بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد شرف هذا الجنس البشري بكثير من أنواع التشريف، وكرمه بأنواع التكريم؛ فخلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بعد بأنواع التكريم؛ فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70].
وقد أنعم الله علينا في هذه الأمة بنعم لم ينعم بها على من سبقنا من الأمم؛ فاختار لنا أفضل الرسل، وأنزل إلينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، وكل هذا التكريم لا بد في مقابله من تكليف؛ لأن التكليف على قدر التشريف، فلذلك كان هذا الجنس البشري بين الصنفين، صنف أسمى منه وهو الملائكة، وصنف أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، فالصنف الأسمى وهو الملائكة محضهم الله لطاعته وعبادته؛ فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، كلفهم الله بالتكاليف ولم يسلط عليهم الشهوات.
والصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي لم يكلفه الله بتكاليف وسلط عليه الشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بالتكاليف ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].
فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يعرف أنه كائن شريف على الله تعالى كريم، وأنه لم يخلق لما خلق له سائر الحيوان، فإن كثيراً من الناس لا يعرف ذلك؛ فيظن أنه خلق من أجل جمع الرزق؛ كأنواع الحيوانات الأخرى؛ فيشتغل طيلة عمره في جمع الأرزاق، وهذه مهنة وحرفة تتقنها النملة وتتقنها الفأرة، والإنسان مشرف عنها ومكرم؛ فقد ضمن الله له الرزق وكلفه بأداء العبادة التي من أجلها خلقه، وإنما تقويم الإنسان وشرفه باعتبار ما يؤديه من هذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فهذا الجهاز مثلاً صنع من أجل التسجيل، فإذا لم تكن فيه هذه المصلحة لم تكن له قيمة ولم يشتره أحد.
والإنسان خلق من أجل عبادة الله؛ كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا لم يقم بهذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فإنه لا قيمة له ولا نفع فيه؛ ومن هنا فإن كثيراً من الذين نراهم يمشون على أرجلهم على هذه الأرض وأشكالهم أشكال البشر، ويتكلمون بلغة البشر إنما هم من أمثال البهائم؛ لأنهم ما عرفوا ما من أجله خلقوا ولم يتجهوا إلى ذلك ولم يُدر أمره بَخلَد أحد منهم؛ فلذلك غفلوا عن أنفسهم ونسوا الله تعالى فنسيهم، ولم يرد الله بهم الخير حين لم ينبههم على الحكمة التي من أجلها خلقوا؛ فهم مقبلون مدبرون في معصية الله سبحانه وتعالى، لا يبالون بأمره وطاعته، ويستمرون طيلة أعمارهم في الانشغال بما لم يخلقوا من أجله، وهذا دليل على أن الله لا يقدرهم ولا ينزلهم بالمكان الشريف عنده؛ فإن الله تعالى يصرف الذين لا يرتضي خدمتهم عن عبادته، وكل من لا يرتضي الله خدمته يحول بينه وبين الطاعة والعبادة؛ فيسلطه على نفسه ويتبعه هواه، ويجعله كالبهائم تعيش وهي لا تدري لماذا تعيش.
شرف الإنسان بهذا العقل؛ ليعلم أنه ما شاوره الله على صورة خلقته؛ هل يكون طويلاً أو يكون قصيراً، هل يكون أبيض أو يكون أسود، هل يكون ذكياً أو يكون غبياً، هل يكون ذكراً أو يكون أنثى، هذه أمور ما شاوره الله عليها، وقد قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51].
فإذا كان الإنسان خلق من دون مشورته، وقدر له عمره وكتب أجله وقدر له رزقه، وكتب عليه ما يصيبه من الأمراض والأعراض، وقدر كل ما يفكر فيه، وخطط له كل ما هو بحاجة إليه فينبغي أن يعرف أنه ليس كسائر الحيوانات، ولا بد أن يراجع عقله هذا الذي شرف به؛ حتى يعرف لماذا أتى إلى هذا الوجود، ولماذا هو موجود في هذه الحياة الدنيا، ولماذا جعل الله هذه الحياة الدنيا مجرد مرحلة من مراحل سير الإنسان، يمر بها مروراً سريعاً، ثم بعدها ينطلق إلى الدار الآخرة وينساه أهل الدنيا؛ كأنه لم يمر بها، يمر فتمضي عليه سنة أو سنتان أو ثلاث أو أربع أو عشر أو خمسون سنة، ثم بعد ذلك يكون من أهل الآخرة، وبعد سنين قليلة إذا وصلت إلى قدر عمره فهذا شيء عظيم، ينسى ولا يتذكره أحد، كم هم أولئك الذين عمروا الدنيا أكثر مما عمرناها، وملكوا منها أكثر مما ملكنا، وتصرفوا فيها أكثر مما تصرفنا، وقد نسيهم الناس، وعصر نوح عليه السلام كم فيه من البشر غير نوح عليه السلام؟ ومن دونه في عصر إبراهيم كم من أسماء الخلائق؟ حتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه ووصل تعدادهم إلى مائة وعشرين ألفاً، والذين رووا الحديث منهم يصلون إلى ثمانية آلاف صحابي، لكن من يستطيع عد ألف منهم الآن يعتبر من كبار العلماء.
فلذلك يعلم أن كل من عاش في هذه الحياة فهو إلى النسيان بانتقاله منها، ومدة بقائه فيها محصورة يسيرة، وقد جعل الله له خمسة أعمار وجعلها متفاوتة تفاوتاً عظيماً:
فالعمر الأول: عمر الإنسان حينما أخرجه الله من ظهر آدم في حياة آدم ؛ فإن الله تعالى جاء بـآدم إلى بطن نعمان وهو وادي عرفة، فمسح ظهره فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[الأعراف:172]؛ فنحن جميعاً قد دخلنا إلى الوجود في حياة آدم عليه السلام، وسألنا ربنا فأجبنا: قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ))، فقلنا جميعاً: بَلَى[الأعراف:172]، ما منا من أحد يعيش على هذه الأرض إلا وقد قال: بلى، جواباً لرب العزة في ذلك العالم الأول.
ثم بعد ذلك أخذ الله علينا العهد أن نعبده وألا نعبد الشيطان، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61]؛ ولذلك فإن هذا العهد الذي أخذ الله علينا مطلوب من كل إنسان منا أن يجدده؛ فله موسم سنوي يجدد فيه وهو الوقوف بعرفة في نفس المكان الذي مسح الله فيه ظهر آدم، يجتمع الناس في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فيقفون لله سبحانه وتعالى مجددين لذلك العهد مقرين بتوحيده سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:199-202].
والتجديد الثاني هو التجديد اليومي؛ فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول كل إنسان منا في كل يوم وليلة: ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، هو سيد الاستغفار، من قاله في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قاله في ليلة فمات فيها دخل الجنة )، وهذا الذكر العظيم هو تجديد لهذا العهد مع الله؛ ولذلك تقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك) وتقول المرأة: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا أمتك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت). فقوله: (أنا على عهدك) هو هذا العهد الذي أخذ علينا في عالم الذر، (ووعدك) وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، (ما استطعت) فالإنسان عرضة للانحراف عن هذا العهد والوعد؛ لكثرة ما يحيط به من الملهيات والمشغلات، (أعوذ بك من شر ما صنعت) فالإنسان يعلم أنه فرط في جنب الله وعصى وبالغ في المعصية، وابتعد كثيراً عن منهج الله وعن طريقه، وكل ذلك يقر به؛ فلذلك يقول: (أبوء لك بنعمتك علي) أي: أقر لك بنعمتك علي، فأعترف بها، "وأبوء بذنبي" أي: أعترف به، وأعلم أنني أستحق العقوبة في مقابله، لكنني أرجو المغفرة منك؛ فلذلك يقول: (وأبوء بذنبي فاغفر؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
وهذا العمر الأول استمرت فيه حياتنا في تلك الحياة العجيبة منذ أخرجنا من ظهر آدم إلى أن يدخل الجنين في بطن أمه عند نفخ الروح فيه، يؤتى بروحه من السماء الدنيا فتنفخ في جسده وهو في بطن أمه؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لما أتى السماء الدنيا وجد فيها آدم عليه السلام وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، قال: ( فسألت جبريل : ما هذه الأسودة التي إذا نظر آدم فيها قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى؟ فقال: نسم بنيه، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم )، فتلك الأسودة هي نسمات بني آدم وهو محبوسة عند آدم في السماء الدنيا، وفي كل يوم من الأيام ينزل من السماء الدنيا عدد ما ينفخ فيه الروح من الأجنة من تلك الأرواح، سواءً منها من كان من أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاء.
وهذا العمر الطويل ليس فيه تكليف إلا بالتوحيد، وقد بقي معنا منه أمران:
الأمر الأول: الفطرة؛ فالإنسان مفطور على العبودية، فلو ولد إنسان في جزيرة من جزائر البحر ولم يلقه أحد من الناس، فعقل فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، ولا يمكن أن يدعي أنه رب أو أنه مستغن عن الدين، بل سيبحث عن دين، وسيبحث عما يحل له وما يحرم، وعما ينفعه وما يضره؛ لأنه مفطور على ذلك، ولذلك تجدون الصغار يسألون عن الحلال والحرام ويسألون عن النافع والضار، وسبب ذلك هو الفطرة التي سبقت العقل، وهذه الفطرة فطر الله البشر جميعاً عليها؛ كما قال الله تعالى: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[الروم:30]، فإذا عرف الإنسان ربه هدي إليه وعبده، وإذا لم يعرفه بحث عن شيء يعبده سواه، فسيعبد حجراً أو شجراً أو صنماً أو غير ذلك من أنواع ما يعبد من دون الله.
والأمر الثاني الذي بقي معنا من هذا العمر الأول هو التعارف، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وسيجد بعض الناس بينه وبينهم علاقة روحية لا يدري من أين اكتسبها؛ ولذلك فنحن الآن نجلس في هذا المكان وكثير منا لا يعرف اسم الآخر وما لقيه من قبل، لكن جمعنا الله في هذا الصعيد في هذه الساعة، وكان قد قدر ذلك وكتبه قبل خلق آدم ، فجلستنا هذه علمها الله قبل خلق الكون، وكتبها في الصحف التي عنده فوق عرشه، ثم كتبها في هذه السنة أنها ستكون في هذه الساعة بهذا العدد، ثم قدرها الآن فقضاها على نحو ما سبق في علمه دون أي تغيير، ولذلك ما يقع بيننا من التعارف فيجد الإنسان نفسه مائلة إلى بعض الأفراد كأنه يعرفهم من قبل وكأن بينه وبينهم سابق عهد، وما عرفهم من قبل هذا من آثار ذلك العالم الأول؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، فالذين حصلت بينهم المعرفة في عالم الذر يتعارفون الآن، فتقع بينهم الألفة؛ فمن الناس من تقع عينه على لون من الألوان، أو قامة من القامات، أو شكل من الأشكال فيحب من كان مصبوباً في هذا القالب من البشر جميعاً، وعكسه يقع لآخرين، فكل ذلك من تدبير الله سبحانه وتعالى وتقديره.
والعمر الثاني هو: عمرنا فوق هذه الأرض، وهو أقصر الأعمار، ومدة بقاء الإنسان فيه كمدة بقائه تحت ظل الشجرة ينتظر الزوال، فيمكث ما قدر الله له من الليالي والأيام، وهي محصورة يسيرة، يغتر بها الإنسان ما دام في أثنائها، لكن عند نهايتها يتوقع أنه لم يعش إلا وقتاً يسيراً؛ ولذلك هل يوجد من عاش سليماً صحيحاً، تام الأعضاء، لا يشكو مرضاً وهو مع ذلك يتمنى الموت، ويريد الخروج من هذه الدار؟ أبداً لا يوجد، لأن الإنسان مهما طالت لياليه وأيامه فهي قصيرة قليلة لديه؛ ولهذا قال الله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116]، فمدة بقاء الإنسان في هذا العمر الدنيوي هي مدة التكليف، وهي بمثابة وقت الامتحان؛ فقد استلم قلمه وورقته وبدأ في حل الأسئلة، وستسحب عندما يحين أجله فترفع صحائفه إلى الله تعالى، ثم يقوم بالتقويم العدل الذي ليس فيه ظلم ولا وكس ولا شطط، وحينئذ ينال ما يستحقه من الجزاء، ولا يمكن أن يظلم شيئاً.
ثم بعد هذا العمر الثالث: وهو عمر الإنسان في البرزخ تحت الأرض، وهو القيامة الصغرى، ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، وهذا العمر الذي هو تحت الأرض طويل جداً، أطول بأضعاف مضاعفة من عمر الإنسان فوق الأرض؛ ولذلك فإن آباءنا عاشوا فوق هذه الأرض ما عاشوا؛ فمنهم من عاش خمسين، ومنهم من عاش ستين، ومنهم من عاش سبعين ومنهم من عاش مائة، ولكن مكثوا تحت الأرض آلاف السنين، وإذا نظرنا إلى عمر نوح نعلم أنه قطعاً عاش فوق الأرض أكثر من ألف سنة، ومع ذلك مضى عليه وهو تحت الأرض آلاف السنين التي لا يعلمها إلا الله.
فالعمر البرزخي مدته طويلة جداً، وبالأخص أن فيه كثيراً من الانشغالات التي لا تخطر للإنسان على بال، فالإنسان يقف على المقبرة فيرى القبور متساوية، وفيها ركود وهدوء وسكوت وسكون، لكن هيهات.. هيهات! فهي إما أن تكون رياضاً من رياض الجنة، وإما أن تكون حفراً من حفر النار، وظاهرها لا يبين شيئاً من حقيقتها، وإذا صعدنا على هذا التل ورأينا المقبرة التي عليه، ونحن نعرف كثيراً من الذين دفنوا فيها وكثير منا له أقارب دفنوا فيها؛ فنحن نراها وكأن الذي قبر البارحة مثل الذي قبر قبل ثلاثين سنة أو أربعين سنة، اداركوا هنالك جميعاً فاستوى كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم وصحيحهم وسقيمهم، وانقطعت أخبارهم جميعاً، وكأن من دفن منهم الليلة كالذي دفن قبل ألف عام، حالهم وما يصل إلينا من أخبارهم ليس فيه أي فرق ولا أي تفاوت؛ ولهذا فإن الإنسان بمجرد الذهاب إلى ذلك العمر يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب؛ وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، وينكشف للإنسان من الأسرار والعيوب، والأمور العظيمة العجيبة ما لا يمكن أن يخطر له على بال.
وإذا أراد الإنسان التفكير في مثال وإن كان لا يؤدي حقيقة ذلك، فليفكر لو أنه طرح فجأة في بلد لا يعرفهم ولا يعرف لهم لغتهم ولا يعرف مساكنهم، ولا يعرف أنماط معاشهم ولا هيئة ملابسهم، ولا يستطيع التفريق بين الكبير منهم والصغير، أليس هذا سيكون عجيباً لديه جداً؟ وبالأخص إذا كان خرج في نومته ووضع في الصين فجأة؛ كذلك الإنسان فإن موته هو بمثابة نومه، ثم يستيقظ بين أهل القبور ويرى ذلك العالم الآخر العجيب، الذي أول ما يواجهه فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ثم بعدها سؤال منكر ونكير ( يقعدانه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد - ثلاثاً - جاءنا بالبيانات والهدى فآمنا به واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فجواب الملكين للمؤمن يقولان له: قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، وجوابهما للمنافق يقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بين ثوديه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها -جميع الحجاج لو اجتمعوا عليها ما أقلوها، أي: لما استطاعوا حملها- فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، وحينئذ يكشف عنه الحجاب، فيزول ما كان من الغشاوة على عينيه فيرى الأمور على حقيقتها؛ فنحن الآن ينكشف لنا الغيب عن العجائب، وإذا تذكر الإنسان قبل عشر سنوات بماذا كان يفكر؟ ليفكر كل واحد منا في صورته إذا وقف أمام المرآة وصورته قبل عشر سنوات، وليفكر في حاله أيضاً بعد عشر سنوات لو مد في عمره، وليفكر فيما تجدد في حياته من الوقائع والأمور، وما حصل له من العلاقات وما انفصم عنه من الأحزاب، وما انفصل عنه من الأقارب؛ فيجد أموراً ينكشف عنها الغيب لو عرفها الإنسان قبل أن تكون لتصرف تصرفاً آخر؛ كما قال الشاعر:
قل للشباب إذا مررت بحيه ولقيتهم ولقيته في منزل
لو كنت أعلم أن آخر عهده يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
فالإنسان لو عرف ما تئول إليه الأمور قبل أن تئول إليه لكان له تدبير آخر، ولكن هذا مما أخفاه الله ولا يطلع عليه الإنسان إلا بعد كينونته وحصوله؛ فكذلك حال الإنسان في البرزخ ينكشف له من الأمور ما لم يكن يخطر له على بال؛ ولهذا قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف عن الإنسان ما كان على عينيه من الغشاوة والغطاء، فيظهر له من الأمور ما لم يكن يتصوره بوجه من الوجوه.
ثم بعد ذلك العمر الرابع هو: عمر الإنسان فوق الساهرة في المحشر، وهو كذلك عمر مديد طويل؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، وبالأخص لكثرة ما فيه من الاشتغالات، فالإنسان في الأعمار السابقة يقوم ويجلس ويضطجع وينام، وهو في قبره مضطجع، وكثير من الأحداث التي تمر عليه فيها تبادل، لكن في الحياة فوق الساهرة في المحشر رتابة وهدوء، والأمر كما هو فالإنسان قائم؛ كما خلق يأتي حافياً عارياً أغرل، ليس معه إلا عمله؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، وهو في ذلك الموقف لا يستطيع تحريك رجله ولا أن يلتفت يميناً ولا شمالاً، وهذه الساهرة أرض صغيرة جداً، إذا وقف الواقف على طرفها رأى طرفها الآخر، ومع ذلك يجتمع فيها الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم بتلك الصورة العجيبة، وتبدو الشمس فوق رءوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم بعد ذلك يعلو فوقها؛ فمنهم من يصل إلى كعبيه ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
ويطول هذا الموقف طولاً غير معتاد، ليس فيه ليل ولا نهار ولا تبادل ساعات، ولا ما يزيل عن الإنسان الكرب الذي هو فيه؛ فالإنسان في هذه الحياة حتى لو كرب بمرض أو مصيبة من المصائب، فالليل ينفس عنه إذا كانت مصيبة في النهار، والنهار ينفس عنه إذا كانت مصيبته في الليل، وتبادل الساعات فيه تبادل للأجواء وتبادل للطقس وتغير لحالة الحرارة، وهذه أمور لا تتغير في الموقف فوق الساهرة، وأشد ذلك أنهم مع طول موقفهم يؤتى بجهنم وهم يرونها يركب بعضها بعضاً تجرها الملائكة من كل جهة، حتى تحيط بالناس من جميع الجهات، ولها سبعون ألف زمام وكل زمام يجذبه سبعون ألف ملك، أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة الكرام العظام يجرون النار جراً، والناس يرونها وهي شديدة السواد واللهب، يركب بعضها بعضاً ويحطمه، وهم يسمعون تغيظها وزفيرها وأصواتها المرعبة المروعة، وبعض الناس يصل إليه من دخانها، وبعضهم يصل إليه من حرها، وبعضهم يصل إليه من بردها، وبعضهم يصل إليه من رائحتها ونتنها، نسأل الله السلامة والعافية! وبذلك يطول عليهم هذا فيظنون أنهم لا يمكن أن يجدوا ما هو أشد من هذا الحال، حتى يتمنوا الخروج إما إلى جنة وإما إلى نار.
وبعد ذلك العمر الخامس، وهو عمر الإنسان الأبدي السرمدي، إما في جنة وإما في نار، إن كان في الجنة ففيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيه الخلود والرضا، وفيه النظر إلى وجه الله الكريم، وفيه من المنازل العالية والخير الذي لا انقطاع له ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).
وإن كانت الأخرى نسأل الله السلامة والعافية! فالعيش في النار حدَّث ولا حرج، لا يسأل أحد عنه؛ ففيها من أنواع المذلة والهوان والشقاء والآلام والكدر ما لا يمكن أن يخطر على بال، وأعظم ما فيها من الكدر أنهم محجوبون عن الله؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ[المطففين:15-16]، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، كلما نضجت جلودهم وسقطت وتوقعوا الخروج إذا هم يبدءون حياتهم من جديد، إذا أرادوا الخروج منها وصعدوا في سلالمها، وأذن لهم بذلك إذا وصلوا إلى آخر درجة من السلم أعيدوا إلى قعرها، فيمكث أحدهم آلاف السنين وهو يصعد في ذلك السلم يؤمل أن يخرج، ثم يعود أدراجه كأنه لم يبدأ، وتكبر أجسامهم وتضخم حتى ينالوا حظهم من العذاب؛ فمجلس أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة، أربعمائة وستة عشر كيلو، ( وضرس أحدهم في النار كجبل أحد )، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقدامه في النار في السلاسل السود كالجبال السود المتراكمة، نسأل الله السلامة والعافية! وشرابهم فيها هو الماء الحميم الذي إذا شربوه انصهرت به الأمعاء فذابت؛ فتكون ماءً معه، وأكلهم فيها من الزقوم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وهم في ذلك لا ترويح عندهم إلا من عذاب إلى ما هو أشد منه؛ إذا أخرجوا من الحر الشديد والجحيم أدخلوا الزمهرير والبرد الشديد، وإذا أخرجوا من ذلك؛ ليأكلوا كان أكلهم أشد مما كانوا فيه، وإذا أخرجوا من ذلك؛ ليشربوا كان شربهم أشد مما كانوا فيه، وإذا عادت إليهم جلودهم من جديد كان الألم معه أشد مما كان مع الجلد السابق، نسأل الله السلامة والعافية! وهم بذلك في هذا الهوان الدائم والمذلة لا يمكن أن يجدوا أية رحمة، نسأل الله السلامة والعافية! ولا يجدون هواءً بارداً ولا نسيماً ولا نظرة ولا كلمة فيها سرور، ولا يجدون راحة من أي وجه من الوجوه، ومع ذلك لا يرجون الخروج منها، ويمكثون أربعين سنة وهم ينادون مالكاً خازن النار، يقولون: يا مالك! نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، وهم ينتظرون جوابه أربعين سنة حتى إذا مكثوا أربعين سنة قال بعد ذلك: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]؛ فيبدءون عمراً جديداً، ولا يكلمهم الله كلام رحمة، بل يقول لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]، نسأل الله السلامة والعافية!
فإذا عرف الإنسان أن العمر الأخير الذي هو عمر الخلود والبقاء والدوام، إما في جنة أو في نار هو مرتب على هذا العمر الدنيوي القصير؛ فعليه أن يبادر لاستغلال هذا العمر قبل فواته؛ فإن هذا العمر ينقضي بالأيام والليالي وآثار ذلك على الإنسان بادية، ما يتجدد من الشيب وما يتجدد من الضعف، وما يتجدد من نقص السمع وما يتجدد من نقص البصر، وما يتجدد من نقص العقل وما يتجدد من نقص النشاط، وما يتجدد من نقص الأكل والشرب، وما يتجدد كذلك من العوارض والأمراض، كل هذا موذن بالزوال والانتقال عن هذه الدار، وإذا أحس الإنسان بذلك عليه أن يستغل هذا العمر للنجاة في ذلك العمر الطويل الأخروي، وبالأخص إذا كان الإنسان صاحب غيرة، فلو أن أختاً من الأخوات الآن شُرَّفت عليها أختها، فمدحت وأثني عليها وكرمت وأعطيت الجوائز فإنها ستغار منها؛ فكذلك الإنسان يوم القيامة يرى آخر كان أضعف منه جسماً، وأقل منه مكانة وأقل منه مالاً، وأقل منه ولداً وأضعف منه حالاً، ولكنه صرف ما أوتي من الخير في مرضاة الله؛ فكان من الزائدين يوم القيامة فجاء بحسنات تقبلها الله فضاعفها، فبارك الله له في تلك الحسنات فجعلها بأضعاف مضاعفة، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ثم بعد ذلك بيض الله وجهه فكان يسير في النور مسيرة خمسمائة عام، وآتاه الله كتابه يمينه تلقاء وجهه، وجعله من أهل الجنة لا شك أن الإنسان إذا كان من المفرطين سيغار من هذا الإنسان الذي كان مثله؛ فالبشر جميعاً حالهم متقارب، لكل إنسان منهم عينان وأذنان ويدان ورجلان؛ فلماذا يكون بعض الناس من المستغلين لما آتاه الله من الفرص، ومن الفائزين، ويكون آخرون من المغبونين الذين لم ينتفعوا بما أوتوا وقامت عليهم الحجة به؛ فيقول الله لهم يوم القيامة في النار: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].
إننا لا شك نضيع كثيراً من الفرص، ونضيع كثيراً من أعمالنا هذه السريعة؛ فلو نظر الإنسان ولو فكر في مثل هذا الوقت من العام الماضي عام 2003م يوم خمسة من الشهر السابع مثلاً، أليس كان وقتاً قريباً جداً؟ والأيام التي مضت بعده وقتها ضئيل جداً ويسير، لكنه عام كامل بمثابة عمر مضى وفيه ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، ولا يمكن أن تعرض إلا عند العرض أمام الميزان بين يدي الله، وكذلك إذا عاش الإنسان عاماً آخر فهو أسرع من العام السابق، فالزمان في كل عام تنتقص بركته وينتزع منه، فيكون أسرع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بين يدي الساعة أياماً يتقارب فيها الزمان، حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاشتعال السعف )، فهذه السرعة الهائلة اليوم نشهدها بوسائلنا وآلاتنا؛ فالسيارات الآن أسرع من مراكب الماضين، وأسرع من مراكب أجدادنا، والطائرات أسرع، والاتصالات تصلك من قريب لك في بلد، وتتصل به الآن وأنت جالس هنا في نفس الثانية ويسمع صوتك، فهذه السرعة الهائلة التي في زماننا هذا مؤذنة بسرعة الانتقال من هذه الدار.
ولذلك علينا أن نبادر، البدار البدار لما ينجينا بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد يسر لنا أسباب الهداية وأنعم علينا بأنواع النعم، وكل ما نرغب فيه وكل ما نطلبه من المصالح لا ينافي شرع الله؛ فما يسر الله لنا من الحلال هو خير مما منع علينا من الحرام؛ ومن هنا فيستطيع الإنسان أن يصل إلى مبتغاه، وأن يحقق آماله وإراداته مما أحل الله له، وبذلك يكون ناجياً يوم القيامة، ويترك ما حرم الله عليه؛ لأن ما حرم عليه فيه الضرر الماحق به في هذه الحياة، وفيه الضرر الماحق به في البرزخ، وفيه الضرر الماحق به في الموقف فوق الساهرة، وفيه الضرر الماحق به في يوم القيامة، في العمر الأخير.
ثم إن علينا أن نتذكر أن وقتنا هذا الذي نحن فيه هو آخر هذه الدنيا؛ فالدنيا مضت فيها القرون وجاء فيها الأنبياء، وجاءت فيها الأمم وجربت فيها التجارب، وآخر الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة مضت منها القرون؛ فقد مضى منها أربعة عشر قرناً، فنحن الآن في آخرها، إذا بقي قرن أو قرنان أو ثلاثة بعد الذي نحن فيه، فهذا شيء كثير من الدنيا، ومع ذلك فالقرن من زماننا هذا لا يساوي شيئاً من القرون السابقة؛ فهو لا يشترك مع القرن السابق إلا في العدد مثل سعر العملة؛ فألف أوقية الآن هل تساوي ما يقابلها قبل عشرين سنة مثلاً؟ فكذلك الأعمار؛ فأعمارنا الآن حتى لو عاش أحدنا خمسين سنة لا تساوي خمسين سنة لو عاشها جده الثالث أو الرابع، وبذلك ندرك أن وقتنا هذا هو وقت السرعة وليس فيه مجال أبداً للإفساد، فما كان الإنسان يتخيله من أن لديه فرصة بأن يفسد في شبابه، ثم يتوب بعد هذا أو أنه سيكون الآن من أتباع الهوى ويعمل ما زينت له نفسه، ثم بعد ذلك إذا اقترب أجله أو إذا تاب تاب ورجع إلى الله تعالى، من يضمن له أنه يبلغ ذلك؟ ألسنا كل يوم نشهد الذين يموتون إما بالأمراض وإما بحوادث السير، وإما بالغرق وإما أن يموتوا فجأة من غير مرض، أليس يموت من هو أكبر منا ومن هو أصغر ومن هو معاصر لنا ومن هو دوننا، كل يوم نودع بعثاً إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند المحشر، وإذا كان الحال كذلك فلنعلم أننا قطعاً على آثارهم؛ ومن هنا فالوقت ضيق جداً، وليست فيه فرصة للانتظار، لا يمكن أن يقول إنسان: أنا سأنتظر، والعام القادم إن شاء الله سأكون فيه من الصالحين أو العام الذي بعده سأغير حياتي، وما يدريك لعلك قد كتب أجلك في هذا العام؛ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فالذين ماتوا في هذه الأيام لم يكن أحد منهم يعلم أنه من موتى هذا العام، ولم يكن أحد منهم يقدر ذلك، ولهذا فنحن جميعاً سائرون على آثارهم.
وإذا كان الحال كذلك فعلينا ألا نغتر بالتسويف وطول الأمل، ولا بد أن يتذكر كل إنسان منا أنه في هذا العمر القصير فتح عليه خمس جبهات وهو يجاهد للنجاة أمامها جميعاً، والإنسان الذي هو في معركة وقد فتحت عليه الجبهات من كل جانب، وهو يتعرض لإطلاق الرصاص عليه أن ينتبه لنفسه انتباهاً عظيماً.
وهذه الجبهات الخمس أولهاً جبهة الشيطان، وذلك لأنه يأتي من كل الجهات؛ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17]، وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس، وقد بين الله عز وجل أن يمينه وقعت فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، فيمينه صدقت على أكثر البشر، وجبهته جبهة ذات خطورة عظيمة؛ لأنه يسعى بالإنسان أولاً إلى أن يوقعه بالكفر، فيشككه في ربه الذي خلقه وأنعم عليه، ويشككه في رسوله الذي اختير له، ويشككه في القرآن الذي عجز الخلائق أن يأتوا بسورة من مثله، ويشككه في البعث بعد الموت، وهو يرى علامات ذلك بارزة كما يرى الشمس تغرب ثم تطلع من الغد، ويرى الأرض تيبس وتمحل، ثم يأتي المطر فتنبت من جديد، وكل ذلك من علامات البعث بعد الموت، فيشككه في هذه الأمور، فإذا لم يشك في شيء منها وكان اعتقاده صحيحاً حاول معه في الوقوع في الكبائر والفواحش، فإن عجز عن ذلك حاول معه في ترك الواجبات، فإن عجز عن ذلك حاول معه في الانشغال ببعض الواجبات عن بعض، فإن عجز عن ذلك حاول معه في الوقوع في الصغائر؛ فإن عجز عن ذلك حاول معه في ترك السنن، فإن عجز عن ذلك حاول معه في الوقوع في المكروهات، فإن عجز عن ذلك حاول معه في الاشتغال بخلاف الأولى، فإن عجز عن ذلك حاول معه في الإعجاب بنفسه، فإن عجز عن ذلك حاول معه في احتقار نفسه وازدرائها؛ فهو عدو للإنسان عداوة حقيقية وهو يسعى لإذلاله وإغوائه بكل الوسائل، ويتخذ لذلك كثيراً من الأمور.
هذه الأمور منها:
أولاً: تحبيبه الشهوات للإنسان، فإذا عجز عن هذه الجبهة ولم يكن الإنسان من الذين يتبعون الشهوات صب عليه جند الشبهات، فهذان الجندان هما طاقة إبليس، إما الشهوات وإما الشبهات.
ثم بعد هذا الجبهة الثانية: جبهة النفس الأمارة بالسوء، وهي أقرب عدو إليه، ودليل عداوة نفسك لك أنها لا ترضى منك إلا أن تكون من المطففين، بحيث تأخذ كل حقوقك من الآخرين وتنقص حقوق الآخرين ما استطعت، هذا دليل عداوتها لك، فكل إنسان يريد من أهله أن يبروه غاية البر وأن يؤدوا إليه كل الحقوق، لكن لا يريد هو أن يؤدي إليهم كل حقوقهم، ويحاول الانتقاص، فحقوق الوالدين مثلاً يحاول الإنسان النقص منها، لكن يريد أن ينال منهما كل الحقوق، ولو آثروا عليه أخاه الذي هو أبر منه لغضب غضباً شديداً، والزوجة كذلك لو لم تبره أو نقص برها به مقارنة مع بر زوجة أخرى لزوج آخر لغضب غضباً شديداً؛ لأنه يريد كل حقه، وكذلك العكس أيضاً الزوجة إذا لم يؤد إليها الزوج كل حقوقها في المقارنة مع إنسان آخر لغضبت وظنت أن هذا احتقار وامتهان، وهذا إنما هو من عمل النفس الأمارة بالسوء؛ لأنها تريد من الإنسان أن يكون مطففاً يأخذ كل حقوقه، ويحاول انتقاص حقوق الآخرين، وكذلك في المعاملات كلها حتى في المعاملة مع الله تحاول النفس مع الإنسان أن يكون من المطففين؛ بأن ينام أكثر الليل، وإذا استيقظ وصلى ركعتين أو خمس ركعات أو سبع ركعات كان هذا شيئاً كبيراً على النفس، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، وكذلك إذا قرأ حزباً من القرآن كان هذا أمراً عظيماً على النفس ثقيلاً عليها، وإذا تصدق بصدقة مما أنعم الله به عليه، وقد خصه الله به وحرمه كثيراً مما سواه شكراً لنعمة الله عليه جعلت النفس له هذا شيئاً عظيماً، وبدأت تذكره به وتندمه عليه.
وإذا كان للإنسان مال فإنه يوم القيامة إذا تذكر فوق ثمانية ملايين أوقية أو تسعة ملايين أوقية أو خمسة ملايين أوقية لن يقع في باله منها إلا ما أنفق في قربة لوجه الله، وهذا أول ما يخطر على قلبه، كأنه لم ينفق شيئاً باطلاً، وكأنه لم يكلف شيئاً في غير طائل، وكأنه لم ينفق شيئاً في السرف وفي غير فائدة، فلا يتذكر إلا ما أنفق لوجه الله وهو الذي لم يضع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذبحت شاة في بيته، فجاء إلى عائشة فقال: ( ما بقي عندكم من شاتكم؟ قالت: بقي كتفها، قال: بقيت كلها إلا كتفها )، فهي كلها بقيت؛ لأنها ذهبت في وجه البر إلى الله سبحانه وتعالى، والذي لم يذهب منها في وجه البر هو الكتف التي بقيت عندهم.
كذلك في معاملة الناس دائماً يجد الإنسان نفسه حريصاً على أن يكون الناس جميعاً يحترمونه ويقدرونه، ولا يواجهونه بأية كلمة يكرهها، ويؤدون إليه كل الحقوق، ومع هذا لا يجد نفسه أيضاً حريصة على أن يكون هو في التعامل مع الآخرين على ذلك المستوى، بألا يواجههم بما يكرهون ويحب لهم ما يحب لنفسه، فإذا عرف الإنسان هذا عرف أن نفسه عدوة له؛ لأنها تريد منه أن يكون مطففاً، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:1-6].
ثم إن من عداوة النفس للإنسان أنها تشغله بطول الأمل، إذا مرض الإنسان أي مرض من نزلة أو زكام أو صداع رأى ذلك أمراً عظيماً واشتكى منه؛ كأنه ما عوفي، فأين النعم التي كنت فيها؟ وإنما هذا مجرد تذكير من الله يذكرك بنعمته عليك، فقد سحب منك جزءاً يسيراً من نعمته التي أنعم بها عليك، وقد كانت عادية لديك، فأنت عندما كنت ممتعاً بالعافية، لا تشكو صداعاً ولا زكاماً ولا نزلة لم تحس بهذه النعمة، ولما سحب الله شيئاً يسيراً مما أنعم به عليك بدأت تشكو وتتألم، وكأنك قوبلت بشيء ما قوبل به أحد، هذا من دليل أن النفس عدوة لك.
ثم بعد هذا الجبهة الثالثة هي: إخوان السوء؛ فالناس الذين تخالطهم منهم من هو بمثابة الغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمور الدين، فيذكرك إذا نسيت وينبهك إذا غفلت ويعلمك إذا جهلت، وينصحك ويشير عليك إذا استشرته، ويذكرك بمجرد رؤيته، فمجرد رؤيته يذكرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه ملتزم بأوامره مجتنب لنواهيه؛ فهذا النوع من الناس هو بمثابة الغذاء لا تستغني عنه أبداً، وقد أمرنا الله تعالى بمجالسة هؤلاء والصبر عليهم؛ فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، فلهذا لا شك أن هذا النوع من الناس يحتاج الإنسان إلى مجالسته فإنهم يرتفعون به، فيرفعون مستواه، ويزيدون إيمانه ويزيدون عقله ويزيدون علمه وثقافته، وينبهونه إلى كثير مما كان محجوباً؛ فيحتاج الإنسان إلى مجالستهم دائماً.
والنوع الثاني هم بمثابة الدواء، يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، فهذا النوع من الناس هم الذين يعينون الإنسان في أمور دنياه، فإذا افتقر إلى أمر دنيوي وجد دعمهم ومساعدتهم، ولكن ينبغي أن يتقلل منهم وأن يتزهد عما في أيديهم؛ فهم بمثابة الدواء، والإعلان العالمي للدواء كتب فيه: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتكم فننصحك بالابتعاد عنه، فكذلك أخوك الذي يعينك على أمور الدنيا ينبغي أن تتقلل منه وأن تتزهد عما في يده، وألا ترفع إليه شيئاً من حوائجك إلا عند الضرورة القصوى؛ فإنك إن رفعت حوائجك إلى المخلوقين أظهرت فقرك إليهم، وإن رفعتها إلى الله أظهرت فقرك إليه، والبون شاسع بين الجانبين؛ فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد وهو الكريم الودود وهو ذو الفضل المجيد، والمخلوق عاجز ضعيف فقير بخيل؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ[فاطر:15-16]، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، وقال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[فاطر:2].
وقال الشاعر:
ما لي أذل لمخلوق على طمع هلا سألت الذي أعطاه يعطيني
فقطعة من غليظ الخبز تشبعني وقطرة من نمير الماء تسقيني
وقطعة من غليظ الصوف تسترني حياً وإن مت تكفيني لتكفيني
وقال الآخر:
لا تسأل بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
ويقول المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت: إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عن باب من يقول فتاه: سيدي اليوم راقد
كذلك فإن القسم الثالث من الناس هم الذين لا يعينونك على أمور الدين، ولا يعينونك على أمور الدنيا، ينقلون إليك العدوى بالفيروسات الإيمانية الضارة، ويسمعونك الكلام الذي لا خير فيه، ويرونك الأفعال التي لا خير فيها، وينقلون إليك الأخلاق التي لا خير فيها؛ فأنت معهم في ضرر مستمر، وهذا النوع من الناس هم بمثابة الداء، يتألم به الإنسان برهة من الزمن وليس له دواء إلا المزايلة والانفصال، وهذا النوع من الناس هم أعداء للإنسان يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، وكما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29]، فهذا النوع من الناس مخالطتهم ضرر ماحق بالإنسان وجبهة مفتوحة عليه، تفسد عليه عمره وتفسد عليه تفكيره وتفسد عليه تدبيره، وتفسد عليه معاشه وتفسد عليه تصوره وعلمه، فلا بد من محاولة التخلص من هذا النوع من الناس بالكلية.
والجبهة الرابعة من هذه الجبهات هي جبهة هذه الحياة الدنيا نفسها؛ فهذه الدار دار الغرور، وكل ما فيها من الزخارف والشهوات مؤقت، يعجب بها الإنسان في وقت من الأوقات، ولكنه بمرور الأيام والليالي عليها تصبح قذىً في عينه، وقذارة لديه ولا بد أن ترمى في القمامة؛ ولذلك أحسن ما في الأرض من الخلائق البشر، وإذا كان الإنسان يعجبك كماله وشكله فأعطه مهجة من الزمن، فإذا أتيته وهو على فراشه بعد أن بلغ من الكبر عتياً فستظنه إنساناً آخر، غير الإنسان الأول الذي كان معروفاً بالجمال والصيت والحسن، تغير شكله بالكلية وأصبح الناس يقذرونه حتى أقرب الناس إليه؛ أولاده وأهل بيته يتأذون به، وإذا قدر أنه مات قبل ذلك فهل يسرك أن تراه بعد سبع ليالي تحت الأرض، في القبر، وذلك بأن ينبش فترى جثته بعد أن أكل الدود عينيه ومحاسنه؟
إن هذا هو شأن هذه الحياة الدنيا كلها، ما يتنافس الناس فيه من الأموال والزخارف كله مآله إلى القمامة، وأعظم المباني وأحسنها تهدم وتنقل أنقاضها إلى القمامة، وأحسن السيارات وأفرهها وأغلاها بعد مدة تجدها مرمية في القمامة، وأحسن الملابس والفرش بعد مدة تجدها مرمية في القمامة، وأغلى شيء في الدنيا من التجارات تجده مرمياً في القمامة، ولو أراد الإنسان العبرة والاتعاظ فوقف على الشارع هنا ورأى القمامات وليست رؤيتها شاقة؛ لأنها منتشرة في كل مكان، فلو رآها الإنسان فنظر إلى العلب التي فيها رأى أن هذه العلبة مثلاً صنعت في تايوان، وأن هذه صنعت في كوريا، وأن هذه صنعت في الصين، وأن هذه صنعت في أمريكا وهذه صنعت في اليابان، وكل صناعة كتب عليها مكانها، وقد كان فيها الشيء الغالي الثمين الذي استورد بالدولارات ودفعت عليه الضريبة الجمركية وتعب الناس في تحصيله، ولكنه صار إلى القمامة.
ومن العجائب أن تلك الكتابات التي كتبت عليها، مثلاً هذا كتب عليه المارك: رقم واحد، ومع ذلك هو مرمي في القمامة، علبها تبقى شاهدة على دناءتها بعد أن كانت شاهدة على شرفها وعليها الماركة التجارية، وعليها الاسم التجاري الذي لا يزول، وقد كتب عليها: MADE IN USAمثلاً، أو أي صناعة أخرى، ثم نجدها مرمية في القمامة، كأنها لم تبع يوماً من الأيام ولم يرغب فيها أحد، هكذا شأن هذه الدنيا كلها.
ومن هنا فهي دار غرور، وهي جبهة مفتوحة على الإنسان، إذا لم ينتبه لها كانت وحلاً يدخل فيه فلا يزال يتردى إلى أسفل، وقد قال الله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[التين:1-6]، فالإنسان إذا لم يكن من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يزال في هذه الحياة الدنيا يتردى في الوحل، لا يزال في الانحطاط.
ثم بعد هذا الجبهة الخامسة هي جبهة نعم الله سبحانه وتعالى على الناس، وهذه النعم لا شك بأن لها مقابلاً؛ فلا يمكن أن يأخذ الإنسان خير الله سبحانه وتعالى وفضله، ولا يتبع مقابله أي شيء؛ لأن الله بايع الناس؛ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ[التوبة:111]، وهذا بيعة مع الله، ولذلك فنعم الله عليه جبهة مفتوحة، إذا أديت شكرها فقد نجحت فيها وانتصرت، وإذا لم تؤد شكرها كانت منة عليك وحجة قائمة عليك.
ولهذا فالناس في النعم على أربعة أقسام:
القسم الأول: لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها.
ما دام أحدهم معافىً في جسمه، آمناً في سربه، لا يشكو سرطاناً في كبده، ولا يشكو قصوراً في عضلة القلب، ولا يشكو فشلاً في الكلى، ولا يشكو أي مرض من الأمراض، لا يشكو مرض الزهري في أنفه، ولا يشكو أي مرض من الأمراض الفتاكة في بدنه لا يحس بهذه النعمة، وما دام ينظر فيرى موضع رجله لا يحس بنعمة البصر، وما دام يسمع فيتخاطب مع الناس لا يحس بهذه النعمة، وما دام يتحرك ويمشي في حوائجه دون أن يحتاج إلى من يحمله لا يتذكر هذه النعمة، وما دام يذهب إلى الخلاء دون مساعد يساعده على ذلك لا يتذكر هذه النعمة، فهذا النوع من الناس لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا زالت عنهم هذه النعمة انهاروا حينئذ، وإذا أخبره الطبيب بنتيجة التحليل أنه مصاب بمرض عضال فحينئذ يتذكر أنه كان في عافية، ويندم غاية الندم ويقول: أين الليالي والأيام والشهور والسنوات التي مضت علي في هذه الدنيا ولم أستغلها، ولم تكن ذات فائدة علي، وحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم.
والنوع الثاني من الناس: وهم الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنهم فعلاً أهل تميز، وأنعم الله عليهم بأنواع النعم، وآتاهم الله مالاً وولداً وسمعاً وبصراً وعقلاً وثقافة وتدبيراً، وخصصهم بكثير من النعم التي حجبها عمن سواهم، وزواها وطواها عن كثير من الآخرين، لكن تكبروا بهذه النعمة على عباد الله، وترفعوا بها دون أن يعترفوا بها لله ودون أن يصرفوها في مرضات الله، وهؤلاء سكنوا في الأدراج العالية والقصور وأغلقوا بينهم وبين عيال الله، وانقطعوا كأنهم خصصوا بهذه النعمة من أجل أن يستغلوها فقط، وهذا النوع من الناس النعمة حجة قائمة عليهم، وستنزع منهم ويتركون، فإما أن ينقلوا إلى المقابر فيتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم، وإما أن ينتزع منهم في حياتهم وهم يرون.
والنوع الثالث: يعرفون نعمة الله بوجودها لا بزوالها، ويعرفون من أين أتت وأنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم مشغولون بالنعمة نفسها، فإذا جاء أحدهم من العمل بدأ في مزاولة شهواته في بيته، فإذا انتهى من ذلك أسلم نفسه للنوم، فإذا استيقظ وحان وقت الدوام ذهب إلى مكتبه عند الساعة الثامنة مثلاً صباحاً، ولا يزال في العمل إلى أن تخور قواه، فيعود أيضاً للراحة، وهكذا أيامه ولياليه لا فرق بينها؛ لأنه مشغول بأمور هذه الدنيا، ويحاول كمالها وازديادها، وهي لا يمكن أن تكمل إلا إذا حان الأجل، وهذا النوع من الناس انشغلوا بالنعمة عن شكرها، فكانت النعمة حجة عليهم، وحالهم حال الأعراب الذين نعى الله حالهم بقوله: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ[الفتح:11]، وقد حذرنا الله من هذا النوع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].
والنوع الرابع: هم الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، وأنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم وكسبهم وعملهم، ويعرفون أيضاً أن هذه النعمة لها حق؛ فلا ينشغلون بالنعمة عن شكرها، بل يشكرونها لله ويصرفونها في مرضاته، وهم الشاكرون، وهم أقل عباد الله؛ كما قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، جعلني الله وإياكم منهم.
إن الإنسان إذا تذكر هذه الجبهات الخمس المفتوحة عليه، وتذكر ضيق وقته فلا بد أن يشعر بالخطر، ويشعر أنه لو استمر على ما هو عليه في هذه الحياة التي هي حياة الناس العادية فهو في خطر داهم؛ لأنه في كل لحظة يمكن أن يموت، ويمكن أن تسوء خاتمته، ويمكن أن يكون من الذين قد كتبوا في ليلة القدر من هذا العام في موتى هذه السنة، ويمكن أن يكون من الذين قدر عليهم بعض الأمراض والمصائب وهو لا يشعر.
فلذلك على كل إنسان منا من هذه اللحظة أن يبادر لاستغلال ما بقي من عمره في طاعة الله، وألا يغتر بالتسويف وطول الأمل، وأن يتذكر حال الذين ماتوا وانتقلوا وانقطعت آمالهم وأعمالهم من هذه الحياة الدنيا، وأن يحرص على أن يكون من الفائزين الناجحين الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وترجح كفة حسناتهم، وأن يقطع كل الوساوس والأوهام التي تحول بينه وبين ذلك، فهذه الوساوس هي أيضاً عدو آخر للإنسان، فكثير من الناس يظن أن الشباب لا ينبغي أن يكونوا من أهل الالتزام ولا من أهل الورع ولا من أهل الخير؛ لأن هذا غير مناسب لسلوكياتهم المعهودة لدى الناس، لكن هذا وهم من الأوهام؛ فالملائكة الكرام بدأوا يكتبون على الإنسان أعماله منذ كلف، سواءً كان شاباً أو كهلاً قد بدأ الملائكة يكتبون عليه أعماله.
كذلك من هذه الأوهام أن يتصور الإنسان أن شريحة من الشرائح أو مستوىً من البشر غير مخاطب بهذه الشريعة، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل إليهم؛ فيقول: نعم، هذا صحيح، هذا العمل الطيب وقيام الليل وصيام النفل وأداء الواجبات، وترك المحرمات وأداء السنن والمندوبات هذا عمل حسن، ولكنه لطائفة من المجتمع ينبغي أن تشتغل به، ومن سواها لا ينبغي أن يشتغل بهذا، وهذا أيضاً وهم وتصور خاطئ، والذي يتصوره هو من العاجزين البلهاء؛ كأنه لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة؛ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107].
كذلك من هذه الأوهام التي تشغل الإنسان عن استغلال عمره أن يتوهم الإنسان أنه يستطيع تأمين مستقبله، ويستطيع المشاركة في تدبير مستقبله، فبذلك يستطيع العلاج من أي مرض أصابه أو الوقاية منه، وأن الذين أصيبوا بالأمراض سبب إصابتهم بها أنهم فرطوا، أو أن الذين ماتوا في الحوادث سبب موتهم فيها أنهم فرطوا، يا أخي! تذكر الذين ماتوا من غير حادث ومن غير مرض ومن غير أي ألم، نام أحده على فراشه فقبض ملك الموت روحه عند أجله، ونحن والله نتذكر بعض الصور العجيبة، ولا أزال أذكر أننا يوماً من الأيام خرجنا في حافلة الجامعة دورين، وكنت في الدور الأعلى ومعي مجموعة من الطلاب يدرسون كتاباً من الكتب في الطريق بين الكلية وبين السكن، وكنا في مقدمة الحافلة فأمسكتنا إشارة المرور، وأمامنا سيارة BMW يسوقها رجل بمقتبل عمره، فوقف عند الإشارة الحمراء؛ فلما اخضرت الإشارة لم يتحرك، فجعل صاحب الباص يزمر عليه وينبهه فلم يتحرك، فجاء رجل المرور ففتح السيارة فإذا هو ميت، كان على موعد مع ملك الموت وهو يسوق سيارته الفارهة عند إشارة المرور الحمراء، وعندما احمرت الإشارة كان ذلك تنبيهاً بأن الأجل قد اقترب.
وكم شاهدنا من الآخرين الذين كان موتهم فجأة على شكل عجيب جداً، كثير من الذين حضرنا موتهم لم يكن أحد منهم يشكو من أي ألم ولا من أي مرض، وبينما هو يتحدث معك إذا هو قد شاهد ما لم تشاهده، وإذا هو قد قدم إلى ما قدم وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، فما بين الحياة والموت فاصل، والإنسان الآن حي ومن أهل هذه الدنيا يذهب ويجيء ويتصرف، وهو في اللحظة الموالية من أهل الآخرة، لحظة واحدة تفصله بين الحياة والموت.
ولذلك لا بد إخواني! أن نعلم أن هذا القول هو القول الفصل، والحق الذي ليس فيه خداع ولا كذب، وأنه لا بد على الإنسان أن يسعى لنجاة نفسه، وأن يعلم أن كل قول يخالف هذا فهو غرور وخديعة وسيندم عليها غاية الندم، وعلى كل إنسان منا أن يحرص من الآن على الاستقامة والهداية، واتباع سبيل هذا الرسول الكريم الذي أرسل إليه وهو يرجو الدخول في شفاعته، ويريد أن يبعث تحت لوائه، وأن يدعى باسمه يوم القيامة؛ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا[الإسراء:71]، علينا جميعاً أن نتبع سنته وأن نحرص على تعلم ما جاء به والعمل به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا جميعاً في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يعطينا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وأن يسقينا من حوض النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يحسن ختامنا في هذه الحياة الدنيا، وأن يجعل قبورنا رياضاً من رياض الجنة، وألا يجعلها حفراً من حفر النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر