بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أحمد الله تعالى على اللقاء بهذه الوجوه الخيرة النيرة في هذا اليوم المبارك, وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أجمعين في قرة أعين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يبعثنا في زمرته, وأن يجعلنا من أتباعه وجنوده, وأن يحيينا على سنته ويميتنا على ملته.
وحديثنا سيتناول لفتة مباركة في إحياء شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتجديدها والتذكير بالعهد النبوي الشريف، وبالأخص الهجرة المباركة التي ابتدأ بها تاريخ هذه الأمة وابتدأ بها بناء دولتها المباركة.
وأنتم يا إخوتي وأخواتي الآن تجتمعون لامتثال ما أمرنا الله به باتخاذ محمد صلى الله عليه وسلم أسوة صالحة، فقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21], وهذه الأسوة تشمل جميع أبعاد الحياة كلها، فهو المثال المرضي عند الله سبحانه وتعالى في جميع الأمور, فما من إنسان من هذه الأمة يريد أن يسلك طريق الاستقامة, ويريد أن ينجح في الحياة: في علم أو في عمل أو في إدارة أو قيادة في سياسة أو في اقتصاد أو في اجتماع أو في غير ذلك إلا والأسوة الصالحة والقدوة الحسنة له محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الأبعاد الشخصية هي تغطي كل هذه الجوانب, ولا غرابة في ذلك، فقد اختاره الله جل جلاله من الخلائق أجمعين, وشرفه على الثقلين الإنس والجن, واصطفاه واجتباه اصطفاءً سابقاً على مولده صلى الله عليه وسلم, فقد ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم , واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل , واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً, واصطفى من قريش بني هاشم, وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر), فهذا الاختيار الرباني لا معقب له، فقد قال الله تعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68], وقال تعالى: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75].
فقد اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم مثالاً للبشرية كلها, وهذا يقتضي أن معاني البشرية رفيعة, وأعمالها المرضية عند الله منحصرة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم, فلا تجد أمراً محموداً في البشرية، سواءً كان في علم أو في خلق، أو في عمل أو في جهاد، أو في أي مجال من المجالات، إلا وهو متمثل في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذلك استحقت شخصيته الدراسة والاقتداء والإتساء, وأن يكون حاضراً في الأذهان دائماً, وأنتم تتذكرون قول العلامة أحمد البدوي المجلسي الموريتاني في نظمه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ولحضوره بكل ذهن عن ذكره بمضمر استغنِ
فهو حاضر في الأذهان دائماً، لا يحتاج إلى ذكر اسمه لحضوره في كل ذهن من أذهان محبيه، والمتبعين له صلى الله عليه وسلم, ولذلك فليس الاقتداء به مقصوراً على أمته وعلى التابعين له.
بل قد أخذ الله العهد على جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم في الاقتداء به وتصديقه ونصرته إذا بعث وهم أحياء، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:81-83], فكل أنبياء الله عليهم السلام يودون الاقتداء به، وأن يكونوا من أمته، وأن يكونوا من أتباعه, ولذلك حشرهم الله له؛ ليقتدوا به في مسراه في المكان المشرف المقدس، الذي تهوي إليه أفئدة المؤمنين الآن، وهو أسير منذ عدد من السنين في أحضان إخوان القردة والخنازير، الصهاينة المعتدين لعنهم الله وطردهم وأخزاهم.
فجمع الله المرسلين من أولهم إلى آخرهم، فقاموا صفاً وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجسد بذلك الإمامة الحقيقة للبشرية كلها, فالرسل هم أئمة البشر الذين اصطفاهم الله لذلك, وقد كانوا جميعاً مأمومين مهتدين بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان رمز ذلك بوحدة صفهم، وقيامهم في المسجد الأقصى المبارك، الذي هو مهد الرسالات، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم بعد ذلك بشهادته صلى الله عليه وسلم عليهم، فهو في الفضل سابق عليهم أجمعين, وهو كذلك يوم القيامة سابق عليهم، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, وأول من يحشر الرسول صلى الله عليه وسلم, والناس يحشرون على عقبه, أي: على قدمه كما أخرج مالك في الموطأ وهو آخر حديث في الموطأ: عن محمد بن جبير بن مطعم بن عدي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لي خمسة أسماء: فأنا محمد، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه, وأنا العاقب).
وأمته هي الآخرة في الدنيا، وهي الأولى يوم القيامة, فهي أول الأمم عرضا ًعلى الله جل جلاله, وأول الأمم فرجاً بخروجها من المحشر, فالمحشر يجتمع فيه الأولون والآخرون, ويطول عليهم ما يشق بهم؛ لأن الشمس تدنو فوق رءوسهم حتى تكون كالميل, ويشتد بهم العرق، فمنهم من يصل إلى كعبيه, ومنهم من يصل إلى ركبتيه, ومنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى سرته, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
ويشتكون من هذا الموقف حتى يريدون الخلاص منه، ولو إلى النار, يقولون: ( اشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار ).
وأول من يخرج من هذا الموقف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بشفاعته، فهم أول الأمم فرجاً, وهم أول الأمم عرضاً على الله جل جلاله، تفتح لهم الصحائف والعرض والوزن, وهم أول الأمم عبوراً على الصراط يوم القيامة, ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن اللاحقون السابقون يوم القيامة), فقوله: (نحن اللاحقون)، أي: الآخرون, (السابقون يوم القيامة), في العرض على الله وأمام الأمم كلها، وأول من يدخل الجنة، وأول من تفتح له الأبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك الحلقة فتفتح أبواب الجنة الثمانية في وقت واحد.
ولذلك أُخرت هذه الأمة, وأخر هذا الرسول فكان آخر الرسل من أجل الشهادة، فالشهادة من شرطها العلم, فلا يحل للإنسان أن يشهد بشيء يجهله, وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81], وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86], فلو كانت هذه الأمة في عصر نوح مثلاً أو في عصر آدم ، أو في غير ذلك من العصور السابقة لما استطاعت الشهادة على ما يأتي من بعد؛ لأنه لم يولد ولم يدخل حيز الوجود, والشهادة من شرطها العلم.
فلذلك تأخرت هذه الأمة؛ لفضيلة عظيمة وهي الشهادة, وقد نوه الله بهذه الفضيلة إذ قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143], والوسط هم الخيار العدول, فهم عدول وشهود عند الله تعالى، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم شهداء الله في أرضه, فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة, ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار), والله تعالى يقول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105], فجعل المؤمنين شهوداً.
وهذه الشهادة العظيمة لهذه الأمة من أجلها أخرت, وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة, يقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير, وإن نوحاً يخاصمه قومه يوم القيامة فيقال: من يشهد لك, فيقول: محمد وأمته), فيؤتى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون أن نوحاً مكث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً.
ولذلك أنتم تشهدون بهذا الآن جميعاً, وأولادكم من بعدكم يشهدون به, فنشهد أن نوحاً مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأدى الرسالة؛ لأننا نحفظ ذلك في كلام ربنا جل جلاله، ونؤمن به إيماناً يقينياً، كما لو شاهدناه ورأيناه أو أشد من ذلك.
وهذه الأمة المشرفة من أبرز علامات تشريفها, وأكبر سمةٍ لها: هي اختيار محمد صلى الله عليه وسلم لها, فعلى قدر شرفها عند الله وكرمها عنده، تكون مكانة رسولها, فلم يرسل لها مجرد رسول من الرسل, ولم يرسل لها أحد أولي العزم من الرسل، بل اختار لها أفضل الرسل وقائدهم على الإطلاق وسيدهم, ولذلك يقول أحد الشعراء:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا
فهذه مزية عظيمة لهذه الأمة, ولذلك أنزل الله إليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين, وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أراد شخصيته، فليقرأ هذا القرآن, فما من أمرٍ أمر الله به إلا وهو منطبق على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما من أمر نهى عنه إلا وهو مقضي عليه في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم, وما من خلق ندب إليه إلا وهو متحقق في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنتم تعلمون أن القرآن كفيل بمصالح البشر جميعاً, فكل مصالح أهل الأرض مكفولة في القرآن, ففيه ما ينظم علاقاتهم بربهم, وما ينظم علاقاتهم بما بينهم بمختلف النظم, ففيه النظم الإدارية، وفيه النظم المدنية, وفيه النظم الجنائية لعلاج ما يحصل من المشكلات بين الناس, فلم يترك جانباً من جوانب شئون الحياة إلا وقد غطاه, وكل ذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله فكان بياناً للقرآن.
وقد ثبت في سنن الترمذي وغيره عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سُئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن ), ومعنى ذلك: أن على الإنسان أن يقرأ القرآن، فإذا وجد أي أمر وجده متحققاً بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم, وإذا وجد أي نهي وجده أول المجتنبين له والمبتعدين عنه, وهكذا في كل شيء.
إن هذه الشخصية لا يمكن أن نتحدث عن أبعادها ولا أن نغطيها جميعاً لتناولها لشؤون الحياة كلها, فما من شأن من أمور الحياة إلا وقد غطته شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الفذة.
فأول ما يخطر على الباب: شخصيته كرسول من عند الله سبحانه وتعالى, وهذه الشخصية العظيمة لا شك أنها تغيب عن بعض الأذهان في الزمان المتأخر لانقراض عهد الرسل؛ لأنه ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لو كنا نعاصر بعض الرسل الآن لكان في أذهاننا نمط أو نموذج للرسالات السماوية, ولخطر ببالنا هذا الجانب من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن نظراً لانقطاع الرسالة بموت النبي صلى الله عليه وسلم غاب هذا البعد عن أبعاد كثير منا, وهذا البعد بعد مهم، فاتصال السماء بالأرض لا شك أنه هو وجه الهداية والخير كله، فالله سبحانه وتعالى أهبطنا إلى هذه الأرض ونحن غرباء فيها, فاحتجنا إلى توجيه وإحسان، فأرسل إلينا الرسل لبيان المحجة وإقامة الحجة, وقد قفى على آثارهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم, فتحقق فيه كل معاني الرسالة, وقد ذكر الله ملخص ذلك في خمس صفات, قال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128], خمس صفات فيها تتلخص أبعاد شخصيته الرسالية النبوية:
البعد الأول: أنه منا, أي: من البشر: مِنْ أَنفُسِكُمْ[التوبة:128], وفي القراءة الشاذة: (من أنَفَسِكم) أي: من أعلاكم معدناً، أحسن المعادن في البشرية هو معدنه الذي خلق منه.
و مِنْ أَنفُسِكُمْ[التوبة:128], فليس ملكاً؛ لئلا نستغربه وننفر منه, وليس من الجن؛ لأن ذلك سيكون تشريفاً للجن علينا، ونحن أشرف منهم عند الله, فجعله الله من أنفسنا.
وهذا يقتضي عدداً من الأمور منها: تمام التواضع والمحبة لهذا الجنس البشري كله, فالرسول صلى الله عليه وسلم مثل التواضع الحقيقي المرضي عند الله سبحانه وتعالى، فكان يتواضع لجميع الخلائق: فإذا مر على الصبيان يلعبون في الشارع سلم عليهم ومسح على رءوسهم, وإذا مر على المتدربين يتدربون في الرماية, قال: (ارموا وأنا مع بني فلان), فكف الآخرون فقال: (ارموا وأنا معكم كلكم), وإذا مر على المزارع يعمل أخذ المسحاة وعمل معه, وهو يقوم ببيته ويخيط ثوبه ويخدم أهله ويجلب الماء, وجاء إلى بني هاشم وهو يسقون الحجاج من زمزم فقال: ( اجلبوا بني شيبة فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لجلبت معكم).
وهذا التواضع كان لجميع الخلائق، فكانت الأمة تأتيه فتأخذ بيده، حتى يقضي لها حاجتها, وكان الأعرابي الجلف البادي يأتي فيجذب ثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه، فيقول: يا محمد! مر لي بشيء من مال الله الذي تحت يدك, فيبتسم في وجهه ويقضي حاجته.
وكان يمازح ولا يقول إلا الحق, جاءته عجوز تسأله أن يسأل الله لها الجنة, فقال: (الجنة لا تدخلها عجوز), فلما شق ذلك عليها، بين لها أن أهل الجنة سيردون إلى سن الثالثة والثلاثين من أعمارهم, وجاءته عمته صفية تسأله: أن يحملها أي: أن يعطيها جملاً تركبه أو بغلةً تركبها, فقال: (سأحملك على ابن الناقة), فغضبت وظنت أنه سيعطيها خواراً صغيراً, فقال: (ما من جمل إلا وهو ابن ناقة), فكان يمازح ولا يقول إلا الحق.
وجاء إلى بيت أبي طلحة الأنصاري فوجد طفلاً كان يلعب بنغير أي: طير صغير فمات الطير, فحزن عليه الولد, فقال: (ما فعل النغير يا أبا عمير ), كناه بهذه الكنية تشريفاً له, وممازحة وتسليةً له عن موت الطير الذي كان يلعب به, انظروا إلى هذه الرحمة العجيبة التي يفقدها كثير من الآباء في تعاملهم مع أبنائهم.
وكذلك كان النساء يأتينه فيجتمعن في بيته ويرفعن أصواتهن في المناقشة والمجادلة, فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستحيين, وألقي الستر في داخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، إذا دخل الرجال الأجانب يوضع دون أم المؤمنين؛ لأن الله جعل الحجاب دونهن فقال: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53], ففي البيت ستر إذا دخل أي رجل أجنبي وضع الستر, وكان النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت ليس معه أجنبي فلم يكن الستر موجوداً إذ ذاك, فكن يرفعن أصواتهن، فلما دخل عمر ألقي الستر فاستحيين، فقال: أي، عديات أنفسهن ترفعن أصواتكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستحيين مني, فقلن: لأنت أفض وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم من شدة تواضعه وحسن أخلاقه، أنه يكرم الوافدين إليه والضيوف حتى لو كانوا من غير المسلمين, حتى لو كانوا من المحاربين المعادين, فقد جاءه وهو بمكة الوليد بن المغيرة يريد أن يثنيه عن الرسالة, يظن أنه رجل يطلب مجداً وأنه كاذب فيما يقول: فأراد أن يناقشه وهو أسن من أبيه, فلما جاءه سمع منه حتى أنهى كلامه, فقال: (اسمع أبا الوليد), فكناه بكنيته التي يحب, فقرأ عليه قول الله تعالى: ((بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)) حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ[فصلت:1-5].
وكذلك أتاه عتبة بن ربيعة فقرأها عليه أيضاً, وكلهم يناديه بكنيته تكريماً له, وكذلك بعد الهجرة وبعد قيام دولة الإسلام أتاه عامر بن الطفيل العامري وابن عمه أربد , وكانا مشركين، وقد قتلا عدداً من القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر معونة, فلما جاءا وهما ضيفان أكرم وفادتهما وضيافتهما, فلم يكن من خلقه الاعتداء على الضيوف حتى لو كانوا كفاراً، ولو كانوا محاربين، فبمجرد دخولهم إلى المدينة أصبحوا في حيز حرم آمن, حتى يخرجوا من هذا الحيز ويعلنوا الحرب فحينئذٍ يقاتلهم خارج إطار الضيافة, فأكرمهما، فلما أكرمهما وكانا رجلين من أهل الشرك ومن أهل البادية والجفوة، قال له عامر : لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً, قال: ( يأبى الله ذلك يا ابن عقيلة), فلما خرجا من عنده دعا عليهما، فقال: (اللهم اكفني عامراً وأربد بما شئت), فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة من سلول, وأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله.
وكذلك كان يعود المرضى أجمعين حتى لو كانوا من غير المسلمين, فقد سمع بغلام من اليهود مرض بالمدينة، فذهب إليه يعوده، فلما أتاه وجده في السياق أي: في حين النزع عند الموت, فقال: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرفع الغلام رأسه إلى أبيه يستأمره، فقال: قل ما أمرك به أبو القاسم, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ).
وقال لـسعد بن أبي وقاص : ( خذوا صاحبكم )، فأخذه سعد فغسله، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في مقابر المسلمين, وكذلك فإنه كان يستجيب لدعوة كل من دعاه, فدعاه يهودي إلى إهالة سنخة وخبزة ناسة, والإهالة: هي الزبدة والسنخة: التي قد اصفرت لم تعد جديدة, والخبزة الناسة أي: التي بدأت تنشف وتيبس، فلبى دعوته واستجاب له، وقال: (لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت), وكان من شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إجابة جميع الناس، وحضور جميع اجتماعاتهم إذا دعاه أي إنسان إلى بيته لوليمة أو دعوة أو عقيقة أو غير ذلك أتاه في بيته، وجاء معه بأصحابه تشريفاً لصاحب الدعوة.
وهذا كله تحقيق لصفة الرسالة ولبعد الرسالة بشخصه، فهو رسول من عند الله للثقلين كافةً الإنس والجن, وهو مبلغ لرسالات الله ومبين لكتابه, فلذلك لا بد أن يخالط الناس، ولا بد أن تظهر فيه صفة (من أنفسكم).
الصفة الثانية: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ[التوبة:128], فإنه صلى الله عليه وسلم يشق عليه عنة هذه الأمة, والعنت: المشقة, لا يريد أن يحصل لهذه الأمة أي مشقة ولا أي ضرر, فلذلك عندما فرض عليه خمسون صلاة، كان قادراً على أدائها بشخصه، فهو قوي محب للعبادة مستريح بالصلاة، كان يقول: (أرحنا بها يا بلال ), ولكنه شفقةً على أمته وحرصاً على استقامتها شفع عند ربه: (حتى قال: هن خمس، وهن خمسون ما يبدل القول لدي).
وكان حريصاً على هذه الأمة فيشق عليه كل أمر فيه حزن على الأمة أو مشقة بها, ولذلك قام ليلة بآية واحدة وهي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118], وأعطي دعوة مستجابةً لا ترد، فجعلها لأمته لم يجعلها لشخصه ولا لآل بيته، بل جعلها لأمته جميعاً.
ويتجلى ذلك أيضاً: في خدمته لأمته، فقد كان يضحي في كل عام عمن لم يضحِ من أمته, وكان يترحم عليهم ويقول: (أنا أمان لأصحابي وأصحابي أمان لأمتي), فالسابقون من أهل كل عصر الذين يربطونهم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان لهم, ولذلك ثبت في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً فيقولون: نعم فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم, فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم, فيفتح لهم).
وهذه الصفة وهي كونه: يشق عليه كل ما يشق على أمته ويحزنه كل ما يحزنهم, أدت إلى كثير من الرخص والتسهيل في هذه الشريعة والمرونة فيها, وانظروا إلى ما جاء من الرخص في شأن النساء والصبيان والمسافرين والمرضى والعجزة, فقد رفع الله الحرج عن هؤلاء؛ بسبب ضعف لديهم في كثير من الجوانب, فهذا الحرج يشق على النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من المشقة على أمته, فلذلك رفعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم, وقال: (رفع لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه), (رفع لي), أي: بجاهه وشفاعته عند الله، رفع له عن هذه الأمة: الخطأ، والنسيان، وما استكره عليه الناس أي: رفع عنه الإثم في هذه الأمور الثلاثة, وقد كانت الأمم السابقة تخاطب بها.
وكذلك من هذه الصفة وهي: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ[التوبة:128], ما كان صلى الله عليه وسلم يوجهه لأمته، ( فعند ما نزل في سورة البقرة قول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ[البقرة:284], شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتدبرون القرآن فقالوا: يا رسول الله! كلفنا ما نطيق فصبرنا وكلفنا الآن ما لا نطيق, يقصدون هذه الآية, فقال: قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ[البقرة:285], فقالوا ذلك, فأنزل الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:285-286], ما قرأ كلمةً منها إلا قيل له: نعم ) أي: أجابه الله بأن ذلك قد تحقق, فرفع الإصر عن هذه الأمة.
وهذه بشارة لهذه الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:156-157].
الصفة الثالثة: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ[التوبة:128], فقد كان حريصاً على هداية الناس أجمعين، فكان يعرض نفسه على الناس في المواسم, وكان يسعى لهدايتهم بكل ما يستطيع من قوة, حتى أنه قال فيما أخرج عن البخاري في الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده، وهن يقتحمن فيقعن فيها ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).
ويظهر أثر هذا عندما أتاه ملك الجبال، فعرض عليه أن يصدم الأخشبين على أهل مكة فلا تبقى منهم باقية, فقال: (لا لعل الله يخرج من أصلابهم رجالاً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً), وهو لا يريد أن يقاتلهم، وقد خرج يقاتلهم يوم بدر وما معه إلا ثمانية أسياف وما معه من الخيل إلا ثلاثة، وليس لهم من الإبل إلا مائة، يتعاقب على كل بعير ثلاثة رجال, فيقاتلهم قتالاً عادياً على الطريقة البشرية المعهودة, وكان بالإمكان أن يصدم عليهم الملك الجبلين فلا يبقى منهم أحد, لكن هذا من حرصه على هذه الأمة.
الصفة الرابعة: الرأفة بهذه الأمة: بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ[التوبة:128], وقدم المعمول وهو: (بالمؤمنين) لاقتصار ذلك عليهم, فإن شدته كانت على الكافرين, وقد بين الله ذلك فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29], وكان رحيماً بالمؤمنين رؤوفاً بهم, والفرق بين الرأفة والرحمة: أن الرأفة فيما يتعلق بالمواساة من نفسه ومن ماله ومن كل ما تحت يده, وأما الرحمة فهي بعمل القلب, فإذاً الرحمة أمر راجع إلى العاطفة, والرأفة شيء يرجع إلى ما يقدمه من خدمات وما يدفعه للناس, فهاتان الصفتان مختصتان بالمؤمنين, وهما بعدان من أبعاد شخصيته الرسالية.
فمن رأفته بالمؤمنين أنه كان يبذل لهم كل ما لديه, وقال: (ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم), كما أخرج البخاري في الصحيح, وعندما ألجأه الأعرابي يوم أوطاس إلى سمرة فتعلق بها رداؤه قال: (إليكم عني فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم, ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً), وكذلك: ( كان يعطي الرسول ما بين الجبلين من الإبل وما بين الجبلين من الغنم, ويعطيه من الذهب حتى ما يقله، فيرجع إلى قومه فيقول: أي قوم اسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشَ الفقر ).
وعندما فتح الله عليه فتح حنين فوزع الغنائم لم يعطِ أحداً من المهاجرين الأولين ولا من الأنصار شيئاً, فوجد الأنصار في أنفسهم ذلك, فأتاه سعد و عبادة بن دليم الساعدي فقال: ( يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار يجدون شيئاً في أنفسهم، حين فتح الله عليك أعطيت أخيار العرب ولم تعطِ الأنصار شيئاً, فقال: وماذا تقول أنت؟ فقال: وهل أنا إلا رجل من القوم ), كان صريحاً لم يكن ليجامل، ولم يكن ليكتم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يدور في نفسه, فقال: (اجمع لي الأنصار، ولا يأتي معهم أحد ليس منهم), فجمع الأنصار فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه أحد من قريش ولا من المهاجرين الآخرين تأليفاً لهم وتأنيساً قال: (هل فيكم أحد ليس منكم، قالوا: ما فينا إلا فلان وهو ابن بنتنا فقال: ابن أخت القوم منهم ), وفي رواية: (ابن أخت القوم من أنفسهم), ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوجه فقال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم آتكم أهل حرب فألف الله بين قلوبكم بي؟ ألم آتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ ألم آتكم أذلة فأعزكم الله بي؟ وهم يقولون: بلى، الله ورسوله أمن وأكرم, فقال: أما إنكم لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: ألم تأتنا طريداً فآويناك؟ ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك, فبكى الأنصار جميعاً, فقال: ماذا تجدون في لعاعة أتألف بها قوماً على الإسلام, فلو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً؛ لسلكت شعب الأنصار, المحيا محياكم والممات مماتكم, أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى دياركم؟ فقالوا جميعاً: رضينا رضينا ).
فكان هذا تشريفاً أبدياً إلى يوم القيامة للأنصار، رجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم, ورجع الناس بالشاة والبعير والأمتعة الدنيوية.
هاتان الصفتان العظيمتان تتجليان في معاملته للناس كلهم, فقد كان يواسي من نفسه، ففي يوم بدر كان بيده محجن يسوي به الصف, فتقدم سواد بن غزية أمام الصف, فوكزه النبي صلى الله عليه وسلم في بطنه فقال: أوجعتني نخزاً فأقدني أي: أعطني القود, فكشف له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقبله، فلامه الناس على ذلك، فقال: إِنني متقدم للموت وأريد أن يكون آخر عهدي في الدنيا مس جسد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخدمهم بنفسه، فعندما جاء سلمان الفارسي وعليه غرامة لليهود وهم ظالمون فيها, قام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فكان يزرع ويغرس النخل بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم, وينزع الماء بيده هو وأصحابه, وإلى الآن ما زالت بئر سلمان ونخله شاهدة إلى هذا الوقت, وفيها النخل الذي زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس التربة.
وكذلك فإن من هذه الرحمة والرأفة ما نجده أيضاً لديه من مواساة جميع الناس والفقراء منهم، والمساكين بالخصوص، فكان أشد الناس رحمة بهم, وكان إذا أتاه الفقراء تمعر وجهه، فقد جاءه قوم مجتابي النمار, أي: قد تشققت ثيابهم، فرحمهم واحمر وجهه، وقام على المنبر خطيباً فقال: (تصدق امرؤ من درهمه من صاع بره من صاع تمره), فجمع الناس الصدقات فسر لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك رحمة بأولئك القوم.
وعندما جاء الدافة وهم أهل البدو في عام القحط فنزلوا بأطراف المدينة, أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدخر شيء من لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام؛ ليطعم أولئك الأعراب فالأضاحي كثيرة جداً, وذلك رحمة بهم.
وكان من تمام رأفته ورحمته كذلك: أنه صلى الله عليه وسلم يواسي المرضى، فلما أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة الأحزاب بسهم في أكحله أي: في ذراعه اليمنى بنى له خيمة في المسجد فكان يعوده فيها, وكان يواسي المرضى ويعودهم ويدعو لهم, وكان إذا زار مريضاً يدعو له بالشفاء والعافية مما أصابه, ويقول: (لا بأس إن شاء الله طهور).
وكذلك كان من رحمته صلى الله عليه وسلم: أنه كان يحضر الجنائز, ويرحم أهلها, ويرش الماء في القبر ويدعو لصاحبه, ومر بقبرين جديدين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير), ثم قال: (بلى أما أحدهما فكان لا يستتر من البول, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة), فدعا بسعفة فقسمها نصفين فغرز على كل واحد من القبرين نصفاً، وقال: (إنه ليخفف عنهما ما لم تيبسا), وقال: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بدعائي وصلاتي).
وكذلك من رحمته أيضاً: تعزيته للمصابين, فكان يعزي أهل المصائب ويزورهم، وقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم), وعندما رجع من غزوة أحد استقبله الناس، وقد جلس في المكان الذي يسمى الآن في المسجد الاستراحة, وأتى أهل المدينة رجالاً ونساءً وصبياناً, وجاء الشيوخ العميان يقادون, وخرج كل من في المدينة فرحاً برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة, فلما تكاثر عليه الناس حال أصحابه بينه وبين الناس؛ لأنه جريح بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وقد غابت حلقة من حلقات المغفر في جبينه وانكسرت رباعيته، وجحشت ركبته.
فرأى امرأةً ممن يذود دونه فإذا هي فاطمة بنت يزيد بن السكن فقال: (دعوها فإنه قتل بين يدي اليوم ثمانية من رجالها), قتل بين يديه: زوجها، وولداها، وأخواها، وأبوها، وعمها، وعم أبيها, فلما وقفت عليه نظرت في وجهه صلى الله عليه وسلم فقالت: ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله! كل مصيبة بعد رؤيتك جلل ), فكان هذا تعزية لها عن جميع مصائبها حين نظرت في وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.
هذه هي الأبعاد فما يتعلق بشخصيته الرسالية, إذا أتينا إلى شخصيته التعليمية فإنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول في البشرية كلها, ولذلك يذكر رجل من أصحابه، وقد كان يسكن البادية, وعهده بالناس يتكلمون في الصلاة, ( فجاء فوجد الصلاة قد حرم فيها الكلام بعد أن أنزل الله تعالى: وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ[البقرة:238], فعطس في الصلاة وقال: الحمد لله, فلم يشمته أحد فقال: يا ثكل أمي! قال: ما لكم لا تشمتونني, فضرب الناس أفخاذهم فقال: يا ثكل أمياه ما لكم تصمتونني؟! فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فو الله ما ضربني ولا كهرني, ولكن وضع يده على كتفي وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ), هذا هو المعلم الناصح، قال: ما ضربني ولا كهرني، أي: لم يعنفني ولم يوجه إليّ كلاماً سيئاً.
وكذلك نرى في تعليمه لـأنس بن مالك رضي الله عنه، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيكون من خلفائه وورثته في العلم, فقد عاش قرناً، وحمل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بذلك فقال: (عش قرناً), ويقول: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين, فما قال لي لشيء فعلته: لمَ فعلت؟ ولا لشيء تركته: لمَ تركت )؟ إنما كان يعلمه من خلال الإسوة الصالحة والقدوة الحسنة.
وكذلك تعليمه لعدد كبير من أصحابه، فقد كان بالتي هي أحسن, فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أنه كان يعظ الناس في كل يوم خميس، فقال له رجل وددنا يا أبا عبد الرحمن لو وعظتنا كل يوم, فقال: إني لأتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا ), فقد كان يخاف عليهم السآمة أي: الملل, فيتخولهم بالموعظة في الأيام مخافة السآمة عليهم.
فهو معلم ناجح في كل الأوقات, ولذلك فإن أبي بن كعب عندما كان من الناجحين المتفوقين، فحفظ القرآن جميعاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكلما نزلت آية حفظها, ولذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأكم أبي , وأقضاكم علي , وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ), ( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عنده في المسجد، فبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله أمره أن يقرأ عليه سورة البينة فقال: أو سماني لك قال: نعم, فبكى أبي بكاءً شديداً )؛ لأن الله قد شرفه فسماه الله بكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه سورة البينة.
وحضر الصلاة فلبست على النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن فيما قرأه، وذلك للتشريع، فنحن يمكن أن يلبس علينا في الصلاة فلبس الله على رسوله صلى الله عليه وسلم آية؛ ليكون ذلك تشريعاً لنا, فلما سلم نظر فإذا أبي وراءه فقال: (هلا أصلحتها إذ شهدتها), قال: ظننتها نسخت، يا رسول الله.
كثير من الأئمة الآن يشق عليهم أن يصلح الناس لهم إذا أخطأوا, وهذا الرسول المعصوم الذي أنزل عليه القرآن وتعهد الله له بحفظه في صدره فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19], مع ذلك يقول لـأبي : (هلا أصلحتها إذ شهدتها), قال: ظننتها نسخت يا رسول الله! فقال له: (سأعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد), فجاء الناس يسألون, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى بيته وكلما وقف عنده أحد وقف معه، حتى تنقضي حاجته, فـأبي يمسك به لا يريد أن يخرج من المسجد حتى يعلمه هذه السورة, فلما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد قال له أبي : قلت لي: أنك ستعلمني أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد, فقال: (سورة الحمد هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته), أي: الفاتحة.
وكذلك في تعليمه لـابن مسعود كما في الصحيحين قال: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه ), هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبسط يديه معاً، فيقبض يد ابن مسعود ليعلمه التشهد؛ لأنه يعلم أنه أيضاً من ورثته وخلفائه الذين ينقلون عنه, وأصح التشهد الذي بلغنا ووصل إلينا هو تشهد ابن مسعود , وقد تعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم وكفه بين كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل ذلك في التعليم أيضاً: توزيعه للوقت, فقد جاءته وافدة النساء، ( فقالت: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك ), والمقصود هنا: النساء اللاتي كن يحضرن المحاضرات العامة والخطب العامة للنبي صلى الله عليه وسلم, لكن لهن أحكام تختص بهن ويستحيين أن يسألن عنها أمام الرجال, فهذا المقصود بالغلبة, وليس المقصود أنهن لا يحضرن مع الرجال، كما يفهم ذلك بعض الناس، هذا غير صحيح, كن يحضرن وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور، يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين، كما في حديث أم عطية في الصحيحين.
فجعل لهن يوم الخميس, وكان من تعليمه لهن ما يرغبهن في الخير ويعزيهن عن المصائب، فالمرأة من أبلغ ما يصيبها من المصائب موت الولد وهي تحزن عليه حزناً شديداً, فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث! إلا كانوا لها ستراً من النار، فقالت امرأة: واثنين, فقال: واثنين ).
وكذلك تعليمه للصغار, فقد أتاه ربيبه عمرو بن أبي سلمة وكان يأكل معه، فجعلت يده تطيش في الصحفة يأكل من أطرافها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سمّ الله وكل بيمينك، وكل مما يليك), فلم تزل تلك إكلته بعد, وكان يأكل هكذا إلى أن مات.
وكذلك تعليمه بالأمور العملية التطبيقية, فلقد دخل عليه المغيرة بن شعبة وقد طر شاربه، أي: طال حتى غطى طرته, فأضجعه النبي صلى الله عليه وسلم على وسادته، وأخرج سواكه وأخذ سكيناً فضوع السواك على طرته، وقطع بالسكين, فكان المغيرة لا يجز شاربه بعد إلا على هذه الطريقة.
وكذلك تعليمه لـخلاد بن عمرو الصلاة, ( فقد جاء إليه وهو في المسجد فصلى ركعتين لا يقيم فيهما صلبه, فأتاه يسلم عليه فقال: ارجع صلِ، فإنك لم تصلِ, ففعل مثل ما فعل أولاً ثم أتاه فقال: ارجع صلِ، فإنك لم تصلِ, ثلاثاً, ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني ), فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بأسلوب عملي, ومثل ذلك أسلوب التكرار في التعليم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم ثلاثاً, وإذا تلكم بكلمة أعادها ثلاثاً لتفهم، كما في حديث أنس في الصحيحين.
وكذلك فإن عمرو بن عبسة كما في صحيح البخاري حدث: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أوقات الصلاة أكثر من سبع مرات لتبقى في ذهنه, وهكذا فإن أسلوبه صلى الله عليه وسلم في ضرب الأمثلة, واستغلال الوسائل التعليمية أسلوب رائع في التعليم, ففي حديث ابن مسعود : ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمين ذلك الخط، وخطوطاً عن شماله, ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً, وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه, ثم قرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[الأنعام:153] ).
وكذلك في حديث ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً طويلاً, وخط خطاً مربعاً محيطاً به والخط الطويل خارجاً منه, وخط خطوطاً في داخله بالعرض, فقال: هذا ابن آدم وهذا أجله وهذا أمله ), فابن آدم هو الخط الذي في الداخل, والأجل هو الخط المربع المحيط به, والخط الخارج هو الأمل يبقى بعد موته، والخطوط الصغيرة المحيطة به هي الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا.
ومثل ذلك من وسائل التعليم أيضاً: تحديثه لهم عن الجنة والنار؛ كأنهم يرونها، فقد قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا أريته الآن في عرض هذا الحائط حتى الجنة والنار).
وكذلك تحديثه لهم بما يأتي من الفتن وما يحصل من الأشراط, وكان يحدث بها بأسلوب يفهمونه, فيحدثهم عن الحرب فيذكر السيوف والرماح والسهام على عادتهم وما يعرفون, والمقصود بذلك: وسائل الحرب مطلقاً.
وحدثهم عن خراب المدينة، وفتح بيت المقدس وفتح روما, فذكر: ( أن أهل المدينة سيتركونها على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي, حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر لا يرده أحد, وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما، حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما ), فذكر خراب المدينة وهجر أهلها لها, وأنهم سيتركونها على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي، وهي السباع, وأن ذلك علامة فتح بيت المقدس في آخر الزمان, الفتح الثاني الذي ننتظره الآن, وبعد ذلك تفتح روما ثم يخرج الدجال في الثانية.
فالصحابة لم يسألوه عن السبب الذي يترك فيه أهل المدينة المدينة؛ لأن هذا من الأمور الغيبية, ولو سألوه لما فهموا, ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ( وددت لو سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الذي يخرج أهل المدينة من المدينة؟ ).
ونحن الآن نفهم الشيء الذي يهلك الأحياء, ولا يقتل الشجر ولا يقتل الزروع ولا يهدم البيوت، إنما هو الغازات السامة, فهذا يدل على أنها سترمى بالغازات السامة, ويتركها أهلها مدة ستة أشهر في خلاء, ويكون ذلك سبباً لفتح بيت المقدس، مما يدل على أن هذا من قبل اليهود عليهم لعنة الله.
ومثل ذلك كثير من الأمور التي حدثهم عنها، وهي غيبيات لا يفصلها لهم تفصيلاً, وإنما يبين لهم ما يحتاجون إلى بيانه, ونحن فيما بعد إذا حصل شيء منها في زماننا، فهمناه على الوجه الذي جاء, مثلما هو أسلوب القرآن أيضاً فقد قال الله تعالى في الامتنان بالمراكب: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ[النحل:8], فعطف على هذه المذكورات قوله: (ويخلق) بصيغة المضارع الدالة على الاستقبال, ومعناه: أن الله سيخلق من أنواع المركوبات في المستقبل ما لا يعلمه أهل ذلك العصر, فيدخل في ذلك مما عرفناه نحن: السيارات, والطائرات, والمراكب الفضائية, والقطارات وغيرها من المراكب التي نستعملها.
وربما يتجدد أشياء كثيرة أيضاً هي أكثر مما عرفناه نحن, وكل ذلك داخل في قوله: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ[النحل:8], ولذلك قال: وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ[النحل:9], فالطرق التي تسلكها تلك المراكب ليست مثل الطرق التي تسلكها البهائم المركوبة: الخيل, والبغال, والحمير، ولذلك قال: وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ[النحل:9], ومنها أي: من الطرق ما هو جائر, وقد عرفنا نحن اليوم أن الطرق الجوية كلها مائلة؛ لأن الأرض ليست كروية مائة بالمائة، بل جانبها الجنوبي أكبر من جانبها الشمالي، فلذلك تكون الخطوط كلها مائلةً إلى جهة الشمال, فلذلك قال: وَمِنْهَا جَائِرٌ[النحل:9], وهذا لم يكن الصحابة ليفهموه في ذلك الزمان.
هذه أبعاد شخصيته التعليمية, وإذا وصلنا إلى شخصيته القيادية، فحدث ولا حرج فهو السياسي المحنك الذي جعله الله مثالاً للساسة، وإسوة وقدوة صالحةً لكل من يتولى الأمر, فقد كان على مستوىً من الإدارة والقيادة عجيب، فقد كان يهتم بالتخطيط وإعمال الوسائل كلها، لم يترك سبباً من وسائل النصر في زمانه إلا عمله.
فقد كتب الكتب إلى الملوك الجبابرة يدعوهم إلى الإسلام كما في حديث أنس في الصحيحين, وأرسل الجيوش والبعوث والكموندوزات السرية التي هي: السرايا, وخرج في الغزوات, واستعمل كل وسائل النصر سواءً منها ما كان معروفاً لدى العرب, وما كان مستورداً من حضارة أخرى, فالمنبر مستورد من حضارة الحبشة, والخاتم مستورد من حضارة الروم, والخندق مستورد من حضارة فارس, وكذلك في ترتيبه الإداري كاعتماده على الإحصاء، وتخطيطه المرحلي الذي يقتضي أنه كلما ازدادت الطاقة يزداد الإنتاج، كل ذلك واضح في حياته القيادية, فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اكتبوا لي من نطق بالإسلام), وفي رواية: (احصوا لي من دخل في دين الله).
وهذا صريح في أنه كان يعتمد على التخطيط والاحصاء, فلا يستطيع أن يعلن الحرب وهو لا يعرف عدد جنوده, ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقدم على أي مغامرة، ولا مخاطرة في العهد المكي، فمكث ثلاث عشرة سنة بمكة، لم يدبر اغتيالاً لأحد رموز الكفر, ولم يهدم أي صنم من الأصنام, وعندما خرج له أهل مكة عنها ثلاثة أيام في عمرة القضاء، وهي في الشهر الحادي عشر من العام السابع من الهجرة, وكان على الكعبة إذ ذاك ثلاثمائة وستون صنماً, وكان على الصفا صنم اسمه إساف, وعلى المروة صنم اسمه نائلة, لم يهدم شيئاً من هذه الأصنام؛ لأنه لو هدمها؛ لأعادها المشركون من ذهب ولاشتد تعلقهم بها, فلذلك تركها إلى وقت التمكين، فلما جاء فاتحاً أزالها جميعاً، وقال: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء:81], وأرسل الذين كانوا يعبدونها لهدمها, فأرسل أبا سفيان لهدم مناة, وأرسل خالد بن الوليد لقطع العزى, وقد كان يعبدها هو وأبوه من قبله, وأرسل جرير بن عبد الله البجلي لإحراق ذي الخلصة, فأرسل إلى الأصنام سدنتها وعبادها، فهم الذين أحرقوها وأزالوها؛ لئلا تعود أبداً.
وكذلك من تدبيره السياسي ما يتعلق بترتيب الناس, فقد كان يجعل على كل مجموعة قائداً ضامناً, وقد رتب الأنصار ليلة العقبة، فجعلهم اثنتي عشرة مجموعة, وجعل على كل مجموعة نقيباً منهم, تيمناً من القبائل الذين أخرجهم الله لبني إسرائيل, وكان الأنصار إذ ذاك في وقت البيعة اثنين وسبعين رجلاً وأربع نسوة, فقسمهم إلى اثنتي عشرة مجموعة, وكل مجموعة جعل عليها نقيباً.
وكذلك في الجيوش كان يوزع الجيش إلى كتائب, وكل كتيبة يجعل عليها نقيباً وقائداً, حتى إنه يوم أوطاس لما أتاه هوازن، كما في صحيح البخاري فقالوا: ( يا رسول الله! رد علينا السبي والغنائم، فخيرهم بين السبي والغنائم فاختاروا السبي, فقال: ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم, وما كان للناس فدعوني حتى أسألهم, فسأل الناس فكثر اللغط فقال: أخرجوا إليّ عرفاءكم), فالعرفاء هم القادة, وهم النواب الذين يمثلون المجتمع, فهم الذين يستطيعون التعبير عن آراء الناس وما يجول في خواطرهم, ولا يمكن أن يعبر جميع الناس عن آرائهم دفعة واحدةً لما في ذلك من اللغط والاختلاط, فلذلك أخرج الناس إليه عرفاءهم, وأخرج أبو داود في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العرافة حق, ولا يستقيم الناس إلا بعرفاء), وكذلك فإنه كان يختار للعرافة والنقابة والقيادة من هو مؤهل لذلك ومرضي اجتماعياً؛ لئلا تحصل فجوة، ولئلا يحصل اختلاف بين أصحابه.
فعندما جاء قريش يوم أحد سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (مع من لواء قريش؟ فقيل: مع عند بني عبد الدار، فقال: نحن أحق بالوفاء منهم ), فقد كان ذلك وصية جده قصي بن كلاب , فأعطى اللواء مصعب بن عمير وهو من بني عبد الدار.
وكذلك عندما جاء إلى فتح مكة أعطى اللواء لـسعد بن عبادة بن دليم الأنصاري , فلما تقدم سعد بن عبادة غرز اللواء عند الكعبة وقال: اليوم ذلت قريش وخربت, فاشتكى إليه قريش ذلك وجاءه شاعرهم وهو ضرار بن الخطاب فقال:
يا نبي الهدى إليك لجاحي قريش ولات حين لجاءِ
حين ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماءِ
والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلماءِ
أن سعداً يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاءِ
خزرجي لو يستطيع من الغيظ رمانا بالنسر والعواءِ
وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساءِ
قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السواءِ
إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداءِ
فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواءِ
ثم ثابت إليه من بهم الخزرج والأوس أنجم الهيجاءِ
لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماءِ
فانهينه فإنه أسد الأسد لدى الغاب والغ في الدماءِ
إنه مطرق يدبر لنا الأمر سكوتاً كالحية الصماءِ
دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتزع منه اللواء، ولم يسلمه لأحد من قريش, ولا لأحد من الأنصار بل أعطاه لولده, وهذه حكمة نبوية عجيبة, فالوالد لا يرضى أن يكون أحد خير منه إلا ولده, كل واحدة من الأخوات وكل واحد من الإخوة، لا يرضى أن يكون أحد أقرب إلى الله منه، ولا أعلم منه ولا أزكى ولا أتقى إلا ولده, فهو يريد أن يكون خيراً منه, فأعطاه ولده، فكان هذا مزية لـسعد زائدةً على ما كان، وهي أحب إليه مما لو كان اللواء بيده, ففهم ابنه قيس الحكمة فقال: اليوم عزت قريش وعمرت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وكذلك كان من سياسته في هذا الباب: أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزواً يوري بغير المكان الذي يغزو إليه، كما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: ( ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة، إلا ورى بغيرها؛ إلا ما كان من غزوة تبوك ), فإنه إذا أراد الغزو إلى نجد هدد قوماً بالجهة الغربية, فيحقق بذلك عدداً من الأهداف الاستراتيجية، يغتر أهل نجد فيظنون أنه لا يقصدهم, ويهرب أولئك يظنون أنه يقصدهم, فيتحقق الهدف المنشود.
والاستراتيجية الحربية واضحة في تدبيره صلى الله عليه وسلم, وكذلك تدبيره فيما يتعلق بتوزيع أهل المدينة وتوزيع بيت المال, وكل ذلك كان من هديه صلى الله عليه وسلم الواضح ومن سمات قيادته, وقد ذكرت لكم في بداية الدرس أننا لا نستطيع أن نغطي أي شيء من أبعاد شخصيته، فهي محيطة بجميع الجوانب مغطية لكلها, فلذلك العذر واضح لكل من لم يستطع أن يلم، ولكن يكتفي ولو بشيءٍ يسير من أبعاد شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويكفينا أن الله سبحانه وتعالى نوه بشخصيته وزكاها, فقد زكى الله خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4], وزكى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى[النجم:17], وزكى عقله فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ[التكوير:22], وزكى منزلته ومكانته عنده جل جلاله فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ[الحاقة:40].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر