بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل في الإنسان طاقة عظيمة، يستطيع بها تذليل الصعاب وتحقيق المهام، وهذه الطاقة إما أن تكون عامل بناء وإما أن تكون عامل هدم، فإذا استغلها الإنسان فيما خلقت من أجله كانت عامل بناء، فإذا كان الإنسان يعلم أن ما آتاه الله من قوة هو من نعمة الله عليه، وينبغي أن يصرفه في مرضاة الله الذي خلقه وفيما شرع الله له، فيبني مستقبله وحياته؛ فهو في هذه الحياة سعيد؛ لأنه أدى المهمة التي من أجلها ابتعث إلى الأرض وأنزل إليها، وهو في الآخرة سعيد؛ لأنه قدم لنفسه ما يرضيه ويرجح حسناته عند العرض على الله، وعند وزن الأعمال في ميزان القسط، وإذا أهمل هذه الطاقة فلم يستغلها كان من الخاسرين المغبونين، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ ).
وإذا استغلها في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى فإنه بذلك يكون من الغاوين، الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم، وخصهم بأنواع الفضل؛ فصرفوه في عداواته، ولا يضرون إلا أنفسهم، وهم الأشقياء في الحياة الدنيا؛ لأنهم يعالجون ما يغلبهم، فهم بذلك يعادون قدرة الله القدير، العليم، المهيمن، الجبار، ولا يمكن أن يغير أحد شيئاً من قضائه وقدره، فأمره نافذ وسلطته دائمة، وهم بذلك أشقياء في الآخرة أيضاً؛ لأنهم سيجدون سيئاتهم أرجح من حسناتهم عند الوزن وعند العرض على الله سبحانه وتعالى.
إذا عرف الإنسان هذا وآمن به فإن عليه أن يراجع مسيرته في هذه الحياة، وعمله فيها حتى يقوم سلوكه وأداءه، هل هو من الذين يستغلون الطاقات التي أودعها الله تعالى، أو ليس ممن يستغلونها؟ وإذا كان من المستغلين لها فهل هو ممن يستغلها في الخير، أو هو ممن يستغلها في الشر؟ لا بد أن يقوم الإنسان سلوكه وأداءه بناءً على هذه المعايير الواضحة وهذا الميزان الفاصل.
وإذا وفق الإنسان لهذا التقويم فسيجد أن كثيراً من المنعرجات في حياته تشكك، فقد يكون الإنسان في بعض الأوقات من المستغلين لها في الطاعة، وقد يكون في بعضها من المستغلين لها في المعصية، وقد يكون في بعض الأوقات من المعطلين لها الذين لا يستغلونها، وهذه المنعرجات في طريق الإنسان وحياته تؤثر فيها عوامل داخليه، وعوامل خارجية؛ فيحتاج الإنسان إلى التطلع لها ومعرفتها للنجاة من غوائلها، فالإنسان يسير في طريق محفوف بالمخاطر والأشواك، وهو محتاج إلى ما يعينه في طريقه، وما يقوم سلوكه ويمنعه من الانحراف عن هذا الصراط الدنيوي، الذي هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الدنيوي المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والصراط الأخروي ( جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، فناج مسلم ، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم )، لكنه بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، وبقدر نجاته من هذه الغوائل والعقبات تكون نجاته كذلك من عقبات الصراط وكلاليبه يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن للصراط نكبات كشوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ ) فهذه النكبات يمكن أن يكون مثالها ما يحصل للإنسان من انحرافات في حياته، وانزلاقات بسبب هذه العوامل التي بعضها داخلي في نفسه، وبعضها خارجي بمحيطه.
من النكبات التي تصيب الإنسان السائر على طريق الحق بعد أن يتوجه إلى الله وبعد أن يعرف طريق الاستقامة نكبة تسمى (الفتور)، وهذه النكبة لا بد من التفصيل فيها لكثرة انتشارها فقد أصبحت ظاهرة لدى الناس، منتشرة في سلوكهم وحياتهم، فكثير من الناس يظن أن الفتور معناه استغلال الطاقة وانتهاؤها وهذا يقع في أمور الدنيا وأمور الدين، وحينئذ الإنسان معذور لأنه كالعلبة التي فتحت فاستغل ما فيها ثم رميت في القمامة بعد ذلك، لكن هذا غير صحيح؛ لأن الواقع أن للإنسان مادة تزيد نشاطه وطاقته، فكلما استغل شيء من الطاقة كلما ازداد.
كما قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، فليس الإنسان كعلبة اللبن أو الماء التي يستغل الإنسان ما فيها ثم يرميها في القمامة، بل له مادة يزيد بها، وهذه المادة وقودها إيمانه، ودافعها عقيدته، فإذا كان مؤمناً بالله تعالى مخلصاً له؛ فهذا الإيمان يربو بأصحابه وينتفع به في حال الحياة وفي حال الممات، ففي حال الحياة خص الله المؤمنين بنوعين من أنواع القدر، هما أعظمه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! كل أمر المؤمن له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، نوعان من أنواع القدر: القدر الحلو، والقدر المر، مختصان بالمؤمنين ( وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
وبهذا يستطيع الإنسان أن يتغلب على كل النوازع؛ لأن ما يصيبه في هذه الحياة إما أن يكون موافقاً، وإما أن يكون مما يخالفه؛ فإن كان مما يوافق هواه فلا بد أن يشكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن إيمانه يقتضي منه ذلك، وإن كان مما يخالف هواه فلا بد أن يصبر لله؛ لأن إيمانه يقتضي منه ذلك، ومن هنا فهو سعيد على كلا الاحتمالين يعلم أن الجميع من عند الله؛ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7]، فهو يرحب به ويحبه غاية المحبة، لا يمكن أن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، وهو مؤمن أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ويعلم أنما قد قدر عليه قد كتب قبل ميلاده وأثبت في أم الكتاب لا محو فيها ولا تبديل؛ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].
وهو بذلك ينظر إلى ما يتعاقب عليه من الأمور على أنها من قدر الله فهي تزيده إيماناً ويقيناً، فتقلب الليل والنهار مذكر له، وتقلب السراء والضراء مذكر له، وتقلب الصحة والمرض مذكر له، وتقلب الحياة والموت مذكر له؛ فكل ذلك أحوال تعتريه وهو يعلم أنها في طريقه مذكرة له بالله، دافعة له إلى الازدياد من الإيمان والتقوى والإخلاص.
كذلك في أمور الدنيا هو أيضاً ذو مادة تزيده وهي شكره لله تعالى؛ لأن ما يناله في هذه الحياة الدنيا من الطاقات سواءً كان ذلك سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو جوارح أو تفكيراً يعلم أنها نعم تتصبب عليه من عند الملك الديان سبحانه وتعالى، فهو يشكرها لله تعالى حق الشكر فتزداد على الشكر، فنعم الله تعالى صابغة وهي تزداد على الشكر، كلما شكر الإنسان ازدادت النعم؛ ولذلك لا يستطيع الإنسان أن يحصرها بالعد؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53].
ثم إن المؤمن على هذا الوجه دافعه للاستمرار هو عقيدته؛ لأنه يفرق بين القدر والشرع؛ فيعلم أن القدر خطاب من عند الله وعلم من علمه، تعبدنا بجهله ولم يكلفنا به وهو نافذ ماضي لا نستطيع نحن تغيير شيء منه، وأما الشرع فهو خطاب من عند الله وعلم من علمه تعبدنا بعلمه وكلفنا به؛ فالتكليف في الشرع لا في القدر والقدر يجب الإيمان به لكن لا يجب العمل به؛ لأنه مجهول بالنسبة للإنسان، والشرع وجب الإيمان به والعمل به أيضاً على مقتضى ما علمه الإنسان منه، ومن هنا فإنه يعمل على مقتضى الشرع وينتظر القدر، أما الإنسان الذي لا يعمل للموت في حياته ويعطل أعماله؛ لأنه يعتمد على سابقة القدر وما كتب فذلك دليل على الخذلان وسوء الخاتمة، بل لا بد أن يعمل على مقتضى الشرع؛ فهو يصلي ويصوم، ويذكر الله ويقرأ القرآن، ويباشر أعماله الدنيوية، ويؤدي الحقوق التي عليه وهو مع ذلك ينتظر قدر الله، ويعلم أن الموت آت لا محالة، وأن العرض على الله قريب، وكل جمعة ينتظر قيام الساعة ويعلم أنها أدهى وأمر، وينتظر خروج المسيح الدجال ويعلم أنه شر غائب ينتظر، وبذلك يكون مراقباً للقدر مراقبة انتظار، ومراقب للشرع مراقبة عمل؛ فينتظر أن يسمع منادي الله إلى الصلاة، يقول: حي على الصلاة.. حي على الفلاح؛قدر مراقبة أنتظار لدجال فيبادر ليكون من الصف الأول، وإن فاته كان من الصف الثاني وهكذا، وينتظر أيضاً أوقات العبادات الأخرى كل ما حان وقت شغله فيما فرض عليه في ذلك الوقت أو سن له أو ندب، ويراقب أيضاً نواهي الله، فكل ما عرضت عليه نفسه أو شيطانه أو إخوانه منهي من مناهي الله اجتنبه وابتعد منه وسد الباب دونه بالكلية، وإن استزله الشيطان فوقع في شيء من ذلك كان من المبادرين إلى التوبة المسارعين إليها قبل أن يسخط الله عليه؛ وبهذا فإن عقيدة المسلم هذه هي وقود له ودافع على الاستمرار في عمله، سواءً كان ذلك العمل عمل دنيوي أو أخروي.
إن من نقص إيمانه فإنه لا يجد الدافع ولا الوقود؛ فالدافع أولاً منتقص لديه لا يجد ما يقدمه عن مكانه فهو في مكانه، إنما يتعود على عادات يرثها عن الناس لا يعرف له مدلولاً ولا معنىً، رأى الناس يصلون فحاكاهم في الصلاة، ورآهم يجمعون الدنيا فجمعها كما يجمعون، ومن هنا لا يميز بين الصحيح من الصلاة والباطل، ولا يميز بين الحلال من الكسب والحرام؛ فهو سائر في ذلك الطريق تقليداً، ويوشك إذا سأله الملائكة في قبره أن يقول: ( ها.. ها! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )، وليس له وقود في طريقه؛ لأنه يباشر عمله الدنيوي لمجرد تقليد؛ فهو لا يدرك معناه ولا قيمته، فيعمل حتى إذا تعب توقف، وإذا انسد الأفق أمامه في باب من الأبواب تراجع ولام نفسه، وجعل ذلك مصيبة يحملها هماً على نفسه بخلاف ما سبق للمؤمن؛ فإنه إذا أصابه مصيبة صبر فكان خيراً له.
وكذلك فإن ناقص الإيمان في هذا الباب أيضاً عرضة للاعتراض على الله سبحانه وتعالى؛ لأن عقيدته ضعيفة، فإذا أصيب بمرض في بدنه، ونقص في رزقه، أو أي عارض من هذه العوارض المتعاقبة لم يجعل ذلك مذكراً بالله بل جعله اعتراضاً على الله في قدره وانتقاداً لحكمه، نسأل الله السلامة والعافية! وهو بذلك لا يضر إلا نفسه؛ لأن القدر ماضي وأمر الله لا معقب له؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].
ومن هنا فالأعراض التي تصيبه كثيرة فهو في هم وغم؛ لإصابته بالحسد مثلاً، فهو حسود كل ما رأى نعمة من نعم الله على عبد من عباد الله أصيب بالغم؛ لأنه يحسد الآخرين على نعم الله عليهم، وبذلك يعيش في الهم والغم الدائم؛ لأن نعمة الله سابغة لا نهاية لها؛ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[الإسراء:20]، وكذلك هو في هم وغم من أمور الدنيا كلما فسد شيء من أعراضها أو أصيب بنكبة فيها فسرق له متاع أو ضاع منه شيء أو فشل مشروع من مشروع حياته أو فقد وظيفة أو مالاً جعل ذلك هماً عظيماً، وشعر به، فهو يشعر بمصائبه الدنيوية فيحملها هماً وغماً، ويعيش بها كدراً في هذه الحياة ومشقة واعتراضاً، ولا يشعر كثيراً بمصائبه الدينية، فإذا تخلف عن الصلاة ففاتته أربع ركعات لم يشعر بهذه المصيبة، وإذا تصرف على غير علم وهي مصيبة دينية عظمى لم يشعر بها، وقد قال أحد الحكماء:
ذهب الرجال المرتجى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
فيحتاج الإنسان إذاً إلى معرفة حاله وقياسه، وإذا استمعنا جيداً إلى مظاهر هذا المرض الذي هو الفتور، فكل واحد منا بالإمكان أن يقيم فحصاً لنفسه هل هو مصاب بهذا المرض أو غير مصاب به، ثم بعد ذلك ينبغي أن نستمع أيضاً إلى مخاطره والتنفير منه وذكر ضرره، ثم ينبغي بعد هذا أن نتعلم أشفيته وما يتعلق بعلاجه؛ ليكون ذلك معيناً لمن اكتشف منا هذا المرض في نفسه قبل أن يتفاقم ويزداد.
إن مظاهر هذا المرض كثيرة فمنها:
أن يكون الإنسان في فترات يقبل على الله سبحانه وتعالى ويزداد من الطاعات، ثم يتراجع بعد الطاعة إلى المعصية فيكون متذبذباً، وليس ثابتاً في مستوى إيماني يسمح له بالاستمرار والزيادة، بل هو مذبذب، هو مع المصلين في المسجد وهو مع المرابين في السوق، هو مع الذاكرين الله تعالى أو الحاضرين للدرس في وقت الدرس ولكنه مع ذلك مع الفاشلين المفسدين لأوقاتهم وأعمارهم في غير طاعة الله في وقت آخر، وهذا المظهر بلية عظيمة ووصف من أوصاف المنافقين فقد قال الله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[النساء:143].
وكذلك من مظاهر هذا التذبذب أن يكون الإنسان في رمضان من المحافظين على أداء الصلاة في جماعة ومن المحافظين على قيام الليل، فإذا خرج رمضان كأنه لا يعرف الله إلا فيه؛ فانقطع عن ذلك وتراجع عما كان عليه.
وكذلك من مظاهر هذا أن يجد الإنسان نفسه منقادة في أوقات ما إلى بعض الطاعات ويجدها كسلى عن ذلك في أوقات أخرى؛ فيبدأ مثلاً مشروعاً علمياً في علم من العلوم وسرعان ما ينافس الطالبين الجادين في ذلك، ثم ينكفئ يعد ذلك على أعقابه وينقطع بالكلية، فمن رآه في وقت شرته وإقباله يقول: هذا طالب علم جاد، وإذا رآه في المقابل قال: هذا بهيمة لم يخطر طلب العلم على قلبه قط، فهو معرض عن ذلك بالكلية لا يسأل عنه ولا يبالي به باله.
ومن مظاهر الفتور كذلك: الانقطاع عما تعوده الإنسان من أعمال البر، فالإنسان إذا تعود عادة من أعمال البر ينبغي أن يحافظ عليها؛ لأنها مستوى من العلاقة بالله وصل إليها ووفق إليها، فينبغي ألا يقطعه لأي سبب من الأسباب، ولذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حصلت قضية الإفك ونقل الكلام فيها عن مسطح وهو قريب له كان ينفق عليه، وهو من فقراء المهاجرين، تألى أبو بكر ، أي: أقسم على ألا ينفق على مسطح بعد ذلك اليوم؛ فعاتبة الله على ذلك في القرآن فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22]، فقال أبو بكر : (بلى أنا أحب أن يغفر الله لي) فكفر عن يمينه وأعاد النفقة إلى مسطح كما كان ينفق عليه.
فلا بد أن يستشعر المسلم أنه إذا وصل إلى طاعة من الطاعات ووفق لها ينبغي أن يجعلها عادة دائمة، فهي علاقة بينه وبين الله لا ينبغي أن يقطعها لوجه من الوجوه؛ ولذلك فإن الأسوة والقدوة محمد صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، إذا عمل طاعة في وقت من الأوقات لم يتركها، وبين لنا أهمية الدوام على الطاعة فقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها)، وقال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، فالعمل الدائم ولو كان قليلاً أحب إلى الله؛ لأنه علاقة مستمرة بين الله وبين عبده لا تنقطع، بخلاف العمل المتقطع ولو كان كثيراً؛ فإن صاحبه في وقته قطع أشواطاً في الإيمان ثم تراجع بعد ذلك على أعقابه بترك هذا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله بن عمر قيام الليل بعد )، وقال: ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلذلك لا بد أن يعلم الإنسان أن كل طاعة وفق لها في علاقته بالله عز وجل ينبغي أن يحافظ عليها غاية المحافظة، إن أي إنسان اكتسب صديقاً وفياً صالحاً ينبغي أن يحافظ على علاقته به، وإذا كان هو من أهل الرشد فسيحافظ على تلك العلاقة ولا يمكن أن يقطعها، والعمل الصالح هو الصديق الوفي؛ لأنه المستمر مع الإنسان في حياته وبعد مماته، وهو رفيقه في غربته ووحشته في القبر، ( يأتيه في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول: أبشر بخير؛ فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنسك في غربتك )، فلذلك ينبغي للإنسان أن يحافظ على هذا العمل الصالح الذي هو أنيسه في غربته، وصاحبه في وحشته، فلا ينبغي أن يقطع منه شيئاً بعد أن وفق له، ومن ذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا وفق الإنسان لشيء منها فينبغي أن يجعله ديمة، وألا ينقطع عنه إلا مكرهاً، وأن يحافظ عليه بكل وجه يستطيع المحافظة عليه به، وانقطاعه عن ذلك بعد أن وصل إلى هذا المقام إنما هو تراجع مضر بإيمانه، ومضر بنعمة الله عليه التي قيدها شكرها وشكرها هو صرفها في مرضات الله.
وكذلك من مظاهر الفتور: الاستعجال، بأن يكون الإنسان يريد اقتطاف الثمار عاجلاً؛ فكلما بدأ مشروعاً ولم تظهر له نتيجة عاجلة فيه تركه وذهب إلى مشروع آخر، كالذي يطلب باباً من أبواب العلم فيفتتح ذلك الباب ثم سرعان ما يتركه ويذهب إلى باب آخر، أو يجلس للطلب على عالم من العلماء أو مكان من أمكنة العلم ثم ينتقل عنه إلى مكان آخر، فلا يزال متنقلاً يضيع أوقاته في غير طائل، فهذا من المستعجلين الذين يريدون قطف الثمرة قبل أن يبدو صلاحها؛ فلذلك يصابون بالدمان، وهو الآفة التي تصيب الثمرة قبل بدو صلاحها.
وهذا النوع من الناس يتذبذبون أيضاً حتى في أمور الدنيا؛ فيشتغلون بنوع من المكاسب ولكنهم يردون المتجر الرابح الذي لا تبور تجارته أبداً، وفيه الأرباح الطائلة؛ فلذلك إذا رأوا صاحب تجارة قد اكتسب منها مكاسب وهم يعلمون أنها بقدر الله ورزقه كان ذلك سبب منهم للتخلص مما معهم والذهاب إلى الباب الذي فتحه ذلك الشخص ومحاكاته فيه، ثم إذا لم ينجحوا فيه تحولوا أيضاً إلى باب آخر.. وهكذا فلا يستقرون على حال من الأحوال.
كذلك من مظاهر هذا الفتور ما يجده الإنسان من الأعياء عند أداء العمل؛ فالمؤمن الصادق غير المصاب بهذا المرض إذا أنتهى من عبادة من العبادات أو عمل من الأعمال بدأ علم أخر وكان ذلك العمل السابق عوناً له على استئناف عمله الجديد كما قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8]، إذا فرغت، أي: من عبادة من العبادات؛ فانصب، أي: ابتدئ عبادة أخرى، وبذلك فحالهم كحال المصلي، إذا أكمل ركعة زادت الركعة التي بعدها حسناً، إلى أن يسلم، فالصلاة أيضاً بعدها الذكر، فكل ذكر عون على الذكر الذي بعدة إلى أن يكمل أذكار ما بعد الصلاة وهكذا.
فهذا النوع من المستمرين على الطاعات يجدون لذة الطاعة ويجعلون الطاعة عوناً على التي بعدها، فكلما ازدادوا إقبالاً على الطاعة ازدادوا سرعة في الاستمرار، كحال سائق السيارة فإن بداية انطلاقه يكون على السرعة البطيئة، ثم على التي فوقها، ثم على الثالثة، ثم يصل إلى الرابعة، ثم إلى الخامسة حيث تخف السيارة وتهون مؤنتها ويسهل عليه الانطلاق بسرعة هائلة؛ فكذلك من لا يجد الفتور، وإن بدأ نشاطه ضعيفاً في البداية فسيعينه جده وتشميره، وإخلاصه لزيادة ذلك النشاط والإقبال فيه، ومن هنا فهو كالصاعد في السلم كلما صعد درجة زادته تجربة ومهارة، فيرتقي إلى التي فوقها بنشاط أكثر من نشاطه عند الدرجات الأولى من السلم.
كذلك من مظاهر الفتور ما يحصل للإنسان عند ما يتغير شيء من أحواله التي كان يعيش فيها من التراجع فإذا كان الإنسان طالباً من الطلاب فكان نشيطاً في عمل من الأعمال عبادة أو دعوة أو غير ذلك، أو حتى في عمل دنيوي؛ فلما تخرج وأصبح طالباً للعمل وجد نفسه في بيئة مختلفة عن بيئة الطلاب فتراجع عما كان عليه، وبدأ يترك ما كان يقوم به، وإذا توظف أيضاً وجد نفسه في بيئة مغايرة لبيئته السابقة فاختل نظام عمله، وإذا نقل من مكان إلى مكان في إطار عمله تغير حاله، ومثل ذلك من تتبدل عليه الصحبة فهو مع هذه الصحبة التي يألفها وتألفه من الصالحين المحافظين على قيام الليل وصيام النفل، والذكر وختم القرآن، والدعوة إلى الله تعالى، فإذا تبدلت عليه هذه الصحبة وانتقل من مكان إلى مكان أو فقد من كان يذكره ويساعده؛ وجد نفسه متراجعاً منطوياً على نفسه، لا يقدم ولا يؤخر، وهذا الشخص سيكون حينئذ عبد العصا، يحتاج إلى أن ترفع العصى على رأسه في كل الأمور، وبئس هو حينئذ؛ لأنه يحتاج إلى المتابعة في كل الأحيان، ومن المعلوم لدى أهل الإدارة أن ذي الطاقة الناجحة لا يحتاج إلى المتابعة؛ لأن المتابعة جهد متكرر، فما تنتجه أنت بالمتابعة ليس عملك وحدك بل هو عملك وعمل مديرك الذي يتابعك، بخلاف من يغني عن المتابعة إذا وكل إليه شيء قام به على أحسن الوجوه، فقد وفر لنا جهداً من كان سيتابعه ويديره؛ ولذلك يقول الحكيم:
لعمرك ما إن أبو مالك بواه ولا بضعيف قواه
ولا بألد له لوثة يعادي أخاه إذا ما نهاه
ولكنه هين لين كعالية الرمح سهل مطاه
إذا سسته سست مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه
أي: إذا وكل إليه شيء قام به على أحسن الوجوه، وكما قال الآخر:
فتى قُدّ قَدّ السيف لا متضائل ولا رهل لباته وبآدله
يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهو حامله
إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
فالنوع الأول من الناس الذين لا يغنون عن المتابعة حالهم حال الذي يقول فيه الشاعر:
فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة
فلا هو يزيد بل هو عناء، ومشقة وبالأخص في أوقات الانشغال؛ لأنهم يجدونه عناءً وكلاً عليهم، يحملونه معهم، فإذا كان الإنسان عني عن المتابعة فيوكل إليه أمر نفسه ويعلم أنه سينجز إضافة إلى ذلك أكثر مما يتوقع؛ وبهذا لا يمكن أن يحتاج إلى راع ولا مقوم، فهو يؤدي عمله على أحسن الوجوه؛ لأنه قد رآه من قبل.
والتواكل أو انتظار الأمر والمقارنة بين الأخذ والعطاء صفة ذميمة، فالإنسان الذي يقول: ما علمت هذا، أو لا أستطيع أن أفعل حتى أأمر، أو أحتاج إلى موجه، مثله مثل الصبي الذي تضع له أمه اللقمة في فيه، ولكنه لا يستطيع مضغها حتى تعلمه المضغ، ماذا يفعل بعد ذلك؟ هل يحتاج أيضاً إلى تعليم الابتلاع؟! إن الإنسان فعلاً يمكن أن يتردد حتى يرى الطريق، لكن إذا رأى الطريق ينبغي أن ينطلق ويتوكل على الله ولا يحتاج حينئذ إلى متابع، ولا من يقوم له خطواته ويريه أين يضع رجله، بل عليه أن يتوكل على الله وينطلق ويبدع في طريقه.
كذلك فإن من مظاهر الفتور التردد وعدم الثقة بالنفس أو بالآخرين، فالإنسان المتردد في الأعمال الذي لا يقدم على خطوة إلى بعد كثير من التردد حتى يفوت الأوان هذا مصاب بمرض الفتور؛ لأنه قد جرب تجارب فاشلة فظن كل التجارب كذلك، والإنسان الذي لا يستفيد من التجارب ولا يجعلها عوناً له على الاستمرار لا يمكن أن ينجح في هذه الحياة؛ لأن مبناها على التجارب الفاشلة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
ومن هنا يحتاج الإنسان إلى كثير من التجارب الفاشلة وهي التي تعينه وتقويه، وقد ذكرت لكم من قبل أن الله تعالى ضرب مثلاً لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل وهذا المثل عجيب جداً فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ[الفتح:29]، فالسنبلة التي تحمل الحبة ضعيفة نحيفة تفيئها الريح أينما تفيأت، وتحتاج إلى داعم لها ومساند لها من كل وجه فيخرج الشطء في أطرافها وجوانبها، وهو سنابل لا تحمل حباً ولكنها تتولى الضربات وتتحملها، وكذلك تنشغل بها الطفيليات فلا تصل إلى السنبلة التي تحمل الحب، وتقوي جذع السنبلة التي تحمل الحب؛ فلا تكسره الرياح، ومن هنا فالتجارب الفاشلة هي وقاية للتجربة ناجحة، وأهل الهمم كلما جربوا تجربة زادتهم عزيمة وقوة إلى الأمام، ولذلك فإن العلامة المختار ... رحمه الله، لما درس الآجرومية فقرأها من أولها إلى آخرها المرة الأولى فلم يفهمها والمرة الثانية فلم يفهمها خرج كئيباً حزيناً، فجلس تحت ظل شجرة فرأى نملة تصعد محاولة الوصول إلى قطعة صغيرة من الشحم على عود، فصعدت وسقطت، ثم صعدت مرة أخرى وسقطت، ثم في الثالثة، والرابعة، والخامسة، وفي السابعة وصلت؛ فقال: لن تكون هذه النملة أقوى همة مني! فاستمر في مشروعه حتى أصبح علم هذه البلاد وخليفة سيبويه فيها في النحو والصرف.
وكذلك فإن العلامة ابن عبد الودود رحمه الله تعالى لما خرج مع الشيخ محمد بن محمد سالم رحمهم الله وأولاده لطلب العلم اتجهوا إلى الشمال وانطلقوا في منتجعهم، وهم أهل بادية يسرعون بشد السير وليس له هو ما يركبه، فانطلق على آثارهم فانقطع عنه الركب، وحال بينه وبينهم الآل وشدة الحر، وليس له زاد ولا شراب فرأى إبلاً من بعيد، وقد كاد يسقط من العطش، فاتجه إليها فوجدها إبلاً لقوم آخرين، ليسوا من جنس مشايخه ولا بهم رأفة ولا رحمة على هذا الطالب الغريب؛ فاضطر لمحاذاة هذه الأبل فسار معهم وقد آذوه إيذاءً شديداً، فنزلوا على بئر في آخر الليل يسقون منها إبلهم، فجلس هو وقد أعيا غاية الإعياء وسقطت أظافره من شدة ما لقي من الحجارة ونكبها، فلما جلس أتاه أحدهم فرفسه برجله في خصره، وقال: قم! باشر شيئاً من أعمال السقي؛ فراجع نفسه وقال كلمة حكيمة، قال: (نكس ... الدهر ...)، ومعنى هذه الجملة: أن تقلبات الدهر وما فيه من النكبات تصيب الإنسان العاقل، ولكنها إنما يتراجع أمامها من كان ضعيف الهمة، فهو لا يمكن أن تضعف همته أمام هذه النكبات، ومن هنا فإنه مصمم على الاستمرار حتى ينال قصده وما يريده.
وكذلك تتكرر هذه التجربة أيضاً مع الشيخ محمد علي رحمة الله عليه في وقت الطلب، كان مع الشيخ ابن عبد الودود وكان في مكان قليل الماء، فبدأ الطلاب يبحثون عن الماء والعشب، فقال الشيخ محمد علي :
يا راجياً من شيخنا نيل المنى لا تعجلن فهاهنا امكث أزمنا
واصبر على قسم المنا فككوثر من دون إدراك المنى قسم المنا
قسم الماء بالمنا، أي: صبه على الحجر حتى يواريه، يفعل هذا في وقت شدة الظمأ للراكبين في المفازة، يقسمون الماء بالمنا، بالمكيال؛ فقال:
واصبر على قسم المنا فككوثر من دون إدراك المنى قسم المنا
إذا كان إدراك المنى يتم نيله بقسم المنا فهو بمثابة الكوثر، ولذلك فقد كان آباؤكم وأسلافكم في هذه البلاد يصبرون على طلب العلم بشكل عجيب جداً؛ فيلقون من المشاق والأسفار والجوع والعطش الشيء الكثير جداً، ومعا ذلك لا يعدون هذا شيئاً في سبيل ما هم بصدده حتى يصلوا إلى أهدافهم، ويحققوا آمالهم، وقبلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا المشارق والمغارب، لا يعتمدون على قوة السلاح ولا على كثرة العدد، وإنما زادهم إيمانهم وتحملهم وصبرهم المشاق، فهم مشمرون كما عودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم أحد وقتل من الصحابة رضوان الله عليهم من قتل، ورجعت قريش وهي تظن أنها قد هزمت المسلمين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يلي أحد في الناس بالغزو في آثار قريش، ونادى مناديه ألا يصحبه إلا من صحبه في الأمس؛ فخرج في أثرهم فارتاع قريش لذلك فعرفوا أن المؤمنين لا تلين لهم قناة، وأن المصيبة لا تزيدهم إلا جلداً وصبراً؛ فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين أن يخرجوا معه في غزوة حمراء الأسد، وأمر ألا يخرج معه إلا من كان خرج معه بالأمس أي يوم أحد، ولم يأذن لأحد تخلف عنه بالأمس إلا لـجابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما وذلك أنه قال له أبوه يوم أحد: يا بني إنما هي جنة؛ فلو كان غير الجنة آثرتك، وإن لنا تسع نسوة - هن أخواته - ولا كاسب لهن غيري ولا غيرك فآثرني بالغزو، فآثر أباه فقتل أبوه يوم أحد شهيداً، فجاء جابر فقال يا رسول الله: لقد علمت ما تخلفت بالأمس إلا لأمر أبي، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه يوم حمراء الأسد؛ فهذا يدلنا على قوة الهمم والمواصلة، كلما جاءت النكبات كلما ازدادت الصلابة والعزيمة.
ومن مظاهر الفتور كذلك ما يحصل للإنسان من الانزواء والانطواء والألم إذا أخفق في أية مهمة يقوم بها، إن من يعتمد على حوله وقوته، وينسى اعتماده على الله وتوكله عليه هو الذي يأسف لهذه المصائب؛ لأنه يظن أنها ضربة لازب، وأنها مستمرة معه؛ لأنه اعتمد على حوله وقوته، وهما ضعيفان لا يمكن أن يؤديا أية مهمة، أما المؤمن الذي يبرأ من حوله وقوته إلى الله تعالى، ويتوكل على الله في كل أموره، ويباشر الأسباب مؤمناً بأنها لا يمكن أن تحقق إلا ما كتبه الله تعالى؛ فإنه لا يصاب بهذا الإحباط ولا بهذا الإخفاق؛ فإذا أصيب بفشل في أية مهمة لم يندم على ذلك، وعلم أن ذلك خير، ومن هنا فهو ينتظر فرصة أخرى ليبدي عملاً أحسن من العمل السابق، وليواصل مشروعه بنفس طموحه مهتماً، ولا يمكن أن يرضى بالتراجع لأتفه الأسباب؛ ولذلك فقد قال أبو العتاهية في مدحه للمهدي خليفة المسلمين:
أتته الخلافة منقادة إليه تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
فإنه استعد لهذا الأمر وأخذه بالجد، فطلبه بوسائله حتى وصل إليه كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله: (إن لي نفس تواقة: تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنالتها، ثم تاقت إلى الجنة).
كذلك من مظاهر الفتور أن يشعر الإنسان بأنه قد استغل كل ما يستطيعه فيبقى عاجزاً مقتنعاً بأن يكون كلاً على الآخرين، سواءً كان ذلك في أمور الكسب الدنيوي أو كان في أمور الدين، فالإنسان المهزوم في أمور الدين الذي يظن أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن الأمر لا يمكن أن يزداد إلا شدة وسوءً، ومن هنا إذا رأى أي داع إلى طريق الحق أو أي عامل للإسلام حاول أن يثنيه عن مراده، وأن يقول له: ماذا تستطيع أن تؤدي وليس لك طاقة ولا قوة؟! فهزيمته يريد أن يصدرها على الآخرين؛ لأنه انهزم ولم يستطع أداء الحق بنصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع تحمل المسئولية التي افترض الله عليه وبايعه عليها فظن أن من مهمته بعد هذا الفشل أن يثني الآخرين عن ذلك، وأن يحول بينهم وبينه تارة بلسان الحكمة والنصيحة، وتارة بالإشفاق على الدين نفسه، وتارة بمجرد منطق الهزيمة أمام الآخرين فيقول: ماذا تريد أن تعمل؟! إنما تقوم بمغامرة ومخاطرة لا يترتب عليها شيء، وسيكون ضررها أكثر من نفعها، وما يدريك يا أخي أن المأمور به شرعاً يجب إعماله وعلى الله النجاح بعد ذلك.
ومن هنا فعمل الدنيا والآخرة مثاله الحرث، فالإنسان يشق الأرض، ويرمي فيها الحبوب التي هي نفقته، وهو لا يدري هل ستخرج من الأرض نباتاً أو لا تخرج؛ لأنه لا يستطيع إنباتها؛ فالله تعالى هو الذي ينبتها أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ[الواقعة:63-64]، إنما يزرعه الله سبحانه وتعالى ويخرجه نباتاً إذا شاء ذلك، وهو الذي يسقيه ويعلم ما يخرج منه، فذلك كله مآله إلى الله سبحانه وتعالى الذي يعلم مصير الأمور ومآلها، والإنسان إذا كان يفكر في متابعة هذه الجزئيات والتدقيق فيها؛ فسيعيش مع الأوهام كل أوقاته، وإذا عاش الإنسان مع الأوهام فسيكون خائفاً دائماً؛ فيظن أن كل من حوله غير مخلصين وغير صادقين، ويظن أنه بأي تصرف سيكون معيناً على استئصال الدين، وأنه لن يتصرف إلا تصرفاً أرعناً، لا يأتي بنتيجة، وهذه هي الهزيمة التي أصابت اليهود عليهم لعنة الله؛ فتراجعوا عن تحمل أعباء الرسالات السماوية، ولم يسلكوا طرق الأنبياء؛ فلم يستفيدوا شيئاً من الانتصار الذي حققه الله لهم على فرعون وجنوده، بل عندما دعوا للجهاد في سبيل الله وقد نصرهم الله على عدوهم، ورأوا انتصار الله لهم وهم ينظرون وقد قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:61-62].
مع ذلك لما فرض الله عليهم الجهاد ودخول أريحاً؛ قالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، فبسبب فتورهم وهزيمتهم لم يستطيعوا أن يباشروا الأسباب وأن يقوموا بأي عمل؛ لأنهم أصيبوا بنقص الثقة في أنفسهم وفي الآخرين، فهم لا يثقون بأنفسهم حتى يقوموا بأي عمل، ولا يثقون بالآخرين أنهم سيؤدون ما عجز عنه هؤولا، بخلاف أهل الإيمان فإن كل مؤمن يتوقع من أخيه أكثر مما لديه هو؛ لأنه يعرف عيوب نفسه ويستر عن نفسه عيوب أخيه، فأهل الإيمان كل إنسان منهم يعتقد الفضل في صاحبه وأنه خير منه؛ وبذلك يتواضعون لله سبحانه وتعالى، وتحصل الثقة في ما بينهم والإخاء، ويقع التكامل، بخلاف أهل الفتور فإن كل إنسان منهم تنطمس بصيرته بكثرة ما يتراكم فيها من العيوب والأمراض؛ فينظر إلى الآخرين من نظارات سوداء، كل ما يقع عليه بصره يكون أسود لديه كما قال أبو الطيب :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عدوه فأصبح في ليل من الشك مظلم
ومن هنا فإن أهل الفتور يظنون أن انتفاشة الباطل وانتفاخته ستستمر، ويظنون أن المسلمين لا يمكن أن ينتصروا على الكافرين أبداً، ويظنون ظن السوء؛ فيظنون أن قوة أمريكا مثلاً لا حدود لها ولا نهاية لها ولا يمكن أن تتراجع أبداً، وينسون مصارع الأمم السابقة؛ أين عاد وثمود، وقوم نوح وقوم لوط؛ وأين فرعون ذو الأوتاد؟! أين الأمم السابقة؟!
كذلك فإنهم أيضاً يظنون أن المؤمنين لا يزالون على ما نرى من التخالف والتخاذل والتقاطع والبغضاء، وأن هذه الأمة لا يمكن أن ترجع أمة واحدة تحت خلافة راشدة أبداً؛ لأنهم رأوا الحدود المحددة، ورأوا الدول القائمة والبرلمانات والحكومات، والمؤسسات الزائفة؛ فظنوا أنها دليل على الاستمرار والبقاء، وبذلك نسوا أن هذه الأمة ذات تاريخ طويل وأنها كانت أمة واحدة، وحدها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم استمرت أمة واحدة في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد من بعدهم من ولاة أمور المسلمين، وما تفرقت كلمتها وتقطعت إربا إرباً إلا قبل حوالي سبعين سنة فقط بآخر سقوط خلافة بني عثمان، فهل ألف وثلاثمئة سنة أبلغ أم سبعون سنة؟! إذا كان المعيار معيار العقل والقياس؛ فلا شك أن ألفاً وثلاثمئة سنة ينبغي أن تكون أطول تجربة من مجرد سبعين سنة.
كذلك فإنهم يظنون أن ميزان القوى إنما هو راجع إلى الأمور المادية وأنها محصورة في يدي الدول السبع المصنعة الكبرى، فيرون أن التصنيع والتكنلوجيا من خصائص هذه الدول ولا يمكن أن تتقدم دولة أخرى؛ فسيبقى العالم دائماً سائراً في فلك هذه الدول، وستبقى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن دائمة العضوية، وينسون أن الدوام والبقاء لله الواحد الأحد وحده، وأن أمور هذه الدول متقلبة؛ فبريطانيا اليوم دولة صغيرة الحجم مساحتها صغيرة، وقد كانت من قبل مملكتها لا تغرب عنها الشمس! وتقلبات الدهر هكذا، كنا قبل عشر سنوات نقارن الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة الأمريكية، ونرى أرض الاتحاد السوفيتي أكبر من أرض أمريكا، وشعبه أكثر من شعب أمريكا، والقوة العسكرية موازية للقوة العسكرية، بل كان كثير من الناس يرون قوة المعسكر الشرقي؛ لأنها منبنية على الفكر والأيدلوجية الجديدة بخلاف المعسكر الغربي؛ فقوته مبنية على الأيدلوجية القديمة وهي الرأسمالية، وقد شاهدنا انهزام الأيدلوجية الجديدة - وهي الشيوعية - فبقيت أثراً بعد عين، وتقطع الاتحاد السوفيتي إرباً إرباً وزالت قوته، وتحكمت أمريكا في سياسة موسكو، فكل هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى سيغير هذا الحال ويزيله، فالذي فكك الاتحاد السوفيتي قادر على تفكيك أمريكا وغيرها.
وهذه الأمثلة الواقعية لا يستطيع أحد إنكارها في واقع الناس، والذي يصاب بالفتور أمام طغيان المادة سينظر إلى الأمور كلها بهذا المقياس، ويتجاهل وينسى أن القوة لله سبحانه وتعالى وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأن تقليبه للأمور بين الكاف والنون؛ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، فلا يمكن أن يعجزه شيء من خلقه، وسنته ماضية، وسنن الله سبحانه وتعالى لا مبدل لها، وقد علمنا من سنن الله تعالى أن الطغيان يوصل إلى الهاوية، وأن الغلبة في هذه الحياة الدنيا دليل على وصول المخلوق إلى نهايته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه).
كذلك من مظاهر الفتور ما يقع للإنسان من الاغترار بموازين القوة المادية، وبالأخص موازين الاقتصاد والعناية بذلك، فالذي يقبل على جمع الدنيا ويهتم بها غاية الاهتمام منطلقاً من فكرة أن المال عصب الحياة، وأنه لا يمكن أن يتصرف أي شيء في هذا الكون إلا بالمال هذا أيضاً قد أصيب بفتور من معالجة أمور الدنيا، فعبد لها وذل لها وانحنى أمامها؛ فارتمى في أحضان الدنيا مقبلاً عليها بالنهم والطمع.
ومن هنا فإن الذين يقبلون على الحياة الدنيا ويرغبون فيها هم من أبنائها ولا يستطيعون تغيير شيء من أمورها، وهم مندفعون في شئون الدنيا إلى النهاية، فلا يعول عليهم، ولا يمكن أن يكون منهم من يغير شئون الحياة، ولا من يغير شئون نفسه.
إن هذه المظاهر الكثيرة من مظاهر الفتور نشهدها في أنفسنا وفي من حولنا؛ فكم شاهدنا من المؤلهين الذي يؤلهون أمريكا، أو يؤلهون التكنلوجيا، أو يؤلهون المال، أو يظنون ظن السوء أن هذه الأمة لا تنتصر أبداً ولا تعود إلى مكانها، وقد سبقهم إلى ذلك المنافقون من قبل؛ فهم الذين كانوا يظنون ظن السوء في العصر الأول عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً إلى خيبر، قالوا: يزعم محمد وأصحابه أنهم سينتصرون على اليهود؛ فهيهات هيهات! لن يعودوا إليكم بعد اليوم، لن يعودوا إليكم بعد اليوم، وهذا هو ظن السوء، وقد قال الله تعالى فيهم: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ[الفتح:6]، وشرح الله هذا الظن بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا[الفتح:12]، لقد ظنوا أن اليهود سيهزمون المسلمين ويقتلونهم، ولا يمكن أن ينقلبوا إلى أهليهم أبداً، ((وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا))[الفتح:12].
إن هذه المظاهر تترتب عليها مخاطر جسيمة عظيمة، وهذه المخاطر هي أولاً في الاعتقاد؛ فإن الذي يصاب بالفتور قد عرف ثم تراجع فكان من المطرودين عن الله سبحانه وتعالى والمحجوبين عنه، وقد قال الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11]، فلا يرضى الإنسان أن يكون ممن خسر الدنيا والآخرة، والذي يصاب بهذا الفتور والتراجع قد خسر الدنيا والآخرة؛ لأنه رسب في أول امتحان امتحنه الله به؛ فقد كان سائر في طريق العبادة لكنه كان يعبد الله على حرف - أي على طرف - فاطمأن بالخير فلما جاءته الضراء تراجع وانتكس على عقبيه، ولا يضر الله شيئاً وإنما يضر نفسه.
كذلك من المخاطر المترتبة على هذا أنه أيضاً يطمع أعداء الإسلام فيه، فإذا كان المسلمون من المهزومين أمام الواقع، ومن الذين يرضخون لسياسية الأمر الواقع، وكلما عرضت عليهم خطة قبلوها ونظروا بعين الفتور، ولم يكونوا يؤملون الآمال البعيدة، ولم تكن هممهم عالية؛ فإن العدو سيطمع فيهم ويزداد عليهم شجاعة وإقبالاً؛ وبذلك يكونون لقمة سائغة في أفواه أعداء الإسلام.
كذلك من المخاطر المترتبة على الفتور أنه أيضاً يربي الأجيال على هذه الصفة الذميمة؛ فأنتم تعرفون أن أجيال الأمة الأولى التي انتصر بها الإسلام إنما تربت على تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وقد كانت هممهم لا تعرف الكلل ولا الملل، فلذلك تربت الأجيال على ذلك وسارت عليه، أما اليوم فأجيال المسلمين تربوا على الأمور المستوردة، فالتعليم مستورد، والكتب مستوردة، والتغذية مستوردة، واللباس مستورد، وكل ما لديهم مستورد من أعدائهم؛ ومن هنا فهم مهزومون أمام العدو، والفتور بتراجع الهمم مؤذن بانقياد هذه الأجيال لكل ما هو مستورد، وحينئذ سيقع المسخ الحضاري لذراري هذه الأمة؛ فتمسخ مسخاً ولا تستطيع تحمل المسئوليات فيما بعد.
كذلك من مخاطر هذا الفتور أنه سبب لسوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- فالإنسان الذي يبدأ طاعة لله تعالى وهو يعلم أنها قربة، ثم سرعان ما يتركها عرضة لأن يترك إيمانه عند نهاية عمره -نسأل الله السلامة والعافية-، وعرضة للسقوط عن طريق الحق في أية لحظة، وكل ذلك خطر داهم وضرر عظيم.
لا بد بعد معرفتنا لمظاهر هذا المرض ومخاطره أن نلم إلماماً خفيفاً بأسبابه، فما هي أسباب الفتور؟
إن من أسباب الفتور: التفريط، أن يكون الإنسان في بداية أمره مقصراً يرضى بالدون، فهو يسأل فقط عن آكد الواجبات ويريد أن يقتصر على ذلك، وإذا ذكرت له الجنة قال: يكفيني أن أجلس عند عتبة الباب، ولا أريد الفردوس الأعلى من الجنة، وإذا ذكر له أي عمل أو أي نشاط رضي بأن يكون من التابعين الداعمين، فأنتم تعلمون الآن أن قضية فلسطين قضية كل المسلمين، يستوي فيها من كان من سكان فلسطين ومن لم يكن من سكانها.
لكن أكثر المسلمين هم من أهل الفتور؛ فرضوا أن يكونوا من الداعمين للفلسطينيين فقط، ولم يتبنوا القضية لأنفسهم، فإذا وفق أحدهم لتقديم شيء قدمه دعماً للفلسطينيين، وكأن الواجب فقط على الفلسطينيين وأنت مجرد داعم، وقد ذكر بعض القصاصين أن رجلاً كبير السن ملتحياً كان يجلس خلف المسجد وهو يرى المصلين يصلون، فإذا رأى من يأتي إلى الصلاة قال: بادر.. بادر! لا تفتك الركعة، وهو جالس في مكانه لا يدرك شيئاً من الصلاة، فهذا النوع هو من أسباب الفتور، رضى الإنسان باليسير، ودناءة همته.
كذلك من أسباب الفتور: الإفراط، وهو تجاوز الحد، وهو أن يتكلف الإنسان ما لا يستطيع، وأن يحمل نفسه ما لا تطيق، فإنه سرعان ما يرجع إلى الكسل والتراجع، والإنسان خلق من ضعف، خلق طفلاً صغيراً ضعيفاً، ثم زاده الله نشاطاً وقوة حتى وصل إلى الضعف والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، ومن هنا فأموره متدرجة، إذا كنت في أول التزامك تريد أن تكون كأصلح الصالحين، وأن تكون بدايتك نهايتهم فاعلم أنك ستصاب بفتور؛ لأنك ستصطدم بواقعك وبدنك، فلعينك حق، ولزورك حق، ولأهلك حق، وأنت لا تستطيع أن تؤدي هذه الحقوق ما دمت بهذا المستوى؛ فسيعميك النظر إلى بعض الأمور عن بعض، وبذلك تكون من المجزئة الذين يأخذون ببعض الدين ويتركون بعضاً، وإذا كنت في تجربتك في قيام الليل تريد أن تقوم ثلثي الليل دائماً فوفقت في ذلك في الليلة الأولى، فلم تستطعه في الليلة الثانية ولا الثالثة ستتراجع لا محالة وتصاب بالفتور، أو تهمل صلاة الفجر في الجماعة فتنام عنها.
وقد أخرج مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد شاباً من أهل المدينة في صلاة الفجر، فجاء في وقت الضحى يسأل عنه أمه -هذا أمير المؤمنين يتفقد- فقالت: قام ليلته فنام، فلم يستطع أن يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عمر : لأن أشهد الفجر في جماعة أحب إلي من قيام الليل.
فلذلك لا بد أن يوغل الإنسان في الدين برفق، وأن يعلم أن طاقته محدودة، وأن عليه ألا ينفق كل هذه الطاقة في جانب واحد من جوانب الدين، إن كثيراً من الذين يأتون إلى الحج مثلاً، أو إلى طلب العلم بحماس ينفقون طاقاتهم في أول الأمر فيصابون بالفتور في أخره، والغريب أن كثيراً من الحجاج يأتون إلى المدينة أولاً قبل الحج للزيارة والصلاة في المسجد النبوي، ولكنهم ينفقون أوقاتهم وطاقاتهم حينئذ، فيحافظون على أداء الأربعين كما يظنون أن ذلك صحيح وحديثه غير صحيح، ويذهبون إلى المزارات كلها ويتعبون أنفسهم بالسهر؛ فتنفذ قواهم؛ فلا يأتون إلى الحج إلا وقد أصيبوا بالحمى الشديدة، فلا يستطيعون أداء الواجبات التي من أجلها أتوا، وبهذا يكون الإنسان قد أفرط في بداية أمره فاقتضى ذلك منه تفريطاً في نهايته، والعكس هو الذي ينبغي أن يكون صحيحاً، ينبغي أن يكون الختام خيراً من البدء دائماً كالعمر كله، فالأمور بخواتيمها، والعبرة بنهايات الأمر، فاحرص يا أخي! على أن يكون آخر عملك أحسن من أوله.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتهما، وخير أيامنا يوم نلقاك.
كذلك من أسباب الفتور: الإفراط في متابعة الآخرين، فالإنسان الذي ينظر إلى الآخرين دائماً، فيتابع أمورهم ويجعلهم قدوة له وأسوة له، ويتعلق بهم تعلقاً زائداً، كثيراً ما يصاب بالفتور، فإذا رأى من أحدهم ما يكره وقد تعلق به قلبه تراجع فأصيب بالفتنة، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مقتدياً فليقتد بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته) فلذلك على الإنسان أن ينظر إلى نفسه وأن يجتهد في تقويمها، وألا يتعب نفسه في النظر إلى الآخرين فإن عليهم ملائكة يحصون عليهم.
ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد في أن يجعل من نفسه بصيرة على نفسه، وأن يجعل من نفسه شاهداً على سلوكه، وأن يجعل من نفسه أيضاً شخصاً يحاوره ويخاطبه، وما لم يتوصل الإنسان إلى هذا المستوى مع نفسه لا يستطيع تقويمها وإزالة السلوك السيء عنها.
من أسباب الفتور كذلك: أن يكون الإنسان يقوى أمله حتى يأمن مكر الله أو يأمن مصيبة، أو ينسى مصارع السابقين، ومن هنا فهو يوقن أنه سينجح في علمه، مثلاً فإذا شارك في الامتحان وهو موقن أنه سينجح فيه لا محالة ووقع القدر على خلاف ما توقع فإنه يصاب بفتور وإحباط؛ فيعزف عن الدراسة بالكلية ولا يرجع إلى الامتحان بعد هذا، والسبب الذي حمله على هذا العزوف؛ أنه من قبل لم يتصور أن الأمور فيها نجاح ورسوب، والجميع بقدر الله تعالى، وأنه عرضة للأمرين وليس لديه ضمان لأحدهما، وكذلك نجاحه في تجارته أو إخفاقه كل ذلك بقدر.
وكذلك من أسباب الفتور: أن يحرص الإنسان في سيره في الطريق على جزئيات الأمر ولا يفرق بينها وبين كبرياته؛ فعدم ترتيب الأولويات كثيراً ما يؤدي إلى هذا الفتور؛ لأن الإنسان في بداية أمره يتتبع الجزئيات ويغفل عن كبريات الأمور العظيمة التي ما زالت أمامه؛ وبذلك ينفق طاقته في تلك الجزئيات وتتبعها فيصاب بالفتور عن تلك الكبريات، ومن هنا يقول أهل الإدارة: ينبغي للعامل أن يبدأ بالمهم لا بالأسهل، المهم قد يكون هو الأسهل وحينئذ أنت بدأت به لا لكونه الأسهل بل لكونه المهم، لكن إذا كان بعض الأمور هي أسهل من الأمور المهمة فلا تبدأ بتلك السهلة؛ لأنك يمكن أن تؤديها في أي وقت، فابدأ بالأصعب المهم، فإذا نجحت فيه وأديته فلا يمكن أن تعجز عن تلك الأمور السهلة مع أن أداءها خفيف.
ولهذا فإن أهل الإدارة ينظمون للجلسات برنامجاً يسمى "جدول أعمال الجرس" جدول أعمال الجرس يقتضي أن يبدأ في الجلسة أولاً بالأمر الذي يراد فيه اتخاذ القرار، ليتخذ القرار في أول الأمر فإذا وقع خلاف أو تصادمات بين الأفراد يكون القرار قد اتخذ، فإذاً أول الجلسة يكون لاتخاذ القرار في الأمر الذي يحتاج الأمر فيه إلى قرار، ثم بعد ذلك وقت للمناقشة في القضايا التي لا يقصد فيها قرار وإنما يقصد فيها امتصاص الغضب، فالذين اتخذ القرار على خلاف آرائهم يمتص غضبهم بتلك المناقشات وتسمع آراؤهم ويردون ويرد عليهم حتى يمتص الغضب، ثم بعد ذلك في وقت الذروة يصلون إلى التخطيط المستقبلي والأمور المتعلقة بالمستقبل، ثم بعد هذا يتوصلون إلى وضع آليات لتنفيذ القرارات، ثم بعد ذلك الأمور السهلة وهي آخر شيء في الجلسة وهي تحديد موعد المكان والزمان للجلسة القادمة، وبيان جدول أعمالها؛ فهذا النوع يسمونه (جدول أعمال الجرس) كأن الجرس يدق؛ فينبغي للإنسان أن يقدر الوقت وأن يستغله قبل فوات الأوان.
كذلك فنقص ترتيب الأولويات يؤدي إلى الفتور دائماً، فالإنسان الذي لديه واجبات وهو ينشغل عنها بالمندوبات، ولديه منجزات لا بد أن ينجزها وهو يشتغل عنها بمنجزات الآخرين هذا لا بد أن يصاب بهذا الفتور.
كذلك من أسباب الفتور: عدم التخطيط، فالتخطيط لا بد منه لكل شئون الحياة، والعاقل هو الذي يفكر في مشكلاته التي يمكن أن تنتابه؛ فهو يحاول أن يضع لها حلولاً قبل أن تأتي، ومن هنا فهو دائماً لديه حلول جاهزة لما يعرض له من مشكلات، وهذا التخطيط هو من العقل؛ ولذلك فإن يوسف عليه السلام في تفسيره لرؤيا الملك ذكر خطة اقتصادية لأهل مصر لمدة خمس عشرة سنة: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ[يوسف:47-49]، خطة استراتيجية لخمس عشرة سنة؛ سبع سنوات خصب وسبع سنوات جذب، والعام الخامس عشر هو الذي يعود فيه الخصب، فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ[يوسف:49]، والإنسان الذي لا يفكر في التخطيط والاهتمام بالمستقبليات سيكون كلاً على غيره، وقديماً قال الحكيم:
يمثل ذي اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا
وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا
فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا
ومن هنا فلا بد للعاقل أن يضع خطة لعمره، وإذا كان من أهل تطويل الأمل؛ فينبغي أن يقصرها على أربع وعشرين ساعة وأن يفكر في مستقبلياته على مجرد الاحتمال على أنها خطة إن عاش هو أنفذها، وإلا فسيتركها لمن خلفه، وبذلك يخطط الإنسان لاستغلال كل ما لديه من الطاقات؛ الركن الأول: تحديد الأهداف وتحليلها، الركن الثاني: دراسة البيئة الداخلية؛ بأن يبحث عن ما لديه من نقاط القوة وما لديه من نقاط الضعف؛ لاستغلال نقاط القوة، والحذر من نقاط الضعف، الركن الثالث: دراسة البيئة الخارجية، وهي المحيط الذي يعيش فيه الإنسان لمعرفة أمرين: ما فيه من المخاطر، وما فيه من الفرص، والمراد بالمخاطر التي يمكن أن تقطعك عن أهدافك، والفرص التي تستغلها للوصول إلى أهدافك.
الركن الرابع: هو تزمين الخطة، أي: توزيعها على الزمن، ماذا عليك اليوم أن تفعله في تجارتك، أو عملك، أو حتى في عبادتك، أو في طلبك للعلم، أو في دعوتك، وماذا عليك غداً، وماذا ينبغي أن تنجز خلال هذا الشهر؛ لأن التزمين هو الذي يمكنك من التقويم حتى تعرف هل أنت ناجح أم لا؟ وإذا كانت الخطة مثلاً لخمس عشرة سنة كخطة يوسف عليه السلام؛ فلا بد أن تنظر إلى تجزئتها فتعرف ما ينبغي أن تنجز في اليوم والأسبوع والشهر، فإذا مضى شهر فستعلم هل أنت ناجح أم لا؟ لأن الخطة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى خطة مجنحة: وهي الخطة المثالية التي هي أقوى من الطاقة وأكبر منها، وإلى خطة قاصرة: وهي التي يمكن أن تنجز في أقل وقت وبأقل جهد - بأقل طاقة - وإلى خطة مناسبة: وهي التي تستوي فيها الأهداف ووسائلها، فما لديك من الوسائل مساو لما رسمته لنفسك من الأهداف، وبذلك يمكن أن تقوم نفسك هل أنت سائر في الطريق الصحيح؟ هل بعد سبع سنوات ستكون عالماً؟ أو بعد مثلاً خمس عشرة سنة تكون من الذين تغلبوا على أنفسهم وجوارحهم، واستغلوها في طاعة الله، هل ستكون داعية ناجحاً خلال سنة؟ هل ستأخذ الشهادة المقصودة، شهادة الدكتورة مثلاً خلال خمس سنوات مثلاً؟ تستطيع تقويم ذلك بكل شهر من هذه المدة؛ لأنك تعرف ما الذي أنجزت مقابل الشهر من العمل.
الركن الخامس من أركان التخطيط: لا بد أن يحرص الإنسان على متابعة نفسه ومتابعة ما يتجدد له من الطاقات، وفي مقابل ذلك ربما زاد في خطته، وإذا كنت من قبل فقيراً فنلت مالاً؛ فلا بد أن تعدل خطتك؛ لتتلاءم مع وضعك الحالي، وإذا كنت غنياً فافتقرت فلا بد أن تعدل خطتك حتى تتلاءم مع الوضع الحالي الذي أنت فيه، وحالات الزمان على الإنسان مختلفة؛ فيحتاج إلى متابعة نفسه على ما يتجدد له من نعم الله ومن الوسائل، وما ينزوي عنه منها أيضاً.
كذلك من أسباب الفتور: الاستغراق، فإن الإنسان قد يستغرق في مهمات الدنيا دون الرجوع إلى ما يحتاجه في نفسه، فالإنسان ما كنه، والماكنات - كما تعلمون - تحتاج إلى الصيانة، فهذا الجهاز مثلاً صحيح الآن ويسجل ويقوم بمهمته، لكن لا يستطيع أن يكون كذلك أبداً، بل ما فيه من الطاقة الكهربائية سيتوقف عند حد معين، والبطاريات لها طاقة محددة، والأجهزة تتآكل فيما بينها، والشريط له مساحة محددة؛ فلذلك يحتاج الجهاز إلى صيانة، فيقاس عليه الإنسان نفسه، أنت إذا كنت موظفاً تعمل لا بد لك من إجازة وراحة تترك فيها العمل وتذهب فيها لنفسك، وإذا كنت من الجامعين للدنيا وحطامها ومن التجار ولو كنت مخلصاً صادقاً لا بد أن تجد وقتاً تنقطع فيه عن جمع الدنيا وترجع فيه إلى جمع الحسنات، وإذا كنت طالباً للعلم أيضاً فلا بد من وقت ترجع فيه إلى الدنيا تجمع منها زاداً تتزود به لطلب العلم، وإذا كنت مسافراً تقطع مساحات شاسعه فلابد من وقت للراحة، لا يمكن أن تجمع بين سير الليل وسير النهار، فإن: ( المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).
ومن هنا لا بد للإنسان من صيانة، وأهم صيانة يصون بها الإنسان نفسه لحظة المحاسبة، ورد المحاسبة اليومي، يخلو فيه الإنسان بربه، يذكر الله خالياً فتفيض عيناه، ويذكر الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما أنعم به عليه من النعم ويقر بها لله، ويذكر الله فيتذكر تفريطه في جنبه؛ فيتوب إليه مما فرط فيه في جنبه، كذلك لحظات الإنسان التي يمضيها في بيت من بيوت الله - في المساجد - وهو يتلمس سكنة المسجد من الملائكة الكرام، ويتعرف عليهم وهم يكتبون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، وتعرفه على أهل الخير في مكان الخير -في المسجد- كل ذلك مما يزيده راحة وطمأنينة، وهي أوقات في الواقع يسعد بها الإنسان سعادة عجيبة، وكذلك سويعات الإنسان مع إخوانه يذكرونه بالله ويعظونه، ويعلمونه ما يجهل، هذه لا يعدلها شيء في حياته، وهي زاده الحقيقي، وإذا انقطع عنها فسيجد أثرها في نفسه وأدائه وعمله.
وأذكر شيخاً كبيراً من أهل العلم عاش أكثر من تسعين سنة، وهو سيد سابق رحمة الله عليه ذكر في رسالة له مفصلة أنه ما وجد سعادة في هذه الحياة الدنيا كسعادة الجلوس إلى إخوانه يقومون له عمله، ويذكرون له عيوبه، ويقولون: أخطأت في كذا، وأصبت في كذا، ويذكرونه بالله سبحانه وتعالى، ويذكرهم به ويفضي إليهم بحديث القلب إلى القلب؛ فهذه الساعات التي لا يعدلها شيء في حياة الإنسان، يسعد بها غاية السعادة.
ومن هنا فالإنسان إذا خلا منها وكان يعمل الليل والنهار، فلا بد أن يأتي ذلك التوقف المفاجئ، إذا لم يصب بنوبة قلبية يصاب بنوبة من الطغيان، وأعرف تاجراً من التجار كان يراقب مؤشر الأسهم في مكتبه، فهو جالس على المكتب من بداية الدوام في الصباح يراقب مؤشر الأسهم، إذا ارتفع مؤشر سهم من الأسهم يضغط الزر على وكلائه ليبيعوا ما معهم من تلك الأسهم، وإذا انخفض مؤشر سهم آخر ضغط الزر ليشتروا، وهو مراقب لذلك طيلة وقته، يأتي العامل فيضع بين يديه كأس الشاي؛ فإذا بردت سحبها وأتى بأخرى وهو لا ينظر إليها، مشغول غاية الشغل! ثم استمر به الحال حتى أغمي عليه فحمل إلى المستشفى فأجريت له الفحوص، فلم يوجد فيه أي مرض إلا الجوع والعطش! لأنه أقبل على الدنيا إقبالاً شديداً فصرف نفسه، ولم يجعل لنفسه راحة ولا اهتماماً ولا صيانة لهذه الأجهزة التي تعمل، ومن أجل ذلك وقع.
إن الإنسان الذي لديه حماس شديد، واندفاع شديد إذا لم يستطع أن يقوم ذلك الحماس، وأن يرجع إلى نفسه بهذه اللحظات التقويمية والتصحيحية لمساره؛ فسيندفع خارج النطاق المحدد له، والحماس فيه خطورة؛ لأن الإنسان إذا ازداد حماسه في أمر من الأمور سواءً كان دنيوياً أو دينياً فتعدى فيه الحدود وزاد فيه؛ فسيعميه عما سواه من الأولويات الأخرى، وأعرف رجلاً كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكنه لم يكن يأمر من المعروف إلا بإعفاء اللحية، ولم يكن ينهى من المنكر إلا حلق اللحية، اشتغل بهذا الأمر وهو أمر عظيم لا محالة ومن الأمر بالمعروف ومن والنهي عن المنكر، لكن المشكل والمنكر هو أن يعميه عما سوى ذلك من المنكرات والمعروفات، إذا كان الإنسان محصوراً فقط في معروف واحد ومنكر واحد واستغل فيه حماسه الزائد سيخيل إلى الناس أن المعروف كله محصور في توفير اللحية؛ ولذلك خدعه أحد الشباب فأراه صورة فيدل كاسترو ، فقال: نعم، هذا من أهل السنة! وهذا طيب! لأنه يقوم الناس فقط على أساس عامل واحد وهو اللحية، وغفل عن العوامل الأخرى وأهملها وهكذا.
فالإنسان الذي لا يقوم حماسه هذا ولا ينظر إليه بعين فاحصة لا بد أن يجعل الحبة قبة، وأن يندفع في بعض الأمور اندفاعاً شديداً، وكان بالإمكان أن يوازن أموره فيكون حينئذ ينظر إلى الأمور بالقسطاس والعدل، ونظره إليها معتدل، ومن هنا فإن كثيراً من المقومين ينحرفون فيصلون إلى حد التكفير والتبديع والتفسيق بغير حق، وكان الأولى بهم أن يستغلوا نشاطهم وطاقتهم في هداية الناس، وشرح أنواع الشرك وما يقع فيه الإنسان منه؛ ليجتنبه الإنسان من تلقاء نفسه وبقناعته؛ لكنه بدل أن يعلم انتقل إلى مجابهة ومخاصمة وملاكمة هو في غنىً عنها، وكان بالإمكان أن يقنع الناس بالتي هي أحسن، وقد قال الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46]، وهذا التعليم من ربنا سبحانه وتعالى عجيب جداً، حيث ذكرنا بأن نبدأ بالمتفق عليه أولاً، آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ[العنكبوت:46]، ولو كنا نخالفهم فيما سوى ذلك، فنبدأ بالمتفق عليه، فإذا سلموه لنا ندعوهم إلى ما خالفونا فيه من الحق بعد ذلك.
ثم إن من أسباب الفتور المنتشرة خصوصاً بين الشباب: أن الإنسان إذا أعمل نشاطه وحماسه في الدعوة قد لا يستجاب له في أول الأمر امتحاناً من الله تعالى، فيظن أن ذلك راجع إلى الناس فيقول: الناس لا خير فيهم، ويبدأ ينقل عيوبه هو إلى الآخرين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكُهم )، وفي رواية: ( فهو أهلكَهم )، فينبغي أولاً: أن تنظر إلى العيب على أنه صادر منك لا من الناس إن الناس لم ينتفعوا بخطابك؛ لأنك أنت لم تصدق الله أولاً، فإذا كنت صادقاً فاعلم أن هذا قد يكون ابتلاءً لك وامتحاناً، وقد يكون تدريباً وأنت في البداية، وهكذا حتى تصل إلى الحد الذي تسمع فيه، وقد كان ابن الجوزي رحمه الله يعظ الناس ويذكرهم، وكان يجتمع في مجلسه -مجلس الوعظ- اثنا عشر ألفاً، وكان لا يأمر الناس بشيء حتى يبدأ به في نفسه، فجاءه يوماً بعض الأرقاء، فقالوا: نريد أن تحض الناس على العتق، وأنت تعلم ما فيه من الثواب العظيم، ونحن محتاجون إليه، فقال: نعم، إن شاء الله، ووعدهم بذلك، فلما كان مجلس الوعظ لم يذكر ذلك، فجاء مجلس الوعظ الآخر فلم يذكره فجاء مجلس الوعظ الثالث فلم يذكره، وهم ينتظرون، ثم ذكر ذلك في مجلس الوعظ الرابع؛ فأعتق الناس الحاضرون جميع أرقائهم في ذلك الوقت، فجاءه الأرقاء فقالوا: رحمك الله! وأخرت هذا الأمر وأنت قادر عليه، لماذا تؤخره عن ثلاثة مجالس من مجالس الوعظ؟! قال: منذ وعظت الناس لم أفعل شيء حتى أبدأ به في نفسي، ولم يكن لدي ما اشتري به رقيقاً وأعتقه، فكنت أنتظر حتى أملك ما أشتريه به، فلما فعلت انقاد الناس لذلك.
ومن هنا فإن امتثال الناس لما يأمر به الإنسان متولد عن امتثاله هو له وقناعته به، وقد قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام فيما حكى الله عنه وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود:88].
من هنا فإن على الداعية المسلم، السائر في طريق الدعوة ألا يفتر، وأن يعرف مظاهر الفتور، ومخاطره وأسبابه، ثم إذا حصل منه فتور فلا بد أن يعرف علاج ذلك الفتور، وعلاج الفتور، يحصل بعدد من الأمور:
أولاً: الاحتساب عند الله سبحانه وتعالى، بأن يحتسب الإنسان الثواب من الله فيتطلع إلى ما عند الله تعالى من الثواب الجزيل، والخير الكثير، فإذا فترت يا أخي عن قراءة القرآن، فارجع إلى النصوص الحاضة على تعلمه:
( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجره مرتين )، ( من قرأ القرآن كان له بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: (الــم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، ( أهل القرآن هم أهل الله وخاصته من خلقه )، فحين تقرأ هذه النصوص ستجد دافعاً عظيماً لقراءة القرآن، وإذا أصبت بفتور في طلب العلم فارجع كذلك في الاحتساب إلى النصوص الواردة الحاضة على طلب العلم، اقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، واقرأ قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )، فلذلك إذا درست هذه النصوص الحاضة على تعلم العلم؛ فستجد نفسك منقادة إليه مسرعة إليه.
كذلك إذا وجدت نفسك قد فترت من قيام الليل، فاقرأ النصوص الواردة في قيام الليل: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً[الفرقان:64]، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ[السجدة:16-18]، وإذا وجدت نفسك كذلك قد فترت من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فاقرأ النصوص الواردة بالأمر بها: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:33-35]، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ[الأعراف:200].
واقرأ قول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108]، وقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، واقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء )، وهكذا؛ فهذا الاحتساب دواء لهذا الفتور.
ثانياً: أن تقرأ سير السابقين المضحين، فإذا قرأتها فستجد فيهم النماذج التي مرت بما مررت به واستمرت واستطاعت أن تتغلب على هذه النوازع وعلى هذا الفتور، تذكر يا أخي! ما لاقاه الأنبياء من أممهم، وما لاقاه المصلحون في كل العصور، واعلم أنك إنما أنت حلقة واحدة من سلسلة طويلة فيها نوح ومن بعده من الأنبياء إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها كل من تبعهم بإحسان على طريق الخير، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات فستصيب جميع الحلقات.
ثالثاً: أن تحرص يا أخي على التوازن في حياتك، ومهماتك كلها، وأن تعلم أن هذه الطاقات لا بد من العدل فيها، فإن استطعت أن تعطي كل ذي حق حقه كاملاً فهذا الواجب، فإن لم تستطع فأعمل "نظرية العول" في الفرائض، وهي أن ينقص جميع الأسهم لكن بقدر السواء، فيكون هذا النقص عادلاً بين الجميع، فكذلك إذا حصل منك نقص فيكون في جميع الجوانب على قدر السواء بالعدل، ومن هنا فبالإمكان فيما يتعلق بالفتور إذا كان لأحدكم مثلاً كثير من الالتزامات يومياً، فلديه مثلاً اثنا عشر التزاماً في النهار، وفي بعض الأحيان تكون أربعاً وعشرين التزاماً وهو لا يستطيع الوفاء بها جميعاً؛ لأن هذه الالتزامات متراكبة وأماكنها متباعدة، ولم يدرك فيها وقتاً لقطع المسافة بين الأمكنة، فماذا يستطيع أن يفعل؟ ذكر بعض الدعاة أنه يذكي المواعيد كتذكية الحية يقطع رأسها وذنبها، فكذلك هو يأخذ من أول الموعد قليلاً ومن آخره قليلاً؛ حتى يعدل بين الجميع ويؤدي التزاماته جميعاً، فلهذا يحتاج الإنسان إلى معرفة العدل، وتطبيقه في حياته.
رابعاً: أن يكون الإنسان يطلب رفقة صالحة طيبة، تنبهه على الحدود فلا ينبغي أن يتعداها وتنصح له، وتعينه بكل ما يحتاج إليه من عون؛ فإذا أصيب بإحباط أو بروع هدءوه وأزالوا عنه ذلك الروع والإحباط، وتعرفون ما قامت به خديجة رضي الله عنها عندما أتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول ما نزل عليه الوحي وهو يقول: ( زملوني.. زملوني )، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قص على خديجة الخبر وقال لها: ( تالله لقد خشيت على نفسي! فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبداً! إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق )، فكانت خديجة عامل تخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزالة لما معه من الحزن، والإنسان محتاج إلى هذا، ومنه زيارة الإخوان في الله سبحانه وتعالى والجلوس إلى الصالحين؛ ففي ذلك إزالة لآثار الفتور؛ لأن لله سبحانه وتعالى عباداً أقبلوا عليه بكل أوقاتهم فمجرد النظر إليهم معين للإنسان على الالتزام، وقد قال الشيخ محمد سالم حفظه الله في رثائه للعلامة محمد سالم بن ... رحمه الله:
عاش في طاعة ثمانين حولاً يعبد الله بكرة وعشيا
ينظر الغافلون ما هو فيه فيخرون سجداً وبكيا
فإذا كان الإنسان غافلاً عن الله فرأى مقبلاً على الله قد صرف كل أوقاته في الطاعة والجد والتشمير على علم وعمل؛ فإنه سيتأثر بذلك تأثراً بالغاً.
خامساً: الدعاء واللجاء إلى الله سبحانه وتعالى، فهو سبب شرعي لإزالة كل المشكلات، والدعاء يصطرع في السماء مع البلاء، ( ولا يرد القدر إلا الدعاء ).
سادساً: حمل الإنسان نفسه على العمل، إن كثيراً من العاملين إذا أصيبوا بالفتور يأخذون راحة واستجماماً؛ فيطول ذلك حتى يتجاوز الحد، ومن العلاج: أن يعملوا ذلك الوقت الذي يجدونه في الزيادة من العمل؛ ليكون ذلك تعدياً لتلك المرحلة التي حصل فيها الفتور وتجاوزاً لها، ووصلاً لمستقبل الحياة بماضيها.
سابعاً: القليل من الاستجمام والراحة، فالإنسان محتاج إليه وقد جعل الله تعالى الليل سباتاً، أي: راحة للأبدان، وجعل في النهار سبحاً طويلاً للإنسان يمكن أن يستغل فيه طاقته وقوته، ومن هنا فعلى الإنسان أن يأخذ قسطاً من الراحة يعين به بدنه على تحمل هذه المشاق، وقديما قال الحكيم:
وأفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أوليته المزح فليكن بمقدار ما يولا الطعام من الملح
وأهل الحديث يقولون: لا بد من الإحماض، والإحماض هو: إذا تعب الطالب من الحديث، فقرأ الشيخ كثيراً من الحديث على الطلبة، يحمض لهم، أي: يقرأ عليهم شعراً، أو نادرة أو قصة؛ حتى يزول عنهم ذلك التعب، ويزول عنهم الفتور.
ثامناً: المسابقات والمشاركات في الليالي التربوية التي تزيد الهمم، فالليالي التربوية تزيد الإنسان همة وإقبالاً على الحق، وتطهره من الأدران والذنوب؛ لما فيها من الموعظة وقيام الليل وعمارة المساجد، ولما فيها كذلك من سماع القرآن الذي يلين القلوب، وقد ضرب الله له مثلاً عظيما، فقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ومن هنا فإن سماع القرآن وبالأخص من متقن له وبصوت خاشع مؤثر غاية التأثير مزيل لهذا الفتور، ومذهب للأحزان كلها.
تاسعاً: الانتقال من بلد إلى آخر، فقد تسد الآفاق أمام الإنسان في بلد من البلدان؛ فيحتاج إلى الانتقال من ذلك البلد، وانتقاله منه مؤذن بحياة جديدة تتجدد مع البلد الجديد، وأنتم تعرفون حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً؛ فإن الراهب أمره أن يذهب إلى بلد فيه قوم يعبدون الله تعالى فيكون معهم، والانتقال من بلد لم يجد فيه الإنسان عيشاً كريماً أو لم يستطع فيه مواصلة نشاطه إلى بلد آخر من سنة الأنبياء؛ فـموسى خرج من مدينة مصر خائفاً يترقب فتوجه إلى جهة مدين؛ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ[القصص:22]، وإبراهيم عليه السلام لما آذاه قومه ورموه في النار هاجر عن مدينة كوثا إلى جهة الشام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام)، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أوذي في مكة هاجر إلى المدينة، وهكذا سنة أنبياء الله تعالى، وقد قال الشاعر:
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
وبالإمكان أن يجد الإنسان من يصلح له في صحبته؛ فإذا كان محصوراً بين غير جنسه وانتقل إلى مكان آخر وجد جنسه ووجد من يصلح شئونه، فيحتاج الإنسان إذاً إلى تبديل مكانه إذا اشتد به الفتور، وهذا التبديل قد يكون مؤقتاً، فالسفر لذلك القصد وللسير في مناكب الأرض، ويكون بعده الرجوع إلى مكانه معين للإنسان على تخطي تلك العقبات والنكبات.
هذه إذاً بعض العلاجات والوصفات التي توصف لداء الفتور، وكل إنسان منا بعد أن سمع مظاهر الفتور، ومخاطره وأسبابه، وتطلع إلى علاجه يمكن أن يقيس ما معه منه الآن؛ فلا بد أن يحدد الإنسان هل هو ناج من هذا المرض أو هو مصاب به؟ وإذا كان مصاباً به فهل الفتور الذي اعتراه في أمور الدين أو في أمور الدنيا؟ ثم بعد ذلك لا بد أن يحدد العلاج الذي يصلح له من هذه العلاجات؛ فيبادر إليه.
ونسأل الله أن يشفينا جميعاً من أمراض القلوب، ومن أمراض الأبدان، وأن يجعلنا جميعاً في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحقق رجاءنا، ويستجيب دعاءنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر