إسلام ويب

التوازن والاعتدال في حياة المسلمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قامت شريعة الله سبحانه وتعالى على التوازن والاعتدال والوسطية في كل فعل وترك، فلا إفراط فيها ولا تفريط، وهذا منهج يشمل الحياة كلها، سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات، أو في تقييم الآخرين، أو في التعامل مع الأهل أو الحكام أو العلماء، فعلى المسلم أن يجتهد في تطبيق التوازن في كل حياته وأعماله؛ ليكون موافقاً لشريعة الله وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على فطرته التي ارتضاها، وهي العبودية لله سبحانه وتعالى والقيام بحقه والسعي لما فيه النفع والحرص على اجتناب ما فيه الضرر، وهذه الفطرة هي حال الإنسان المستقيم السليم وما عداها لا بد أن يكون حائداً عن هذا الطريق فيميل يميناً أو شمالاً، وهذا الميل هو الذي يسمى بالانحراف، وهو الذي يسمى بالتطرف عن طريق الحق، أي: بالميل عن طريق الحق يميناً أو شمالاً.

    وهذا الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده أرسل به رسله، وبينه أكمل البيان وأنزل به كتبه، وأقام عليه الحجج والبراهين، وهو معصوم ثابت، وأكثره وأمه أمور بينات لا يختلف فيها اثنان، وما سوى ذلك منه أمور اجتهادية يتعبد الله تعالى الناس بطلب الحق فيها، فيوفق من شاء للحق عنده، لكن الجميع إذا طلبوا الحق فأخلصوا لله سبحانه وتعالى معذورون من أصاب منهم ومن أخطأ، المصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر )، فكل من طلب الحق وابتغى وجه الله سبحانه وتعالى في الأمور الاجتهادية، التي هي غير محسومة بالنص فهو معذور أصاب الحق أو أخطأه، وإنما تتبين إصابته للحق بموافقته للدليل والبرهان الآتي من عند الله سبحانه وتعالى، الذي قد يخفى على الإنسان في ذاته فلا يصل إليه علم به؛ لأن كثيراً من الأدلة والبراهين غير قطعية الورود كأخبار الآحاد ونحوها، أو قد تخفى عليه دلالته كقطعي الورود من النصوص كما هو في القرآن، ولا يكون قطعي الدلالة؛ فيكون حينئذ الإنسان معذوراً إذا لم يستوعبه ولم يفهمه على وجهه الصحيح؛ لأن الله تعالى قادر على بيانه غاية البيان كما بين غيره من الأحكام، وإنما جعل فيه ذلك الخفاء والإجمال لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.

    ومن حكمته في ذلك أن يمتحن عباده بالتماس الحق وطلبه، وإعمال العقول والآلات التي أعدهم بها لفهم كتابه وللتلقي عنه سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يجعل الله تعالى من القرآن متشابهاً ومنه مجملاً ومنه مشكلاً ومنه خفي الدلالة، فيتعبد الجميع بالوصول إلى طريق واحد وهو الصواب، بل لا بد أن يترتب على ذلك الخفاء أن يرزق الله سبحانه وتعالى فهمه من شاء من خواصه من خلقه، وأن يعذر من لم يصل إلى ذلك لأن الخفاء الذي فيه كاف في الإعذار وكاف في التماس الحق وطلبه، وإذا بذل الإنسان جهده فإن الله سبحانه وتعالى لا يكلفه ما زاد على جهده، وقد صرح بذلك في كتابه في عدد من الآيات؛ فقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7].

    حال المجتهدين في البحث عن الحق

    على الإنسان أن يبذل جهده في الوصول إلى الصواب؛ فإذا وصل إليه فبها ونعمت؛ فإن حصلت لديه القناعة بأن هذا هو مراد الله وعرف دليله فتعين عليه حينئذ، وإذا لم يصل إلى الصواب وإنما وصل إلى ما اقتنع هو بأنه أقرب الأمور إلى مرضاة الله، وأقمنها بالحق مع أنه قابل لأن يكون غلطاً؛ فهو حينئذ معذور كحال الأئمة المجتهدين، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يقول في هذا النوع من المسائل الاستنباطية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، وكان الشافعي رحمه الله يقول فيه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وكان كثير من الأعلام في مثل هذه الأمور الاجتهادية يبذلون جهودهم، ثم يصلون الاستخارة ويسألون الله تعالى أن يختار لهم الخير، ويبرأون إلى الله من حولهم وقوتهم اعتماداً وتوكلاً على الله وحده.

    وهذا الجانب من الربانية لا بد منه لدى المتأخرين، وهو مفقود لدى كثير منهم إلا من رحم الله، فكثير من الذين يتناقشون في المسائل لا يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى في أن يبين لهم الصواب، وقد كان كثير من الأئمة الأعلام من ذوي الذكاء والعلم والخبرة إذا عرضت عليهم النازلة وغشيهم الرحضاء، كحال مالك رحمه الله كان إذا سئل عن المسألة سكت، ووجم كثيراً وأطرق إلى الأرض، وتحدر العرق من وجهه لشدة الهول؛ لأنه يعلم أنه موقع عن رب العالمين، وأنه سيجيب بسؤال سيعرض عليه بين يدي الملك الديان، فيقال: أنت أفتيت بكذا.

    فلذلك كانوا يجتهدون في الربانية واللجأ إلى الله، ومن الأذكياء المشاهير أحمد بن عبد الحليم بن تيمية شيخ الإسلام، فقد كان إذا عرضت عليه المسألة يصلي ركعتين، فيجلس في مصلاه وهو مكب على ركبتيه يقول: (يا معلم داود علمني ويا مفهم سليمان فهمني) فهم يلجئون إلى الله تعالى في أن يفهمهم الحق، وهذا بعيد جداً من التعصب وبعيد جداً من أن يحتكر الإنسان الحق، ويرى أن الحق هو ما لديه فقط وأن ما سواه هو عين الباطل.

    فلذلك لا بد أن نتخلق جميعاً بخلق العلماء وهديهم، وأن نعلم أن ما أخفاه الله تعالى من المسائل إنما هو أرزاق يرزقها من شاء من عباده، وهي مثل غيرها من الأمور التي تحتاج إلى اللجأ إلى الله والتوكل عليه والاعتماد عليه في الشأن كله.

    إدراك ضعف الإنسان وعلمه

    وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أنه ضعيف، فكما أن قواه ضعيفة عن القيام بحق الله في عباداته، ولا يرضى أحد منا عن أية عبادة قام بها؛ هل يرضى أحد منكم عن صلاته التي صلاها الآن، وهي صلاة العصر المشهودة التي قال كثير من أهل العلم هي الصلاة الوسطى؟ لا يستطيع أحد منكم أن يرضى عن عمله، فلذلك ينبغي أن يدرك أن فهمه واجتهاده وعلمه هو من عمله؛ فلا يكون مرضياً عنه، فالرضا عنه من علامات النفاق، وإذا رضي الإنسان عن علمه وفهمه فهذا من علامات النفاق؛ ولذلك لا بد أن يدرك أن علمه هو من عمله، كما أن عمله قاصر في كل الأمور كذلك علمه وفهمه؛ وبهذا يتواضع لله سبحانه وتعالى ويصلح للتلقي عنه وفهم كلامه؛ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088592326

    عدد مرات الحفظ

    777544363