بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الزمان وجعله مسخراً للعبادة مهيأً لها، وسخر للإنسان كل ما فيه ليستعين به على طاعة الله عز وجل، فجعل الليل والنهار خلفة، يعقب الليل النهار ويعقب النهار الليل، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ[الزمر:5]، جعل ذلك لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فكل يجد الظرف المناسب لأداء عبادته، وقد فضل بعض الأزمنة فخصها ببعض العبادات المخصوصة، وجعلها أعظم وزناً في كفة الحسنات يوم القيامة، فوفق لها من شاء من خلقه، اختياراً منه سبحانه وتعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]
وجعل من الظروف التي تزداد فيها الحسنات ثقلاً في كفتها جوف الليل وناشئته، وشرع فيها القيام، وجعل هذا القيام ينقسم إلى قسمين: إلى قيام خاص، وقيام عام. أما القيام الخاص: فهو مثل قيام ليلة القدر، وقيام رمضان، اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
والقيام العام: هو قيام الليل في سائر السنة، وهو لا شك مطلوب من الناس، لكنه لم يفرض عليهم فرضاً، بل ترك مجالاً للتنافس وللازدياد من الخير والتقرب من الله سبحانه وتعالى، والعناية بترجيح كفة الحسنات، فمن وفقه الله سبحانه وتعالى لذلك كان من المقربين الذين يؤذن لهم حين يصرف من سواهم، فالديان سبحانه وتعالى يأذن لمن شاء في طرق الباب، ليخر بين يديه متذللاً لوجهه العظيم، فيرفع إليه حوائجه ويناجيه كفاحاً دون ترجمان، ويعلن له ولاءه، ويعلن براءه ممن سواه، وبتذلـله لله سبحانه وتعالى يرفعه الله عز وجل عن المذلة عمن سواه.
وبذلك يجعل الله له عهداً يوفيه إياه يوم القيامة، وهذا العهد مختص بالمحافظين على الصلوات، وهو قسمان: عهد للمحافظين على الفرائض، يختص بدخول الجنة، وعهد للمحافظين على النوافل بالشفاعة يوم القيامة.
أما العهد الأول: فهو المذكور في ما أخرجه البخاري في الصحيح، و مالك في الموطأ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )، فهذا العهد المتعلق بالفرائض.
أما العهد المتعلق بالنوافل: فهو المخصوص بالشفاعة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، وقال في ملائكته الكرام المقربين: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28]، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأنبياء:29]، ولكنه جعل عهداً عنده بالشفاعة للمحسنين المتقين، وقد جاء في تفسير ذلك أنهم القوامون بالليل الصوامون بالهواجر، فهؤلاء هم ذوو العهد بالشفاعة يوم القيامة، فإذا شفعوا قيل لهم: ما العهد بينكم وبين ربكم؟ فقالوا: العهد الذي بيننا وبينه قيام الشتاء وصيام الصيف، فأولئك الذين يشفعون لمن ارتضاه الله سبحانه وتعالى.
والشفاعة يوم القيامة ثمانية أقسام:
القسم الأول: الشفاعة الكبرى، وهي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في أهل الموقف إما إلى جنة وإما إلى نار. ثم الشفاعة الصغرى: وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، وهي الشفاعة في الكافر الذي قد أوجب النار ومات على الكفر، في تخفيف العذاب عنه. ثم الشفاعة الوسطى: وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، وهي الشفاعة لأهل الجنة في أن يدخلوا الجنة، فهو أول من يحرك الحلقة فيستأذن فيؤذن له. ثم بعدها: شفاعة المحسنين في من أوجب النار من أهل الإيمان أن يُخرجون منها ( فيُخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يؤمر بهم إلى الجنة ).
ثم الشفاعة الأخرى: شفاعة المحسنين من أهل الجنة كذلك في ترفيع درجات أوليائهم وأقاربهم، وإن الرجل ليشفع يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر، فيجمعون في أرحامهم ومعارفهم وذويهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ[الطور:21]، فالذرية تطلق على الآباء والأبناء، ومن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى: وَآيَةٌ لَهمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المَشْحُونِ[يس:41]، فالذرية التي حُملت في سفينة نوح هي الآباء لا الذريات بمعنى الأولاد، وكذلك هنا فإن قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ[الطور:21]، يشمل الآباء والأبناء إذا كانوا من أهل الإيمان.
ثم بعد هذا: الشفاعة في أصحاب الحقوق، فمن جاء بالحسنات ولكنه قد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فإنه يُشفع عند ذوي الحقوق، حتى لا يؤاخذوه بحقوقهم، فذلك المقام مقام العدل، الذي لا يخرج منه أحد وبينه وبين أحد مظلمة، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.
ثم بعدها: شفاعة أرحم الراحمين، فإذا انتهت شفاعات الشافعين يقول الله لملائكته: ( انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، ثم يمكث ما شاء، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ثم يمكث ما شاء، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه حبة من خردل من خير )، فهذه شفاعة الله سبحانه وتعالى وهي أعظم الشفاعات.
إن هذه الشفاعة يحتاج إليها الناس، وإنما يصل الإنسان إلى مقامها ومستواها بكسبه وعمله الدنيوي، فمن جاء يوم القيامة فلا يمكن أن تزداد حسناته ولا أن ينتقص من سيئاته أي شيء، فإن الأعمال يختم عليها في هذه الحياة الدنيا بنهايتها، وإذا جاء الإنسان إنما يأتي يحمل طائره في عنقه قد ختم عليه بسائر أعماله، ثم تنشر السجلات، عندما توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً.
إن قيام الليل في سائر السنة يترتب عليه فوائد كثيرة للإنسان غير مقام الشفاعة منها:
أولاً: أنه صيانة لإيمانه وحفظ له، فالإنسان أبلغ ما شرف به هو هذا الإيمان الذي خص به، وهو محتاج إلى رعايته وحفظه، وهو يصدأ بل ويزول، ويزيد وينقص، فالإنسان يحتاج إلى حفظ إيمانه؛ لئلا يزول ويسلب الإيمان عند خاتمته، فيختم له بخاتمة السوء، وإنما يُحافظ على هذا الإيمان بعهد بين الإنسان وبين الله عز وجل، فهذه الصلاة من حافظ عليها مطلقاً لم يكن الله ليبطل إيمانه، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143]، وقد قد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: (إيمانكم صلاتكم)، وما كان الله ليضيع إيمانكم، أي: لم يكن ليضيع صلاتكم، فمن كان مصلياً صادقاً ختم الله له بالحسنى.
ولذلك أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى )، ومفهوم الحديث: أن من لم يفعل ذلك خُتم له بخاتمة السوء، ولم يلقَ الله غداً مسلماً، كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فالمقصود به: أنه تسبب بالكفر، فيُختم له بخاتمة السوء إذا لم يكن له حصانة يحصن بها إيمانه من الطاعات، من الصلوات بالخصوص وغيرها من الطاعات.
كذلك فإن هذه الصلاة في الليل تقتضي من الإنسان تكفيراً لما مضى من سيئاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر مكفرات السيئات قال: ( وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[السجدة:16-17] )، فهذا من مكفرات السيئات التي تعين أيضا ًعلى الالتزام في المستقبل؛ لأن السيئة تدعو إلى السيئة والحسنة تدعو إلى الحسنة، فمن كانت له خبيئة من صلاة في ما بينه وبين الله وفق ليحفظ جوارحه.
كذلك من آثارها: حسن الوجه في الحياة الدنيا ويوم القيامة، فالنور الذي في وجوه أهل الإيمان: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ[النور:35]، هذا النور الذي على النور هو نور الإيمان في القلب ونوره في الوجه، فهو: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ[النور:35]، فهذا النور من أسبابه صلاة الرجل في جوف الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى المصلي في الصف وإلى القائم في جوف الليل، فقال رجل: أو يضحك ربنا عز وجل؟ فقال: نعم، فقال: لا يعدمك من رب يضحك خير)، كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن هذه الصلاة لها نور يغشى المصلي في جوف الليل، فإذا كان الإنسان في جوف الليل يصلي يغشاه نور صلاته، وهذا النور تتنزل له الملائكة لسماع القرآن، كما في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه أنه: ( كان ذات ليلة يقرأ سورة الكهف، وفي باحة الدار ولده يحيى وحوله فرسه، فإذا الفرس تجول فخاف على الغلام، فرفع بصره فإذا ظلة فيها مصابيح، قد نزلت من السماء، فكان إذا قرأ دنت، وإذا سكت ارتفعت، فبكر على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: تلك الملائكة تنزلت لسماع الذكر)، أي: لسماع القرآن.
كذلك من فوائد هذا القيام: أنه تقوية للبدن أيضاً، وحفظ للجوارح، فالإنسان أنعم الله عليه بهذه الجوارح التي لا يمكن أن يقدر قيمتها، فلو قدّر أن ساومه أحد في بصره أو في سمعه أو في حركته أو في عقله، أو في أية جارحة من جوارحه لما عرف لها قيمة لغلائها وارتفاع ثمنها، فإذا كان الأمر كذلك فهي محتاجة إلى الحفظ، وإنما تحفظ الجوارح وغيرها من النعم بشكرها لله، ومن ذلك قيام الليل، فقد قال المعتمر والد المنصور بن المعتمر : تلك جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، وقال ثابت البناني : (من حسن عمله بالليل حسن وجهه بالنهار).
كذلك فإن من فوائد قيام الليل: أنه تعرّض للنفحات الربانية، والخصائص الإلهية، فلله سبحانه وتعالى نفحات، يوزعها في أوقات الرحمات، فيختص القائمين الذين يتعرضون لهذه النفحات ويسألون في وقت انشغال الناس، وهؤلاء هم الذين لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ[النور:37]، فهم يتعرضون لنفحات الله سبحانه وتعالى آناء الليل وأطراف النهار، فيخصهم بالخصائص والفتوح الربانية العجيبة التي تختصر الطرق، وتقرب البعيد، وتزيد الإيمان واليقين، وتزيد الثبات على الدين، وتزيد كذلك الفهم فيه، والبصيرة والبينة.
كذلك فإن من فوائد قيام الليل: أنه سبب للنشاط للطاعات في الأوقات كلها، فهو زاد يتزود به المسلم وعون له على غيره من سائر الطاعات، فالذي يقوم الليل والناس نيام، لا شك أنه سيُعان على حفظ بصره في النهار وسمعه وسائر جوارحه.
كذلك فإن من فوائد قيام الليل: أنه سبب لاستجابة الدعاء، فإن الذي يقوم الليل يتعرض للساعات التي فيها الإجابة، عندما ينزل الباري سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، وذلك حين يبقى ثلث الليل فلا يزال يقول: ( ألا من يدعوني فأجيب له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من يستغفرني فأغفر له؟ )، وإنما ينال ذلك القائمون الذين يعمرون الثلث الأخير من الليل بالصلاة.
كذلك فإن من فوائد قيام الليل: أنه من التعرف على الله في الرخاء، فالإنسان الذي يقوم الليل يتعرف إلى الله في الرخاء حتى يعرفه في الشدة، فعندما ينام الناس يتذكر هو وقت الاجتباء، وأن كثيراً من الآخرين صرفوا عن هذه العبادة المخصوصة، فمنهم من صُرف بالكفر، ومنهم من صُرف بالفجور والفسوق، ومنهم من صُرف بالغفلة، ومنهم من صُرف بالنوم، ومنهم من صُرف بالمرض، ومنهم من صُرف بغير ذلك من أنواع الأشغال، فقد أُذن له هو فخر بين يدي الله متذللاً، كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخرّوا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينهم وبينه باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، وأولئك الذين اجتباهم الله وأذن لهم في ذلك الوقت فطرقوا الباب فأذن لهم ولم يردوا على أعقابهم).
إن هذه الفوائد كلها تقتضي من المسلم أن يحرص على قيام الليل، بالأخص إذا ذُكر معها أن هذا القيام مدرسة لترويض النفس على اجتناب ما تهواه، فإن معصية الهوى سبب لدخول الجنة، ومن أشق ما يعصي به الإنسان هواه أن يقوم في وقت النوم، والوقت الذي تدعوه فيه عيناه إلى الإخلاد إلى الراحة، ويدعوه فيه فراشه إلى الاضطجاع فيتجافى جنبه عن مضجعه ابتغاء الراحة في اليوم الطويل، يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، فإذا قُدّر للإنسان أن ينال بركات هذه المدرسة العظيمة، فإنه بذلك يتدرب على الطاعات بالتدريج، والنفس تحتاج إلى هذا الترويض والتدريب؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200].
والمجاهدة لها طعم يتذوقه أهل الإيمان، فالإنسان ما لم يتذوق المجاهدة لا يدري سر أفعاله ولا يستشعر قبول دعواته، ولا يستشعر مقام التقريب والاجتباء، فلا يحس بأن قلبه قد أقبل على الله حتى يسأله، ولا يستشعر أن في هذا الوقت قد فتحت له خزائن عجيبة من أسرار الله سبحانه وتعالى، من الطاعات والعبادات والتوفيق للأعمال الصالحة.
أما من تذوق طعم المجاهدة فإنه يستشعر تلك الساعات ويحس الفتور من نفسه والنفور؛ ولهذا فإن النفس كالدابة، إذا روّضها الإنسان وجاهدها انقادت له، ولا يمكن أن تعمل ذلك إلا بالتدريج والتقسيط، وإذا أهملها كانت حروراً شروداً، تنفر إذا أحست بلجامٍ أو بردعة، ولا تطاوعه في العمل؛ ولذلك قال البوصيري :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فهي محتاجة إلى ترويض ومجاهدة، وإذا روّضها الإنسان وجاهدها فليكن ذلك بالطريقة الشرعية، لا إفراط ولا تفريط، ولا بد من التوازن والاعتدال في ترويضها، فيعطي كل ذي حقٍ حقه، ويدخل البيوت من أبوابها، وبذلك يأخذها بالصغار قبل الكبار، وبالسهل قبل الشاق، ثم يستمر على هذا الطريق حتى يصل إلى ذروة سنام الإيمان.
إن أبلغ امتحان يُمتحنه الإنسان هو امتحانه بالاجتناب والامتثال، بالاجتناب لما نهى الله عنه، والامتثال لما أمر به، وهذا الذي لا يستطيع الإنسان التغلب عليه إلا بكثير من المجاهدة ومصابرة النفس، وإذا استطاع الإنسان أن يدرك مفاتيح نفسه فجعل لها أوقاتاً محددة، فأراد أن يتصف بصفات أهل الإيمان، وأن يتخلى عن صفات أهل النفاق، ولم يجعلها جزافاً ولا جملة واحدة، بل درجها فأخذ بصفة واحدة من صفات أهل الإيمان، وجعل لنفسه أسبوعاً يرسخ فيها هذه الصفة، مثلاً: صفة الصدق من صفات الإيمان، وتقابلها صفة الكذب من صفات المنافقين، والإنسان محتاج إلى رياضة نفسه على التحلي بالصدق والتخلي عن الكذب.
ولا يتم هذا إلا إذا كتب المرغبات من الآيات والأحاديث التي فيها مدح الصدق، وذم الكذب، فجعلها في جيبه، فكان بعد كل صلاةٍ يقرأها، ويتذكر أن هذا كتاب أتاه من عند الله عز وجل يحضه فيه على الصدق ويحثه عليه، ويزجره عن الكذب، ويطرده عنه، فيحاول تحقيق هذا الكتاب الذي أتاه من عند الله: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ[البقرة:275]، فتكون الورقة في جيبه، ينظر إليها في كل وقت، ثم يعاهد نفسه ألا يكذب طيلة الأسبوع، وأن يتعود على الصدق، فإذا حصل منه كذب أو خلل ابتدأ أسبوعاً جديداً كالذي يقطع التتابع في صيام الكفارة، فإذا مضى أسبوع كامل وقد انقادت فيه النفس لمثل هذه الصفة زاد أسبوعاً آخر؛ ليكون ذلك ترويضاً في مدرسة ثانية، فإن انقادت النفس طيلة ذلك الأسبوع مدد لها أسبوعاً ثالثاً، فإذا انقادت في الأسبوع الثالث ولله الحمد قال لها بكل صراحة: يا نفس! إنك تستطيعين الصدق، وقد صبرك على الصدق ثلاثة أسابيع متوالية، فتصبرين عليه مدة العمر، ولن أطاوعك في أي خرمٍ لهذه الصفة، ثم يتجاوز هذه الصفة إلى صفة أخرى من صفات أهل الإيمان، وهكذا..
إن قيام الليل هو صفة من هذه الصفات، ومدرسة من هذه المدارس، يحتاج الإنسان إلى تعويد النفس عليه، فيأخذها في البداية بالقليل اليسير بركيعات يركعهن من جوف الليل، ويكتب المرغبات التي ترغب في قيام الليل، فيجعلها في جيبه، وبعد كل صلاة ينظر فيها ويعتقدها كتاباً أتاه من عند الله عز وجل، بآياتها وأحاديثها، ثم إذا جاءت تلك الساعة التي يريد القيام فيها، خلا بنفسه وعرف أنه قد فتحت له أبواب السماء، وتعرض الآن لنفحات الله سبحانه وتعالى، وسأله بكل صدق وإخلاص أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ثم يذكر الله إذا قام من مضجعه فتنحل عقدة من عقد الشيطان، ويتوضأ فتنحل عقدة أخرى، ثم يصلي الركعتين الأوليين خفيفتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فينحل سائر عقده، فيصبح نشيطاً مقبلاً على الطاعة طيب النفس، أما إذا لم يفعل ذلك فسيصبح كسلان خبيث النفس، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
إن حل هذه العقد ميسور هين سهل، لكنه يحتاج إلى هذه الرياضة المذكورة، وليحاول الإنسان أن يكون قيامه في البداية بما لا يزعج نفسه ولا يحرج غيره من الذين يحسون بقيامه، فكلما خلا الإنسان في وقت قيام الليل كان ذلك أفضل، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[السجدة:17]، ومناسبة ذلك ما أخفوه هم، حين لا تعلم نفس ما أخفوه من الطاعة أوتوا ما لا تعلمه نفس ولا يصل إليه قلب.
ثم على الإنسان كذلك أن يقلل العدد في البداية، ففي الشهر الأول الذي يريد فيه الاستمرار على قيام الليل يحاول ألا يتجاوز ركعات يسيرة، وليبدأ بأوتارها بالسبع والتسع والإحدى عشرة، فإذا استقامت النفس لذلك ورضيت به، حاول أن يجعل لها حزباً من القرآن يجعله في تلك الركعات، بحيث لا يزيد العدد، ولكن يزيدها طولاً، يفتتحها بركعتين خفيفتين كما ذكرنا على كل حال، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ترغيباً للنفس وترويضاً لها، ثم بعد ذلك يزيد طول كل ركعة من ليلة إلى أخرى حتى يتدرب على ذلك، وإذا ذاق هذا الطعم، استطاع أن يفعل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فقد ( كان يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن )، وفي ركعة واحدة قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران والمائدة قراءةً بطيئة، ما مر بآية رحمة إلا سأل الله منها ولا بآية عذاب إلا استعاذ بالله منها، وركوعه قدر قيامه، وسجوده قريب من ركوعه، فهذا الذي يستطيع الإنسان به أن يحقق هذه المدرسة التي تعينه على الصبر والانتظام، وتعينه كذلك على استغلال أوقاته في الطاعة.
كذلك فإن مما يعينه على هذه المدرسة أن يجد منافسين فيها، فقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء)، فهذا من التعاون والتنافس، ومن المعلوم أن المدارس يتفوق فيها أقوام يجدون من ينافسهم فيسعون إلى التفوق، والمدارس التي يقل طلابها، أو لا يكون فيها أهل ذكاء، لا يمكن أن يسجل فيها المجتهدون أولادهم؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يجد من المنافسين من ذوي الذكاء من ذوي الجد والتشمير، من يساعده على قيام الليل في بداية تعوده عليه، ولا مانع أن يكون الإنسان مع مجموعة يقومون ليلة يتعودون على قيام الليل فيجعلهم رقباء على نفسه، مرشدين له مساعدين له، في تلك الليلة، ولا يجعل ذلك عادة في ليلة مخصوصة؛ لئلا يكون من نطاق البدع الإضافية، وإنما يجعله من باب التعليم والترويض والتربية، فيقومون ليلة قياماً جماعياً يتروضون به على قيام الليل، ويكونون شركاء في الأجر، ويساعد بعضهم بعضاً فيستحيي منهم، وليس هذا من الرياء والتسميع بل هو من التعاون على البر والتقوى؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم تدرّج بأصحابه، فصلى بهم الليلة الأولى بثلث الليل، ثم في الليلة الثانية صلى بهم ثلثيه، ثم في الليلة الثالثة ( قام حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قيل: وما الفلاح يا أبا ذر ؟ قال: السحور )، وفي رواية أنهم قالوا: ( لوددنا لو نفّلتنا ليلتنا هذه )، أي: لو أكملت بنا قيامها، فهذا التدرج موافق لطباع النفوس، ويزيل عنها ما يحصل فيها من التأخر والنفور، ويقتضي من الإنسان يروض جوارحه على الطاعة بهذا التدريب.
كذلك فإن مما يعين على قيام الليل، ما يكتسبه الإنسان مما يزيل عنه بعض الشواغل، كالنوم فإن كثيراً من الناس يشكون من النوم الثقيل، فلا يستطيعون القيام في الساعات الفاضلة حين يريدون القيام، ومما يعين على القيام في تلك الساعات أن يتذكر الإنسان حال المنافسين، وأنهم الآن هبوا إلى الله، فيا خيل الله! اركبي، وقد تسابق فوارس الليل في هذه الساعة، فأقبلوا على الله بالقلوب الخاشعة المطمئنة، وأنت مضطجع على فراشك، فإذا تذكرت ذلك فسيزول النوم من عينيك جملة وتفصيلاً.
كذلك مما يعين الإنسان عليه أن يتخذ الإنسان الوسائل المادية التي توقظه، ومنها أن ينام في وقت القيلولة ولو شيئاً يسيراً، فإن ذلك مما يعينه على الاستيقاظ في الليل. ومنها كذلك المحافظة على الوضوء، فالذي يحاول أن يكون على طهارة بصفة دائمة، ولا يكون نومه ثقيلاً، عن قيام الليل. ومنها ذلك كثرة الاستغفار، فإن رجلاً أتى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد ! إني لا أطيق قيام الليل ولا صيام النفل، فقال: أنت رجل مكبل بكبل الذنوب، فأكثر من الاستغفار.
كذلك منها: اتخاذ المنبه، فيتخذ الإنسان ساعةً، أو هاتفاً ينبهه في تلك الساعة التي يريد القيام فيها.
ومنها كذلك إحياء سنة أخرى منسية ينساها الناس، وبالأخص في مجتمعنا، وهي سنة التآخي في الله، فإذا كان الجار يؤاخي جاره في الله عز وجل، ويحققان الأخوة كما كان المهاجرون والأنصار، فأوصاه أن يطرق عليه في ساعة القيام، فجاء ليتفقد حاله في قيامه، كما فعل سلمان الفارسي حين جاء يتفقد قيام أبي الدرداء ، فلما أراد أبو الدرداء أن يدخل مصلاه من أول الليل جذبه وقال: نم الآن، ثم لما مضى ثلث الليل أيقضه وقال: قم الآن، فهذا النوع من تحقيق الإخاء، وهو من السنن المهجورة التي ينبغي للناس أن يعودوا إليها، وبالأخص شباب الإسلام الذين يريدون التخلص من كثير من عادات الجاهلية، فقد عوضهم الله خيراً منها بإحياء سنن الصحابة رضوان الله عليهم.
فيختار الإنسان من ذوي الجد والتشمير والإيمان من يؤاخيه في الله عز وجل، فيتآخيان وينصح كل واحد منهما للآخر، ولا يكتمه أي شيء مما يراه من عيوبه في خاصته أو في عامة أمره، ويصارحه بذلك بكل نصح في خلوته دون أن يشعر بذلك أي أحد، ثم يساعده على قيام الليل وعلى الصدقة ويعالج عنه شح النفس.
وأعرف رجلاً من التجار الكبار في هذا الزمان حدثني أن أخاً له في الله كان صديقاً له هو الذي عالج عنه صفة البخل، يقول: أنا كنت مبتلىً بصفة البخل، ولكني آخيت فلاناً هذا في الله فعالج عني هذه الصفة، فكان يذكرني بصفة البخل في نفسي في كل وقت، حتى أخبرني أنها قد زالت عني، وهو لا يثق بنفسه فلا يقول: قد زالت عني بل يقول حتى أخبرني بأنها قد زالت عني، وهذا النوع من الإخاء هو من هدي السلف، ونحن محتاجون إليه في نفوسنا.
كذلك فإن مما يعين على قيام الليل: أن يعد الإنسان آلة الوضوء وفراش الصلاة، بحيث يكون ذلك قريباً منه، إذا عرض له عارض وجده قريباً منه فأعانه، فالذي لا يعد آلة الوضوء، إذا استيقظ في ليالي الشتاء الباردة كثيراً ما يحاول معه الشيطان، ويقول له: هذا الماء باردٌ وأنت في ساعة باردة، فيحاول أن يمنعه من قيام الليل، لكن إذا سخن الماء وتركه قريباً منه، فإن ذلك مما يعينه على قيام الليل.
كذلك مما يعين على قيام الليل، أن الإنسان يحاول القيام بحزبه الذي حفظه من النهار أو راجعه، فحزب الإنسان من القرآن ينبغي أن يراجعه في النهار مراجعة، فإذا كان يحفظ القرآن من قبل، فيكون له كل يوم حزب من القرآن بحسب حاله، فإن كان يستطيع أن يختم في كل أربع ليالٍ أو في كل خمسٍ أو في كل سبعٍ، أو في كل تسع، فبها ونعمت، وإن لم يستطع ذلك على الأقل حاول الختم شهرياً، ففي كل يوم يقرأ جزءاً كاملاً من القرآن، ثم يحاول أن يصلي بالجزء الذي قرأه من النهار، فإن ذلك مما يرسخ حفظه ويقتضي عدم تفلته من صدره، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم لتلفت القرآن من الصدور، فقال: (تعاهدوا هذا القرآن فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقولها)، فلا بد من تعاهده، وإنما يصح تعاهده بالجمع بين النهار والليل، فالنهار للقراءة والليل للصلاة والتدبر.
وهذا التدبر للقرآن له مستويان:
أحدهما: تدبر المحبة، وهذا لا يخلو منه أحد حتى لو لم يكن من الناطقين بالعربية، ولم يكن يفهم أية كلمة منها، فيقرأ القرآن بتمعن لمحبته له لأنه كلام ربه، فهذا الحظ حظ كل أحدٍ، فكل قارئ للقرآن حظه من التدبر الأول هو تدبر المحبة، بأن يقرأه حباً له لأنه كلام الله.
الحظ الثاني: هو تفهم في معانيه، وهذا يختلف حال الناس فيه فمن كان من الناطقين بالعربية أو من المتعلمين أو الدارسين لتفسير كتاب الله، فحظه من التدبر إذا مرت به أية آية أن يعرضها على نفسه، فاللسان إذا نطق سمعته الأذن، والقلب مراقب للأذن تنقل إليه ما تسمع، والجوارح عند القلب يعرض عليها ما يُقرأ، فإن مرت آية فيها أمر عرضه على جوارحه، فإن كان مطيعاً له حمد الله فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كان تاركاً له بادر إلى التوبة قبل أن يسخط الله عليه، وإذا مر بآية فيها نهي عرضها كذلك هذا العرض، فإن كان مجتنباً لذلك النهي حمد الله فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كان غير مجتنب بادر إلى التوبة والاستغفار والرجوع، فهي معصية يخاف أن تكون سبباً لخذلانه، وإن مرّ بآية فيها موعظة عرضها على نفسه ورددها حتى يتعظ بها، وهذا الترديد من سنن قراءة القرآن في صلاة القيام في الليل، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة بهذه الآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118].
إن هذه الآية لو رددها الإنسان على نفسه فبالإمكان أن يُفتح له فيها من أبواب العلم والتدبر والمواعظ الشيء الكثير جداً؛ ولذلك لاحظوا أن كثيراً من السلف العباد كانوا يقولون: لا نتجاوز فاتحة الكتاب بالتدبر حتى نعيها، ففاتحة الكتاب وحدها هي خلاصة القرآن كله، فقد احتوت على علوم القرآن جميعاً، وتعرفون أن الهروي رحمه الله ألف كتابه منازل السائلين بين إياك نعبد وإياك نستعين، بين هاتين الآيتين فقط، وقد لخصه ابن القيم واختصره في كتاب مدارج السالكين، وهو ثلاثة مجلدات ضخام فقط، في التدبر في آيتين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5].
إن هذا التدبر ينال به الإنسان لذة المناجاة، فيستشعر أن موسى كليم الله، شرفه الله تعالى بالاجتباء بكلامه، وأنت تغبطه على هذا المقام الرفيع، لكن إذا تدبرت أنت كتاب الله وجدت نفسك في نفس المقام؛ لأن هذا الكتاب غير منسوخ، وهو موجه إليك كما وجه كلام الله من قبل إلى موسى ، فكأنه رسالة جاءتك الآن من عند الله عز وجل؛ ولذلك فإن أهل التدبر كلما قرأوا وجدوا أن كثيراً من الآيات كانوا يمرون عليها ولا يستشعرونها، وكأنها ما مرت عليهم من قبل.
وقد حصل لبعض السلف حال عجيب عندما قرئ عليه قول الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف:155]، فتدبر هذه الآية فقال: لكأنها ما نزلت قبل ولكأني ما سمعتها. و عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ عليه أبو بكر رضي الله عنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144-145]، قال: لكأني ما سمعتها من قبل.
كذلك فإن أدب قيام الليل يقتضي من الإنسان التنويع بحسب الحال، فإذا كان مرهقاً متعباً، فقام يصلي فغلبته عيناه فقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم للنوم، لكنه إذا نام في الصلاة فأحس بخفةٍ عليه أن يحاول محاولة أخرى، فيتوضأ من جديد ويقوم، فإذا غلبته عيناه ركع فابتدر الأمر النبوي ونام، وقال ما قال أبو الدرداء : إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي. ثم يحاول من جديد مرة أخرى. كذلك إذا ثبت عليه شيء من قراءته، فلم يتذكر آية من الآيات، أو لم يتذكر عندما وقف أين يستأنف فإن عليه أن يركع؛ لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة المؤمنون حتى بلغ ذكر موسى أو عيسى فأخذته سعلة فركع )، فيركع الإنسان حينئذٍ، وبذكره لله في سجوده يزول عنه النسيان وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[الكهف:24].
كذلك فإن من آداب هذا القيام: أن يحاول الإنسان في حال قيامه أن يجعل من أهل بيته مجموعة من القائمين، فقد كان آل داود كذلك في كل ساعة يكون بعضهم ساجداً لله عز وجل، وقد حاول أبو هريرة رضي الله عنه أن يفعل ذلك، فوزع الليل ساعات يصلي هو في وقت منه وتصلي امرأته في وقت، ويصلي خادمه في وقت وتصلي ابنته فاطمة في وقت، حتى يقسم الليل لا يخلو ساعة منه من قيام لأحدهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يجمع أهله لقيام الليل كما يوقظهم للفريضة، وكان يقول: من أراد قيام ليلة القدر فليقم سائر السنة؛ لأن ليلة القدر لا بد أن تكون في السنة، ومن قام كل ليلة من ليالي السنة لا بد أن يصادفها.
إن هذه المدرسة العظيمة التي هي مدرسة قيام الليل هي مما يقتضي رفع البلاء، بأن يكون الإنسان مظلة يُرفع به البلاء عمن حوله، فما يشكوه المسلمون من الضعف والخور والمذلة والهوان، وما يشكونه من الغلاء والقصور في المعاش وما يشكونه من العسف والظلم وما يشكونه من استبداد السلاطين، وما يشكونه من تأخر الفتح، كله بما كسبت أيديهم بما كسبت أيدي الناس: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41]، فإذا كان الإنسان من القائمين الصادقين واجتهد في دعائه للمسلمين، فإن ذلك مما يرفع الله به البلاء، فيجعله هو مظلة يرفع بها الله البلاء عن أهل دولةٍ بكاملة أو مدينة من دون ذلك، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26].
كذلك فإن هذه المدرسة العظيمة سببٌ أيضاً لتعود الإنسان على طاعات أكبر منها، فالذي يوفق لأن يصلي من الليل قد يكون ذلك سبباً لتوفيقه للحج والعمرة، ثم يكون ذلك سبباً لتوفيقه للدعوة، ثم يكون ذلك سبباً لتوفيقه في الجهاد، ثم يكون ذلك سبباً لتوفيقه للشهادة في سبيل الله، فهو يتدرج في مدارج الإيمان حتى يصل إلى ذروة سنامه.
إن هذه المدرسة ينبغي أن نسجل فيها جميعاً، وألا تفوتنا فرصتها، وأن نحاول التعاون عليها ما استطعنا، وألا يخلو بيت من بيوتنا من هذا القيام الذي تتنزل له الملائكة.
إن كثيراً من بيوت الناس قد جُعل فيها من الملهيات والشواغل ما يكون طرداً لملائكة الرحمة، كما جعل فيها من الصور وما يكون فيها من النظر إلى المحرم وسماعه، وكذلك من الغفلة عن الله سبحانه وتعالى والانغماس في الملذات والشهوات، فما أحوجنا إلى الرجوع إلى هذه المدرسة، مدرسة قيام الليل، لعل الله سبحانه وتعالى يزيل عنا ما نشكوه، ولا نشكوه إلا إليه سبحانه وتعالى.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم وفقنا لصيام النفل وقيام الليل، وتقبل منا ذلك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا الذنوب التي تحول بيننا وبين قيام الليل، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ولا تجعلنا أتباعه، اللهم اهدنا لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر