بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما شاء لما شاء، وقد عظّم شأن أهل العلم، فأشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9]، أخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].
وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء من الدنيا إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114].
وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم في كثير من الأحاديث الصحيحة عنه، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وأصاب منها طائفةً أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).
وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ).
وأخرج أصحاب السنن و أحمد في المسند، و ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، إلا عالماً أو متعلماً، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع).
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم التنويه بشأن علماء هذه الأمة، وما حمّلوا من هذا الوحي العظيم، وهذا التنويه أصله في القرآن فإن الله تعالى يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا[فاطر:32]، وهذا الاصطفاء الرباني لا معقب له؛ لأنه من أحكام الله عز وجل، ولذلك فإن الذين يأتمنهم الله على الوحي هم خيرته من كل عصر من العصور، وقد أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، فهؤلاء الذين يحملون العلم في كل عصر من العصور، هم عدول الله عز وجل، في شهادته على عباده، يختارهم لذلك اختياراً وينتقيهم انتقاء، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المفلسين، فالوحي هو أشرف ما أنزل الله في هذه الأرض، فاختار له أهل الثقة والأمانة، وعندما أختارهم الله لذلك فإنه لا معقب لحكمه، ولا لاختياره.
ومن هنا فهم الموقعون عن رب العالمين، ومنزلتهم في هذه الأمة كمنزلة الأنبياء في بني اسرائيل، (فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي بعث فيهم نبي آخر)، وهذه الأمة بعث فيها خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، ولكن الله تعهد لهذا النبي الكريم بالعلماء المجددين الذين يجددون ما أفسد الناس من سنته، وشرعته، ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في كثير من الطرق أنه قال: ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لأمتي من يجدد لهم أمر دينهم ).
و(من) هنا موصول مشترك تشمل الواحد والاثنين والجمع، وغالب الإطلاق مما يدل عليه هذا الحديث الجمع، أن يكون ذلك في عدد، فهم الذين تقوم بهم الحجة لله سبحانه وتعالى.
وقد أمر الله بخروج الطائفة في طلب العلم، فقال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَهمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122]، وائتمان الله سبحانه وتعالى لهؤلاء لا يقتضي عصمتهم، ولا يقتضي أن تكون زلاتهم كلها مغفورة، ولكنه يقتضي أن يكونوا أقرب إلى المغفرة ممن سواهم، إذا قاموا بالحق الذي عليهم، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فما يقعون فيه من الأخطاء وتقصير يكفره ما يعملونه من الحسنات أيضاً، التي لا يستطيعها من سواهم، وأيضاً دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقد أخرج أصحاب السنن، و الحاكم في المستدرك و أحمد في المسند، و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن مسعود وغيره أن البني صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة تتوارث هذا العلم جيلاً بعد جيل، يتحمله خيرة كل جيل، ويؤدونه إلى من سواهم، فيحمله عنهم خيرة ذلك الجيل، ولا يتعلق هذا بنسب ولا باختيار شخصي، ولذلك فإن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، كان الناس يزدحمون على مجلسه كلما انقطع صوت مستملٍ يسمع مستملٍ آخر، ويأتيه الناس من خراسان ومن الأندلس يضربون إليه أباط الإبل في طلب العلم.
وكان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك ، ومع ذلك رأى حين تزاحم الناس على سماع درسه وولده يحيى يلعب بالحمام، فقال مالك : أبى الله أن يكون هذا الشأن بالوراثة، أبى الله أن يكون هذا الشأن بالوراثة، فهذا العلم لا يورث، إنما يرثه ورثة الأنبياء، ولذلك فإن العلماء ورثة الأنبياء، قد أخرج البخاري ذلك تعليقاً في الصحيح، وأسنده غيره بأسانيد صحيحة، (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم انحصاره أيضاً في من تعلمه، فقد أخرج البخاري تعليقاً في الصحيح ووصله أبو بكر بن أبي عاصم في السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم )، وإنما أداة حصر تقتضي أن العلم لا ينال بالتمني، ولا بالتظني، ولا بالميراث، وإنما ينال بالتعلم، فلذلك قال: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).
وحاجة هذه الأمة إلى الذين يخلفون الأنبياء ويقومون لله بالحق، ويكونون قوامين بالقسط لله سبحانه وتعالى شهداء على الناس، حاجة الناس إليهم عظيمة جداً، ولذلك فهم المرجع في أمور الدين، والدين هو كيان الأمة ومرجعها في كل شيء لا يصلح من أمرها إلا به، فلا يمكن أن تستقيم صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا حج، ولا جهاد، ولا غير ذلك، إلا بأهل العلم الذين يعرفون ما شعر الله في ذلك، ويبلغونه، ويؤدونه على وفق ما شرع الله وبينه.
ومن هنا لزم أن يفضل العلماء من وجهين:
الوجه الأول: أنهم أمناء الرسل، فهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وهم المبلغون عنه، وخلفاؤه في تبليغ رسالات ربه.
والوجه الثاني: أن الله اختارهم لهذه المهمة، وانتدبهم لهذه الأمانة فهم موظفون في ديوان الخدمة، عند رب العزة والجلال سبحانه وتعالى.
علماء الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من الجلالة والمكانة في عصرهم، بالمكان المعروف، وقد وصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر على الأقل إلى رتبة الاجتهاد، حيث عدهم ابن حزم فأوصلهم ثمانية عشر، وعدهم النسائي فأوصلهم واحداً وعشرين، من الذين كانوا يجتهدون في الأمور، ويفتون بالمسائل، ومن سواهم من الصحابة كانوا يردون إليهم الإفتاء ويسألونهم، ويردون إليهم المسائل في الشأن كله.
فلذلك اشتهر هؤلاء وكانوا أئمة للدين يرجع إلى أقوالهم في كل مكان، ولزمهم التابعون ورووا علمهم، وقد اشتهر أن علم الصحابة في الصدر الأول كان مآله ومرجعه إلى الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بعدهم كان في العبادلة، ثم كان آخر العبادلة موتاً عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكان أعلم الصحابة في زمانه، عاش حتى لم يبقَ من الذين يناظرونه في المستوى العلمي أحد، فانفرد بذلك في زمانه.
وقد اشتهر من الذين درسوا على الخلفاء الراشدين وعلى ابن مسعود و أبي بن كعب ، و زيد بن ثابت ، وعدد كبير من الصحابة كـعائشة و أم سلمة ، عدد من المفتين من التابعين، منهم قيس بن أبي حازم وهو الوحيد الذي جمع الرواية، عن العشرة المبشرين بالجنة، فلم يروِ رجل واحد عن العشرة المبشرين بالجنة جميعاً، إلا قيس بن أبي حازم رحمه الله.
واشتهر من هؤلاء أصحاب مدارس كأصحاب ابن مسعود فهم مشهورون، ومن مشاهيرهم طارق بن شهاب ، و زر بن حبيش ، و أبو وائل ، و عبيدة السلماني ، فهؤلاء مشاهير أصحاب ابن مسعود .
وكذلك أصحاب علي رضي الله عنه، الذين رووا علمه ولزموه، ورووا أقضيته، وأفتيته، قد اشتهروا أيضاً، وانتشر ذكرهم في العراق، وكذلك أصحاب أبي الدرداء و قبيصة بن معبد في الشام، قد اشتهروا، ومن مشاهيرهم أبو إدريس الخولاني ، و عبد الرحمن بن غنم ، وغيرهما.
وكذلك اشتهر أصحاب عبد الله بن العباس وبالأخص في رواية ما يتعلق بالتفسير، فكانت لهم المكانة العالية، في مكة والطائف، وما حولهما، ومن هؤلاء عطاء بن أبي رباح و سعيد بن جبير ، و مجاهد بن جبر ، و طاوس بن كيسان اليماني ، وهم من مشاهير أصحاب ابن عباس .
كما اشتهر في المدينة فقهاء الأئمة، واشتهر عدهم على أنهم سبعة، منهم: القاسم بن محمد بن أبي بكر وهو من تلامذة عائشة عمته أم المؤمنين رضي الله عنها، و عروة بن الزبير بن العوام ، وهو كذلك من تلامذة خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد كان كما يقال كريم العمات والخالات، فأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وخالته عائشة أم المؤمنين، وأبوه الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المبشرين بالجنة، و أم الزبير صفية بنت عبد المطلب ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صحبت وأسلمت وهاجرت من عماته، وعمة الزبير خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، أول امرأة سبقت إلى الإسلام وتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم كذلك سليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وتلميذها. ومنهم كذلك: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري . ومنهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي وهم من تلامذة ابن مسعود ، وهو ابن ابن أخيه.
ومنهم كذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي أبوه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، من الذين اشتهروا بأن أهلهم خرجوا في الغزو في سبيل الله فلم يرجع منهم إلا شخص واحد، فإن أهل مكة لما أسلموا برسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع عدد من كبار قريش في ناديهم، فتذاكروا البلاء في الإسلام فذكروا أنهم قد فاتهم الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنذر عدد منهم أن يخرجوا بأهليهم وأموالهم، وأن لا يرجعوا من ذلك بشيء.
ومن هؤلاء الحارث بن هشام رضي الله عنه، وهو أخو أبي جهل خرج إلى الشام بأهله وماله فلم يرجع منهم أحد، قتلوا جميعاً في سبيل الله إلا ابنه عبد الرحمن وقد رجع طفلاً صغيراً، وأوتي به عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومنهم سهيل بن عمرو وقد خرج بأهله كذلك وماله مجاهداً فلم يرجع منهم أحد إلا ابنته فاطمة ، وقد زوجها عمر من عبد الرحمن هذا، وقال: زوجوا الشريد بالشريدة لعل الله أن يخرج من نسلهما ذرية صالحة، فكان ذلك، ومن هذه الذرية الصالحة أبو سلمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .
ومنهم كذلك سعيد بن المسيب بن أبي وهب بن حزن بن عمرو بن عامر بن عمران بن مخزوم المخزومي ، وكان يلقب سيد التابعين، وكان قواماً لله بالحق، شديداً على أهل الباطل، وكان من تمام قوته في الحق وشدته أنه عندما أحدث بنو أمية ما أحدثوا من الأمور، كسب بعض الصحابة على المنبر، كان يستمع إلى الخطبة في أولها فإذا عدل الإمام إلى سب الصحابة التفت إلى من حوله، وقال: إذا لغا فالغوا فيحدثه.
وكان كذلك من شدته في الحق أنه لم يكن يقبل هدايا السلطان، وكان يقول: من أكل مرقة السلطان احترق لسانه عن قول الحق.
وكان يكتسب فيبيع قيمة أربعمائة درهم في الزيت، فينفق على أهله من ربحها ويجعلها رأس ماله.
وزوجته فاطمة بنت أبي هريرة وارثة علم أبي هريرة رضي الله عنه، وراوية حديثه، وقد أنجب منها بنتاً مشهورة بالعلم والذكاء، وكانت صالحة مشهورة في المدينة، فخطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لولده وخليفته الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، فلما جاء الرسل إلى أبيها سعيد يخطبونها لابن أمير المؤمنين، عدل إلى بيته مغضباً ولم يجبهم، ثم لقي طالباً للعلم مغترباً، فقيراً لا يملك شيئاً فسأله فقال: ألك أهل؟ قال: لا، قال: فهل لك في أهل؟ قال: أنا فقير لا أملك شيئاً، وقد جئت مغترباً للعلم، قال: يمكن أن تجد أهلاً يساعدونك على الطلب، فقال: ومن تكون؟ فقال: فذكر له ابنته، وابنة سعيد بن المسيب المخزومية القرشية، وأمها فاطمة بنت أبي هريرة ، فتعجب الطالب من ذلك، ولم يكن هذا يخطر له على بال بوجه من الوجوه، فلم يكن منه إلا أن وافق على ذلك، فذهب سعيد إلى أمها فعرض عليها الأمر فوافقت، فرجع إلى المسجد ودعا بعض العلماء من التابعين، فعقد هذا النكاح المبارك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف المنزل الخرب الموحش، الذي يسكنه هذا الطالب، فجاء سعيد بابنته ومعها مالها، وجاء يقودها حتى أدخلها فرد عليها الباب، وقال: لا تأتيني إلا وأنت مطلقة أو جنازة، ففوجئ هذا الطالب بهذا الأمر ولم يكن يصدقه بوجه من الوجوه، فصعد على الدار فصاح في الناس يخبرهم بذلك خشية أن يتهم ويظن أنه لص.
وكذلك من هؤلاء الأعلام الذين كانوا بالمدينة من أئمة الناس في أيام التابعين، نافع مولى ابن عمر ، وقد روى علم ابن عمر وكان من سلسلة الذهب المشهورة التي قال فيها الإمام البخاري : أصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب ذلك أن يحيى بن يحيى التميمي وهو من مشاهير أصحاب مالك الذين رووا عنهم الموطأ، حدث بحديث في العراق فسأله أبو زرعة الرازي فقال: يا يحيى! عمن هذا الحديث؟ قال: يا أبا زرعة! ليس هذا زعزعة عن زوبعة، إنما هو من مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بينك وبين أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن ترفع الستر فتراه. فاشتهر هذا الإسناد بسلسلة الذهب، ولذلك قال ابن الصلاح رحمه الله: يجعل أيضاً بعد مالك الشافعي ، فهو أفضل تلامذة مالك ، فإذا كان الحديث من رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر فهو سلسلة الذهب.
وقال العراقي : ينبغي أيضاً أن يضاف أحمد فهو أفضل تلامذة الشافعي ، فإذا كان الحديث يرويه أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر فهذه سلسلة الذهب، ولذلك قال العراقي في ألفية الحديث:
وقد خاض به قوم فقيل مالك عن نافع في ما رواه الناسك
مولاه واختر حيث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد
أي: عن الشافعي أحمد . وهذه السلسلة روي بها عدد من الأحاديث، فقد أخرج أحمد في المسند خمسة أحاديث، من رواية أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، واشتهر كذلك في من بعدهم عدد من الأئمة الذين كان لهم الأثر البالغ في سيادة الأمة، وقيادتها.
ولم يكن الناس يجرؤون على مخالفتهم، وما ذلك إلا لأنهم تحملوا الوحي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا بحقه، فالناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفاه الله وهو إمام الأمة وقائدها، وبعده خلفاؤه الراشدون وقد توفاهم الله عز وجل كذلك، فلم تبقَ القيادة إلا لمن كان أقرب وألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب الناس إليه، وألصقهم به أرواهم بعلمه، وأقومهم بالحق الذي جاء به، فمن حقق ذلك في نفسه كان أقرب إليه، وقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40].
فلا نبي بعده، وليس أبا أحد من رجالكم بمعنى الميراث حتى يورث عنه ذلك، فلهذا إنما يقود الناس ألصقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعلمه وعمله، وهؤلاء هم الذين لا يخالفون لهم أمر، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أتى أبا موسى الأشعري يزوره في اليمن رأى رجلاً مغلولاً عنده، فقال: ما شأن هذا الأسير؟ فقال: إنه آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، فقال معاذ : والله لا أنزل حتى تضرب عنقه، فلم يكن من أبي موسى إلا أن قام إليه فضرب عنقه، ولم يكن ليخاف معاذاً في ذلك.
وكذلك فإن ابن مسعود كان في أهل العراق بهذا المستوى ولم يكن أميراً، لكنه كان لا يخالف له أمر، وقد كتب لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً يقول فيه: هذا ابن أم عبد آثرتكم به على نفسي. أي: أنه آثر به أهل العراق على نفسه، مع حاجته إليه.
وكذلك الحال في من بعدهم، فهذا مالك بن أنس كان في المدينة تأثيره بالغاً، وقيادته شاملة، لا يستطيع أحد أن يجرؤ على مخالفته، حتى قال فيه الشاعر:
يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان
شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
وقد خرج يوماً إلى العقيق فخرج معه الناس، فسأله سائل في الطريق عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب مالك وقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، اجلدوه عشرين سوطاً، قيل: يا أبا عبد الله! إنه القاضي، قال: القاضي خير من أُدب، فأخذوا القاضي فجلدوه عشرين سوطاً وهو قاضي المدينة، فرحمه مالك فدعاه إلى منزله فأجلسه في مجلسه وحدثه عشرين حديثاً، كل حديث عن سوط، فقال القاضي: ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث.
وكذلك فمن القصص المشهورة الواقعية: أن شيخين كبيرين من أهل المدينة كان لهما ولدان، وكان أحد الولدين براً بهما، والآخر عاقاً لهما، فحسد العق أخاه على بره، فقتله غيلة، رداه في بئر فقتله، فأمسكه القاضي فأقر بأنه قتل أخاه غيلة، فجاء والداه وهما شيخان كبيران وليس لهما ذرية إلا هذا الولد، فذكرا أنهما لا يحبان أن تجتمع عليهما مصيبتان بقتل ولديهما، وليس لهما ذرية سواهما، فعلم مالك بذلك وأن القاضي لم يقتله؛ لأن والديه قد صدر منهما عفو عنه، فقال: والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فكان هذا أشهر إضراب في الصدر الأول، أضرب فيه الإمام مالك رحمه الله عن التدريس عن الكلام في العلم، فتحركت المدينة كلها حتى قتل ذلك الرجل، فعاد مالك إلى التدريس.
وكذلك قد ورث مالك هذه الصفة لطلابه من بعده، فقد كان ابن القاسم في أهل مصر كذلك، وكان من المشكلات العلمية أنه إذا حدث لا يجرؤ أحد أن يسأله عن إسناد حديث، وإذا أفتى في مسألة لا يجرؤ أحد أن يسأله عن مأخذه لها، ومن أين استنبطها، لمكانته عند أهل مصر .
ولذلك لما جاء الشافعي إلى مصر قال عبد الله بن عبد الحكم وولده محمد : الزم هذا الرجل فما بينك وبين أن يضحك الناس منك إلا أن تخرج إلى مصر فتقول: قال ابن القاسم ، قال: فخرجت إلى العراق في حاجة لي، فأتيت بغداد فسألوني عن مسألة فقلت: كان ابن القاسم يقول فيها كذا، فقالوا: ومن ابن القاسم ؟ فقلت: فقيه كان عندنا بمصر، فضحك الناس.
وكذلك كان هذا المستوى لدى أصحاب مالك الآخرين كـأشهب ، فكان ذا مكانة عالية عند الناس، ولذلك فإن ابن القاسم كان يخالف أشهب في مسائل كثيرة من الاجتهاد، وكان ابن القاسم لا يأخذ هدايا السلطان، وكان أشهب يأخذها، فأتاه رجل من المحرشين فسأله عن حكم أخذ هدايا السلطان فقال: لا خير فيها، فقال: أشهب يأخذها، قال: كن أنت كـأشهب ، وخذ ما شئت.
وكذلك كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله بهذا المستوى أيضاً، فقد كان سيد أهل مكة في زمانه، وقد ورث ذلك عن التابعين قبله، وعندما أتى أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين رحمهما الله، و إسحاق بن راهويه رحمه الله أيضاً معهم إلى مكة ، خرج يحيى بن معين ، و أحمد بن حنبل إلى مجلس الشافعي يستمعان إلى فقهه واستنباطه، وخرج إسحاق بن راهويه إلى مجالس أهل الحديث يتتبع الأسانيد العالية، فلقيه أحمد بن حنبل فقال: يا إسحاق! عليك بهذا الرجل، فإن الحديث إن فاتك بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا الرجل لم تجده.
فالحديث موجود في كل مكان رواه الناس، ولكن الاستنباط والفهم مقصور عند أحمد في آراء الشافعي واجتهاداته.
ومما يدلنا على أن هذه المكانة إنما هي من عند الله عز وجل وبسبب ما حملوا من العلم والعمل، أن سادة الناس في أيام التابعين وأتباعهم لم يكونوا من أبناء الملوك، وأبناء الأسر المعروفة، وإنما كان أكثرهم من الموالي، فسيد أهل مكة في زمن التابعين بدون منازع عطاء بن أبي رباح ، وكان في الأصل عبداً أسود، وكان أفطس الأنف، وكان أعرج، لكنه كان سيد أهل مكة بالاتفاق.
وكذلك فإن أهل المدينة سادهم أيضاً نافع مولى ابن عمر ، و عكرمة مولى ابن عباس ، وكان عكرمة مولىً من البربر، ولا يعرف اسم أبيه، لكنه كان مولىً جيء به في السبي فأسلم وحسن إسلامه، ولزم ابن عباس حتى روى علمه.
وكذلك فإن سادة أهل العراق في ذلك الزمان منهم محمد بن سيرين ، وهو مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، هو وإخوته، وهم أهل بيت اشتهروا برواية الحديث، ستة إخوة يروون الحديث جميعاً، وهذا نادر جداً أن يكون في البيت الواحد ستة إخوة يروون الحديث جميعاً.
وفيهم مثال آخر لدى أهل الحديث وهو رواية الإخوة بعضهم عن بعض، فأربعة منهم يروي بعضهم عن بعض، فيكون أربعة من الإخوة في إسناد واحد.
وكذلك الحسن بن أبي الحسن البصري ، سيد أهل البصرة، وإمام التابعين في ذلك الوقت، جاء رجل من خراسان إلى أهل البصرة فسألهم: من سيدكم؟ قالوا: الحسن بن أبي الحسن ، قال: ممن هو؟ قيل: مولىً، فقال: بم سادكم؟ قالوا: استغنى عن ما عندنا واحتجنا إلى ما عنده، فقد كان الحسن من الزهاد العباد، واحتجنا إلى ما عنده، وما عنده من العبادة والعلم والورع، فالناس بحاجة إليه، فهذا سبب سيادته فيهم، وهكذا ساد أهل العراق فيما بعد أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطا ، وهو مولى لبني تيم ، أصله من فارس، ولكن الله سبحانه وتعالى منّ عليهم بصفاء الذهن، وحفظ والذكاء المفرط، وكان أيضاً صاحب عبادة وخشية وورع، ولذلك أصبح إماماً من أئمة الدين، مر يوماً على صبيان يلعبون، فقال أحدهم: هذا أبو حنيفة لا ينام من الليل إلا قليلاً، فقال أبو حنيفة : والله لا يتحدث بها الصبيان وهي كذب. فما نام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.
ثم بعد هذا اشتهر في العصور المختلفة من عصور هذه الأمة سادة هذه الأمة في العلم، وقد كان عدد منهم يلقبون بأمراء المؤمنين في الحديث، فكان شعبة بن الحجاج يصف عدداً من الأئمة، فيقول: فلان أمير المؤمنين في الحديث، وفلان أمير المؤمنين في الحديث، وهي منزلة عالية في العلم، وقد اشتهر الذين لقبوا بذلك، وألف فيهم، فقد نظم الشيخ محمد حبيب الله بن مايابى رحمه الله أربعة وعشرين من الذين اشتهروا بلقب: أمير المؤمنين في الحديث، وزاد عليهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله عدداً آخر من الذين ذكر عنهم هذا اللقب، وزاد بحثاً آخر ممن يستحق أن يطلق عليه هذا اللقب، فـمحمد حبيب الله إنما تكلم عن من يستحق أن يطلق عليه هذا اللقب، وأبو غدة زاد على ذلك ممن يستحق أن يطلق عليه هذا اللقب، فليس كل أحد يستطيع أن يشهد لغيره بأنه أمير المؤمنين في الحديث.
كانت منزلة هؤلاء منزلة سامقة عالية، ولذلك فإنهم كانوا يقومون بأمور لا يستطيع الجبال تحملها، فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله صمد في وجه الفتنة، وصبر على الأذى والسجن والقيود، والجلد، والضرب، ثماني عشرة سنة، وهو صابر ثابت لا يتزلزل موقفه، وقد كان يعرض على السياط فيجلد خمسمائة سوط، ثم يعرض عليه الرجوع عن مذهبه، فيمتنع عن ذلك، وقد أتاه رجل من الذين يحرصون على المصلحة، فنصحه فقال: لو أنك داريت، أو قلت كلمة يكف بها عنك هذا الأذى، قال: بئس ما قلت يا أخي، لو قلت ذلك لكان إجماعاً بين المسلمين.
وأتاه آخر وكان من أصحاب الجد والتشمير، فقال له: يا أحمد ! أنت اليوم في الناس رأس، فاصبر على الحق الذي أنت عليه، فما بينك وبين الجنة إلا أن تموت على ما أنت عليه، فقال أحمد : ما شاء الله. ثم ذكر بعد نهاية الفتنة أن تلك الكلمة مما زاده ثباتاً في محنته واستمراراً على الحق.
وكذلك فإن العصور اللاحقة اشتهر بها عدد من الذين ألقت إليهم هذه الأمة بأزمتها، لما كانوا عليه من العلم والتقوى، ومن مشاهير هؤلاء سلطان العلماء العز عبد العزيز بن عبد السلام ، فقد كان في عصره إماماً لأهل ذلك الزمان ولا ينازع، ولم يطلب العلم إلا بعد أن تجاوز أربعين سنة، لكنه أخلص لله سبحانه وتعالى، وصدق، فاختصر الله له المسافات، فكان من مشاهير العلماء في الشام ولا يجرؤ أحد على مخالفته، وعندما ظهر الفساد في الشام ولم يستطع تغييره، خرج إلى مصر فجلس فيها، ووجد أمامه المنذري ، فلما دخل العز بن عبد السلام مصر ، كف المنذري عن الإفتاء وقال: لا يحل لي أن أفتي بأرض دخلها العز بن عبد السلام ، فأحال إليه الإفتاء في المسائل كلها.
وكان ذلك أول معرفة أهل مصر بـالعز بن عبد السلام ، وهذا يدلنا أيضاً على التعاون، والتعاضد بين العلماء في نصرة الحق ونشره، فكان بمصر إذ ذاك ملك يقرب الأغنياء ويوليهم المناصب، وكان يقصي أهل العلم والورع، فولى وزيراً من الأغنياء المترفين، فتكلم كلاماً سيئاً يطعن فيه في العلم وأهله، فأفتى العز بن عبد السلام بكفره بذلك، فأرسله الملك برسالة إلى ملك آخر بالمشرق، أي: بأرض أفغانستان الآن، أو بأرض خراسان ، فلما أتى يحمل تلك الرسالة عرف نفسه بأنه الوزير، فقال له الملك الذي أرسل بالرسالة إليه: لا تكن أنت الذي أفتى العز بن عبد السلام بكفره، فوقعت عيناه في الأرض فعلم أنه هو، فقال: أخرجوه عني وردوا عليه كتابه، فوجد أن هذه الفتوى ذاعت وشاعت بالآفاق، ووصلت إلى مشرق الشمس، وهو كان يظن أنها لا تساوي شيئاً، ولن تنتشر بمصر فضلاً عن من سواها.
وكذلك فإنه لما غير منكر السلطان عندما كان له مجلس يختص به، يلعب فيه بالجواري، والعود، ويشرب فيه هو وأصحابه النبيذ أو الخمر، أنكر عليهم العز بن عبد السلام وغير منكرهم فغضب السلطان، فأمره أن يخرج من مصر، والعز ليس له سلطان يؤدب به هذا الملك، وليس له قوة إلا قوته بالله عز وجل، فسأله الملك: ماذا يستطيع أن يضره به؟ قال: أخرج عنك وأترك لك مصراً. وهذا ما كان الملك يتمناه، فهو يظن أنه ستخلو له مصر ، إذا خرج منها العز بن عبد السلام ، فاستأجر العز حمارين فجعل على أحدهما كتبه، وعلى الآخر أهله فاستاقهما خارجاً من مصر في صباحه، فخرج أهل مصر جميعاً في أثره، فخرج أهل الأسواق يغلقون أسواقهم، وكذلك أهل المساجد، وأهل البيوت، كل من رآه يخرج بأثره، فجاء منذر للملك فقال له: على من تكون ملكاً بمصر، وقد خرج أهلها؟ قال: إلى أين خرجوا؟ قال: ذهبوا في أثر العز بن عبد السلام ، فأرسل الرسل في أثره يسترضيه، ويسترجعه، فرجع العز ورجع معه أهل مصر.
وكذلك فإنه لما جاء التتار، وغلبوا على عاصمة الخلافة بغداد، وذبحوا الخليفة وسبعمائة ألف من المسلمين هنالك، وزحفوا على أرض الإسلام يحتلونها بلداً بعد بلد، ويقتلون الناس قتلاً ذريعاً، وأصبحوا أسطورة لدى الناس، يظنون أنهم لا يهزمون ولا يقتلون، فجاء رسلهم إلى ملك مصر يوعدونه، فأمره العز بن عبد السلام أن يذبحهم وأن يعلقهم على منائر المساجد، فخالفه عدد من المفتين والعلماء وقالوا: لا يحل قتل الرسل، فقال: هذه مصلحة تقيد النص؛ لأن هؤلاء يظن الناس أنهم لا يقتلون، فإذا رأوهم يقتلون تشجعوا على جهادهم وقتالهم، فذبحوا وعلقوا على المنائر، فعلم الناس أن التتار يموتون، وقبل ذلك كان الرجل من التتار يأتي عدداً كبيراً من الرجال من هذه الأمة، من المسلمين، فيقول: انتظروني هنا حتى آتي بسكين أذبحكم بها، فلا يستطع أحد منهم أن يخرج حتى يذبحهم جميعاً. فلما رأوهم قتلى عرفوا أنهم يموتون، وعندما أفتى العز بوجوب جهادهم، وردهم عن هذه الأمة، شق ذلك على الملك، ولكنه لا يستطع مخالفة فتواه، فقال: ليس لدينا من المال ما يكفي لتجهيز الجيوش، فقال له العز : قد أنفقت أربعمائة ألف في زفاف ابنتك، فلابد أن تخرج كل ما في قصرك فتبيعه بالمزاد العلني، وأن تبيع الأمراء الذين هم في الأصل أرقاء لبيت المال، فقال: لا أستطيع ذلك، لو فعلته لقتلوني، فقال: أنا أستطيعه. فوقف العز على جانب السوق، فاشتراهم الناس منه، ولما رجع إلى بيته جاء هؤلاء الأمراء في سلاحهم، فجاء ولده يخبره بأنهم على الباب يلبسون السلاح، فأراد الخروج إليهم، فأراد ابنه أن يمنعه من ذلك، فقال: يا بني! لم أصل بعد مرتبة الشهادة، فخرج إليهم، فلما رأوه بكوا وقبلوا يديه ورجليه، وتواضعوا له، فسمي بذلك بايع الأمراء، أو بايع الملوك.
وكذلك الإمام النووي مات وهو ابن إحدى وأربعين سنة، لكنه ترك الأثر البالغ في هذه الأمة، فما من مسجد من المساجد اليوم إلا وفيه كتاب رياض الصالحين، وهو من مؤلفات هذا الإمام، وكذلك في كثير من بيوت المسلمين كتاب الأذكار للإمام النووي ، ومنها كذلك كتاب التقريب في مصطلح الحديث للإمام النووي ، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي ، والأربعين النووية كذلك التي يحفظها الأطفال، وكذلك في الفقه عدد كبير من الكتب، مثل كتابه الروضة في فقه الشافعي ، ومثل كتابه المنهاج الذي هو أشهر مؤلفات الشافعية، وغير ذلك من كتبه المشهورة المعروفة، كالتهذيب في الأسماء واللغات، ومفردات التنبيه، إلى آخره، فمؤلفاته كثيرة منتشرة.
وقد كان يشكو الناس إليه إذا ظلموا، هذا الطالب الصغير في السن الملازم للمسجد، إذا ظلم أهل الأسواق، ووضعت عليهم الضرائب، جاءوا يشتكون إليه، فيخرج معهم حتى يغير منكر الملوك، وقد جاءه أهل دمشق يشتكون من السلطان المعظم، لأمر وقع فكتب إليه كتاباً، فلما كتب اسمه، كتب السلطان المعظِّم، وكسر الظاء، ولم يكتب المعظَّم، فسئل عن ذلك، فقال: ما أخاله إلا قد عظم شيئاً، لا يعظم شيئاً، إما يعظم الله، يعظم شيئاً يوماً من الأيام، لكن لا يراه معظماً في نفسه، ما دام عاصياً لله لا يستحق أن يكون معظماً.
وكذلك من هؤلاء المنذر بن سعيد البلوطي ، وهو سلطان علماء الأندلس، وكان شجاعاً في قول الحق، مشهوراً بذلك، ولهذا فإن الأمير عبد الرحمن الناصر أمره أن يستسقي للناس في قحط شديد أصاب أهل الأندلس، فامتنع من ذلك، فقيل: ولم ؟ قال: إنه يأمرنا بالاستسقاء، وهو مقبل على الشهوات والملذات، فلما انكسر الأمير وجاءه رسول من عنده، فقال: كيف تركته؟ قال: تركته وقد جلس في مسجده، وفتح مصحفه، قال: أما الآن فسأستسقي. فأمر الناس أن يصوموا ثلاثة أيام، وأن يتصدقوا وأن يعتقوا، وخرج إلى البرية يستسقي، فلما اجتمع الناس من حوله قام فيهم خطيباً بعد صلاة الاستسقاء، فقال: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، وافتتح خطبته بهذه الافتتاحية العجيبة، وهو أول من افتتح خطبة بهذا، ورفع يديه بالدعاء فما ردهما إلا وقد امتلأتا بالماء.
وعندما بنى الأمير مدينة الحمراء التي ما زالت إلى اليوم مضرب المثل في الحضارة والإتقان، وبنى فيها جامع قرطبة الكبير، المشهور الذي هو أشهر مسجد اليوم في العالم، من ناحية التصميم الهندسي، أمره أن يخطب فيه، فلما وقف على المنبر خطيباً بين يده افتتح خطبته بعد حمد الله والثناء عليه، بقول الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ[الشعراء:128-130]، وكان شجاعاً في قول الحق، جريئاً عليه، ولم يكن أحد يجرؤ على مناقشته من الملوك والأمراء إذ ذاك.
وكذلك الشيخ أبو عمر بن عبد البر الذي اشتهر بحافظ المغرب، وهو إمام أهل الأندلس بلا منازع، كان من المشتهرين في هذا الأمر، فكان الأمراء إذا أرادوا غزواً، أو أرادوا أن يخرجوا الناس للجهاد في سبيل الله طلبوا من أبي عمر أن يأمر الناس بالغزو في سبيل الله، فلم يكن الناس يغزون إلا إذا أمرهم أبو عمر بن عبد البر بذلك.
وهكذا فقد كان أيضاً أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي ، مشتهراً بهذا في بلاد الشام وبلاد مصر، والإسكندرية، وقد كان الملوك إذ ذاك يضايقونه، فقد أوذي بالإخراج من الشام إلى مصر، فأوذي هنالك، فقال: ما يفعل أعدائي بي، أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة. فلما نفوه إلى الإسكندرية كان طلابه بالإسكندرية أكثر من طلابه في القاهرة، فأرجعوه إلى الشام فسجنوه في قلعة دمشق، وفيها مات، فشهدت جنازته مليون شخص، ولم يرَ في دمشق على تاريخها جنازة شهدها من الناس مثل جنازة ابن تيمية .
وقد كان جريئاً في قول الحق، وقد قاد الجهاد ضد التتار حتى هزموا بإذن الله، ولما رأى إقبال المسلمين في صومهم في رمضان في قتال التتار، ورأى جهدهم ومشقتهم في الصوم، وهم يقاتلون عدواً كبيراً، أقسم بالله الذي لا إله إلا هو ليهزمن التتار، ولينصرن المسلمون، فقال له أحد العلماء: قل إن شاء الله فقال: أقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فسئل عن ذلك، فذكر أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وأنه ربط المسببات بأسبابها، وأنه رأى من الإقبال إلى الله والصدق ما لا يمكن أن يرد أصحابه بوجه من الوجوه، فحقق الله رجاءه.
وعندما انتشر في لبنان الباطنية من الشيعة، وهم الحشاشون الذين كانوا يغتالون أهل السنة في الليل في طرق المساجد، وكانوا يحرفون الدين فيزعمون أن الصلوات ثلاث فقط، وأن الصوم لا يكمل فيه الشهر، وهذا الآن الذي أخذ به الدروز فيما بعد، أمر ابن تيمية الأمراء بقتالهم فجبنوا عنه ولم يستطيعوا فخرج هو وطلابه، فقاتلوهم حتى اجتثوهم، فكان بذلك مغيراً للمنكر بيده.
وحتى في العصور المتأخرة فإن كثيراً من العلماء كانوا يمارسون ذلك، فهذا الشيخ سيدي أحمد المغيلي وهو من الجزائر في الأصل، وقد هاجر إلى هذه البلاد، عندما سقطت الأندلس وأقيمت محاكم التفتيش للمسلمين واليهود، جاء اليهود مع المسلمين فاستقروا في الجزائر، وفي تونس، وفي المغرب، وكانوا تجاراً، وكانوا من الأغنياء، فصانعهم الملوك والسلاطين وتركوهم يشترون بلاد المسلمين، ويبنون فيها كنائسهم وبيعهم، فأفتى هو بحرمة إقامة الكنائس والبيع على بلاد المسلمين، التي فتحت عنوة، وهذا محل إجماع أنه لا يجوز إحداث كنيسة في بلاد المسلمين، ولا بيعة، فلما أفتى وأظهرها لم يجرؤ الحكام على ذلك لما يدفع إليهم اليهود والنصارى من الرشاوى، فخرج هو بطلابه فهدم تلك الكنائس في أرض الجزائر.
وكذلك فإن القاضي عياض بن موسى بن عياض، وهو أبو الفضل، قاضي المرابطين، مؤلف كتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، ومؤلف شرح صحيح مسلم تكميل المعلم، ومؤلف مشارق الأنوار في شرح كتب السنة الموطأ والصحيحين، ومؤلف كتاب الإلماع في مصطلح الحديث، ومؤلف التنبيهات في شرح المدونة، في المذهب المالكي، وهو من أئمة المالكية المشاهير، وكان قاضياً لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان شديداً على أهل الباطل لما جاء الموحدون الذين يزعمون أنهم موحدون، وقد أظهروا البدعة وأفسدوا عقائد الناس، وقف في وجههم القاضي عياض ، وكان يصارحهم بذلك حتى أخذه ملكهم فأضجعه فذبحه، فكان شهيداً في سبيل الله بذلك.
وكذلك الإمام أبو بكر بن العربي القاضي إمام أهل الأندلس أيضاً، فقد اشتهر بقيادة أهل زمانه، بعد أن عرفوا فيه الصدق والإخلاص لله عز وجل، وكان إماماً في العلم، وقد جاء إلى أهل الأندلس بعلم المشرق، ولم يكن إذ ذاك كثير من العلوم منتشراً بالأندلس، فلما جاء ابن العربي جاء بها من جديد، فأحيا علوم الحديث، وعلوم الأصول، وغير ذلك، وهو مؤلف شروح الموطأ، له كتاب المسالك في شرح موطأ مالك ، وله كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس ، وله كتاب عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي ، وله كتاب أحكام القرآن، وله كتاب قانون التأويل، وله كتب كثيرة جداً، وقد اشتهر بقول الحق فامتحن فنهبت داره ثلاثاً، كلها يفتي بفتوى فتنهب داره، ينهبها الملوك وأعوانهم، ينهبون كتبه وداره، ولا يرجع هو عن فتواه بل يصمد على الحق.
وهكذا، في مختلف العصور، لو تتبعنا أمثلة هذا لم نكن لنكملها بوجه من الوجوه، ولذلك فإن أهل هذه البلاد أيضاً اشتهر عدد من أئمتهم وعلمائهم بهذا الأمر، فكانوا يقودون الناس، فهذا الإمام الحضرمي الذي كان قاضياً للمرابطين في زمانه، وهو مؤلف كتاب الإشارة في تدبير الإمارة، قد اشتهر بالقوة في الله وسلك طريق عبد الله ياسين بن الجزولي ، وهو مجدد الدين في هذه البلاد، وقد كان ابن ياسين رحمه الله صاحب قوة وسلطة بحق، فكان يجلد الأمير عشرين سوطاً إذا فاتته ركعه من ركعات الصلاة، وكان يؤدب المرابطين على الصلاة، فمن فاتته ركعة جلده عشرة أسواط، ومن فاتته ركعتان جلده عشرين سوطاً، ومن فاتته ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، ومن فاتته الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، وقد جلد الأمير يحيى بن أبي بكر اللمتوني ، وهو أمير هذه البلاد جلده عشرين سوطاً بسبب شجاعته، وأنه تقدم فدخل في صفوف العدو، فلما رجعوا من الغزو جلده عشرين سوطاً، فقال: علام تجلدني أيها الشيخ؟ قال: لأنك خاطرت فلو قتلت لأثمت حينئذٍ؛ لأن ذلك سيكون سبباً لفشل المسلمين. فأخذ الحضرمي بطريقته، وكان شديداً على أهل الأهواء والبدع، وكان يغير المنكر بيده ولم تكن له سلطة إذ ذاك، فبعد أن انتقل يوسف بن تاشفين رحمه الله إلى المغرب، وانتقلت الإمارة اللمتونية أيضاً إلى شرق البلاد، بقي هو في غربها، وقبره الآن حول مدينة أطار، وقد كان يقيم حدود الله بنفسه، وقتل بسبب ذلك.
وبعده عدد من الذين سلكوا هذا الطريق، فمنهم الشريف عبد المؤمن الذي بنى مدينة شنقيط، وقد كان يخرج من مدينة شنقيط كل من أظهر بدعة أو معصية كبيرة، يخرجه من تلك المدينة، ويقول: لا يبيت فيها عاصي لله تعالى، وكذلك الحجاج الثلاثة الذين بنوا مدينة شنقيط وجددوها في بداية القرن السابع الهجري، فهؤلاء أيضاً تعاهدوا على نصرة الحق، وعلى إقامة العدل في مدينتهم، ولم تزل عامرة بهم، حتى مضى عصور من بعدهم.
وهكذا حتى بعد خلو الأرض من السلاطين بالكلية، فقد اشتهر عدد من العلماء الكبار الذي كان لهم أثر كبير في رعاية الدين وحمايته.
فهذا الإمام ناصر الدين أبو بكر بن أبهم الديماني رحمه الله، دعا إلى إقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، ووافقه العلماء على ذلك، فبايعوه خليفة للمسلمين، وغزا كثيراً من بلاد الكفر ففتحها، وكان كلما فتحت عليهم المدينة من البلاد الأفريقية، ولى عليهم رجلاً منهم، كما كان ابن ياسين يفعل؛ خشية أن يظن أهل تلك البلاد أن المسلمين الذين هم من العرب جاءوا غزاة يريدون فرض سلطتهم، فكان يولي على كل مدينة مفتوحة، أو قصر مفتوح رجلاً منهم، ينظر إلى خيرهم، وأحسنهم حالاً والتزاماً فيوليه عليهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حين فتحها الله عليه فولى عليها عتاب بن أسيد .
ومن بعده استمر على منهجه عدد من العلماء الكبار في هذه البلاد، وبعد ذلك كان الشيخ محمد بن بابا رحمه الله يقيم الحدود، وقد قتل عدداً من الناس قصاصاً، ولم يكن صاحب سلطان، لكنه كان صاحب قوة في الحق، والغريب أن الشيخ محمد بن بابا رحمه الله لم تكن له آلة حرب يقتل بها الذين قتلوا، بل كان يذبحهم بسكينه، ليس له وسيلة للقتل إلا هذا، لكنه كان شجاعاً في الحق، وصاحب صدق فيه فلذلك نصره الله به، فكان يقيم الحدود، ويجلد ويعزر، ويقتل قصاصاً ويتولاهم الأمور التي هي من شأن الخلافة، لكن لما عدم الخليفة كان لابد أن يقوم بها المسلمون، وهي فرض كفاية عليهم، وإذا لم يقوموا بها أثموا جميعاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً )، فلذلك كان يقوم بهذه الفريضة رحمه الله.
وكذلك عدد من الذين كانوا في ذلك العصر فكانوا يقيمون الجهاد في سبيل الله، ويدعون إليه، ويدعون إلى الدعوة أيضاً إلى سبيل الحق، ويردون على أهل البدع، ويحاربونهم، ولم تكن لديهم وسائل لذلك.
ومن الذين شهدوا أيام الاستعمار فقاموا مقاماً محموداً مرضياً الشيخ ماء العينين رحمه الله، فإنه لما احتل الفرنسيون هذه البلاد، واحتل الأوربيون كذلك بعض المناطق من المغرب، بعد احتلال الجزائر، خرج إلى الصحراء ودعا إلى الجهاد في سبيل الله، فاجتمع حوله عدد من الناس وكان يسميهم المهاجرين؛ لأنهم هجروا أوطانهم من أجل الجهاد في سبيل الله، وقد باع كل أملاكه واشترى بها سلاحاً للمهاجرين، وكان يجاهد ثلاث دول في وقت واحد، فكان يجاهد الإنجليز في شمال المغرب، ويجاهد الإسبانيين في جنوب المغرب، ويجاهد الفرنسيين في الصحراء وفي موريتانيا هنا، وقد كان معه عدد من العلماء الذين كان لهم الأثر البارز في التحريض على الجهاد في سبيل الله إذ ذاك، ومنهم العلامة الشيخ محمد العاقب بن سيدي عبد الله بن مايابى رحمهما الله، وأرجوزته مشهورة في هذا وهي التي مطلعها:
مني إلى من في حمى المكبلِ.
وكان القائد الفرنسي الذي احتل هذه البلاد اسمه: كبلاني فلذلك يقول:
مني إلى من في حمى المكبل من كركل لما وراء العُقل
أعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المغيل
وقد حضهم فيها على الجهاد في سبيل الله، وكذلك العلامة مل العينين بن عتيك ، وله قصائد مشهورة في الحض على الجهاد في ذلك الوقت، وقبل هؤلاء قد حض على الجهاد، وإقامة الخلافة الشيخ محمد بن الأمامي ، والشيخ السدي محمد بن الشيخ سدي كذلك، فإنهما كانا يريان أن الاستعمار سيملك هذه البلاد، وأن النصارى يرغبون في ما فيها من الخيرات، ويريدون السيطرة عليها، وتبديل دين أهلها، وهذا فراسة المؤمن، فالشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا يقول:
حماة الدين إن الدين صارَ أسيراً للصوص وللنصارى
فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا
وقد ذكر في هذه القصيدة كثيراً مما آلت إليه الأمور بعد موته هو، عندما جاء المستعمر فما ذكر الشيخ سدي محمد في هذه القصيدة كله تحقق.
وكذلك الشيخ محمد المامي فقد دعا إلى إقامة الخلافة، لمجاهدة النصارى قبل أن يتمكنوا في الأرض، ولم يكن في زمانه من مظاهر الاستعمار إلا الإرساليات التنصيرية، ولذلك فقصيدته التي يدعو فيها إلى إقامة الخلافة هي نونيته المشهورة التي مطلعها:
على من ساد أمرد أو جنينا وأجمل من كسا التاج الجبين
صلاة متيم حوراء تضحي صلاة العابدين لها قطين
على مقدار من تهدى إليه لكي تكسى به الدر الثمين
يقول فيها:
بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا
إلى أن يقول:
بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبون
إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرون
إلى كم قولكم مستضعفون وأنتم للمعالي تاركون
أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنين
فيحكم حاكم بالحق منكم فلستم بعده تتنازعون
وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرون
أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملون
ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزون
كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرون
وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبون
وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربون
إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلون
... أهل الذكر منكم سلوا إن كنتم لا تعلمون
تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلين
كحرمة أو كباب بني علي فإني منهما في الداخلين
وآل الحاج أنصار كرام إلى أولاد جبنة ينسبون
لتمتثلن أو لأكفرنكم كحسان الأولاء تكفرون
وهذه القصيدة تضمنت عدداً من الفتاوي، التي أفتى بها الشيخ رحمه الله في وجوب إقامة الخلافة، ووجوب الجهاد في سبيل الله، ووجوب التعاون على البر والتقوى، ووجوب رفع الظلم عن المستضعفين، وما كان سائداً في ذلك الزمان من النهب والسلب، والوقوف في وجه اللصوص الذين يغزون فيستلبون أموال الناس، فكل ذلك من فروض الكفايات التي تعينت على من قدر عليها، وأولئك العلماء الذين دعوا إليها، لا شك يعلمون أنهم سيتعرضون فيما يدعون إليه إلى الفتنة والمحنة، لكنهم أقدموا على ذلك إخلاصاً لله سبحانه وتعالى، وصدقاً معه فلذلك نصرهم الله عز وجل.
الواقع أن كل من سعى لنصرة الله سبحانه وتعالى صادقاً فهو منصور؛ لأنه لا بد أن ينال إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وهذا قصارى ما يبتغيه المؤمن ويطلب، ولهذا فإن العلامة بابا بن الشيخ سديا رحمه الله لما أمره الحكام النصارى الغزاة أن يكتب لهم عن إمارة إدوعيش، كتب عن الأمير بكار بن سويد أحمد رحمه الله، فذكر أنه ما زال يجاهد حتى نال الشهادة في سبيل الله وذلك ما كان يتمناه، والكتاب مكتوب لنصارى، لكن هنا يبين لهم الشيخ بابا درساً عجيباً، وهو أن المؤمنين لا يضرهم القتل، بل هو شهادة في سبيل الله وهذا أقصى ما يتمنونه، فقال: ما زال يجاهد حتى قتل شهيداً في سبيل الله وذلك ما كان يتمناه، فالإنسان لا بد أن يموت.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
فالجميع سيموتون لا محالة، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30]، لكن الموت يختلف اختلافاً متبايناً فالموتة الشريفة مباينة لموتة الذلة والمسكنة.
ولهذا فما أحوج الأمة في زماننا هذا أن تجد من الصادقين المخلصين من يقومون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم، وهذا هو العلاج المنشود لضعف الأمة، ولكل ما حل بها من المصائب، فالذي تطلبه الأمة الآن ليس التكنولوجيا، ولا المال، ولا كثرة العدد، فكل ذلك متوفر في هذه الأمة، لكن الذي تطلبه الأمة والعلاج الذي تحتاج إليه، هو القيادات البارزة من أهل العلم والصلاح والتقوى، الذين يكونون مقنعين للناس، فيسلم الناس إليهم أزمتهم، ويقتدون بهم في الأمر، ويتبعونهم فيه ولا يخذلونهم، ولا شك أن ذلك سيتحقق فهو آت بإذن الله بعز عزيز، أو بذل ذليل.
وقد تعهد الله به في كتابه فقد قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:40-41]، وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128]، ويقول تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، ويقول تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، ويقول تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55].
فلا بد أن يحقق الله وعده فالله لا يخلف الميعاد، وإذا حقق ذلك الوعد فيومئذٍ يزول ما في هذه الأرض من الغثاء، الذي هو كغثاء السيل، وتزول الأساطير والخرافات، وتبطل الدعاوي المغرضة، وحينئذٍ تملأ الأرض عدلاً، بعد أن ملئت جوراً، ويفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.
نسأل الله تعالى أن يعجل بالنصر لهذه الأمة، وأن يرفع عنها الغمة، وأن يخلف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيها حدودك يا سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر