن ذلك من الإحسان ويقعون في التدبير الذي نهى الله عنه وجعل أصحابه من إخوان الشياطين: إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ[الإسراء:27]؛ فالتوازن في هذا مطلوب والاعتدال فيه لا بد منه.
كذلك على النساء أيضاً، من التوازن والاعتدال في التعامل مع أهل البيت وفي أداء حقوق الوالدين وحقوق الزوج والأولاد، وحقوق الدعوة والجيران حظ عظيم لا بد منه، وهو يقتضي فقهاً في الدين، وتمييزاً للأولويات وترتيباً لها، وبدءاً بأشدها وأقواها، ثم بالذي يليه، ونحن نعلم أن الشيطان عدو لنا، وأنه قد نصب الشباك والشراك في الطريق، وقد أقام شباكه من أجل إسقاط الإنسان فيها، فهو يسعى أولاً لإيقاعه في الشرك بكل وسائله، فإن عجز عن ذلك حاول إيقاعه في الفواحش والكبائر؛ فإن عجز عن ذلك حاول أن ينقص بعض الواجبات، فإن عجز عن ذلك حاول شغله ببعض الواجبات عن بعض؛ فإن عجز عن ذلك حاول شغله ببعض السنن عن الواجبات، فإن عجز عن ذلك حاول شغله ببعض السنن عن بعض أو بالوقوع في المكروهات، ثم بخلاف الأولى، ثم بالاشتغال بالمندوبات عن السنن التي هي أفضل منها، ثم بالاشتغال بما ليس وقتياً عما هو وقتي حتى يفوت وقت الوقتي الذي هو مقدم على غيره.
فلذلك على الإنسان أن يكون منتبهاً لهذه المخاطر التي يلقيها الشيطان في طريقه، وأن يستعيذ بالله منه وأن يعتمد على الله ويتوكل عليه في شأنه كله، كما كان الأنبياء يفعلون؛ فقد كان توكلهم على الله سبحانه وتعالى مدعاة لتغلبهم على كل العراقيل والعقبات، وقد قالوا فيما حكى الله عنهم: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ[إبراهيم:12]؛ فهذا هدي الأنبياء فعلينا أن نهتدي به جميعاً.
وما أستطيع أن أتتبع جميع أوجه الاعتدال والتوازن في حياة المسلم.
المقدم: السلام عليكم ورحمة الله.
أيها الإخوة الحضور! أحييكم بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة في الجنة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهنئكم بما أنتم تعلمونه وهو أن من أفضل الذكر وأعمال البر تعلم العلم وتعليمه وعمارة المسجد بذلك، وقد ورد في الحديث في صحيح مسلم : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده )، كل واحدة من هذه المذكورات تكفي وأحرى إذا اجتمعت، ومعنى "حفتهم الملائكة" أحاطت بهم، و"غشيتهم الرحمة" نزلت عليهم آثارها من الفضل الإلهي و"السكينة" الطمأنينة والوقار؛ فهنيئاً لنا بهذا كله.
وأحمد الله تعالى على تواجد هذا الجمع في أشرف الأماكن يتعلم العلم تقرباً لله تعالى، وعلى وجود هذا الشيخ بيننا يعلمنا العلم في هذا المكان، كما أحمد الله تعالى على أن أغلبية هذا الجمع من الشباب مما يبشر بنمو هذه الصحوة الإسلامية في هذه البلاد؛ فإن الشباب سباق إلى الخير في الدعوة إلى الله تعالى، ونجد الإشارة إلى ذلك في القرآن العظيم وواقع التاريخ يبين ذلك.
إن العلاقة بين الإسلام والشباب وطيدة منذ آماد بعيدة؛ فقد ثبت في علم الاجتماع أن الشباب أنصار كل شديد؛ لأنهم لم يألفوا القديم إلف الشيوخ له، فيسهل عليهم قبول الدعوة إلى الجديد، ولا ينفرون منها كما ينفر آباؤهم وذوي السن فيهم، ومن ذلك قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه حينما قيل له: (ما أخرك عن الإسلام وأنت أنت في العلم والذكاء؟! فقال: كانت فينا أشياخ أنكروا ذلك الأمر فأنكرناه معهم؛ فلما ماتوا ونظرنا في أمرنا رأينا الحق فاتبعناه).
وقد أشار القرآن إلى هذه القضية في قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ[يونس:83]؛ فكلمة "ذرية" هي الولد والنسل تقتضي أن الشباب هو الذي آمن أول الأمر بـموسى ؛ فهم شباب قومهم من فتيان وفتيات، وقد قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]، وقال تعالى: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ[الأنبياء:60]، وقال تعالى : إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا[الكهف:10]، ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلق عامة فأول من آمن به هم شباب قريش وشباب الأنصار، ونجد أيضاً السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كلهم كانوا شباباً، وكذلك نجد أهل بدر كانوا شباباً.
وقياماً بواجبنا جميعاً وهو من جملة الدعاء أيضاً القطعة التالية أقدمها للجميع:
جزى الله عن سنة المصطفى محمداً الحسن بن الددو
إليه أدعى فأجاب النداء شباب وشيب بها قد سموا
دعاهم إلى العلم شيخ الهدى فتاه التقي الرضا فاندعوا
وقامت إلى جنبه فتية هداهم إلههم فاهتدوا
رضوا الله رباً وخير الورى نبياً ودين الإله ارتضوا
أذاعوا البراء من أعدائه ووالوا ولي العليم ما انثنوا
نحا ونحوا سنة المجتبى ونشر الهدى نعم ما قد نحوا
ونشر المعارف بين الورى وأبدوا من الحق ما قد رأوا
رأوا نشر ما قد طواه الزمان من آثار طه وصحب علوا
نمتهم لنهج الهدى دعوة وسنة طه إذا ما انتموا
وما بدلوا لا وما غيروا وسنة خير الأنام اجتبوا
إلهي أنلهم جميع المنى وزدهم هدى بالذي قد أتوا
وحط أمة المصطفى واهدها ودمر أعاديّها من طغوا
ودمر أعادي دين الهدى بما ظلموا إذ عتوا واعتدوا
تداعوا على أمة المصطفى وعما نهوا عنه بغياً عتوا
إلهي أيد دعاة الهدى وأيدّ بنصر على من عتوا
وثبت دعاة الهدى واهدهم وهبهم وجيب الدعاء ما ابتغوا
وفي الشيخ بارك وصن واحمه وعمر وسلمه ممن بغوا
وصل وسلم على المجتبى وآل وصحب ومن قد قفوا
قفوا أمره اجتنبوا نهيه وعند حدود العليم انتهوا
الحمد لله رب العالمين على آلائه جل مولانا وعز علا
إنا لنشكره شكراً ونحمده حمداً يبلغ من رضوانه الأمل
وإن من نعم المولى إتاحته لنا دروس إمام العصر من فضل
محمد الحسن السامي هدى وتقى من فاق فضلاً وقان العلم والعمل
ذاك الفتى ابن الددو قرم الدعاة إلى رب الورى المرتدي ثوبي تقى وعلا
إلف المحامد لا يبغي بها بدلاً والحمد لله لا تبغي به بدلا
فمرحباً بالفتى الشيخ السني وبه أهلاً وسهلاً به فلنفرح الجزلا
ومرحباً بدروس منه صادرة فحيّهل بدروس منه حي هلا
شيخ العلوم فتاها وابن مجدتها وعند إيضاح ما يخفاه وابن جلا
يبين بالدرس منها كل مسألة وليس عالم شيء مثل من جهل
بالعلم للخير يهدينا ويرشدنا منه يبين لنا الأبواب والسبل
مفصلاً مجملاً ما قد أبان وقد يحوي التفاصيل من يستحضر الجمل
دروسه دعوة للحق صادقة يدعو الجميع إليها دعوة الجفلى
من من أجر إلى النهج القويم وعن لام وباء وفي حتى على وإلى
والعلم أفضل ما الإنسان فاز به وفضله واضح يبدو لمن عقل
يا طالب العلم عنه خذه مهتدياً بهدي ذا القرم واعمل مثل ما عمل
واربع بفيح رياض العلم واعن بها لا تعدو عيناك عنها الدهر ممتهل
حبر بهدي ابن عباس يذكرنا نعم وهدي الرسول الخاتم الرسل
صلى وسلم مولانا عليه ومن به بسنته البيضاء قد اتصل
وعاش نجل الددو بالفضل مكتسياً من الفضائل من أعماله حللا
والله يجزيه عنا كل صالحة وليبق في كل فعل صالح مثلا
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه وفاعل البر فاحمده بما فعل
أولاده مولاه ما يرجو وعمره وازده رفعة بين الورى وعلا
يا رب بارك عليه واحمه وقه واحفظ وصنه ووفقه هبه ما سأل
وفي الختام نحييه ونشكره على الذي من صحيح العلم قد بذل
تحية كملت مسك الختام بها يعم نشر شذاها السهل والجبل
السؤال: إنسان صلى خمس صلوات على فراش متنجس، وهو يعلم أنه متنجس، ولكنه نسي وصلى عليه، هل صلاته هذه باطلة أم لا؟ وقد أعاد تلك الصلوات على جهل لحكم ما وقع فيه؛ فماذا يفعل؟
الجواب: الإنسان إذا نسي النجاسة في بدنه أو ثوبه أو مكانه؛ فصلى فيه تندب له الإعادة ما دام الوقت قائماً؛ فإن خرج الوقت فلا شيء عليه، فإذا كان صلى عدداً من الصلوات فالصلوات الأولى لا تندب إعادتها؛ لأنها قد خرج وقتها، والصلاة الأخيرة إذا تذكر ذلك بعدها فإنه يعيدها في الوقت، وإذا خرج الوقت لم يلزمه إعادة شيء من ذلك.
السؤال: هل الإجماع حجة؟ وما الدليل؟
الجواب: نعم، الإجماع حجة، والدليل قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:115]، وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، ولكن الذين يشككون في الإجماع يغفلون عن تعريفه فينسون تعريفه ويظنون صورة غير واقعية فيه؛ فالإجماع ليس معناه أن يجتمع أهل الحل والعقد من علماء المسلمين جميعاً في مسجد واحد أو بيت واحد؛ فيصدروا عن رأي واحد في مسألة؛ هذا غير ممكن ولا يمكن أن يقع، ولا هو مطلوب.
الإجماع صورته إنما يعرف بعد انقضاء العصر، إذا جاء عالم من العلماء طويل اليد والتتبع والبحث؛ فبحث عن نازلة حصلت في عصر من العصور، كالصلاة في الطائرة مثلاً في عصرنا هذا، فسأل عن العلماء الذين وصلوا إلى حد الاجتهاد في بلادنا هذه في ذلك الوقت؛ فقيل له: فلان وفلان وفلان.. فعرفهم، وفي المغرب فعرفهم وفي السنغال فعرفهم، وفي كل بلاد الإسلام فعرفهم؛ فرأى آراءهم قد اتفقت على أمر واحد؛ فإنه يحكي الإجماع حينئذ على هذه المسألة؛ لأنه تتبع آراء عصر من عصور أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورأى اجتهادهم فيه قد اتفق على حكم مسألة اجتهادية، والذي يستطيع حكاية الإجماع نادر جداً؛ فالذين يحكون الإجماع من علماء المسلمين قلائل جداً، كـابن المنذر و ابن تيمية و ابن حزم و ابن عبد البر و ابن القطان و ابن قدامة ، والإمام النووي ، قلائل الذين يستطيعون حكاية الإجماع؛ لأنهم الذين طالت أيديهم حتى درسوا فقه الأراضي الإسلامية وعرفوا أهل الاجتهاد في العصور التي هم فيها والعصور التي سبقتهم.
السؤال: هل الإجماع ممكن الوقوع؟
الجواب: نعم، ممكن ودليله الوقوع؛ فقد حصل الإجماع على كثير من مسائل الدين الاجتهادية؛ فالإجماع هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد موته على حكم شرعي، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على كثير من المسائل التي لم تكن عرضت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها بيعة أبي بكر رضي الله عنه، ومنها كذلك إقامة كتابة المصحف، وغير ذلك من الأمور التي هي محل إجماع لا يخالف فيها أحد من الصحابة، ولا يستطيع أحد أن ينكر الإجماع عليها، فلا يستطيع أحد أن ينكر اليوم إجماع الأمة على كتابة المصحف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدون القرآن في مصحف واحد، حتى هيئة الكتابة التي هي معجزة تستوعب كل القراءات لا يستطيع أحد أن ينكر أنها إجماعية الآن.
السؤال: القول بأن الشياطين تحضر الميت عند موته وتتمثل له على صورة أبويه، هل ذلك حق؟
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات، فقال: ( فاستعذ بالله من أربع: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة القبر ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات )، فهذه الأربع يستعاذ بالله منها، وفي الرواية الأخرى: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات )، هذه الأربع يستعاذ بالله منها، ومنها فتنة المحيا وفتنة الممات؛ ففتنة المحيا: ما يعرض للإنسان في حياته من السراء والضراء؛ فالسراء تطغيه والضراء تنسيه؛ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً أو فقراً منسياً ).
وفتنة الممات هي الفتنة عند الموت، وقد جاء فيها عدد من الأحاديث أن المحتضر الذي يفتن يعرض له الفتان فيقول له: (مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية). وقد أخبرني أحد كبار العلماء في هذه البلاد أو سمعت منه ذلك، وهو العلامة محمد عالي ولد النعمة رحمة الله عليه، أنه وقع مرة فمكث على جنبه فترة طويلة، وأيقن على الموت حتى عرض له الفتان؛ فكان يقول له: (مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية) وهو يكذبه ويزجره، وبرئ من ذلك المرض وعاش بعده؛ فالفتان أيضاً لا يعلم الغيب، وقد تظهر هذه الفتنة لبعض الناس إقامة للحجة عليهم، وبياناً لبعض الأمور التي هي غيبية يكشفها الله لبعض خواصه من خلقه لزيادة الإيمان؛ ولذلك حصل لـعبد الله بن جحش رضي الله عنه أن أخته حمنة لما مرض كانت تناديه فتقول: وا جبلاه! وا طوداه! فلما أفاق قال: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أهكذا كنت؟ فلما قتل يوم أحد لم تبك عليه.
وكذلك عرض هذا النوع من الفتنة عند الموت لـأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى؛ فقد صح عن ابنه صالح أنه قال: حضرت أبا عبد الله عند موته، فإذا هو يقول: (لا بعد.. لا بعد؛ فقلت: ماذا تقول يا أبتي؟! فقال: إن عدو الله عرض لي وهو يقول: فُتّني يا أحمد فأنا أقول: لا بعد حتى أموت على الإيمان). عدو الله الشيطان عرض له يقول: فُتّني يا أحمد يريد أن يدخل عليه العجب في آخر ساعة من حياته، وهو يقول: لا بعد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر