إسلام ويب

الطاقات المهدرةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله تعالى قد أعطى البشر طاقات هائلة، فهم من خلالها يعمرون الأرض ويبنونها، وعلى البشر أن يستغلوا هذه الطاقات فيما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وعلى الأمة المسلمة في جانبها الرسمي والفردي مسئوليات جليلة لتحقيق الاستخلاف من خلال استغلال الطاقات وعدم إهدارها.

    1.   

    أوجه الحكمة التي من أجلها خلق الله ما في السماء والأرض بالنسبة للإنسان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعاً، فجعل ابن آدم نقطة العالم، من أجله خلق الله كل ما في هذه الأرض، وذلك لثلاثة أوجه: إما انتفاعاً وإما اعتباراً وإما اختباراً.

    الانتفاع بما خلق الله

    فالانتفاع يتجه إليه ما ينتفع به الإنسان من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وهذه الأربع هي أصول المنافع؛ لذلك تكفل الله بها لـآدم في الجنة فقال: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، ثم ما يكملها من محسناتها وحاجيتها الملحقة بها.

    الاعتبار بما خلق الله

    ثم بعد ذلك ما كان اعتباراً يغذي القلوب، فإن هذه القلوب لها تغذية، وتغذيتها إنما هي بالذكرى، وإذا عدمتها فإنها ستموت أو تمرض.

    والقلب كله على ثلاثة أقسام: إما أن يكون سليماً، وإما أن يكون سقيماً، وإما أن يكون ميتاً.

    فالقلب السليم هو الذي على الفطرة، يقبل الحق ويسمعه ويستجيب له، والقلب المريض هو الذي يسمع الحق، ولكن لا يستجيب له، والقلب الميت هو الذي لا يقبل سماع الحق أصلاً.

    ويحتاج الإنسان إلى تغذيةٍ لقلبه حتى لو كان سليماً فـإبراهيم عليه السلام أخبر الله أنه رزقه قلباً سليماً، ومع ذلك قال: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، فهو يحب أن يرى المواعظ ليزداد إيماناً ويقيناً، أما مرضى القلوب فهم أحوج الناس إلى العلاج قبل التغذية لقلوبهم، وأما موتى القلوب فهم أحوج كذلك إلى ما يحيي موات هذه القلوب، وينشرها بعد موتها لعلها تئوب إلى بارئها فيتوب عليها.

    وقد جعل الله في هذه الأرض كثيراً من المواعظ التي ينتفع الإنسان من مشاهدتها والتفكر فيها، لكن ذلك مختص بالذين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ويعتبرون في آلائه، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران:190-191]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذه الآيات، فتتكاثر لديهم الآيات المسطورة والآيات المنظورة فيزدادون إيماناً ويقيناً، فأنتم تعلمون أن الآيات المستورة هي ما أنزله الله في كتابه من الآيات والمواعظ والذكرى، والآيات المنظورة هي ما في هذا الكون من إبداع الله ودلائل قدرته:

    وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

    وهذه الآيات المنظورة تقوم بها الحجة في تصديق الآيات المسطورة، فهي تأكيد لما جاء في القرآن وبيان له، كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53]، (حتى يتبين) أي: يتضح بما لا يدع مجالاً للشك، (أنه) أي: أن القرآن هو الحق من عند الله، وهذا ما لا نزال نشهده في كل يوم من عجائب هذا الكون، ومن معجزات الله فيه التي تشهد بصدق الرسالة وبصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبصدق ما جاء في هذا القرآن، ولا يزال الناس يزدادون يقيناً أن هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، وأنه لا يمكن أن يساويه شيء من كلام الخلوقين، لا إعجازاً، ولا ترتيباً، ولا معنىً، ولا علماً، فهو المحيط بكل ذلك.

    ما خلقه الله للإنسان اختباراً له

    كذلك القسم الثالث: هو ما خلقه الله لمصلحة ابن آدم اختباراً يبتليه به، وذلك مثل السموم والأوبئة والأسلحة الفتاكة، وغيرها مما هو مجهز على الأعمار، أو مضر بالأبدان أو بالقلوب أو بالمنافع، فذلك كله ما خلقه الله عبثاً، وإنما خلقه ابتلاء لخلقه، وفيه منافع خفية أخرى، فلولا الموت لما حملت هذه الأرض بني آدم لكثرتهم، ولولا الموت لما استطاعت أرزاقها أن تكفيهم ولا مياهها؛ فلذلك كان الموت نعمة عظيمة على البشرية، لكن مع هذا ستر الله الآجال ليستقروا، وجعل لهم الآمال ليرغبوا في المستقبل، وكل ذلك من فضله ولطفه.

    فقد جعل الله سبحانه وتعالى كل ذلك لمصلحة ابن آدم.

    1.   

    تكريم الله تعالى لبني آدم واستخلافهم في الأرض

    ابن آدم كريم على الله سبحانه وتعالى، هيأ له وسائل الراحة، ففي خلقه جعله على أكمل صورة وأتمها، وقومه فجعل العين اليمنى على مقاس العين اليسرى دون أن يفرق بينهما أي فارق، واليد اليمنى على مقاس اليد اليسرى، والساعد على طول الساعد، والعضد على طول العضد، والكتف على قدر الكتف، والفخذ على قدر الفخذ، والساق على قدر الساق، والقدم على قدر القدم، وهكذا بتعديل عجيب: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، فهذا التعديل الذي عدل الله عليه الإنسان وجعله متساوياً يدل على أن هذا الإنسان كريم على الله؛ ولذلك جعله في أحسن تقويم، وفي أحسن صورة.

    ثم بعد هذا أعطاه وسائل الإدراك ووسائل التمكين في هذه الأرض، فأنتم تعلمون أن الإبل أقوى من ابن آدم، وأن الفيلة لا تقارن بقوتها بالإنسان ولا بضخامتها أو جسامتها، لكن مع ذلك ذلل الله هذه الحيوانات لابن آدم، فهو يتصرف فيها كيف يشاء، ترى الطفل الصغير يقود الجمل الضخم ويتصرف فيه، وترى راعي الحيوانات البهيمية المفترسة في حديقة الحيوانات يتصرف في الفيلة والسباع والكركدن ووحيد القرن وغيرها، كل ذلك بتذليل الله سبحانه وتعالى لهذه البهائم لابن آدم ، مما يدل على أن هذا الإنسان هو سيد هذه الأرض.

    ولذلك جعله الله خليفة فيها، وهذا الاستخلاف حكمة عظيمة وأمر جسيم من عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أخبر به ملائكته قبل أن يخلق آدم ، و آدم منجدل في طينته فقال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، لكن كثيراً من الناس لا يستشعرون هذه الأهمية لهذا الجنس البشري، ولا يستشعرون هذه الوظيفة العظيمة التي هي وظيفة الاستخلاف في الأرض، ولا يستشعرون ما خصهم الله به مما يسر لهم، ومما مكنهم فيه من هذه الأرض، فيهملون هذه الطاقات العظيمة التي امتن الله بها عليهم، فتذهب هدراً، فيولد أحدهم ميلاداً عادياً في مستشفى عادي، فيعيش حياة عادية ويموت موتة عادية ويبعث بعثاً عادياً، فهذا لم يترك أثراً ولا بصمة في هذه الأرض فكيف يوصف بالخلافة؟! ولم يحقق شيئًا مما خلق له، لكن الذي يحدث ضجيجاً ويغير، فإذا ولد ميلاداً عادياً لم تكن حياته حياة عادية، ولم يرضَ أن يكون كالحيوانات البهيمية التي تعيش من أجل طلب رزقها وتطلب رزقها من أجل عيشها، بل لا بد أن يدرك الإنسان كرامته على الله، وأن يدرك أن الكون مذلل له، وأن هذه الأرض الواسعة الفيحاء جعلها الله له قراراً وخيره في مناطقها، أنى أراد أن يذهب ووزع الأرزاق فيها، فإذا سد باب فتحت مئات آلاف الأبواب، وإذا ضاق على الإنسان محل اتسعت له آلاف المحلات، وإذا عالج نوعاً من أنواع الاكتساب فلم يقدر عليه ولم يستطعه تجاوزه فوجد آلاف الأبواب مفتوحة أمامه؛ لذلك يقول أهل الإدارة: إذا أغلق في وجهك باب فلا تحاول فتحه، وابحث عن باب مفتوح فادخل منه؛ لأن الوقت الذي تمضيه في محاولة فتح الباب تقطع به مسافة داخل الباب المفتوح، لكن من لا يدرك هذا التكريم وهذا التشريف يبقى يدور في مكانه، فإذا سدت عليه الأبواب أخذه اليأس والإحباط، وتغيرت خلقته قبل أن يتغير خلقه، ثم بعد ذلك يسوء خلقه ويسوء تدبيره، ويتصف بأوصاف الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، فيعتدي على إخوانه في الأرض، إما بالنهب، وإما بالسلب، وإما بالقتل، وإما بغير ذلك، والسبب أنه أغلق أمامه باب واحد فوقف مكتوف الأيدي أمام ذلك الباب.

    1.   

    الحاجة إلى المخاطرة والمغامرة في أمور الدنيا وترك التردد والحيرة

    وأهل التاريخ يذكرون نكتةً لا أتعرض لإثباتها ولا لنفيها، يذكرون أن أهل حمص كان لديهم نزغ وخفة في العقول في وقت مضى، وهذا لا يقتضي جحد ما لأهل حمص من الفضائل، ففيهم العلماء الربانيون وفيهم الخير الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه الترمذي في السنن بإسناد حسن: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، فلا يزال الخير في الشام، ولكن يذكر أهل التاريخ أنهم كانت فيهم خفة، فجاء سارق إلى عامل يعمل الأبواب، أي: نجار يعمل الأبواب وعنده باب قد أكمله وحسنه وجمله، فأخذه السارق واصطحبه معه، فصاح به النجار فلم يستجب له السارق، فتبعه يجري فوضع الباب بينه وبينه، وقال: الباب مغلق، فقال له النجار: لو كان الباب مفتوحاً لأريتك يتهدده، ورجع حين رأى الباب موصداً.

    هذا الحال ليس حال النجار الذي في حمص فحسب، بل حال كثير من شباب هذه الأمة ورجالها مع الأسف، فكثير من الناس يبقى متردداً حيث لا يليق به التردد، ويبقى حائراً حيث لا تناسبه الحيرة، ويبقى مكتوف اليدين في الحال الذي يمكن أن يتصرف فيه التصرف المفيد، والأكثر من ذلك أن هذا الإنسان في أصل فطرته مجبول على المخاطرة والمغامرة والاستكشاف، لكن هذه الفطرة غيرت لدى كثير من هذه الأمة، فأصبح كثير منهم من المقلدين يحاكون محاكاة الببغاء؛ ولذلك تجدون مثلاً في المجالات الحيوية التي ينبغي أن تكون مفتوحة أمام الجميع، ويمكن أن ينتج فيها كل إنسان، مجال التوظيف ومجال التجارة، تجدون في مجال التوظيف كثيراً من الموظفين تعبوا في الحصول على الشهادة، ثم تعبوا بالواسطات والرشاوى حتى وصلوا إلى الوظيفة، لكن سرعان ما يملون هذه الوظيفة ويريدون التخلص بالتفريغ ليبقى أحدهم حلس بيته من الأحلاس، لا ينفع أمته ولا يغني عنها شيئاً، ولا يتورع عن أن يأخذ راتباً من بيت مالها المفلس الذي لا يستطيع تسديد الحقوق التي عليه، فتجد كثيراً من الأساتذة وكثيراً من المهندسين، وكثيراً من البحارين، وكثيراً من الأطباء قد تخلصوا من مهنهم الأصلية، وكلما نجح أحدهم في مجال إذا هو يتخلص منه ويمله، ويرى أن هذا الطريق الذي سلك طويل، لكنه ما انتبه لطول الطريق إلا في النهايات، فهو يبحث عن طريق آخر يسلكه للتحصيل، وسبب ذلك التقليد أنه رأى أقواماً كانوا أهل احتيال وخداع، فوصلت أيديهم إلى مال الله فتمولوه لأنفسهم، واستطالوا فيه على عباد الله، فهم سراق لا يجدون من يقطع أيمانهم، ولا من يحسمها، فهو يرى هؤلاء بين عشية وضحاها أصبحوا أهل ثروة، ويرى هو أنه سلك طريقاً غير صحيح؛ لأنه ما خطر في باله مهمته في الاستخلاف، ولا خطر في باله أنه يقدم خدمةً لأمته، بل خطر في باله أنه في سباق مع المتسابقين في مجال الحرص على المال وجمعه، وأن أقواماً سبقوه ليسوا أذكى منه ولا أعلى مستوىً، وهو يريد أن يتدارك قبل أن يفوت الأوان.

    1.   

    حال الناس في تعطيل الطاقات البشرية وعدم الاستفادة منها

    هذا الحال من تعطيل الطاقات يؤدي إلى تراجع الأمم وإلى أن تكون ذنباً في أذيال الأمم، وألا يكون لها أي اعتبار ولا أي وزن.

    وهذا الحال نظيره لدى التجار، فتجدونهم يتصرفون على أساس من التبعية والتقليد عجيب، إذا رأوا من فتح محلاً على هيئة محددة ووضع فيه البضاعات على أسلوب، ليس يناسب هذا العصر ولا تقنياته ولا تنظيمه جعلوا محلاتهم جميعا ًعلى ذلك النمط، فيفسدون على هذا الأخ الذي سبق فرصته؛ لأنه كان له زبائن في هذه المنطقة، فوجد من يضايقه في زبائنه، بينما كان بالإمكان أن يلج أولئك من الأبواب الواسعة الأخرى، ونظير هذا إذا فتح أحدهم مثلاً مخبزاً أو محطةً لبيع المحروقات تجد الآخر يأتي إلى القطعة المجاورة فيشتريها ويجعل فيها محلاً مثل هذا تماماً، نسخة طبق الأصل وكأنهما توأمان، وهذا التقليد لا يأتي بخير إنما هو تضييق.

    ومن هنا فقد ذكر أحد الغربيين أن العرب جبلوا على التقليد، فلا يستطيع أحد منهم أن ينتفع؛ لأنه إذا كان فيهم عقلية تجارية واحدة فيكون الآخرون جميعاً عالة عليها.

    فالفكرة لدى الغربيين ملك لصاحبها يعطى عليها براعة اختراع، وتكون مملوكة لديه، أما في بلادنا الإسلامية فإذا فكر أحد الناس وأنتج فبدلاً من أن يشجعه الناس يفسدون عليه فكرته بأن يأتوا جميعاً لمزاحمته لتلك الفكرة، وهذا الواقع المرير ليس مختصاً ببلادنا وحدها، بل هو موجود في البلاد كلها في شرقها وغربها.

    ونظير هذا التقليد مع الأسف التقليد في أنماط المأكولات والمشروبات والملبوسات، فالناس يقلدون فيها تقليداً عجيباً، فأنا أعرف أن عدداً كثيراً من الناس لا يحبون السرف، وليست لديهم إمكانيات له أصلاً، لكن مع ذلك تجد أحدهم يلبس دراعة عشرة أمتار، ويحملها على منكبيه، وإذا لم يفعل فسيجرها جراً يساعد به البلدية المحتاج إلى المساعدة.

    إذاً: هذا تقليد في الملابس نحن في غنىً عنه، فقد جعلنا الله على مقاسات متباينة في الطول والعرض، ولم يفرض علينا جميعاً أن نأخذ مقاساً واحداً في الملابس أو هيئة واحدة في ذلك.

    1.   

    أقسام استغلال الطاقات التي وهبها الله تعالى للبشر

    إن هذه الطاقات التي وهبها الله سبحانه وتعالى لا حدود لها، وهي مؤهلة لنا بأن نكون في قمة الأمم، فهذه الأمة الإسلامية امتن الله عليها بالعقول، وامتن عليها بالوحي الذي ينير العقول، وامتن عليها بالإيمان الذي يقتضي التضحية والبذل، وامتن عليها كذلك بالموارد؛ فهي في وسط العالم وفي المنطقة المركزية منه، تمر بها الطرق التجارية كلها بحرية وجوية وبرية، وفيها المعادن والخيرات والثروات كلها، فما ينقصها إلا استغلال هذه الطاقات على الوجه الصحيح.

    إننا نعلم أن استغلال الطاقات ينقسم إلى قسمين: إلى استغلال رسمي واستغلال غير رسمي.

    الاستغلال الرسمي للطاقات

    فالاستغلال الرسمي يسأل عنه القائمون بالأمور، فأولياء الأمور مسئولون عن استغلال الطاقات وتوجيهها في الوجهة الصحيحة، فهم مسئولون عن رفاهة شعوبهم ومسئولون عن سلامة أديانهم وأبدانهم، فكل من ولاه الله أمر طائفة من المسلمين، فهو مسئول عن كل خراب يحصل فيهم، وعليه أن يحرص على استقامة أديانهم وعلى استقامة دنياهم أيضاً، فهو مسئول عن تلك الأمور كلها، وسيحاسب عليها يوم القيامة: (وما من أحد يتولى أمراً من أمور هذه الأمة فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الحديث يقتضي أن يحرص على أن يدخلوا الجنة جميعاً، أن يحرص على أن يكون رعاياه جميعاً من أهل الجنة، فيحرص على استقامة حالهم ومآلهم، وعلى تعليمهم وهدايتهم ودعوتهم وإرشادهم، وأطر فاسقهم على الحق أطراً، حتى يرجع إليه، وتأديب مارقهم حتى يستقيم، فهذه الأمور من واجباته الأولية.

    ثم بعدها استغلال ما هم فيه من الخيرات والطاقات لمصلحتهم جميعاً، ولا يحل ترك ذلك بيد الأغنياء فقط حتى يكون دولة بين الأغنياء منكم، ولا تركه بيد السفهاء المفسدين الذين إذا وقع أحدهم على عقد، فإنما ينظر إلى ما يدخل في جيبه هو من نتيجة ذلك العقد، ولا ينظر إلى أنه هنا نائب عن هذا الشعب بأكمله وأنه يقوم باتفاقية لمصلحته، ولا أن يتذكر الأجيال اللاحقة، وأنه هو من ستأكل عظامه التراب، وستبقى الأجيال اللاحقة قد ضيع هو موروثها وخيراتها، وأصبح مديناً لها جميعاً.

    فمثلاً ثروات الحديد والأسماك وغيرها، والنفط في بلاد العالم الإسلامي الشرقية، وغير ذلك من الثروات الكبيرة في العالم الإسلامي كثيراً ما تكون العقود التي توقع فيها ليست لصالح الشعوب، وإنما هي لصالح الفرد الذي وقعها وحده، ومن هنا فقد أهدر هذه الطاقات وهذه الخيرات التي لم يجعلها الله لفرد ولا تليق بالفرد أصلاً، إنما هي من مقدرات الأمة ومدخراتها، فلا بد أن تعدل الأمة في توزيعها وفي إتاحة الفرص فيها، ولا بد من مراعاة الأجيال اللاحقة، فأين هؤلاء من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتح الله على المسلمين سواد العراق وأرض مصر والشام، وهي أراضٍ زراعية؟ أراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لبيت المال من الخمس، وأن توزع الأخماس الأربعة الأخرى على المقاتلين كما هو الحكم في كل غنيمة، فكان عقل عمر وتدبيره حاجزاً دون ذلك، فقال: إذا قسمت هذه بين المقاتلين فماذا سيدرك أولادهم وأولاد أولادهم؟ ماذا سيكون لأبناء المسلمين في القرون اللاحقة؟ ولكن أجعلها وقفاً على المسلمين يزرع منها الرجل ما شاء فيخرج خراجه لبيت المال.

    وهذا التدبير من أمير المؤمنين رضي الله عنه عاشت به الأمة أجيالاً وقروناً، وما زالت آثاره إلى الآن نافعة؛ ولذلك فإن أحمد بن حنبل رحمه الله كان يأتي إلى داره التي في بغداد وهو يسكنها، فيذرعها طولاً وعرضاً ثم يخرج الخراج منها، ويقول: هذه الأرض وقف أمير المؤمنين على المزارعين، وليست للسكن أصلاً، وأنا اضطررت للسكن فيها، فسأخرج ما يخرجه المزارعون، فيخرج منها الخراج ورعاً لحق هذه الأمة، ولو كان بيت مال المسلمين مصروفاً في مصارفه وكانت طاقاته مستغلة لما وجد من المسلمين فقير ولا مريض يحتاج إلى العلاج، ولانتظمت أوضاعهم على أحسن الوجوه، وأيضاً فلو صرف بيت المال في مصارفه لما تحايل الناس على السرقة منه ولا على الغلول، بل بادر كل إنسان إلى أن يؤدي الحق الذي عليه، كما فعل أحمد بن حنبل في إخراج الخراج من ذلك، ولو حصل العدل في القسمة وأدي إلى كل ذي حق حقه لسارعتم جميعاً إلى أداء ما عليكم من الحقوق طيبة بها نفوسكم، لكن حين يرى الإنسان الإسراف والإتلاف ويرى عدم العدل وعدم توصيل الحقوق إلى مستحقيها فإنه سيقول:

    ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

    وحينئذٍ سيزداد الفساد ويزداد أهله وذووه.

    الاستغلال غير الرسمي للطاقات

    أما استغلال الطاقات غير النظام فالطاقات الفردية أيضاً غير محصورة وهي كثيرة جداً، وما منا أحد إلا وقد جعل الله فيه من أنواع الإنتاج ما يكفيه وزيادة، لكن على الإنسان أن يبحث في الباب الذي فتح الله له، فالله سبحانه وتعالى كتب مع كل أحد وهو جنين في بطن أمه ما يرزقه به، فرزقه مكتوب وهو جنين في بطن أمه، لكن لم يجمع الله البشرية في نطاق واحد فيخيرهم بين أنواع الأرزاق، بل قسم ذلك بتدبيره ولطفه، فلو أن الله تعالى جمعنا جميعاً في صعيد واحد، فقال: الرزق منه ما هو بالحفر في أعماق البحار، ومنه ما هو بالنحت في الجبال، ومنه ما هو بجمع القمامات والأوساخ، ومنه ما هو بالجلوس على المكتب في الظل تحت المكيف وكتابة بعض الأمور، ومنه ما هو بالتعليم ومنه ما هو بالمهن الأخرى، فلو خيرت لاخترت فحينئذٍ سيبادر الناس إلى الأقل تكلفة والأكثر راتباً فتتعطل المهن الأخرى التي يحتاج الناس إليها؛ فلذلك من تدبير الله أنه لم يخيرنا، بل كتب بين عيني كل واحد منا المجال الذي يصلح له.

    وهذا الحال ليس مختصاً بالإنسان بل هو متعد إلى الحيوان، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان رجل من بني إسرائيل يحرث على بقرة له، فبينما هو على عمله إذ التفتت إليه، وقالت: ما خلقت لهذا، فقيل: سبحان الله بقرة تكلمت! فقال: لكني أؤمن بذلك أنا و أبو بكر و عمر ).

    فهذه البقرة ما خلقها الله للزراعة والحراثة، وقد خلق أنواعاً أخرى من البقر لذلك؛ فلذلك يمكن أن يكون الإنسان الذي يتعب نفسه بكل مشقة في عمل يقال له: ما خلقت لهذا، له مجال آخر يمكن أن يبدع فيه وينتج، وهذا المجال سهل له؛ ولهذا يقول أبو العلاء المعري :

    أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

    كل على قدره ولا يتجاوز ذلك:

    إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

    1.   

    استغلال الطاقات المهدرة في الأمة

    إن هذه الطاقات التي فينا عظيمة جداً وأمانة ائتمننا الله عليها وليست ملكاً لنا، وكل مفرط منا فيها فسيحاسب عليها، ولبيان ذلك فسأذكر بعض الأمثلة التي لا يستطيع أحد إنكارها في واقعنا، فمثلاً في هذا المسجد الآن عدد كبير من الأساتذة، سواء كان ذلك بالفعل أو بالقوة، يوجد عدد كبير من القادرين على أن يتصدروا عدداً كبيراً من القادرين على أن يكونوا خطباء وأن يكونوا من الدعاة المؤثرين، لكن لا يزال الذين يرتقون المنابر ويتكلمون في هذا البلد مجموعة يسيرة معدودة على الأصابع يوشك أن يدعوهم ربهم فيستجيبوا، وحينئذٍ إما أن يلطف الله سبحانه وتعالى بالأمة كما عودها أو أن تعرى منابر هذه الدعوة وتسكت أبواقها، وتعرى سروجها فكل ذلك مخايله واضحة.

    إن كثيراً من الشباب نشأوا في بيئة الاتكالية، فعطلوا طاقاتهم في هذا المجال، وكثير منهم ينتظرون الفرص يقولون: نحن ننتظر حتى يأتي دورنا، متى يأتي دورك يا أخي! إذا انتظرت فسيتعداك القطار؟ والله سبحانه وتعالى هدد بذلك تهديداً بليغاً في كتابه فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التوبة:38-39]، وقد قال تعالى أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54]، وقال تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38].

    هذا تهديد واضح من ربنا سبحانه وتعالى لمن تقاعس أن يأتي بخير منه؛ ولذلك فهذا التقاعس وانتظار الفرصة هو شعبة من شعب النفاق، فالإنسان فيه مغرور كحال المنافقين الذين كانوا يقولون: لو كنا نعلم قتالاً لاتبعناك، وقد طردهم الله أشد طرد إذ قال: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ[التوبة:83].

    أمثلة لاستغلال الطاقات المهدرة في الأمة

    لو توزع عدد الحاضرين هنا من الذين يستطيعون الخطابة والذين ائتمنهم الله على علم على مساجد هذه المدينة وحدها، لكان نشاطاً إسلامياً رهيباً، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً، واستقامت أحوالهم وتغير ما نراه من الفساد، لكن هذه الطاقات مهدرة، إن هذه الطاقات لا يستشعرها الإنسان ولا يدركها إلا إذا رأى أمثلة لاستغلالها، وقد رأينا أمثلة عجيبة، فقد كنت في الأيام الماضية في زيارة لبعض البلدان الإفريقية في وسط إفريقيا، فرأيت أمراً عجباً في دولة الكونغو، رأيت شباباً أفارقة كانوا كفاراً لآباء وأمهات كفار، ولكنهم أتيحت لهم فرصة العمل في بعض البيوت الصالحة فأسلموا وحسن إسلامهم وتعلموا، ثم أصبحوا قادة المسلمين هنالك.

    أحدهم كان عاملاً في المطبخ لدى أسرة جكنية أصيلة، فرأى الأخلاق والتهذيب ورى الإقبال على العبادة، ورأى الكرم فكان ذلك سر إسلامه فأسلم، ولا أظن أحداً منهم أنفق فيه جزءاً من الوقت لإقناعه، لكنهم إنما دعوه بمجرد النظر والأسوة الحسنة فدرس وأصبح من الخطباء المؤثرين، وكانت لدي محاضرة وهو يترجمها إلى جنبي، فبالله الذي لا إله إلا هو تقوم السماء والأرض بأمره إني لأتأثر من كلامه هو وهو يترجم كلامي.

    فبلغ درجة من التهذيب بعد أن كان عاملاً في المطبخ وكان كافراً، هذه طاقة مهدرة استغلت أحسن استغلال وقد رأيتم.

    فكثير منا لديه كثير من العمال ويخالط كثيراً من الناس، لكن من تذكر يوماً من الأيام أن الذين يستغلهم قد يكون فيهم من تحتاج هذه الأمة إلى علمه، كما احتاجت من قبل إلى علم عطاء بن أبي رباح أو إلى علم نافع مولى ابن عمر أو إلى علم عكرمة مولى ابن عباس ، إننا لا نوزع خير الله: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:20].

    وقد حصلت قصة قديمة لأحد العلماء اليعقوبيين حيث كان في سفر، فنزل على أحد العلماء من أولاد خاديل وهو الحافظ ابن سيدي أحمد بن محمد وأولاده من الأذكياء النجباء، فقال له: اختر أحد أولادي يصحبك للتعليم حتى يكون عالماً مثلك. فقال: لا ولكني أختار بلالاً عبدك هذا، فحاول معه فلم يقتنع، فصحبه بلال فترة يسيرة، فكان يضرب به المثل في الصلاح والعبادة وكان يصوم النهار ويقوم الليل، وخرج العلامة أحمد فال ذات يوم فوجد بلالاً هذا يصلي صلاة الظهر في الخلاء فأحرم وراءه يصلي به، و أحمد فال من العلماء الأفذاذ و بلال راعي يرعى، فلما صلى به دار في خلده أنه لا يعرف عقيدته هل هي مستقيمة أو غير مستقيمة؟ فلما سلم بلال قال له: يا أحمد فال ! كل كمال قديم فهو صفة الله، وكل كمال حادث فهو فعل الله.

    ففكر كثيراً في هاتين الجملتين فإذا هما قد حوتا كثيراً من العلم؛ فلذلك نحن نهمل كثيراً هذه الطاقات.

    ورأيت كذلك شابين من (الكونغو) كانا في بيت أستاذي الكريم الطيب كاسمه طيب السالم ، فرأيا من أخلاقه وبساطته وكرمه وتواضعه ما حثهما على الإسلام، فصاما رمضان الماضي مع المسلمين، وإلى الآن إذا قابلك أحدهما رأيت البشاشة في وجهه وهو يبتسم، فتذكر تبسم المسلم في وجه أخيه.

    إن إخواننا الماليين من دولة مالي المجاورة، عرفوا في وسط إفريقيا وجنوبها، بل وفي بعض شمالها كذلك بأنهم إذا دخلوا مكاناً دخلوا في الدين الإسلامي، حتى لو كانوا جهلة ولو كانوا تجاراً إلا أنهم أهل اعتزاز بالدين.

    وقد زرنا مدينة كوتونو عاصمة بنين فإذا فندق للمسلمين فسألت عنه فإذا هو لبعض التجار الماليين، وهو مخصوص بالمسلمين لا ينزل فيه غير المسلمين، وكل غرفة فيه بها سجادة ومصحف وآلة للوضوء، وفيه مكان مخصص للصلاة، ومطعمه ذبائحه حلال على الطريقة الشرعية، وهذه الخدمة الجليلة في البلاد التي غالب أهلها من الكفرة قل من يفكر فيها من أبناء المسلمين، والذي يفكر في مثل هذا النوع إنما يقدم خدمة جليلة ويحصل على أجر عظيم، وقد تكون رديته أيضا ًيسيرة جداً، فقد يربح من وراء ذلك، فما أذكره من استغلال الطاقات هو أيضاً مناف للدروشة، بل صاحبه سيربح وسيكون صاحب غنىً لكنه في المقابل يقدم خدمة.

    إن الذين يستغلون هذه الطاقات يجدون سعادة عجيبة وتوفيقاً غريباً من عند الله سبحانه وتعالى، وقد حدثني أحد الإخوة أنه ختم، سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي أربعة وعشرون مجلداً، ختمه فقط عند الإشارة الحمراء للمرور، يأخذ مجلداً فيضعه في سيارته ويجعل به بطاقة، فإذا احمرت الإشارة وتوقف الناس وصمتوا وسكتوا أخذ الكتاب وبدأ يقرأ، فإذا ضرب الناس عليه المنبه وضع البطاقة أو خط بالقلم عند مكان وقوفه، فإذا احمرت الإشارة الأخرى إذا هو ما زال يفكر في الموضوع ولم يقطع الشريط في ذاكرته وذهنه فيراجع الموضوع من جديد ويستمر فيه حتى ينبهه الناس، فينطلق، فأكمل الكتاب جميعاً أربعة وعشرين مجلداً.

    مظاهر إهدار الطاقات والأوقات

    ونحن نمضي الأوقات الطويلة على الشوارع ننتظر وسيلة النقل، لا يتذكر كثير منا أن هذ الوقت الطويل كان بالإمكان أن يراجع فيه محفوظه من القرآن أو محفوظه من السنة، أو محفوظه من العلم، أو حتى محفوظاته من الشعر، فالذاكرة تحتاج إلى مراجعة دائمة.

    والأغرب من هذا الوقت الذي يمضيه كثير منا على الشاي أو في المجالس العامة، وهم يتحدثون في قصة قد انتهت، وإن كانت لا تخلو من غرابة وعبرة، لكن لو تحدثوا في قصص السيرة النبوية والفتوحات الإسلامية لكان ذلك أولى بهم.

    والذي يريد تفكه أهل المجلس أليس الأولى به أن يحدثهم حديث الركب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ؟ أليس الأولى به أن يخبرهم بتلك الغزوات المباركات بدل أن يحدثهم بسفر سافره هو أو غيره أو فلان أو علان، أو قصة قد لا يكون إسنادها على شرط البخاري و مسلم ؟ فلذلك هذا إهدار كبير لكثير من الطاقات.

    إن من إهدار الطاقات كذلك أن يتجه الرجل أو المرأة بعد أن تقدم به بالعمر إلى محاولة محاكاة الشباب في سن الخامسة عشرة أو الرابعة عشرة في الحفظ وتقييد جزئيات العلم، وقد فات الأوان، لكن هذه الطاقات التي لديك يا أخي! وقد كبرت وأصبحت مسئولاً اصرفها في مساعدة غيرك فلك أجره، فأنت لا تريد إلا رضوان الله وقد عجزت أنت عن أن تصل إلى هذا المستوى العلمي الذي تحتاج إليه الأمة، فانفق على غيرك وابتعثه في سبيل الله، وسيكون لك أجره دون أن يكتب عليك شيء من وزره.

    استغلال الطاقات في مجال العلم ونشره

    أذكر أن شاباً صغيراً في مقاطعة تجنين كان يعمل عاملاً في البيت لدى أسرة، فإذا هو حريص على العلم جداً فرأى ابنة هذه الأسرة تقرأ القرآن في لوحها، فقال: علميني ما في لوحك وأنا أتولى عنك غسل الملابس جميعاً، فلقيته فإذا هو قد حفظ ما في ذلك اللوح، فقالت له: اترك العمل، أنت لم تخلق لهذا كما قالت البقرة، واذهب إلى الدراسة، وهو الآن يدرس مع الشيخ محمد سالم .

    إن كثيراً من الناس لم يعد قادراً على اكتساب العلم، لكنه قادر على ابتعاث الآخرين إليه، وإن هذا العلم ليس عن ميراث، فهذا إمامنا مالك بن أنس رحمه الله كان الناس يأتون مجلسه من خراسان آلاف الكيلو مترات يقطعونها للوصول إلى مجلسه، وكان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك ينظر هو إلى تهافت الناس على سماع العلم منه وإذا ابنه يحيى يلعب بالحمام، فيقول مالك : سبحان الله! أبى الله أن يكون هذا الشأن بالوراثة، هذا ابن مالك يحيى الذي ولد على فراشه وتربى في حضنه يلعب بالحمام في الوقت الذي يتهافت الناس فيه على علم مالك والرواية منه وفي الوقت الذي يقول فيه قاضي المدينة: ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث، وعندما خرج مالك إلى العقيق في يوم نزهة وفي العقيق سيل سأله رجل عن حديث، فقال: من هذا السائل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق؟ اجلدوه عشرين سوطاً، فقال: يا أبا عبد الله ! إنه القاضي؟ قال: القاضي خير من أدب، فجلد القاضي عشرين سوطاً، فدعاه مالك إلى بيته وتلطف به وحدثه عشرين حديثاً عن كل سوطٍ حديث، فقال القاضي: ليته جلدني مائةً فحدثني مائة حديث.

    إن النظرة التي في أدمغة كثير منا أن للعلم سلالات هي التي ترثه ولم يك يصلح لها ولم تكن تصلح إلا له وهذا غير صحيح. فسادة هذه الأمة وقادتها من علماء التابعين ومن دونهم كما تعلمون جميعاً من الموالي؛ ولذلك سأل عبد الملك بن مروان عن سيد أهل مكة في العلم، فقيل: عطاء بن أبي رباح ، فقال: من أي العرب هو؟ قيل: ليس منهم إنما هو مولى، فقال: من سيد أهل المدينة؟ فقيل: نافع مولى ابن عمر ، فقال: من سيد أهل الشام ؟ قيل: أبو إدريس الخولاني ، قال: فمن سيد أهل مصر؟ فذكر له سليم بن عكرم فقال: من سيد أهل البصرة ؟ فذكر له الحسن بن أبي الحسن البصري ، فقال: من سيد أهل الكوفة؟ فذكر له أيضاً مولىً من مواليهم كان سيداً في العلم هنالك، فتعجب عبد الملك من ذلك ودعا أولاده فقص عليهم هذا.

    فالذين سادوا الناس في العلم والعمل والتقوى والعبادة في عصر التابعين ومن بعدهم هم من الموالي، فمثلاً: أمراء المؤمنين في الحديث إذا ذكرتموهم فستبدءون بـالبخاري لا محالة وهو مولىً، والقراء السبعة إذا ذكرتموهم فستبدءون بـنافع ثم بـابن كثير ثم بـعاصم و الكسائي و حمزة وكل هؤلاء الخمسة من الموالي، اثنان فقط من العرب في الأصل: أبو عمرو بن العلاء و عبد الله بن عامر ؛ ولذلك قال الشاطبي رحمه الله بعد ذكر هؤلاء:

    أبو عمرهم واليحصبي ابن عامر صريح وباقيهم أحاط به الولاء

    استغلال الطاقات في إحياء إرث النبي صلى الله عليه وسلم

    إن هذه الطاقات المهدرة في هذا المجال لا بد من استغلالها، وقد حان الأوان الآن لتعدي موروث القرون الماضية التي لم تكن تقدر الطاقات بسبب بداوتها وانصرافها إلى أمور أخرى دون هذا المستوى، قد حان الأوان ليقوم كل إنسان منا بسد مكان ينتظره، فأنتم جميعاً تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وما منكم أحد إلا يفديه بنفسه وعمره، فأنا أعرض عليكم مثلاً لو أن كل إنسانٍ منكم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من كل أسبوع من عمره، فليس هذا بالكثير في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أليس كذلك؟ بلى، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لأداء مهماته وهي أداء رسالات ربه والقيام بالعدل في هذه الأرض، وإقامة شرع الله فيها، فزد عمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم بساعة واحدة من عمرك في الأسبوع، بلّغ عنه رسالات ربه وتولى عنه بعض وظائفه، وتكون حينئذٍ قد اعترفت بحق الرسول الكريم، وأعطيته ساعة من كل أسبوع من عمرك، وهذا ما لا يشق، والنبي صلى الله عليه وسلم يستحق أكثر.

    1.   

    الحث على استغلال الطاقات وعدم إهدارها

    إن الساعات التي تمضي على طولها والشهور والسنوات إذا لم تستغل فستبقى أنت مكانك وقد تجاوزك الزمن، انظر يا أخي! إلى مستواك العلمي والمعرفي والدعوي في مثل هذه الساعة من العام الماضي، وقارنه بمستواك الآن، تصور أنك قد أمضيت ثلاثمائة وخمسةً وستين يوماً من عمرك وأنت سائر في اتجاه غير صحيح؛ إذ لو سرت في الاتجاه الصحيح لما رجعت إلى مكانك، ولما وقفت في نفس الموقف الذي وقفت فيه في مثل هذا الوقت من العام الماضي.

    إن كل إنسانٍ منا بالإمكان أن يترقى في درجات الكمال بزيادة العلم والعمل والتقوى، وبزيادة الإنتاج والاستثمار لخيرات هذه الأرض، وهذه الأمة التي تنتمي إليها وتنتسب إليها هي الآن في أمس الحاجة للرجال المنتجين، الذين يؤدون حق هذه الأمة.

    فهي بحاجة إلى الذين يحفظون عليها علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحاجة إلى الذين يبلغون رسالات الله، وبحاجة إلى الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، وبحاجة إلى الذين يستعدون لجهاد العدو وإقامة الحجة عليه، وبحاجة إلى الذين يقدمون أموالهم طيبة بها نفوسهم لوجه الله الكريم، وبحاجة إلى الذين يقدمون الخدمات في المجال الدنيوي، فالناس بحاجة في كل مجال من المجالات إلى من يقدم لهم شيئاً.

    ونحن لدينا الشيء الكثير الذي نستطيع تقديمه، ولكننا لم نستشعر ذلك، وأنتم تعرفون أن كثيرا ًمن الناس لا يستشعرون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، وإذا زالت النعمة فلا إدراك لها، فإذا فارقتكم هذه النعمة فكيف تدركونها بعد مفارقتها؟ وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

    إن كثيراً من الشباب يمضون أوقاتاً طائلة وهم يعالجون النوم، يضطجع أحدهم على فراشه وهو لا يريد النوم، عيناه لا تريدان النوم قد شبعتا منه، ولكنه يجبرهما على النوم، ولا يدري أن النوم موت، فلماذا يا أخي تميت نفسك؟ وهذا الوقت كان بالإمكان أن تخرج به إلى مسجد من المساجد فتكون من الذين يقمون المساجد، وذلك من مهور الحور العين يوم القيامة، وأنتم ترون هذا المسجد الذي تجلسون فيه وفيه كثير من الصفوف يجلس فيه الإنسان ويسجد على الأتربة والغبار، فإين أولئك الذين يرغبون في مهور العين ويريدون تقديم ذلك؟

    وكان بالإمكان أيضاً أن تستغل هذا الوقت طائفة أخرى فتذهب إلى المستشفيات لتنظيف غرف المرضى المحتاجين إلى ذلك، أو حتى لإرشادهم إلى ما يحتاجون الإرشاد إليه، وكذلك الأعمال العمومية التي ينفق عليها من بيت المال وهي في الأصل جهاد في سبيل الله، لكن لما حصلت النفرة والفرقة بين بيت المال وبين الفقراء أصبحوا لا يرحمون بيت المال، فبيت المال الآن غير مرحوم لدى الفقراء، لا يرحمونه لأنهم لا يأخذون منه حقهم، فإذا رأوا أي شيء يصب في مصلحة بيت المالك أو في مصلحة العامة للمسلمين رأوا أنه غير مهم، ولا يساعد فيها أحد ويقولون: الحكومة لا يتصدق عليها، هذا القاعدة قاعدة شرقية معروفة يقولون: الحكومة لا يتصدق عليها، لكن الواقع خلاف ذلك، فما من بلد إلا وأهله محتاجون إلى القيام بأعمالهم، وهذه الأعمال الخدمية يحتاج إليها الناس، وريعها ومردودها يرجع إلى الناس.

    فلذلك فإن اليابانيين والصينيين إنما نجحوا في أمور الدنيا بتعاونهم، فالإنسان يجلس في مكتبه ثمان ساعات، وهذا هو العقد الذي بينه وبين الشركة، فإذا خرج من مكتبه لم يخلد إلى الراحة، ولم يجلس تحت الشجر يلعب بالبعر والعيدان، وإنما يذهب للإنتاج، فإذا رأى الأشغال العمومية تزاول مهنتها في التسليك أو في الحفريات أو في التصريف الصحي أو في إيصال المياه للبيوت جاء يحفر مع هؤلاء؛ لأن هذا تقديم خدمة لبلده وأمته، وهو كافر يعلم أن هذا ظاهر، وهذا كان الأولى بالمسلمين أن يسبقوهم إليه.

    وكل الأعمال العمومية التي فيها نفع فهي جهاد في سبيل الله، وأجرها عظيم جداً؛ ولذلك تجدون في كتب الإسلام كلها في ذكر مصارف الوقف بناء القناطر وإجراء المياه، وإقامة الرحى التي تطحن في المدن، وقد كان أهل الأندلس يقومون هذه الأرحية على مجاري الأنهار، ويشترك فيها طلبة العلم والعلماء في إقامتها.

    فهذه الخدمات نحن الآن نغفل عن أجرها العظيم وعن فائدتها التي ترجع علينا وعلى شعبنا جميعاً بالمصلحة فنهملها، فدب إلينا العدوى من الكنيسة، فالنصارى لديهم فكرة هي: ( ما لقيصر لقيصر وما لله لله). وهذه الفكرة هي أصل العلمانية، لكن النصارى القدماء كان نصيب قيصر لديهم أقل من نصيب الله، والنصارى المعاصرون لم يكن لديهم نهاية لنصيب قيصر، فتوصلوا إلى حل واحد وهو أن نصيب قيصر هو ما أخذه.

    فقد كانت الكنيسة تتولى الخدمات وتتولى الزكاة وتتولى القيام بمصالح اليتامى والضعفاء، فأخذ ذلك القيصر فأصبح من مال قيصر؛ ولذلك أصبح رجال الدين في الكنائس يأكلون الميتات؛ لأن الزكاة أصبحت من مال قيصر ولم تعد من مال الله.

    والبابا بابا الفاتيكان لا يتورع الآن عن أكل أي مأكول؛ لأنه يرى ذلك من مال قيصر فلم يعد يهتم به، وهو خارج عن سلطته، وهذه النظرة مع الأسف دبت إلى نفوس كثير منا، فأصبح الناس يفرقون بين ما هو ملك عام وما هو ملك خاص، فالإنسان يهتم بملكه الخاص وأموره الخاصة به، ولا يعتني بالملك العام الذي الناس فيه سواسية والانتفاع به شامل للجميع، والذي يشارك في منفعة من هذه المنافع المستمرة إنما يحسن إلى الأجيال اللاحقة، ويتصدق عليها صدقة جارية ليس لها توقف، وهو في قبره تروح عليه هذه الصدقة وتغدو، وهو في أمس الحاجة إليها.

    إن هذه الطاقات العظيمة التي أعطانا الله سبحانه وتعالى بالإمكان أن نستغلها غاية الاستغلال، ومن أمثلة ذلك من أقله وأسهله: أن كل واحد من الشباب المجتمعين الآن بالإمكان أن يأخذ شريطاً أو درساً فيستمع إليه ثلاث مرات فتبقى أفكاره الأساسية في رأسه، فيأتي فيقدمها في كلمة لمدة عشر دقائق في مسجد من المساجد، وإذا كان يستطيع الترجمة فبالإمكان أن يترجمها حتى يفهمها من ليس ناطقاً بالعربية، وإذا كان من أهل الكتابة فبالإمكان أن يكتبها ويجعلها عموداً في جريدة من الجرائد التي تكتب، فيكتب فيها كل من هب ودب وتكتب الغث والسمين.

    كل هذا من الإنتاج السهل الميسور الذي هو طاقة فينا موجودة وبالإمكان أن نستغلها.

    إن كثيراً من المؤلفين الذين تطبع لهم الكتب وتنشر بأسمائهم المؤلفات في مشارق الأرض ومغاربها ليسوا أعلم من كثير من المستمعين الحاضرين في هذا المسجد، ولكنهم عرفوا طريقة للتأليف، فهم يستمعون إلى الأشرطة والدروس ويرجعون إلى بعض المؤلفات، ويأخذون زبدتها ويضعونها في تأليف فيشهر بأسمائهم، ويكون لهم حق الإبداع فيه؛ لأنه بلغة معاصرة، وهذا الذي عجزنا عنه نحن هنا، فهذا البلد قد كان أهله قديماً يشتغلون بالتأليف، ولكن تآليفهم كانت منقولة في أغلبها من كتب أخرى؛ لأنهم كانوا في كثير من الأحيان لا يجدون المؤلفات المعاصرة لهم ولا تصل إليها أيديهم، ولم تكن المطابع متوافرة، ولم تكن الطرق آمنة، ومع ذلك أنتجوا إنتاجاً عظيماً كبيراً بنى لهذا الشعب سمعة عالمية، ومع ذلك فعندما جاء العلم الحديث وأمنت الطرق وانتشرت المطابع وكثرت الشهادات قلت التآليف.

    وقد كان لي زميل من قبيلة أولاد الناصر، وهو من الدارسين في الدراسات الحديثة، فقلت له: قد أدركت الناس يذكرون أن الناصري إذا تاب فستزداد الكتب، فقد اشتهر قديماً أن من تاب من أولاد الناصر لا بد من أن يؤلف كتاباً، وقد ألفوا كثيراً من الكتب النافعة، فبماذا تزيد أنت المكتبة وأين إنتاجك؟ لكني عندما طرحت عليه هذا السؤال أعدت السؤال على نفسي فإذا نحن جميعاً سواء في عدم استغلال هذه الطاقة.

    وإذا الأمر عام فكل إنسانٍ منا لا يفكر أبداً إلا في أمر آني مؤقت، ويضيع كثيراً مما لديه من القوى في ذلك الأمر الآني المؤقت.

    وفي الواقع إن استغلال هذه الطاقات فيه تسلية ورفاه، وكثير من الناس يظن أن استغلال الطاقات إذا أطلقت هذه الكلمة أو سمع عنوان المحاضرة أو رآه مكتوباً على باب المسجد توقع أن فيه حمل الأثقال والجهاد بالدبابات والطائرات وقطع المسافات والأمور الشاقة، لكن الواقع خلاف ذلك، فأنا أعرف أن الذي يدبج قصيدة من الشعر البسيط، أو يكتب مقالة صحفية، أو يختصر كتاباً، أو يطالع مجرد مطالعة يتسلى ويجد راحة عجيبة، والذي يستمع إلى درس أو شريط يسمع فيه أفكاراً جديدة، أو حتى أفكاراً مكررة مع ذلك يتسلى ويجد متعةً، قد لا تكون دون متعة أولئك الذين يلعبون بالبعر والعيدان تحت ظلال الأشجار.

    الحض على استغلال الطاقات في المجال الدعوي

    إن هذه الطاقات إذاً لا بد من استغلالها، وإذا لم نقم باستغلالها فنحن مقبلون على ضياع كبير.

    وأنا أختم مقالتي هذه بالحض على استغلال الطاقات في المجال الدعوي في هداية الناس، فهو استثمار ضخم مضمون النتيجة، وأرباحه هائلة، فأين المستثمرون؟ أين الذين يرغبون في التجارات المضمونة التي لا خسارة فيها؟ إن علينا جميعاً أن نعلم أن ربنا ينادينا سبحانه وتعالى فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ[الصف:10-13].

    هذا الربح الطائل في هذا الاستثمار مع ربنا سبحانه وتعالى فبادروا إخواني قبل أن يفوت الأوان، فأنتم الآن في مرحلة قبل الفتح، والله تعالى يقول: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فالإنفاق الآن مده يمكن أن يقارن بجبل أحد من الذهب بعد الفتح، والساعة التي تمضيها الآن في نصرة هذا الدين والدعوة إليه يمكن أن تكون خيراً من مئات السنين من أعمال الآخرين بعد الفتح، والمقالة التي تكتبها الآن ترد بها شبهة عن الدين، أو تصدع فيها بالحق خير من مداد السنوات بعد الفتح؛ فلذلك علينا أن نبادر في ابتذال هذه الفرصة قبل فوات الأوان.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767975298